التحفجية ( المساطيل )
يا ما شاء الله ع التحفجية .. أهل اللطافة و المفهومية
إجعلها ليلة مملكة يا كريم!
ده الكيف مزاجه إذا تسلطن .. أخوك ساعتها يحن شوقاً
إلى حشيشي ميتى ميشي
إسأل مجرب زى حالاتي .. حشاش قِراري يسفخ يوماتي
خمسين جرّاية .. ستين .. سبعين
إلى حشيشي ميتى ميشي
إسأل مجرب زى حالاتي .. حشاش قِراري يسفخ يوماتي
خمسين جرّاية .. ستين .. سبعين
ها ها هأ .. يا مرحب
-- "الله عليك يا شيخ سيد درويش ! ... أيوه كده .. إذا تسلطن... يحن شوقاً!"
-- " .. دا أنا شفته من يومين ع الحنطور في "محطة الرمل " بيدق ع العود "بلادي بلادي"... وهم بسلامتهم الإنجليز هيخرجوا من البلد دي بالمغنى والدق ع العود ؟!"
-- " أمَّال هيخرجوا إزاي يا أبو المفهومية ؟"
-- " بالحشيييييش !"
زاطت القهوة وضجت بالضحك والقهقهة بين قرقرة " شيشة " ونقر أنامل خفيف على الطاولة مع لحن الأغنية المرتعش من " الفونغراف " القديم ، ووسط سحب دخان رمادي صار يتلوى في حركة أفعوانية ملامسا الجدران .. قام المساطيل الثلاثة ، قبضوا على طرابيشهم وراحت أيديهم تثبتها على رؤوسهم يمنة ويسرة حتى تستقر معوجة فوق الجبين ( على سنجة عشرة ) وأخذوا يعيدون برم شواربهم وضبط الوردة في عروة ( الجاكتة ) وراحوا يتشممونها لينظفوا أنفاسهم من أدران الدخان العالق بأنوفهم واستعدوا للانطلاق ...
لم تتحمل أجسامهم المتثاقلة كل هذا الجهد ... راحت أرجلهم تلتف حول بعضها فاتكأ كل منهم على الآخر ، وخرجوا وسط موجة ضحك تكلل ليلة أخرى من السلطنة لأصحاب الصدور العائمة واليوافيخ الهائمة !
هدوءٌ غويطٌ كما الجُبّ...أيقظ حلمَهم بالفراش راحوا يتسندون إلى الحيطان ، بالكاد تتحرك أقدامهم .. وجفونهم ... ثقيلة تطبق على ظلام الشوارع والنوم ؛ لكنه يتمنع عليهم فما هي إلا لحظات حتى مرت جحافل تلفعها عتمة كثيفة لزجة لا تستبان منها سوى حركات متعجلة وصوت قرع أقدام عشوائي منفر؛ فتتزلزل الأرض من تحتهم والبيوت من حولهم ... ليسوا بأشباح ولا بفيالق جيش ، وإنما أناس!
رغم أنها ليلة بها صَيْهَد يونيو إلا أنها كانت تبرق على وميض أعينهم وترعد على هتاف أشداقهم ... " تحيا مصر !"
كانت مباغتة مباهتة ، طفق المساطيل على إثرها يتشبثون بالأرض كأوتاد مقلقلة وسط أوقيانوس أسود صار يتفاداهم فينفلق عندهم ويتفرق ثم يلتئم من جديد إذا ما جاوزهم، يصطدمون بهم فتدور أجسامهم ومعها رؤوسهم وسط تجاهل لا يوليهم أحد النظر ولا يحفل بهم أحد وكأنهم بقعة من عدم انتزعت من سديم مظلم نابض بالحركة.
-- " إيه الزحمة دي ؟ .. هو في إيه ؟"
-- " إلحق يا سعد .. دول بيندهوا عليك ( سعد سعد ) ؟!!"
--"( يكونوش دول الديّانة ؟!.... يا مساطيل ! .. دول ثورجية!! ) "
كفلول ركب خلف بلا قصد بدوا خلف الثوار ينظرون إلى سواعدهم وأكفهم التي راحت تقبض على نفسها فبدت كمطارق تضرب الهواء في قرع شديد مستمر ... بلا صوت
أدلف (المساطيل) إلى اليسار يتلمسون دبيب ضوء خافت من بعض المصابيح الزيتية المضاءة يبصرون به وجهتهم...
... صفوف عساكر منتصبة بزيها ( الكاكي ) ، وجوه مكفهرة وأعين زرق زائغة حاملين بنادق فاتحة أفواهها وسكين طرفه مثبت بالبندقية وطرفه الآخر مغروس في أعصابهم ينتظرون كلمة واحدة لتخرج أسراب حديثة الولادة من طلقات تسعة مللي ... صماء بحشو البارود ، بكماء لا تعرف سوى الصراخ وعمياء ولدت لترشق في الصدور
-- " يا لهوي ... سِبنا الثورجية لا قينا الإنجليز !!"
-- "Stop ... Stop you fool, or you will be shot!"
( توقف توقف أيها الأحمق وإلا ستطلق عليك النار )
كان لابد من بيت حيد الشارع ذي باب مفتوح مظلم يبتلع سواد الليل ولا يفصح عما بداخله ، بيت يتلقف الفئران التي تخشى قطاً متربصةٌ مخالبه أو ثعباناً يلفها حدّ الاعتصار فلا يفرق بين فئران الليل وفئران البشر! ..
--"Fire!!"
( اضرب !!)
( اضرب !!)
وكانت الطلقة الأولى فأتبعتها الأسراب الصماء البكماء العمياء، يقابل دوي انفجارها دوي صراخ الثوار . كأحجار ألقيت في بركة من اللحوم البشرية ، أخذت تتبعثر وتتناثر وتتساقط دماؤها على بلاط الشوارع المضلع فصارت نهيرات حمراء تعيد رسم حدود البلاط وتفاصيله بأوردة جديدة!...أرجل أطلقت للجري في كل مكان ...تراب يطلع من الأرض .. تراب ينزل من السماء ... انعقدت سحب الغبار الكثيف معانقة الهواء الساخن الدسم فصارت تسد الأنوف وتعمي الأعين.
صراخ ... ودخان ، هكذا اكتملت السيمفونية مع الظلام .. الذي سريعا ما بددته النيران المضرمة في الأجسام والأعلام الخضراء .. قد تفحم خضارها واحترقت نجومها واشتعل هلالها الأبيض وحامت رائحة البارود واللحم المحترق معا !.
براقع منزوعة بقوة ... طرابيش ملقاة معفرة ... شئ مستفزّ!! ... قد استفز المساطيل. لقد دفعوا في " عمل " أدمغتهم الليلة جنيها " بحاله" والآن أفسدت "الأدمغة!" ، أكان لابد أن يخرج الثوار الآن ؟! ... أكان لابد ؟!
-- " ما النهار قدامهم بطوله إيه اللي زانقهم دلوقتي ... كلمتين وجعينهم قوي ! "
-- " فَوّقتونا منكم لله ! ... مش كفاية حال البلد واقف بسببكوا كمان تقلبوا دمغتنا!"
أخذ المساطيل يشمرون " بناطيلهم " وهم يترنحون وسط أجساد ملقاة على الأرصفة ولوحات خشبية .. ( طلبة الأزهر الشريف ... مدرسة السنية للبنات ... مدرسة الحقوق العليا ) ... و ... ( الاستقلال التام أوالموت الزؤام )
-- " إيه الزؤام ده ؟!"
-- " يمكن حاجة تبع الزكام ... الموت بسبب الزكام!!"
قطعوا ذاك البحر المائج بالدماء وسط جموع الأهالي التي أخذت تتوافد على الميدان كي تسعف المصابين وتنقلهم إلى المشفى
-- " إيدكم معانا يا أفندية !"
-- " ربنا يسهلك يا خويا ... إحنا مالنا ! قولنا لهم يمشوا في مظاهرة! "
--" مهه كله علشانّة وعلشان بلدنا يا أفندية! ... يلا .. إيد على إيد تساعد!"
-- " محناش فايقين دلوقت ... أمّا نِبقوا نفَوَّقوا نِبقوا نرجعوا لكم !"
هكذا ولوا الأدبار تشيعهم نظرات خليطها العتاب والاحتقار ... وسريعاً ما اختفوا عن الأعين يسربلهم الظلام كلما أوغلوا بين الطرقات من ثم يعودون إلى جحورهم...
--"Stop ... stop you there!!"
( توقفوا ... توقفوا أنتم هناك !)
( توقفوا ... توقفوا أنتم هناك !)
أوقفتهم زمرة من العساكر الإنجليز مصوبين بنادقهم إلى الأمام .. يمشون بحذر؛ عين يبصرون بها الطريق والأخرى ينظرون بها من البندقية لإحكام التصويب ...
--"إنت ثورجي ؟!!" ... بلكنة إنجليزية باردة متقطعة
--"لالا .. إحنا مش معاهم!"
--" إنتو جايين من هناك ... هناك فيه ثورجية ... يبقى إنتو ثورجية!! ... يلا ..
Take them!! ( خذوهم !!)
تفسير علمي منطقي يهيئ لخطوات عملية معهودة في مثل تلك الأجواء ؛ تبدأ بالإمساك بالتلابيب ثم الضرب على الأقفية فإلقاء الطرابيش على الأرض .... حمراء ... صارت معفرة ... شئ مستفز!! ... قد استفز العساكر فصاروا يتقاذفونها بأقدامهم كالكرة وسط ضحكات صاخبة ..مجلجلة في أرجاء الشوارع مع كلمات إفرنجية لا يهم معناها الآن .. والزر الأسود تتبعثر وتتطاير خيوطه السوداء ثم تتلملم على بعضها من جديد ...وتسكن ... حقا مستفز!!
--" إنت مش قلت إن الإنجليز هيخرجوا بالحشيش؟!"
--" وهم دول إنجليز ؟ ... ماهم أهو مساطيل!!"
.................................................. ....................
--" يتوافد الآن الآلاف من المتظاهرين إلى ميدان التحرير في ما يسمونه بجمعة الغضب ، وقد أرسلوا ..... "
--" هؤلاء عملاء .. ضبطوا متلبسين يأكلون " كنتاكي " و(بِيحْبِسوا) بالحشيش...و.."
-- "هؤلاء يتعاطون حبوباً مهلوسة .. نحن وراءهم حتى نطهر الوطن منهم ..( شبر شبر، بيت بيت، دار دار، زنقة زنقة) !! ..."
-- "... أديب إسحاق (بيقول): قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر .. وقتل شعب آمن مسألة فيها نظر! ... ( وين المشكلة بقى ؟!)"
أطفأ التلفاز والمكيف الدافئ ، وأخذ رشفة أخرى من (الهوت تشوكليت) ... آخر رشفة:
"( أمّا حكام مساطيل !! )"
تعليق