حملتها رغم سني عمرها الستة ، إلى غصن شجرة عالٍ عليها ، فاختطفت حبة التين وابتلعت نصفها، أنزلتها فابتسمت ، لتظهر أسنانها والفراغ بينها ، مضحكٌ كما عودتنا عندما يمتزج مع لثغة حروفها ، قالت لي : تركت لك نصفها
مسحت على شعرها الأسود الجميل في حنان ، ترهقني أكثر حين تبتسم ، حين تحنو عليك وأنت الأكبر منها سناً ، أنت الأقدر منها على ذلك ، فتشعرني بالضياع ، أتيه فيها ولا أملك إلا ترك دمعتي اليتيمة تسقط في صمت ، أحاذر أن تراها ..
- احملني على كتفيك
- إلى أين تريدين أن تصلي ؟
أشارت بإصبعها الصغير إلى السماء : إلى تلك السحابة أو أبعد
أحتضنها بكل الحب ، حتى ظنت أني أعتصرها ، هربت منها إلى منزلي الحزين ، إلى مرآتي التي تشهد دموعي كل ليلة ، بكيت ، تركت لدموعي العنان ،"نسمة" زهرتي الحبيبة ، نسجت من شوقي أغنية حروفها صامتة ، دندنت لنفسي بلحنٍ حزين ، أحاذر أن يسمعه غيري ، حتى وجدتها – فجأة – صارت خلفي
تقول : هل سأموت يا أبي ؟
أنظر بعين ملتاعة ، كانت تعرف ، كنت متيقناً من هذا ، لا شك شعرت بدموعي كل ليلة ، منذ خرجت بها من غرفة الطبيب ، منذ اكتشفت مرضها الخبيث ، منذ فقدت بعضاً من روحي ، ما أصعب تلك اللحظة على نفسي !
قلت لها : ستعيشين ، من أخبرك بغير هذا ؟
لم تكن تصدق ، لا شك تعرف كل شيء ، تبتسم في مرح :
- هل تعلم شيئاً ؟ أنا لست حزينة ، يكفي أنني سأمسك السحاب بيدي ..
نظرت لها حزيناً ، فاتسعت عيناها : ماذا .؟ ألن ألمس السحاب إذا مِتُّ ؟
أخذتها بين يدي ، كأني أخشى من فقدانها فجأة ، تركتها تنام الليلة في سريري ، وكل ليلة صرت أسهر حتى الفجر معها ، فوق سطح المنزل ، نتأمل السحاب سوياً ، كم هو مرير أن تقضي وقتاً تشعر أنه سينتهي فجأة ، تمضي في طريق تعرف نهايته المظلمة ، لتنتهي حياتك فجأة ..
تخيلت المنزل دونها ، تخيلت حياتي دونها ، تركت عملي في إجازة مفتوحة ، أخبرتني صديقتها أن " نسمة " ستعانق السحاب ، وأنها سعيدة لهذه الفرصة .
اشتد مرضها واشتدت مأساتي ، دخلت عليها ذات يوم ، أمسكتها من يديها ، رجوتها أن تتحامل على نفسها ، كي تأتي معي ، ففعلتْ ..
على سطح المنزل وجَدتْ سحابة كبيرة ، من القطن تتدلى أمامها ، نظرتْ حولها إلى النجوم التي خبا بريقها أو كاد ، مدت يديها على اتساعها ، لتلمس السحابة ، فانتشت
شعرتُ برجفة خفيفة في أوصالها ، جلستُ على ركبتي أمامها ،
وعدتها أن تلمس سحابة كل ليلة ، وقلت همساً وقد انهمرت دموعي
لكن لا تموتي ..
****
أحمد - ذات مساء
تعليق