تحية عمانية ملؤها الود أبعثها إليكم .. هذه قصة جديدة أتمنى أن تستمتعوا معها .. تقبلوا أرق المنى
غرباء بدماء ملكية
وقفت تتأمل بعينيها الصغيرتين من خلف نافذة حريرية الستائر بقاعة الجلوس في قصرهما اللؤلؤي جماعات المشردين العابرين والمفترشين قارعة الطريق الممتد أسفل القصر بصمت لم يقطعه سوى صوت وقع أقدام تقترب. كان أخوها يخطو بقدميه فوق أرضية الرخام المزخرف بنقوش خُطت بماء الذهب, قالت بعد أن شعرت به وقد وقف خلفها مباشرة:
- الناس يتناسلون كالجراد!
ابتسم ومال بجسده وعنقه، ناظراً إلى الأسفل حيث الأجسام الناحلة قد لاذت بالشارع وآوت إليه. استرسلت في حديثها وهي تشير إلى نساء ورجال اقتعدوا قارعة الطريق يشحذون ويعرضون أعضاءهم للبيع:
- تأمل ذوي الأرجل والأيدي المبتورة .. تأمل النسوة ذوات الأعين المستأصلة, يا لـبؤسهم! لقد بلغوا من الفقر حداً جعلهم لا يتورعون عن بيع الأغلى لديهم من أجل إطعام أطفالهم..
سكتتْ قليلاً, وبعد أن نظرت إليه إبتسمت وسألت:
- هل قرأت الصحيفة اليوم؟
أجاب:
- لم أقرأها بعد.
تركت النافذة واتجهت في خطوات وئيدة نحو طاولة زجاجية مستديرة, تناولت الصحيفة الموضوعة فوقها بينما كانت تريح جسدها على أريكة بيضاء مخملية, على صفحتها الأولى قرأت:
- تعلن وكالة الدم المتدفق, أنها قد ضخت مؤخراً إلى سوق الدم والأعضاء البشرية, النوع السابع من فئة الدم الملكي المحسّن والمعدل, تحوي هذه الفئة, بلازما وصفائح دموية عالية الجودة, كرات دم حاملة للأكسجين, كرات دم قاتلة للجراثيم بمختلف أنواعها, بالإضافة إلى احتواء الدم على مواد صبغية زرقاء ذات مواصفات ملكية متميزة وفاخرة .. الضمان خمس سنوات من تاريخ الإنتاج.
رفعت عينيها نحو أخيها الذي ترك النافذة واستدار ليجلس إلى جوارها, قال متسائلاً وهو ينظر إلى الصحيفة:
- أترغبين في استبدال دمك الملكي؟
ردت بضحكة:
- دمي ودمك معاً!! نستبدل دماً ملكياً آسناً بدمٍ ملكيٍ معدلٍ وجديد.
أطرق يفكر ثم وقف, مشى عائداً إلى النافذة, فتحها وألقى نظرة على العابرين والقاعدين على قارعة الطريق, حانت منه التفاته إليها, ثم عاود النظر إليهم. سحب بعض الهواء البارد إلى رئتيه بعمق وقال:
- المعوزون ذوو العاهات والأحلام المراقة على رصيف هذا الشارع, أتظنينهم يتمنون في سريرتهم لو كان بمقدورهم استبدال دمائهم الحمراء الأصيلة مثلنا؟.
أضاف بخيبة:
- ثم ما فائدة استبدالنا لدمائنا ما دمنا سنموت مثلهم في النهاية؟!
لم يرق لها قوله, اعتدلت واقفة واستدارت نحو لوحة كبيرة لمنظر طبيعي خلاب توسطت جدار القاعة, ضغطت على زر فوق الجدار فانزاحت اللوحة، وظهرت خزانة من الفولاذ مخبأة وراءها, أدخلت يدها في جيبها وأخرجت جهاز تحكم بحجم الإبهام, ضغطت على بعض الأرقام، فانفتح باب الخزانة، وظهرت أكياس كثيرة من النقود بداخلها. مدت يدها نحو المال وتناولت اثنتي عشرة حزمة ثم أعادت إغلاقها بجهاز التحكم, ضغطت على زر الجدار فعادت الصورة إلى مكانها. مشت لتضع حزم النقود فوق الطاولة. قالت وهي تنظر إلى المال وإلى أخيها في سعادة:
- ومن قال أننا سنموت مثلهم في النهاية؟! نحن نموت على أسِرتِنا بين أيدي أطبائنا وخدمنا يحيطون بنا من كل جانب, أمّا هم فيموتون إما برصاصة عدو تخترق رؤوسهم عند اندلاع الحرب, وإما لفرط جوعٍ لم يجدوا فتاتاً يلجمونه به, أو بمرضٍ عضالٍ أصابهم نتيجة لمتاجرتهم في أعضائهم.
تناولت بعض حزم النقود من على الطاولة, ضمتها إلى صدرها وأردفت:
- ألا تعلم بأن الشركات الكبرى قد أضحت تتكالب فيما بينها على شراء دمائهم؛ لتعيد تصنيعها وطرحها، بعد تصنيفها وتعديل مكوناتها وقولبتها مع إضافة المحسنات والملونات الزرقاء إليها في المعامل، لتصنع منها دماءً ملكية تليق بأن تسري في عروقنا؟
ابتسمت, زادت ابتسامتها اتساعاً, كان أخوها ينظر إليها وإلى المال في تأمل, استرسلت قائلة وقد اعتدلت في جلستها على الأريكة وأسندت رأسها إلى الوراء:
- هذه المرة, لن أكتفي بشراء الدم الملكي فقط, بل سأشتري المتوفر في السوق من أعضاء شابة وسليمة.
أردفت بقرف:
- لقد بات منظر بشرتي المجعدة والشعر الأبيض في رأسي يشعراني بالاشمئزاز من نفسي كلما نظرت في المرآة!.
نظرت إليه متسائلة:
- ما رأيك؟
ترك النافذة واتجه إليها, بحلق في وجهها قليلاً ثم انفجر ضاحكاً, انتفضت من مكانها وصرخت بغضب:
- أنا جادة! سأذهب من فوري إلى سوق النخبة لأشتري ما أردت الحصول عليه منذ مدة.
أسرعت بالتقاط النقود من على الطاولة ووضعتها بداخل حقيبة يدها الواسعة .. تناولت معطف الفرو من على الأريكة وخرجت, ناداها معتذراً فلم تجبه, أسرع إلى غرفة مكتبه القريبة, أخرج من أحد الأدراج مسدساً حشاه بالرصاص, خرج وراءها مهرولاً, وجدها تنتظره أمام باب المصعد, ابتسمت حين رأته, فبادرها بالقول بعد أن دس مسدسه في جيبه:
- يتوجب عليك أخذ الحيطة والتزام الحذر كلما خرجت, أولئك الحثالة المنتشرون كالنمل في الطرقات يكرهوننا ويحقدون علينا، وإن واتتهم فرصة إيذائنا فتأكدي بأنهم سينتهزونها!.
لم تعترض على قوله, اكتفت بأن هزت رأسها مجيبة, انفتح باب المصعد فدلفا إليه واتصلا بالسائق لينتظرهما بجوار السيارة, أقلهما المصعد إلى موقف سيارات فخم أسفل القصر. حين لمحهما السائق أسرع بفتح باب إحدى سياراتهم المصفحة والتي تعمل بطاقة الشمس, جلسا على المقعد الخلفي للسيارة, قالت موجهة حديثها إلى السائق:
- خذنا إلى سوق الدم والأعضاء البشرية.
هز رأسه بالإيجاب، وأدار المفتاح فانطلقت السيارة تتهادى على الطرقات المملوءة بالتعرجات تحت سماء زرقاء صافية, تكسوها غلالات من سحب بيض متفرقة, مشت السيارة عبر منحدرات وطرقات ضيقة, دخلت في قرى ومدن محطمة, كلما لمح أطفال الشارع السيارة الأنيقة تنساب برشاقة من أمام أعينهم ركضوا خلفها فرحين حتى تكاد أن تتقطع أنفاسهم.
وصلت السيارة إلى محطتها الأخيرة، وتوقفت في موقف سوق الدم والأعضاء البشرية... كانت أرض السوق مصنوعة من البلاطات الصقيلة وأسقفه من السيراميك المطعم بنقوشٍ من الأبنوس والعقيق, رواد السوق قلة من الأثرياء تدل عليهم هيئاتهم الأنيقة وأكثرية من الفقراء الذين جاءوا لبيع شيءٍ من دمائهم أو عضواً من أعضائهم.
ترجلت المرأة وأخوها من السيارة ومشيا متشابكي الأيدي باتجاه أول متجرٍ صادفهما, على لائحته ذات اللون الذهبي. قرءا:
- المستقبل لبيع وشراء العقول المستنيرة.
ابتسمت وهي تشير بيدها إلى داخل المتجر:
- هنا يبيع العلماء والمفكرون عقولهم الفذة ليشتروا بثمنها تذكرة سفر إلى بعض البلاد التي تمنحهم فرصة الحصول على عمل يمكنهم من الإنفاق على نسائهم وأطفالهم الجائعين في الوطن..
التفتت إليه متسائلة:
- ما رأيك أن نبتاع لنا عقلين نابغين لنصبح من العلماء والمفكرين؟
طأطأ رأسه قليلاً يفكر ثم رفعها ووضع يديه على خاصرته, أجاب:
- وما نفعل بالعقول ولدينا ما يفيض عن حاجتنا من مال؟ ما كان أولئك العلماء ليستبدلوا عقولهم بأخرى ضعيفة التفكير ضيقة الأحلام لولا ضغط الحاجة, نحن نملك المال ذا البريق فما حاجتنا لعقولهم الفذة؟! ثم إني أخشى أن أُرزأ بذاكرتي إن اشتريت عقلاً جديداً فأنسى تاريخ انتمائي للدم الأزرق!..
نظر إليها ونظرت إليه, قالت مستدركة:
- الحق معك!! فلو اشتريت لجمجمتي عقلاً فذاً فسأجد نفسي وقد وقعت في ورطةٍ كبيرة! كيف سأستمتع بالمال وحياة البذخ إن جنحت إلى التفكير بما سوف أقدمه للبشرية من اختراعات وابتكارات, من شأن ذلك أن يعكر صفو مزاجي حتى تضيق بي روحي اللاهية!!
ألقيا نظرة متشككة نحو المتجر قبل أن يولياه ظهريهما ويتجهان إلى متجر آخر على بعد مسافة قصيرة, كان لبيع الجلود الطبيعية والمصنّعة, خلف واجهة المتجر البلورية صفت تماثيل لنساء فارعات القوام ذوات جلود مشدودة وألوان متباينة, استقبلهما التاجر بترحاب، وطفق يستعرض أمامهما آخر الجلود التي وصلت للمتجر, أطلعهما على الأسعار وأسماء البلدان المصدرة للجلود، ثم أراهما نشرة حوت بداخلها صور الناس الذين باعوا جلودهم للمتجر, في النهاية وبعد بحث طويل استقر خيار المرأة على جلد فتاة في الخامسة عشرة من عمرها, كانت هناك غرفة صغيرة في نهاية المتجر تُكسى فيها الجلود المنتقاة في لحم أصحابها الجدد, أدخلت المرأة للغرفة المعقمة وسُلمت إلى أيدٍ خبيرة في كسو الجلود, ولم تمض إلا نصف ساعة حتى خرجت المرأة بجلدٍ آخر, أما جلدها المجعد فقد أخذه عامل المتجر وألقاه في سلة المهملات بالخارج.
كانت سعيدة بجلدها البض الجميل, بدت كزهرة ياسمين وقد عادت أربعين سنةً إلى الوراء, حين رآها أخوها صرخ دهشاً:
- آآه!! ما أجملك!!.
ضحكت وهي تمشي نحوه بتغنج, همست في أذنه:
- انتظر. هناك مفاجأة!
حولت نظرها إلى التاجر وسألت بدلال:
- أيوجد لديكم جلد مميزٌ لهذا العجوز اللطيف؟
ابتسم وأجاب:
- نعم.. يوجد سيدتي!.
أدخل الأخ إلى ذات الغرفة التي سبقته إليها أخته لمدة نصف ساعة خرج بعدها بجلد فتىً في العشرين من العمر, صرخت أخته بانتشاء حين رأته:
- واو!! ما أجملك!!.
ضحكا معاً ومن ثم أنقدا التاجر سعر الجلدين وخرجا بعد أن منحتهما هيئتهما الجديدة الكثير من التفاؤل... قالت الأخت وقد تقدمت أخاها عدة خطوات في لهفة:
- ترى ما ينقصنا بعد؟.
فكرا قليلاً وهما يقلبان ناظريهما في المتاجر المحيطة إلى أن جذبهما متجر أنيق لبيع الشعر, اقتربا, نظرا من خلال الزجاج الشفاف إلى الداخل حيث صفت على الواجهة شعور طبيعية شقر وحمر وسود فاحمه .. حين دخلا لم يلتفتا للتاجر الذي رمقهما بنظرة فاحصة وهما يقلبان الشعور في سعادة واضحة, انتقى كل منهما للآخر شعراً بلون مختلف؛ أمّا الأخت فقد اختارت لأخيها شعراً أسودَ ناعماً كالحرير، وأمّا الأخ فقد اختار لأخته شعراً مجدولاً بلون الذهب, حين وضعته على رأسها انسدلت خصلاته الطويلة ولامست الأرض. ابتسم وهو يتأمل شعرها بينما يضع الشعر الأسود فوق رأسه. في هذه الأثناء قام التاجر إليهما مرحباً، فابتسما له وطلبا منه أن يأمر بعض الاختصاصيين في زراعة الشعر ليثبتوا عن طريق الخياطة المتطورة الشعر المنتقى برأسيهما, هز التاجر رأسه بالإيجاب، وبعد ربع ساعة, كان الاثنان يغادران المتجر ويحثان خطىً محمومة نحو متجرٍ آخر.
هذه المرة, كان متجراً لبيع العيون, العيون النجلاء واللوزية, الحوراء والوسنانة ألصقت على واجهة المتجر لجذب الزبائن, بعض العيون وشت بذكاء صاحبها الأصلي وبعضها ظل يبرق بغموض, عرضت هناك عيون مختلفة لعشاق وفنانين ورسامين ودبلوماسيين وملكات جمال سابقات, كان بعضها صافياً وبعضها الآخر يمتلئ بالضباب, دخلا إلى المتجر بفضولٍ كبير, استقبلتهما البائعة البدينة بترحاب وابتسامة واسعة, كان لها عينان جميلتان بلونين مختلفين, سأل الأخ البائعة باستغراب:
- لم لمقلتي عينيكِ لونان مختلفان؟.
أجابت على الفور:
- إنها الموضة لهذا العام يا سيدي!!.
فكر قليلاً وعيناه تبحلقان في وجه المرأة، فلم ترق له فكرة أختلاف الألوان في عينيّ الوجه الواحد, طلبت الأخت من البائعة أن تدلها على أجمل عينين متوافرتين في المتجر، فأرتها عيني ملكة جمال الكون المتوفاة قبل يومين, وعيني ملكة جمال الكون المتوفاة قبل عدة عقود... العيون الأربع درر وسنانة بلون السماء حين يثقلها المطر, قالت البائعة:
- سعر عيني ملكة جمال الكون المتوفاة قبل يومين أقل بكثير من سعر عيني ملكة الجمال المتوفاة في القرن الرابع والثلاثين؛ نظراً لعمرهما المتقادم.
ردت الأخت بكبرياء وحِدة، جعلت بدن البائعة يضطرب:
- فليكن.. أرغب بعينين تحملان صبغةً تاريخية!
أجابت البائعة بتلعثم:
- حسناً..حسناً سيدتي!!.
بلغ سعر العينين الأثريتين أربع حزم نقدية من العملة الصعبة, دفعتها المرأة مقدماً قبل أن تستسلم لأيدي اختصاصية زراعة العيون, التي قامت باستئصال عينيها من محجريهما، ووضعت مكانهما العينين الأثريتين لملكة جمال الكون بتقنية متطورة, أُتلفت العيون الأصلية لصاحبتها وألقيت في صندوق القمامة؛ لأنها لم تعد تواكب الموضة فلا يمكن إعادة بيعها لزبائن النخبة «هكذا صرحت البائعة».
السوق كبير ذو طرقات متفرعة, والمتاجر الراقية بداخله تغري وتغوي الزبائن, أضواء المصابيح الليزرية تنعكس على البضائع فتزيدها ألقاً وجمالاً, في الزحام وبقرفٍ بالغ, استطاعا تجاوز بعض المساكين ممن قصدوا السوق لغرض المتاجرة بأعضائهم, والدخول إلى متجر الشفاه والأنوف, هناك استبدلا شفتيهما بشفتين أخريين. اختار الأخ شفتين ورديتين بحجم حبة توت، في حين اختارت أخته شفتين حمراوين منفوختين وأنفاً دقيقاً عوضاً عن أنفها المعقوف. خرجا سعيدين وراضيين, فلم يشعرا بتعب التجوال في السوق ذي التعاريج المتشعبة.
كان ما يزال أمامهما مهمة البحث عن المتجر الذي يبيع الصنف الجديد من الدماء الملكية المعدلة. إلا أن متجراً آخر، أثار بتصميمه على شكل قلب فضولهما فدلفا إليه، بعدما قرءا اللافتة المعلقة على مدخله «الراحة..لبيع وشراء القلوب». حين رآهما البائع تهلل وجهه بشراً, فملابسهما الأنيقة المحتشمة دلت على انتمائهم الطبقي الرفيع, أحضر لهما عصير تفاح وأجلسهما على أريكة مريحة ثم طفق يشرح لهما بإسهاب مصادر القلوب التي يبيعها لأبناء النخبة, قاطعته المرأة:
- في أي مكان من السوق تباع الأرواح؟.
فاجأه السؤال فأطرق رأسه خجلاً, قال بأسف:
- بإمكان المرء أن يجد كل شيء يخطر في ذهنه هنا ما عدا الروح, الحقيقة المُرة التي يجب أن نعيها هي أننا سنموت جميعاً في النهاية!.
طأطأ الأخوان رأسيهما حزناً ثم رفعاها وقال الأخ للتاجر:
- أشتكي من ضعفٍ في قلبي, لقد بلغت الخامسة والخمسين من العمر وأشعر بأن نبضات فؤادي لم تعد مستقرة, أضافت الأخت:
- نريد قلبين صحيحين لشابين في مقتبل العمر.
هز التاجر رأسه إيجاباً ثم استأذنهما وقام لإحضار الطلب, بعد بضع دقائق, عاد يبشرهما وهو يحمل في يده صندوقاً زجاجياً أنيقاً ظهر بداخله قلبان نابضان وموصلان بأجهزة دقيقة, قال التاجر:
- هذان هما أقوى قلبين في حوزتي حالياً, أحدهما لأنثى تبلغ العشرين من عمرها والآخر لشابٍ يافعٍ في الثانية والعشرين, لقد أحبا بعضهما, ولشدة فقرهما فقد قررا أن يحضرا إلى متجري ليستبدلا قلبيهما الممتازين بقلبين ضعيفين مستفيدين من فرق السعر الذي سيمكنهما من الزواج.
في حجرة كبيرة معقمة ضمت أطباء اختصاصيين داخل المتجر, جرى استبدال القلبين الشيخين بالقلبين الفتيين, بعد استكمال زرع القلبين بنجاح باهر, خرجت الأخت وأخوها من المتجر متشابكي الأيدي مزهوين بقلبيهما الجديدين.
كان الوقت عصراً حين قادتهما أقدامهما إلى مدينة السعادة التي توسطت السوق, دخلا إلى المدينة التي حوت مقاهي ومتاجر للألعاب ومتاجر لبيع الثياب الشبابية الراقية ومرقصا. دلفا إلى أحد المقاهي وتناولا البوظة، ثم توجها إلى إحدى صالات اللعب التي غادراها سريعاً إلى متجر الثياب لشراء ملابس تناسب أجواء المرقص, تخلت الأخت عن زيها المحتشم وارتدت فستاناً أحمرَ مثيراً بلا أكمام وبصدر مفتوح، شُكت على حوافه لآلئ من الدانتيل واللؤلؤ. ابتاع الأخ قميصاً حريرياً أزرق اللون وتخلى عن بدلته السوداء الفاخرة.
بثيابهما الجديدة دخلا إلى المرقص الذي كانت أضواؤه ترسل انعكاسات لونية متسارعة على الجدران، فتثير جنون الراقصين. كانا سعيدين ويشعران وكأنهما قد فقدا عقليهما من شدة النشوة, مضت ساعات طوال وهما مستغرقان في الرقص, حتى انقطعت الموسيقى الصاخبة وخفتت الأنوار فانتبها إلى نفسيهما، وأدركا أن الوقت قد تسرب من بين أيديهما، ولم يقصدا متجراً لبيع الدم الملكي بعد.
خرجا مسرعين علهما يعثران على متجر دماء لم يزل يفتح أبوابه للزبائن, لكنهما وجدا أن المتاجر كلها قد أغلقت أبوابها فيما كانت ساعة الجدار الضخمة في السوق تدق معلنةً تمام الثالثة صباحاً.
شعرا بالخيبة لأنهما أرادا شراء كل شيء في ذات اليوم, لكنهما قررا أن يعودا مرةً أخرى لشراء الدم حين تفتح المتاجر أبوابها ثانية, انعطفا يساراً في الطريق المؤدي إلى مواقف سيارات السوق حيث توجد سيارتهما المصفحة في الانتظار, بدا الطريق خالياً إلا من بعض السكارى الذين خرجوا معهم من المرقص ثم سرعان ما تفرقوا وغابوا في بطن السوق, فما عادا يستمعان إلا لصوتي أنفاسهما والريح التي بدت تصفر عالياً كأنها تصرخ وتستغيث.
تحت الظلام المطعم بالأضواء الحالمة, شعرا بقلبيهما يخفقان بشدةٍ واضطراب, مد يده المعروقة ملامساً يدها, تحسس كُلٌ منهما الجلد الناعم لصاحبه, التفتا إلى بعضهما و نظر كل منهما إلى عينيّ الآخر كما لو كانا يلتقيان للمرة الأولى.
شعور جديد لا يفهمانه تسرب إلى قلبيهما كمفاجأة, حاولا تجاهل الأمر ومتابعة المشي .. خطوة .. خطوتين.. توقفا لالتقاط أنفاسهما اللاهثة, تركا كفيهما المبتلة بالعرق تبتعدان عن بعضهما, مضت بضع دقائق أخرى حين ندّت التفاتة قسرية منه إليها, قال:
- أنت أختي!
أطرقت رأسها ثم زفرت الأنفاس وقالت بحسرة:
- وأنت كذلك!.
تابعا المشي بتثاقل، بينما العرق يتصبب غزيراً منهما في تحدٍ, حاولا أن يقاوما الرغبة الكامنة في نفسيهما لكن ناراً ما كانت قد اضطرمت وازداد سعارها وأعلنت عن نفسها في صفاقة.
ما زالا في صراعٍ صامت ما بين الرغبة والحاجز الروحي القديم, وصلا إلى منعطفٍ ضيق بأحد ممرات السوق, الطريق أمامهما ما يزال بعيداً وأقدامهما تثقلان بالخطو, داخل منعطف خالٍ إلا من بصيصٍ من نور, تنهدا وتأففا, امتدت أيديهما نحو بعضهما فسقطت الحقيبة من على كتفها وتبعثرت حزم النقود على الأرض, همس وهو يشم رائحة شعرها:
- أحبك..
ردت وهي تلقي بنفسها في حضنه:
- أحبك أيضاً!.
تعانقا طويلاً وسال الدمع من عينيهما غزيراً, في لحظة عشق غريبة, نسيا أنهما أخوان فانساقا وراء شبقهما ينهلان من معينه, حين استفاقا أخذهما الندم, قادهما الندم إلى الموت .. أخرج الأخ مسدسه من جيبه, نظر إلى أخته وسأل بإصرار:
- أينا سيطلق النار على الآخر ثم ينتحر؟
انتفض جسدها وعزت عليها الحياة, إلا أنها لم تستطع احتمال جرم ما فعلت, أجابته وهي تحاول أن تزرع في صوتها الثبات:
- هيا .. أطلق النار وسدد رصاصتك إلى قلبي.
كانت هذه الإجابة التي انتظر بوجلٍ سماعها, رفع مسدسه نحو صدرها بيدٍ مرتعشة, قال وهو يضغط بإصبعه على الزناد:
- سامحيني حبيبتي!.
انطلقت الرصاصة واخترقت لب فؤادها فانبثق الدم الأزرق غزيراً في جنبات الشارع.
صرخ وهو يحتضن جسدها فأعادت إليه الجدران صدى صوته, بعد أن هدأ قليلاً, نظر من حوله فتنبه إلى أن الفجر قد بزغ فكشف بعض تفاصيل المكان, نظر إلى أخته الممدة بجانب أموالها في هلع, خاطبته نفسه:
- اهرب .. اهرب .. هذه ليست الميتة التي تمنيتها لنفسك .. أهرب قبل أن يطّلع على فعلتك أحد..
لآن قلبه لنداء نفسه, وزع ناظريه في الأنحاء فوجد أن الطريق ما يزال خالياً من البشر, حاول الوقوف فلم تطاوعه قدماه وانتفض ضميره عليه ثائراً .. كره نفسه, قرر أن يثبت أمام الموت مثل رجل حقيقي, متيقناً بأنه لن يتمكن من متابعة العيش من بعد أخته, خاف من حمل الخطيئة ثقيلةً فوق كاهله لعمرٍ لا يعرف كم سيمتد به ..
بيدٍ مرتعشة أمسك بالمسدس ولطخ إحدى أصابع يده الأخرى بالدم الأزرق النافر من القلب المثقوب, حمل كومة من أوراق النقد وذراها في الهواء فتراقصت أمامه مبتعده, بعدها ضغط على الزناد.
غرباء بدماء ملكية
وقفت تتأمل بعينيها الصغيرتين من خلف نافذة حريرية الستائر بقاعة الجلوس في قصرهما اللؤلؤي جماعات المشردين العابرين والمفترشين قارعة الطريق الممتد أسفل القصر بصمت لم يقطعه سوى صوت وقع أقدام تقترب. كان أخوها يخطو بقدميه فوق أرضية الرخام المزخرف بنقوش خُطت بماء الذهب, قالت بعد أن شعرت به وقد وقف خلفها مباشرة:
- الناس يتناسلون كالجراد!
ابتسم ومال بجسده وعنقه، ناظراً إلى الأسفل حيث الأجسام الناحلة قد لاذت بالشارع وآوت إليه. استرسلت في حديثها وهي تشير إلى نساء ورجال اقتعدوا قارعة الطريق يشحذون ويعرضون أعضاءهم للبيع:
- تأمل ذوي الأرجل والأيدي المبتورة .. تأمل النسوة ذوات الأعين المستأصلة, يا لـبؤسهم! لقد بلغوا من الفقر حداً جعلهم لا يتورعون عن بيع الأغلى لديهم من أجل إطعام أطفالهم..
سكتتْ قليلاً, وبعد أن نظرت إليه إبتسمت وسألت:
- هل قرأت الصحيفة اليوم؟
أجاب:
- لم أقرأها بعد.
تركت النافذة واتجهت في خطوات وئيدة نحو طاولة زجاجية مستديرة, تناولت الصحيفة الموضوعة فوقها بينما كانت تريح جسدها على أريكة بيضاء مخملية, على صفحتها الأولى قرأت:
- تعلن وكالة الدم المتدفق, أنها قد ضخت مؤخراً إلى سوق الدم والأعضاء البشرية, النوع السابع من فئة الدم الملكي المحسّن والمعدل, تحوي هذه الفئة, بلازما وصفائح دموية عالية الجودة, كرات دم حاملة للأكسجين, كرات دم قاتلة للجراثيم بمختلف أنواعها, بالإضافة إلى احتواء الدم على مواد صبغية زرقاء ذات مواصفات ملكية متميزة وفاخرة .. الضمان خمس سنوات من تاريخ الإنتاج.
رفعت عينيها نحو أخيها الذي ترك النافذة واستدار ليجلس إلى جوارها, قال متسائلاً وهو ينظر إلى الصحيفة:
- أترغبين في استبدال دمك الملكي؟
ردت بضحكة:
- دمي ودمك معاً!! نستبدل دماً ملكياً آسناً بدمٍ ملكيٍ معدلٍ وجديد.
أطرق يفكر ثم وقف, مشى عائداً إلى النافذة, فتحها وألقى نظرة على العابرين والقاعدين على قارعة الطريق, حانت منه التفاته إليها, ثم عاود النظر إليهم. سحب بعض الهواء البارد إلى رئتيه بعمق وقال:
- المعوزون ذوو العاهات والأحلام المراقة على رصيف هذا الشارع, أتظنينهم يتمنون في سريرتهم لو كان بمقدورهم استبدال دمائهم الحمراء الأصيلة مثلنا؟.
أضاف بخيبة:
- ثم ما فائدة استبدالنا لدمائنا ما دمنا سنموت مثلهم في النهاية؟!
لم يرق لها قوله, اعتدلت واقفة واستدارت نحو لوحة كبيرة لمنظر طبيعي خلاب توسطت جدار القاعة, ضغطت على زر فوق الجدار فانزاحت اللوحة، وظهرت خزانة من الفولاذ مخبأة وراءها, أدخلت يدها في جيبها وأخرجت جهاز تحكم بحجم الإبهام, ضغطت على بعض الأرقام، فانفتح باب الخزانة، وظهرت أكياس كثيرة من النقود بداخلها. مدت يدها نحو المال وتناولت اثنتي عشرة حزمة ثم أعادت إغلاقها بجهاز التحكم, ضغطت على زر الجدار فعادت الصورة إلى مكانها. مشت لتضع حزم النقود فوق الطاولة. قالت وهي تنظر إلى المال وإلى أخيها في سعادة:
- ومن قال أننا سنموت مثلهم في النهاية؟! نحن نموت على أسِرتِنا بين أيدي أطبائنا وخدمنا يحيطون بنا من كل جانب, أمّا هم فيموتون إما برصاصة عدو تخترق رؤوسهم عند اندلاع الحرب, وإما لفرط جوعٍ لم يجدوا فتاتاً يلجمونه به, أو بمرضٍ عضالٍ أصابهم نتيجة لمتاجرتهم في أعضائهم.
تناولت بعض حزم النقود من على الطاولة, ضمتها إلى صدرها وأردفت:
- ألا تعلم بأن الشركات الكبرى قد أضحت تتكالب فيما بينها على شراء دمائهم؛ لتعيد تصنيعها وطرحها، بعد تصنيفها وتعديل مكوناتها وقولبتها مع إضافة المحسنات والملونات الزرقاء إليها في المعامل، لتصنع منها دماءً ملكية تليق بأن تسري في عروقنا؟
ابتسمت, زادت ابتسامتها اتساعاً, كان أخوها ينظر إليها وإلى المال في تأمل, استرسلت قائلة وقد اعتدلت في جلستها على الأريكة وأسندت رأسها إلى الوراء:
- هذه المرة, لن أكتفي بشراء الدم الملكي فقط, بل سأشتري المتوفر في السوق من أعضاء شابة وسليمة.
أردفت بقرف:
- لقد بات منظر بشرتي المجعدة والشعر الأبيض في رأسي يشعراني بالاشمئزاز من نفسي كلما نظرت في المرآة!.
نظرت إليه متسائلة:
- ما رأيك؟
ترك النافذة واتجه إليها, بحلق في وجهها قليلاً ثم انفجر ضاحكاً, انتفضت من مكانها وصرخت بغضب:
- أنا جادة! سأذهب من فوري إلى سوق النخبة لأشتري ما أردت الحصول عليه منذ مدة.
أسرعت بالتقاط النقود من على الطاولة ووضعتها بداخل حقيبة يدها الواسعة .. تناولت معطف الفرو من على الأريكة وخرجت, ناداها معتذراً فلم تجبه, أسرع إلى غرفة مكتبه القريبة, أخرج من أحد الأدراج مسدساً حشاه بالرصاص, خرج وراءها مهرولاً, وجدها تنتظره أمام باب المصعد, ابتسمت حين رأته, فبادرها بالقول بعد أن دس مسدسه في جيبه:
- يتوجب عليك أخذ الحيطة والتزام الحذر كلما خرجت, أولئك الحثالة المنتشرون كالنمل في الطرقات يكرهوننا ويحقدون علينا، وإن واتتهم فرصة إيذائنا فتأكدي بأنهم سينتهزونها!.
لم تعترض على قوله, اكتفت بأن هزت رأسها مجيبة, انفتح باب المصعد فدلفا إليه واتصلا بالسائق لينتظرهما بجوار السيارة, أقلهما المصعد إلى موقف سيارات فخم أسفل القصر. حين لمحهما السائق أسرع بفتح باب إحدى سياراتهم المصفحة والتي تعمل بطاقة الشمس, جلسا على المقعد الخلفي للسيارة, قالت موجهة حديثها إلى السائق:
- خذنا إلى سوق الدم والأعضاء البشرية.
هز رأسه بالإيجاب، وأدار المفتاح فانطلقت السيارة تتهادى على الطرقات المملوءة بالتعرجات تحت سماء زرقاء صافية, تكسوها غلالات من سحب بيض متفرقة, مشت السيارة عبر منحدرات وطرقات ضيقة, دخلت في قرى ومدن محطمة, كلما لمح أطفال الشارع السيارة الأنيقة تنساب برشاقة من أمام أعينهم ركضوا خلفها فرحين حتى تكاد أن تتقطع أنفاسهم.
وصلت السيارة إلى محطتها الأخيرة، وتوقفت في موقف سوق الدم والأعضاء البشرية... كانت أرض السوق مصنوعة من البلاطات الصقيلة وأسقفه من السيراميك المطعم بنقوشٍ من الأبنوس والعقيق, رواد السوق قلة من الأثرياء تدل عليهم هيئاتهم الأنيقة وأكثرية من الفقراء الذين جاءوا لبيع شيءٍ من دمائهم أو عضواً من أعضائهم.
ترجلت المرأة وأخوها من السيارة ومشيا متشابكي الأيدي باتجاه أول متجرٍ صادفهما, على لائحته ذات اللون الذهبي. قرءا:
- المستقبل لبيع وشراء العقول المستنيرة.
ابتسمت وهي تشير بيدها إلى داخل المتجر:
- هنا يبيع العلماء والمفكرون عقولهم الفذة ليشتروا بثمنها تذكرة سفر إلى بعض البلاد التي تمنحهم فرصة الحصول على عمل يمكنهم من الإنفاق على نسائهم وأطفالهم الجائعين في الوطن..
التفتت إليه متسائلة:
- ما رأيك أن نبتاع لنا عقلين نابغين لنصبح من العلماء والمفكرين؟
طأطأ رأسه قليلاً يفكر ثم رفعها ووضع يديه على خاصرته, أجاب:
- وما نفعل بالعقول ولدينا ما يفيض عن حاجتنا من مال؟ ما كان أولئك العلماء ليستبدلوا عقولهم بأخرى ضعيفة التفكير ضيقة الأحلام لولا ضغط الحاجة, نحن نملك المال ذا البريق فما حاجتنا لعقولهم الفذة؟! ثم إني أخشى أن أُرزأ بذاكرتي إن اشتريت عقلاً جديداً فأنسى تاريخ انتمائي للدم الأزرق!..
نظر إليها ونظرت إليه, قالت مستدركة:
- الحق معك!! فلو اشتريت لجمجمتي عقلاً فذاً فسأجد نفسي وقد وقعت في ورطةٍ كبيرة! كيف سأستمتع بالمال وحياة البذخ إن جنحت إلى التفكير بما سوف أقدمه للبشرية من اختراعات وابتكارات, من شأن ذلك أن يعكر صفو مزاجي حتى تضيق بي روحي اللاهية!!
ألقيا نظرة متشككة نحو المتجر قبل أن يولياه ظهريهما ويتجهان إلى متجر آخر على بعد مسافة قصيرة, كان لبيع الجلود الطبيعية والمصنّعة, خلف واجهة المتجر البلورية صفت تماثيل لنساء فارعات القوام ذوات جلود مشدودة وألوان متباينة, استقبلهما التاجر بترحاب، وطفق يستعرض أمامهما آخر الجلود التي وصلت للمتجر, أطلعهما على الأسعار وأسماء البلدان المصدرة للجلود، ثم أراهما نشرة حوت بداخلها صور الناس الذين باعوا جلودهم للمتجر, في النهاية وبعد بحث طويل استقر خيار المرأة على جلد فتاة في الخامسة عشرة من عمرها, كانت هناك غرفة صغيرة في نهاية المتجر تُكسى فيها الجلود المنتقاة في لحم أصحابها الجدد, أدخلت المرأة للغرفة المعقمة وسُلمت إلى أيدٍ خبيرة في كسو الجلود, ولم تمض إلا نصف ساعة حتى خرجت المرأة بجلدٍ آخر, أما جلدها المجعد فقد أخذه عامل المتجر وألقاه في سلة المهملات بالخارج.
كانت سعيدة بجلدها البض الجميل, بدت كزهرة ياسمين وقد عادت أربعين سنةً إلى الوراء, حين رآها أخوها صرخ دهشاً:
- آآه!! ما أجملك!!.
ضحكت وهي تمشي نحوه بتغنج, همست في أذنه:
- انتظر. هناك مفاجأة!
حولت نظرها إلى التاجر وسألت بدلال:
- أيوجد لديكم جلد مميزٌ لهذا العجوز اللطيف؟
ابتسم وأجاب:
- نعم.. يوجد سيدتي!.
أدخل الأخ إلى ذات الغرفة التي سبقته إليها أخته لمدة نصف ساعة خرج بعدها بجلد فتىً في العشرين من العمر, صرخت أخته بانتشاء حين رأته:
- واو!! ما أجملك!!.
ضحكا معاً ومن ثم أنقدا التاجر سعر الجلدين وخرجا بعد أن منحتهما هيئتهما الجديدة الكثير من التفاؤل... قالت الأخت وقد تقدمت أخاها عدة خطوات في لهفة:
- ترى ما ينقصنا بعد؟.
فكرا قليلاً وهما يقلبان ناظريهما في المتاجر المحيطة إلى أن جذبهما متجر أنيق لبيع الشعر, اقتربا, نظرا من خلال الزجاج الشفاف إلى الداخل حيث صفت على الواجهة شعور طبيعية شقر وحمر وسود فاحمه .. حين دخلا لم يلتفتا للتاجر الذي رمقهما بنظرة فاحصة وهما يقلبان الشعور في سعادة واضحة, انتقى كل منهما للآخر شعراً بلون مختلف؛ أمّا الأخت فقد اختارت لأخيها شعراً أسودَ ناعماً كالحرير، وأمّا الأخ فقد اختار لأخته شعراً مجدولاً بلون الذهب, حين وضعته على رأسها انسدلت خصلاته الطويلة ولامست الأرض. ابتسم وهو يتأمل شعرها بينما يضع الشعر الأسود فوق رأسه. في هذه الأثناء قام التاجر إليهما مرحباً، فابتسما له وطلبا منه أن يأمر بعض الاختصاصيين في زراعة الشعر ليثبتوا عن طريق الخياطة المتطورة الشعر المنتقى برأسيهما, هز التاجر رأسه بالإيجاب، وبعد ربع ساعة, كان الاثنان يغادران المتجر ويحثان خطىً محمومة نحو متجرٍ آخر.
هذه المرة, كان متجراً لبيع العيون, العيون النجلاء واللوزية, الحوراء والوسنانة ألصقت على واجهة المتجر لجذب الزبائن, بعض العيون وشت بذكاء صاحبها الأصلي وبعضها ظل يبرق بغموض, عرضت هناك عيون مختلفة لعشاق وفنانين ورسامين ودبلوماسيين وملكات جمال سابقات, كان بعضها صافياً وبعضها الآخر يمتلئ بالضباب, دخلا إلى المتجر بفضولٍ كبير, استقبلتهما البائعة البدينة بترحاب وابتسامة واسعة, كان لها عينان جميلتان بلونين مختلفين, سأل الأخ البائعة باستغراب:
- لم لمقلتي عينيكِ لونان مختلفان؟.
أجابت على الفور:
- إنها الموضة لهذا العام يا سيدي!!.
فكر قليلاً وعيناه تبحلقان في وجه المرأة، فلم ترق له فكرة أختلاف الألوان في عينيّ الوجه الواحد, طلبت الأخت من البائعة أن تدلها على أجمل عينين متوافرتين في المتجر، فأرتها عيني ملكة جمال الكون المتوفاة قبل يومين, وعيني ملكة جمال الكون المتوفاة قبل عدة عقود... العيون الأربع درر وسنانة بلون السماء حين يثقلها المطر, قالت البائعة:
- سعر عيني ملكة جمال الكون المتوفاة قبل يومين أقل بكثير من سعر عيني ملكة الجمال المتوفاة في القرن الرابع والثلاثين؛ نظراً لعمرهما المتقادم.
ردت الأخت بكبرياء وحِدة، جعلت بدن البائعة يضطرب:
- فليكن.. أرغب بعينين تحملان صبغةً تاريخية!
أجابت البائعة بتلعثم:
- حسناً..حسناً سيدتي!!.
بلغ سعر العينين الأثريتين أربع حزم نقدية من العملة الصعبة, دفعتها المرأة مقدماً قبل أن تستسلم لأيدي اختصاصية زراعة العيون, التي قامت باستئصال عينيها من محجريهما، ووضعت مكانهما العينين الأثريتين لملكة جمال الكون بتقنية متطورة, أُتلفت العيون الأصلية لصاحبتها وألقيت في صندوق القمامة؛ لأنها لم تعد تواكب الموضة فلا يمكن إعادة بيعها لزبائن النخبة «هكذا صرحت البائعة».
السوق كبير ذو طرقات متفرعة, والمتاجر الراقية بداخله تغري وتغوي الزبائن, أضواء المصابيح الليزرية تنعكس على البضائع فتزيدها ألقاً وجمالاً, في الزحام وبقرفٍ بالغ, استطاعا تجاوز بعض المساكين ممن قصدوا السوق لغرض المتاجرة بأعضائهم, والدخول إلى متجر الشفاه والأنوف, هناك استبدلا شفتيهما بشفتين أخريين. اختار الأخ شفتين ورديتين بحجم حبة توت، في حين اختارت أخته شفتين حمراوين منفوختين وأنفاً دقيقاً عوضاً عن أنفها المعقوف. خرجا سعيدين وراضيين, فلم يشعرا بتعب التجوال في السوق ذي التعاريج المتشعبة.
كان ما يزال أمامهما مهمة البحث عن المتجر الذي يبيع الصنف الجديد من الدماء الملكية المعدلة. إلا أن متجراً آخر، أثار بتصميمه على شكل قلب فضولهما فدلفا إليه، بعدما قرءا اللافتة المعلقة على مدخله «الراحة..لبيع وشراء القلوب». حين رآهما البائع تهلل وجهه بشراً, فملابسهما الأنيقة المحتشمة دلت على انتمائهم الطبقي الرفيع, أحضر لهما عصير تفاح وأجلسهما على أريكة مريحة ثم طفق يشرح لهما بإسهاب مصادر القلوب التي يبيعها لأبناء النخبة, قاطعته المرأة:
- في أي مكان من السوق تباع الأرواح؟.
فاجأه السؤال فأطرق رأسه خجلاً, قال بأسف:
- بإمكان المرء أن يجد كل شيء يخطر في ذهنه هنا ما عدا الروح, الحقيقة المُرة التي يجب أن نعيها هي أننا سنموت جميعاً في النهاية!.
طأطأ الأخوان رأسيهما حزناً ثم رفعاها وقال الأخ للتاجر:
- أشتكي من ضعفٍ في قلبي, لقد بلغت الخامسة والخمسين من العمر وأشعر بأن نبضات فؤادي لم تعد مستقرة, أضافت الأخت:
- نريد قلبين صحيحين لشابين في مقتبل العمر.
هز التاجر رأسه إيجاباً ثم استأذنهما وقام لإحضار الطلب, بعد بضع دقائق, عاد يبشرهما وهو يحمل في يده صندوقاً زجاجياً أنيقاً ظهر بداخله قلبان نابضان وموصلان بأجهزة دقيقة, قال التاجر:
- هذان هما أقوى قلبين في حوزتي حالياً, أحدهما لأنثى تبلغ العشرين من عمرها والآخر لشابٍ يافعٍ في الثانية والعشرين, لقد أحبا بعضهما, ولشدة فقرهما فقد قررا أن يحضرا إلى متجري ليستبدلا قلبيهما الممتازين بقلبين ضعيفين مستفيدين من فرق السعر الذي سيمكنهما من الزواج.
في حجرة كبيرة معقمة ضمت أطباء اختصاصيين داخل المتجر, جرى استبدال القلبين الشيخين بالقلبين الفتيين, بعد استكمال زرع القلبين بنجاح باهر, خرجت الأخت وأخوها من المتجر متشابكي الأيدي مزهوين بقلبيهما الجديدين.
كان الوقت عصراً حين قادتهما أقدامهما إلى مدينة السعادة التي توسطت السوق, دخلا إلى المدينة التي حوت مقاهي ومتاجر للألعاب ومتاجر لبيع الثياب الشبابية الراقية ومرقصا. دلفا إلى أحد المقاهي وتناولا البوظة، ثم توجها إلى إحدى صالات اللعب التي غادراها سريعاً إلى متجر الثياب لشراء ملابس تناسب أجواء المرقص, تخلت الأخت عن زيها المحتشم وارتدت فستاناً أحمرَ مثيراً بلا أكمام وبصدر مفتوح، شُكت على حوافه لآلئ من الدانتيل واللؤلؤ. ابتاع الأخ قميصاً حريرياً أزرق اللون وتخلى عن بدلته السوداء الفاخرة.
بثيابهما الجديدة دخلا إلى المرقص الذي كانت أضواؤه ترسل انعكاسات لونية متسارعة على الجدران، فتثير جنون الراقصين. كانا سعيدين ويشعران وكأنهما قد فقدا عقليهما من شدة النشوة, مضت ساعات طوال وهما مستغرقان في الرقص, حتى انقطعت الموسيقى الصاخبة وخفتت الأنوار فانتبها إلى نفسيهما، وأدركا أن الوقت قد تسرب من بين أيديهما، ولم يقصدا متجراً لبيع الدم الملكي بعد.
خرجا مسرعين علهما يعثران على متجر دماء لم يزل يفتح أبوابه للزبائن, لكنهما وجدا أن المتاجر كلها قد أغلقت أبوابها فيما كانت ساعة الجدار الضخمة في السوق تدق معلنةً تمام الثالثة صباحاً.
شعرا بالخيبة لأنهما أرادا شراء كل شيء في ذات اليوم, لكنهما قررا أن يعودا مرةً أخرى لشراء الدم حين تفتح المتاجر أبوابها ثانية, انعطفا يساراً في الطريق المؤدي إلى مواقف سيارات السوق حيث توجد سيارتهما المصفحة في الانتظار, بدا الطريق خالياً إلا من بعض السكارى الذين خرجوا معهم من المرقص ثم سرعان ما تفرقوا وغابوا في بطن السوق, فما عادا يستمعان إلا لصوتي أنفاسهما والريح التي بدت تصفر عالياً كأنها تصرخ وتستغيث.
تحت الظلام المطعم بالأضواء الحالمة, شعرا بقلبيهما يخفقان بشدةٍ واضطراب, مد يده المعروقة ملامساً يدها, تحسس كُلٌ منهما الجلد الناعم لصاحبه, التفتا إلى بعضهما و نظر كل منهما إلى عينيّ الآخر كما لو كانا يلتقيان للمرة الأولى.
شعور جديد لا يفهمانه تسرب إلى قلبيهما كمفاجأة, حاولا تجاهل الأمر ومتابعة المشي .. خطوة .. خطوتين.. توقفا لالتقاط أنفاسهما اللاهثة, تركا كفيهما المبتلة بالعرق تبتعدان عن بعضهما, مضت بضع دقائق أخرى حين ندّت التفاتة قسرية منه إليها, قال:
- أنت أختي!
أطرقت رأسها ثم زفرت الأنفاس وقالت بحسرة:
- وأنت كذلك!.
تابعا المشي بتثاقل، بينما العرق يتصبب غزيراً منهما في تحدٍ, حاولا أن يقاوما الرغبة الكامنة في نفسيهما لكن ناراً ما كانت قد اضطرمت وازداد سعارها وأعلنت عن نفسها في صفاقة.
ما زالا في صراعٍ صامت ما بين الرغبة والحاجز الروحي القديم, وصلا إلى منعطفٍ ضيق بأحد ممرات السوق, الطريق أمامهما ما يزال بعيداً وأقدامهما تثقلان بالخطو, داخل منعطف خالٍ إلا من بصيصٍ من نور, تنهدا وتأففا, امتدت أيديهما نحو بعضهما فسقطت الحقيبة من على كتفها وتبعثرت حزم النقود على الأرض, همس وهو يشم رائحة شعرها:
- أحبك..
ردت وهي تلقي بنفسها في حضنه:
- أحبك أيضاً!.
تعانقا طويلاً وسال الدمع من عينيهما غزيراً, في لحظة عشق غريبة, نسيا أنهما أخوان فانساقا وراء شبقهما ينهلان من معينه, حين استفاقا أخذهما الندم, قادهما الندم إلى الموت .. أخرج الأخ مسدسه من جيبه, نظر إلى أخته وسأل بإصرار:
- أينا سيطلق النار على الآخر ثم ينتحر؟
انتفض جسدها وعزت عليها الحياة, إلا أنها لم تستطع احتمال جرم ما فعلت, أجابته وهي تحاول أن تزرع في صوتها الثبات:
- هيا .. أطلق النار وسدد رصاصتك إلى قلبي.
كانت هذه الإجابة التي انتظر بوجلٍ سماعها, رفع مسدسه نحو صدرها بيدٍ مرتعشة, قال وهو يضغط بإصبعه على الزناد:
- سامحيني حبيبتي!.
انطلقت الرصاصة واخترقت لب فؤادها فانبثق الدم الأزرق غزيراً في جنبات الشارع.
صرخ وهو يحتضن جسدها فأعادت إليه الجدران صدى صوته, بعد أن هدأ قليلاً, نظر من حوله فتنبه إلى أن الفجر قد بزغ فكشف بعض تفاصيل المكان, نظر إلى أخته الممدة بجانب أموالها في هلع, خاطبته نفسه:
- اهرب .. اهرب .. هذه ليست الميتة التي تمنيتها لنفسك .. أهرب قبل أن يطّلع على فعلتك أحد..
لآن قلبه لنداء نفسه, وزع ناظريه في الأنحاء فوجد أن الطريق ما يزال خالياً من البشر, حاول الوقوف فلم تطاوعه قدماه وانتفض ضميره عليه ثائراً .. كره نفسه, قرر أن يثبت أمام الموت مثل رجل حقيقي, متيقناً بأنه لن يتمكن من متابعة العيش من بعد أخته, خاف من حمل الخطيئة ثقيلةً فوق كاهله لعمرٍ لا يعرف كم سيمتد به ..
بيدٍ مرتعشة أمسك بالمسدس ولطخ إحدى أصابع يده الأخرى بالدم الأزرق النافر من القلب المثقوب, حمل كومة من أوراق النقد وذراها في الهواء فتراقصت أمامه مبتعده, بعدها ضغط على الزناد.
تعليق