أمي تسكن غيمة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • حنان المنذري
    أديب وكاتب
    • 06-08-2011
    • 32

    أمي تسكن غيمة

    أعزائي أعضاء المنتدى الكرام .. يسرني أن أدون أولى مشاركاتي القصصية كعضوة جديدة، أخترت قصة كتبتها عن نفسي وأسميتها - أمي تسكن غيمة - أتمنى أن تستمتعوا معها ...


    أمي تسكن غيمة

    حكاياتي أيها الأصدقاء, أهازيجٌ ترتعش حنيناً إلى حضن ماما الدافئة, حيث أراها هنا جهة القلب, تفتل الحكايا وتحيكها معمدةً بالسحر والندف, قبل أن نسبِل الأعَين للكرى وقبل أن ترحل الأرواح إلى فضاء حُلمٍ تعتق بالأساطير التي تتنزل على أكبادنا كالبرد.
    كأني المحها في اللحظة الآنية, هناك في بيتنا القديم, تدفع الباب الموارب برفق لتدلِفَ إلى حجرتنا في خفة العصافيرفلا توقظ الجدة التي أراها ترقد الآن في إحدى الزوايا مصدرةً شخيراً تعودناه كما تعودنا الحكاية في حضوره.
    نشعر بخطواتها تقترب, نتحفز لمفاجئتها, وحين توشك على رفع الغطاء عن جسدينا البدينين, نهب واقفين مأخوذين بنشوةِ حضورها, مطوقين قدها الأهيف الذي ينوء بحملنا فيسقط بنا على الأرض حيث تتعالى قهقهات وصيحات لا تصل إلى الجدة.
    - صه يا عمر!!, ماما ستفتتح الحكاية!
    وأترنم بصوتي الرفيع:
    - كان يا ما كان ...
    فتضحك وتكمل بصوتها الدافئ:
    - في سالف العصر والأوان, فتاة تدعى حنان!!!
    وحيث أنا بطلة الحكايات ومحورها, أطلع من جبين الصبح ومن بين الغيوم, تارةً أميرة وتارةً فقيرة, تارةً قوية وتارةً منكسرة, تارةً أدعى حنان وتارةً أدعى تحنان, تارةً يندك الجبل على ساعدي وتارةً تبعثرني نسمة ريحٍ مهاجرة!
    تمضي الساعات كأنها ثوان, والأسطورة كحبة كرز تمضغها أمي, ورائحة الحكايا تفوح وتتعتق بالرياحين والعنب, وحيث أراها هنا جهة القلب, وقد أنعكس ضوء المصباح الأزرق على مقلتيها الناعستين فأندلق عسلهما سابحاً في بحرٍ من المرمر, كأجمل ما تعكسه المرايا وكأجمل ما يخلق الله عليه مآقٍ لبشر!.
    ماما التي لم تتجاوز سن الثانية والعشرين, تسهب في السرد حتى يُثقل النوم أعيننا فتسقط أيدينا من على كتفها وعنقها كوريقات أناختها نسمات لطيفة.
    قبل واحدٍ وعشرين عاماً, قبل أن أنوء بأي جرح, حين كانت تلقبني بالهرة وتدنيني إلى فضاء المهجة وحين كان يطيب لي أن أموء في حضنها كالقطط, ماما !!!, أين أنت الآن ؟! أين حكاياتك؟ أين الأساطير؟ أين عيونك التي احتاجها كل حين!!,
    - ماما !! ماما !! ماماااا !!
    في صبح يومٍ آخر, أستيقظ على همسها العذب شاعرةً بأصابعها تشاكس خدي وأذني: قومي يا كسولة, الإجازة انتهت, أفتح عيني متثاقلة, أرمقها وهي تتجه إلى سرير أخي عمر الذي سيشق جبين الصبح بالنحيب, آآآآآه يا عمر! ستشرب من الكأس نفسها التي جرعتني إياها حينما أرسلتني إلى الروضة وأنا لم أزل بعدُ في سن الثالثة!
    ستتذمر وستشاكس, سترفض وستستنكر... لكنك ستستسلم في النهاية!!
    وكأنه اليوم وكأني أرى أمي وقد عاد بنا الزمان إلى الوراء, تلبس أخي البكّاء ثيابه وتمشط شعره المبعثر ثم تقوم بعقد أربطة حذائه وهي تجتهد في محاولاتها لإغرائه بالشوكولاته الحلوة بالفستق وساندويتشات الجبن التي ستقدمها له «الأستاذة ابتسام» حالما يطأ أرض الفصل بقدميه !!
    ماما تضفر خصلات شعري وتلفها بشريطٍ أبيضٍ طويل ثم تقوم بعقد الأربطة الكثيرة لحذائي فلا أكف عن التذمر والتأفف, حين تنتهي ترفع رأسها لتتأمل وجوهنا الكَسلى في حنو, ما زلت أذكرها حين رمقتني بتلك النظرة القلقة وكانت قد وضعت يدها على كتفي: أخوك عمر, أعتني به ودافعي عنه إن تعرض لأيةِ مضايقة!, تطبع على جبهتينا قُبلتين سريعتين ثم تتمنى لنا قضاء نهارٍ سعيد.
    نترافق إلى الباحة التي تعودت انتظار حافلة الروضة بها في العامين السابقين أشد محكمة قبضتي على يد أخي الذي ما ينفك يزعجني بنشيج بكاءه دافعاً إياي للجنون فتتملكني رغبةً عارمة في خلع فردة الحذاء وضربه بها على أم رأسه!, لكني أستدرك بأني إذا ما فككت الأربطة فلن أقدر على عقدها ثانية وسيسخر مني بقية الصغار حين يرونني أمشي جارةً أربطة حذائي في الأرض, ثم أتذكر وصية أمي الحبيبة فأتجلد وأحتمل !
    وسرعان ما تجيء الحافلة لتقلنا, تترجل منها شرطية قمحية اللون بهية الطلعة, تأخذ بأيدينا برفق وتدخلنا إلى مقصورة الحافلة.
    سأتخيلها الآن تجلس بوقار كأميرة خرجت من رحم حكاية سردتها أمي ذات حنين, شرطية فاتنة وعربة مكتنزة بصغار مُحلقين بأجنحةٍ من عقيقٍ ولؤلؤ !
    كنت أجلس في المقعد الذي يليها مباشرة, أجول بعيني في خصلات شعرها الأسود, تتملكني رغبة مجنونة في تخريب تسريحة شعرها التي تختبئ أكثر خصلاته تحت قبعة سوداء تحمل في مقدمتها شعار الشرطة (خنجر فضي يتصل بجنبيه سيفان).
    سألتني أميرتي ذات صباح:
    - أبنة من أنت من الزملاء في المركز؟
    لم أصدق أذني, ابتلعت ريقي, أسمعها تعيد السؤال وأجدني راغبةً في مداعبتها, أجيبها بصوت مبحوح وعينين أزهرت الورود فيها:
    - أنا أبنتك!.
    التفتت إليّ وهمست ضاحكة:
    - كم أنتِ لطيفة!
    في تلك اللحظة رقص النحل في حقلي وتطايرت فراشات, ولا أدري كيف تجرأت فطوقت عنقها الطويل هامسةً في أذنها:
    - مثلك يا أميرتي!.
    ونصل إلى الروضة, حيث تسبقنا هي إلى باب الحافلة كي تمنعنا من التدافع أثناء النزول فننزل اثنين اثنين, مرددين -كما علمتنا- شعارها المبتكر:
    - «نحن أبناء الشرطة, نظام ونظافة وهمة» بنشوةٍ أطارت بقايا النعاس!
    عند الباب تستقبلنا عاملة الروضة مهللة بقدوم أول فوجٍ من الدارسين حيث ستسلمنا فيما بعد إلى المديرة الأستاذة فتحية لكي توزعنا كما اعتادت أن تفعل في مستهل كل عام, كل واحد إلى صفه, «هكذا أفترق عن عمر مرتاحة ويفترق عني مرغما».
    في الفصل, أجلس بجانب رفيقي سعيد الذي دأبنا على مناداته بسعدون تحبباً وتلطفا, نتقاسم الضحكات والشطائر ثم سرعان ما نختلف فنتبادل الصفعات واللكمات حتى تأتي الأستاذة لتنهال علينا بالتوبيخ والتقريع بعد أن تنزع يديه الناهشتان عن خدي وأظفاري المغروسة في شعره !.
    تمضي الدقائق محقونةً بالغضب, يدق جرس انتهاء الحصة الأولى وابتداء حصة اللعب, نخرج كلنا دفعةً واحدة, أينا يصل إلى الباب أولاً ؟!
    يسبقني سعدون كعادته إلى الحصان الخشبي الأدهم, وأقف غضبا أنتظر دوري إلى جواره.
    كان لسعدون شعر طويل يصل إلى كتفيه وكان شعره الناعم يسقط على جبينه وعنقه كلما مال بالحصان إلى الأمام ويعود كحبات رمل عجنتها موجة مشاكسة ذات صباح مشاغب كلما أسند ظهره إلى الخلف.
    ‍‍وكأني أسمع صياح عمر في الصف المجاور, لا بد أنه قد أنهى للتو تناول الوجبة التي حكت عنها ماما والتي جاء خصيصاً من أجلها, وها هو يبكي الآن رغبةً في العودة إلى المنزل, لقد كنت مثله في عاميَ الأول لكني سرعان ما الفتٌ المكان وأحببت رموزه, الأستاذة فتحية والأستاذة ابتسام, العاملة بهجة, سعدون, وحصاني الأدهم!.
    سرعان ما يشعر سعدون بالتعب فيترجل عن الحصان الذي دبت الحياة فيه حين أحسني قربه, أمتطيه وأستلم اللجام, فأكون أشد جموحاً من خيلي ومن سعدون ومن أطفال الروضة, وأصنع لحصاني جناحين ثم آمره ليرحل بي نحو البعيد, إلى حيث النجوم والكواكب وبلاد العجائب, أغوص في داخلي حتى أكاد لا أسمع همهمات الصغار وضحكاتهم من حولي وأكاد لا أشعر بمريم وهي تشد طرف «مريولي» الأزرق راجيةً مني أن أترجل عنه لتتسلم دورها, ولا أعود أستمع لصراخ عمر الذي يهز أركان الروضة بالنحيب, أكون نفسي مع نَفَسي ووحدي في وحدتي, يَصّاعد الصخب بي حتى يتلاشى فأكمل المسير إلى أعالي السحب حيث تنتظرني هناك «ماما» التي تمد لي ذراعيها وتحتويني كطفل في مهده الأول, لا قانون هناك وكل أجزائي صارت أُذن, أمي صوت قادم من بين الأركان ومختلف الزوايا, وأرواح الحكائين تعود لتستوطن أبدان الحكايات المارقة, الغيم يوشوش هفهفت النسيم وأنا أُذن عاشقة لا تود أن تعود إلى ذات الجسد!.
  • ريما ريماوي
    عضو الملتقى
    • 07-05-2011
    • 8501

    #2
    حلووووة جدا تمتعت معك ايتها الطفلة الصغيرة
    يسلموا الأيادي, واهلا وسهلا فيك هنا.
    مودتي وتقديري.
    تحياتي.


    أنين ناي
    يبث الحنين لأصله
    غصن مورّق صغير.

    تعليق

    • حنان المنذري
      أديب وكاتب
      • 06-08-2011
      • 32

      #3
      شكرا لك أستاذة ريما .. أسعدني أن ذكرياتي راقت لك .. تقبلي مودتي

      تعليق

      • آسيا رحاحليه
        أديب وكاتب
        • 08-09-2009
        • 7182

        #4
        أعجبني ما كتبت حنان ..
        اللغة و الأسلوب ..جميلان ..
        أنتظر نصوصا أخرى ..
        أهلا بك معنا.
        مودّتي.
        يظن الناس بي خيرا و إنّي
        لشرّ الناس إن لم تعف عنّي

        تعليق

        • محمد فطومي
          رئيس ملتقى فرعي
          • 05-06-2010
          • 2433

          #5
          طاب يومك أختي حنان المنذري

          قرأت ما شدّني و أمتعني و أعجبني .
          تكتبين بتلقائيّة و براعة نادرتين.
          النصّ طويل و نتمنّى لو يطول و الخطوات متّسقة و متقاربة و الأخطاء تكاد تكون معدومة و السرد مشوق و لذيذ.
          لا أدري ما بجعبتك من أعمال في انتظار النشر و لكنّ الأكيد هو أني سأتابعك،ثمّة نبوغ و مادّة مختلفة و قويّة تجعلني أفعل.
          واصلي حنان أراك أديبة كبيرة منذ الّلحظة.
          مدوّنة

          فلكُ القصّة القصيرة

          تعليق

          • حنان المنذري
            أديب وكاتب
            • 06-08-2011
            • 32

            #6
            شكرا أساتذتي الكرام .. أثلج قلبي ما سطرتم .. أعدكم بنصوص جميلة ولكن تحملوا طولها .. لن تشعروا بأذن الله معها بالملل .. هذا ما أرجوه .. وتقبلوا مني كل الود

            تعليق

            • سائد ريان
              رئيس ملتقى فرعي
              • 01-09-2010
              • 1883

              #7
              الأستاذة حنان المنذري
              السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

              حقيقة انتابني أكثر من شعور وأنا أقرأ رائعتكم الأولى هنا

              فكان إبهاراً في هذا التشبية الفتان
              نهب واقفين مأخوذين بنشوةِ حضورها, مطوقين قدها الأهيف

              وهنا أدمعتينا

              قبل واحدٍ وعشرين عاماً, قبل أن أنوء بأي جرح, حين كانت تلقبني بالهرة وتدنيني إلى فضاء المهجة
              وحين كان يطيب لي أن أموء في حضنها كالقطط, ماما !!!, أين أنت الآن ؟!
              أين حكاياتك؟ أين الأساطير؟ أين عيونك التي احتاجها كل حين!!,
              - ماما !! ماما !! ماماااا !!

              و أضحكتينا هنا من قلوبنا

              فتتملكني رغبةً عارمة في خلع فردة الحذاء وضربه بها على أم رأسه!,
              لكني أستدرك بأني إذا ما فككت الأربطة فلن أقدر على عقدها ثانية

              وهنا أسعدتينا فكان ختامها مسك

              أمي صوت قادم من بين الأركان ومختلف الزوايا, وأرواح الحكائين تعود لتستوطن أبدان الحكايات المارقة,
              الغيم يوشوش هفهفت النسيم وأنا أُذن عاشقة لا تود أن تعود إلى ذات الجسد!.

              -------------------------------

              رائعة أنتِ

              فاستمري والله الموفق


              تحياتي

              تعليق

              • حنان المنذري
                أديب وكاتب
                • 06-08-2011
                • 32

                #8
                كنت أكتب نفسي .. وحين يعيد المرء كتابة نفسه كما هي، أو كما رآها ذات حنين .. فلا شك بأنه سيبدع
                أسعدني مرورك العطر أيها الأستاذ الكريم .. قلمك يضيف لي الكثير ،، دمت بود

                تعليق

                يعمل...
                X