شعرية السرد في مجموعة (يشكـِّل أرواحهم الماء) للقاص أحمد جعفر الحبشي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • نبيل سعيد
    عضو الملتقى
    • 07-01-2009
    • 20

    شعرية السرد في مجموعة (يشكـِّل أرواحهم الماء) للقاص أحمد جعفر الحبشي

    شعرية السرد

    في مجموعة (يشكـِّل أرواحهم الماء)

    للقاص أحمد جعفر الحبشي

    (مقاربة بنيوية)
    ...................................
    كتب / نبيل سعيد مُطبـِّق

    Nb338622@gmail.com
    سيئون
    4 / 8 / 2011م
    .................................................. .......

    القصة العربية القصيرة أرض بكر و فناء رحب بالنسبة للدراسات النقدية الحديثة ، فلم يولِ الدرس النقدي الحديث اهتماماً كبيراً بهذا النوع الأدبي ، و لم يستوفِ الكشف عن التقنيات الأسلوبية ، و الأسس الجمالية ، و السمات الفنية المميزة لذلك المنجز الإبداعي ، المفعم بتجارب إنسانية تعكس صورة الواقع و تشير إلى الأدوات الأسلوبية الخاصة بكتّاب القصة .
    و يعد المنهج الشكلي من أهم الدراسات النقدية الحديثة التي عُنيت بالنصوص الأدبية ، ذلك أنه كان لبنة أساسية لـنهضة نقدية جادة [1] . فهو " المجال الامتيازي الذي أثبتت فيه النظريات البنيوية قيمتها و إمكاناتها " [2] من خلال التطبيقات الأدبية التي أهـَّـلته ليكون منافساً قوياً لغيره من المناهج النقدية ، بوصفه " تقنية بحث" [3] تمتلك أدوات إجرائية تحليلية و تركيبية خاصة ، تُعنى بـالشعر و الحكاية الشعبية و القصة القصيرة والرواية ؛ بهدف تصنيف الظواهر البنائية الطاغية عليها ، لذا عُدَّ علماً أدبياً مستقلاً بذاته [4] ، لا مجرد آراء فلسفية عائمة لا تفضي إلى مسلمات علمية على صعيد المنجز النقدي [5] .

    ستعنى هذه المقاربة لمجموعة (يشكـِّل أرواحهم الماء ) بشعرية السرد ، و في سبيل ذلك ستتناول مصطلح (التحفيز التأليفي (Compositionnelle) بوصفه إحدى الأدوات الإجرائية للمنهج الشكلي البنيوي ، و أحد أنواع التحفيز العام الذي طوره الشكليون الروس ،و قصدوا في تعريفه : أن كل حافز في القصة لا ينبغي أن يرد بشكل اعتباطي [6] ، بل لابد من أن تكون له وظيفة أو علاقة بما يأتي في القصة. و قد ركز توماشفسكي في هذا المجال على مستويين [7] ، أولها : وصف الأشياء في مجالها البصري (المرئيات) ، و بخاصة المؤثثات (accessories)، فإذا ورد في بداية القصة بأن مسماراً في الجدار ، فعلى الكاتب أن يجعل له وظيفة ، كأن يشنق البطل نفسه به في النهاية [8] ، و ثانيها : هو وصف الطبيعة الذي قد يأتي منسجماُ مع أحداث القصة ، كانسجام ضوء القمر مع مشهد رومانسي ، أو انسجام العاصفة مع مشهد الموت ، أو قد يرد غير منسجم مع مشاهد القصة ، فيطلق عليه حافز الطبيعة اللا مبالية ، كالاستماع إلى مقطع غنائي في الوقت الذي تموت فيه إحدى الشخصيات[9] .

    و كلا المستويين (الطبيعة / المرئيات) مرتبط بتقنية الوصف ، و هما دليلنا
    المعتمد في الكشف عن شعرية النصوص السردية في مجموعة (يشكـِّل أرواحهم الماء) [10] للقاص (أحمد جعفر الحبشي) .

    أ - الطبيعة المنسجمة :
    ................................................
    ليس غريباً أن تسهم الطبيعة في بناء النص الأدبي و رسم الملامح النفسية للشخصية ، فالإنسان كائن مفطور على إحداث علاقة حميميّة مع مكونات الطبيعة ،

    سيما إذا كان يمارس عملية إبداعية بحة ، سواء أكانت تشكيلية أم لغوية أم غيرها من مجالات إبداع الذات الإنسانية الواعية ، فالمبدع يعشق بطبعه زرقة السماء ، و يطمئن لخضرة الأرض ، و يطرب لموسيقى المطر .

    لكن السؤال المنهجي الذي يطرح نفسه هنا ، هو : كيف يتم توظيف عناصر الطبيعة داخل النص السردي ؟ و ما طبيعة العلاقة بين تلك العناصر و بين أحداث القصة و ثيماتها ؟

    يكتسب هذا السؤال منهجيته من انتماء عالم الطبيعة في الفنون السردية إلى تقنية الوصـف التي يمسك بزمامها الراوي ، و الراوي وحده ، فبصوت الراوي يستطيع المؤلف إبطاء السرد بوساطة الوصف الذي يعد أحد الوسائل الأسلوبية لتشكيل قاعدة المبنى الحكائي ، و لا بد أن يسفر هذا الإبطاء عن إغراء المتلقي بالنص السردي ، و إلا أصبح الوصف لحظة سقيمة ، تعتسف الزمن ، و تخل بالبناء المعماري للحكاية ، و هذا ما استطاع الكاتب تجسيده جيداً في مجموعة (يشكـِّل أرواحهم الماء) .

    ففي قصة "غدا ًسيولد الربيع" يأتى وصف الطبيعة في بداية النص منسجماً و مواكباً لحالة(الافتقار العاطفي) التي يعاني منها (البطل) ، فالبطل إنسان محبط اسودّت الدنيا في وجهه وغلِّقت أبوابها ، يعاني من تقلبات الزمن الغادر ، و يشكو شيخوخة ً مبكرة ً على مفرق شبابه الزاهر ، و يمكن للمتلقي اكتشاف ذلك عبر صوت (الراوي / البطل ) ،إذ يقول :

    " كلّ شيءٍ قد تبدّل واختلف ، حتى العام لم يعد له اثنا عشر شهرا ، قد غدا أكثر من ذلك بكثير لم أعد أرى شيئاً هدوءٌ يضيف للسواد رعباً مضاعفاً .. فاضت عيناي ، تقدمت بعقارب الساعة سريعاً إلى أن وصلت إلى نقطة الزمن الحاضر ، بعد أن شق أخاديد وجنتي خطان أسودان ، خارت قواي ، تساءلت ، أَمَا لهذه المآسي من انحسارٍ ونهاية ؟! وأين الوجه الباسم للحياة التي لم أعرف عنها سوى العلقم أتجرعه مرغما ؟! " .

    و قد استبق الكاتب حالة الافتقار العاطفي هذه بفرشةٍ طبيعية من الكلمات الواصفة المتناغمة مع ذلك المشهد ، فنراه يحدثنا عن (الصباح و المساء ، و الشمس و القمر ، و النور و الظلام ، و البياض و السواد .... إلخ) ، و يتجلى ذلك بوساطة وصف مفعم بالطبيعة المنسجمة ، فيطالعنا صوت (الراوي / البطل) بالآتي :

    "شرعت خيوط النور بالانسحاب خلسةً ومن هناك الشمس تختلس النظر من وراء أفقٍ ينذر بليلةٍ سوداء ، لحظات و سيدلف الليل بجلبابه الأسود ليبدد ماتبقى من رفات النور .. القمر قد غرق في خضمّ سحبٍ مثقلةٍ بحبرٍ أسودٍ سيسقط سهاماً فوق هذه الكرة التي لا تبرح جهداً أن تلد شجراً أخضر يلد ثماراً نأكل منها جميعا ، ليبعثر قطرات الندى المستلقية على وريقات ذات ألوان ، وليجبر الأصدقاء على فضّ جمعهم" .

    هكذا يستدعي الافتقار العاطفي عناصر الطبيعة المنسجمة في النص السابق ، وهو لحظة إنسانية مضطربة ، تسبب خللاً كبيراً و فراغاً نفسياً مؤلماً على مستوى شخصية الفرد ، يدفعها إلى القيام بمحاولة تبديد تلك الحالة بوسائل اتصالية متعددة ، قد تجد طريقها نحو النجاح ، و قد تبوء بالفشل .

    و هذا ما يُلاحظ أيضاً في قصة "وسقطت وردة التوت" التي تعدُّ فيها اعترافات البطلة النافذة الرئيسة التي تمارس الطبيعة المنسجمة عبرها وظيفتها في النص ، فيبدو حافز الطبيعة المنسجمة النقطة الأساسية التي تدور حولها أحداث القصة ، فهو يرسم لوحة جمالية يستجيب لها المتلقي فوراً ، غير أنه هنا حافز ( قار) ، لا يغير من حالة الـلا توازن التي تظل سائدة حتى النهاية ، فالقصة تتحدث عن الدكتورة (وردة) ، الفتاة العانس التي تعاني لحظة (افتقار عاطفي) تتيح للكاتب استدعاء عناصر الطبيعة لتلتحم مع تلك المأساة الإنسانية :

    "هاهنا ترقد عــــــانس .. وحدها .. والحلمُ قارس .. فوقها .. صفّت زهور .. ذبلت .. تحت شهادات المدارس .. وهنا .. ديوانُ شعرٍ .. فوقه .. بعض مناديل .. شجاها " .

    إذ تبدو عناصر الطبيعة المنسجمة حاضرة ً منذ الكلمات الأولى ، فيدرك المتلقي ندى (الفجر) و يلمح تلاشي (الليل) ، كما يأتي :

    " صوت تهشُّم الزجاج يبدد هدوء ما قبيل الفجر ، تتزامن معه صرخاتٌ أنثويةٌ تنمُّ عن ألمٍ واستنجاد .. نفضتُ رداء الرهبة وأخذت أجوب بنظراتي أطراف المكان ، كان الهدوء يخيّم على الحي والشوارع يسكنها صمتٌ قاتل ، ولا وجود لأضواء تعاون خيوط الفجر في تمزيق جلباب الليل الأسود " .

    إن تفعيل الطبيعة المنسجمة لحركة المتن الحكائي كاد أن يؤدي إلى تغيير كبير في مجريات الأحداث ، فقد جعل هذا الحافز البطلة قريبة من لحظة (اليأس ) منها إلى لحظة (الأمل )، و غير بعيدة عن لحظة (الخطيئة) المضادة للحظة (الوفاء) ، كما جعلها شبه مستسلمة للحظة (الضعف) الناسفة لَلحظة (القوة) ، و أذكى لديها فكرة (الانتقام) المبددة لـِفكرة (التسامح) ،بيد أن توقف عقارب هذا الحافز عن الدوران في هذا الاتجاه أعاد الأمور إلى نصابها ، و جعل البطلة (الدكتورة / وردة) تكتفي بالتوقف عند لحظة من (اللاوعي) المفعم بالهذيان .

    أما في قصة "انتحار قلم" يأتي إدارج الطبيعة منسجماً مع (الافتقار الاجتماعي) الذي يعاني منه (البطل) (صابر) ، فعلى الرغم من فوز روايته (دموع قرية) في المسابقة الأدبية (جوائز المليون) عن مجال الرواية إلا أنه تم نسبها إلى شخص آخر ادعى أنه كاتب الرواية ، بالتواطؤ _ ربما _ مع لجنة التحكيم ، لذا يستدعي هذا الافتقار الاجتماعي لدى البطل الطبيعة على نحو يعكس مدى الإحباط الذي يعاني منه (صابر) ، فنرى صورة (تجمهر السّحب) تقابل صورة (المسجلين في المسابقة) ، و صورة (الشمس) تقابل هيئة (صابر ) ،أما (تقلبات الطقس) فأتت مقابلة لـ تقلبات (الزمن) المتمثلة في منح الجائزة و نسب الرواية إلى غير البطل (صابر) ، و في هذه المتقابلات يتجلى انسجام الطبيعة بشكل أولي ، كالآتي :

    " بالرغم من تجمهر السّحب حول الشمس لحجب أشعتها .. والطقس الذي يبشر بصبح أقل عناءً .. إلا أن ثمّة حلماً غامضاً يشغل الذاكرة .. حاولت أن أقلبه .. وبقيت على ذلك حتى شممت رائحة الدخان ! " .

    نستخلص مما سبق ، أن الكاتب استطاع أن يوظف عناصر الطبيعة المنسجمة توظيفاً موجزاً و موحيا ، عبَّر عن مشاعر الشخصيات القصصية و رسم النهايات التي تنتظرها .

    ب - المرئيات :
    .......................
    تشير التجارب السردية للشكليين الروس إلى أن أي شيء يدرج في النص الأدبي _ كــالمسمار أو المفتاح أو المرآة ، مثلا _ لا بد له من وظيفة و دلالة ، تصنف ضمن عناصر التحفيز التأليفي ، و ركزوا في ذلك على وصف الأثاث ، و هذه فكرة واضحة ، بيد أنها تحصر دارسي النصوص في حيز ضيق هو حيز الأثاث الموجود في دوائر مغلقة ( الغرفة ، السجن ، السينما ) . و لكي نتجاوز هنا تلك المساحة المحدودة ، سنتبنى مفهوماً آخر ، أكثر شمولية و أرحب مساحة ، فندرس الأشياء في الفضاء النصي تحت مظلة ( المرئيات ) ؛ بغية استكناه إيحاءاتها المعنوية .

    و إذا سلَّمْنا بأن إدراج أي شيء في السياق السردي ( مسمار ، قلم ، منديل ، قبعة ، وردة حمراء ) لا يرد بشكل اعتباطي ، فلا بُدَّ من وجود غاية جمالية و هدف واضح لذلك الإدراج ، يسفر عن إيحاءات و إشارات معنوية معينة .

    فإدراج العنصر المرئي ( المرآة ) مثلاً ، حافز لفظي يحيل على دلالة

    على ( الغرور) ، فيما إدراج ( المنديل ) غالباً ما يأتي مرتبطاً بدلالة ( الذكرى )

    و أما إدراج ( الوردة الحمراء ) فيرتبط بدلالة ( الحب ) و هكذا دواليك .

    و عند تطبيق هذا الإجراء على مجموعة (يشكل أرواحهم الماء) ، نجد النصوص حبلى بعدد كبير من المرئيات ، ففي قصة "صمت الوفاء" ، ثمة وصف لعدة مرئيات تبطئ السرد وتفعل فضاء الحوافز لدى المتلقي ، فالكاتب يدرج المرئيات بشكل يلفت الانتباه منذ الوهلة الأولى ، فنلحظُ مرئيات تتعلق بالفضاء الخارجي ، مثل : (اللوحة الزرقاء / العمارة البيضاء / أعمدة الكهرباء ) وأخرى تتعلق بالفضاء الداخلي ، مثل : ( خشبة السرير / الوسادة / زجاجة الربو / الملعقة .. إلخ) و هذه المرئيات مجتمعة تشكل حوافز سردية قارَّة في النص ، كالآتي :

    " لوحةٌ زرقاء مكتوبٌ عليها شارع الوفاء ، الشوارع خالية ، ولا أضواء سوى أضواء أعمدة الكهرباء وثمة ضوء يأتي من بعيد ، الطابق الثالث من تلك العمارة البيضاء ،كعادتها لم تستطع النوم ، تنظر إلى بطنها وتبكي ، أسندت ظهرها بصعوبة على خشبة السرير , استدارت نحو الوسادة وأخذت تسعل بشدة , تنهَّد زوجها وأغرق رأسه تحت وسادتين . أضاءت الضوء الخافت وأخرجت زجاجة الربو من الدرج الجانبي وتجرعت ملعقة ، ملعقتين ، ثلاثاً ، وما إن هدأت حتى عاودتها الحالة . أبعد الزوج الوسادتين متأففاً ، شبّك بين أصابع يديه خلف رأسه , وبعينين محدقتين أخذ ينظر إلى سقف الحجرة ".

    و إضافة إلى هذه الحوافز القارة المتناثرة في فضاء النص ، ثمة حافز مرئي محوري يهيمن على مجريات الأحداث ، يعدُّ قطباً جاذباً لجميع الأشياء المتناثرة من حوله ، ألا و هو حافز (السيجارة) الذي جاء ليكسر توقعات المتلقي تجاه نهاية القصة ، لاتصاله بدلالات (المرأة / العشيقة / الضرَّة ) ، إذ كان المتلقي يتوقع أن ثمة عشيقة (امرأة) أخرى للزوج كما مهدت له مقدمة القصة ، بيد أنه تبين في النهاية أنها لم تكن سوى (السيجارة) التي استطاع الكاتب توظيفها كحافز ديناميكي له تأثير خاص على شخصية الزوج ، يصل إلى مستوى العلاقة بـ (العشيقة) ، و الغيرة من المرأة (الضرَّة) .


    "أقبل زوجها يدندن طربا ً، تظاهرت بأنها تقطع شيئاً من البصل .

    - أين الشمع ؟

    أشارت إلى أحد الأدراج , أخذ كرتون الشمع وعاد إلى صديقته . حاولت الخروج لمشاركتهما الجلسة ولكنها في كل مرةٍ تُقبل عليهما تعاودها الحالة لتعود أدراجها .

    كانت تختلس النظر إليهما وهي في المطبخ ، وهو يداعب صديقته بإصبعيه .. أشعل شمعةً وقلت المسافة بينهما ، إلى أن قرّبها من فمه ! صرخت الزوجة :

    - ألهذا الحد !!

    جرت نحوهما مسرعة ، و بيدٍ واحدة حملت الصديقة وانتزعتها من بين أحضانه ، واتجهت بها نحو النافذة ، أدلتها .. فسقطت نحو الشارع !! .

    عادت على مضض وجلست على إحدى الكنبات ، ساد السكون حتى ظهرت الدموع على وجنة زوجها .. فثمة شيء قد دخل عينه ، أزاله وبدأ بالضحك ! أخرج علبة السجائر بأكملها وألقى بها من النافذة ، اقترب منها ، و أخذ يقرأ في عينيها ،

    - وداعــــــــــــــا لها للأبد .. أعدكِ ..

    ابتسمت ..

    ابتسم ..

    أخذ بيدها واتجها نحو النافذة ..

    أغلقها .. وأغلق الستائر ! " .

    و في قصة "غداً سيولد الربيع" تمثل (عقارب الساعة) حافزاً مرئياً ديناميكياً بعمل على تغير مجريات الأحداث ، و الانتقال بوضعيات القصة من طور (التوازن) المألوف إلى طور (اللاتوازن) غير المألوف ، فـ (الراوي/ البطل) شاب متذمِّر و ناقم على وضعه الاجتماعي العام ؛ بسبب تعثر أحلامه و أمانيه و تحطمها على جدار الوظيفة العامة ، و عودته دائما بخفي حنين من عتبة أبواب المسئولين اللذين ملَّ من استجدائهم .

    " عادت تلك الذكريات بكل تفاصيلها ، مُرّة ، مؤلمة ، إلى أن أتت ذكريات طوافي اليومي بين أروقة ودهاليز المسئولين كي يتحقق حلمي ويرى ابتكاري النور ، من رسالةٍ إلى مثلها ، ومن مسئول لآخر ، ومع هذا فقد سرقوه ، سرقوه عُنوةً ولم يكتفوا بذلك بل نسبوه لآخر ، فاضت عيناي ".

    لذا لم يكن من البطل _ و هو يعيش حالة الإحباط هذه _ إلا أن يأخذ ساعة الحائط ، و يعمل على إعادة عقاربها إلى الوراء (الزمن الماضي) ، ما أدى إلى هزات عنيفة و اضطرابات مخيفة رافقت هذه العملية الصعبة ، توِّجت في الأخير بالعودة فعلاً إلى الزمن الماضي

    " ظلت عقارب الساعة في كبريائها ، لم يتوقف الزمن ، حاولت أن استشعر أنه توقف ، أخرجت البطارية . لِمَ لا يعود الزمن للوراء ؟ مددت إصبعي السبابةَ وعدت بعقارب الساعة عكس مسيرها دوراتٍ عديدة ، سريعة ، إلى أن وصلت إلى نقطة الزمن الصفر ، بسمةٌ ما أجملها ترتسم على شفتي جدتي وهي تخرج تلك القطعة التي ما لبثت تصرخ ، وقد تجمهرت الناس من حولها ..ولكن ما لبثت تلك الصرخات أن تتلاشى تحت وطأة الزغاريد وأهازيج الصبية .. أحكمت قبضتي حول قلبي ، وعدت بالزمن للوراء ، حاولت عقارب الساعة الإباء ، عدت بقوة ، سريعاً ، تألمت كثيراً ، صبرت ، استمررت ،خفت شدة قبضتي ، و تقاسيم عينيّ قد تمددت كثيراً ، فتحت عينيّ على مضض ، بعد أن أحسست حرقةً في إصبعي ، لم يعد ذلك السواد مسيطراً ، فقد شابه شيءٌ من نور ، و ظل إصبعي يدور ويرسم دوائر في الهواء بعد أن اصطبغ بسائلٍ أحمر ! صوت عقارب الساعة يهزُّ أرجاء الغرفة ، تحررت من تلك الأقمشة التي كانت تثقل كاهلي وفزِعت إلى الباب .. تعثرت ولم أستطع المشي فحبوت " .

    و بالعودة إلى الزمن الماضي ، يدرك البطل مدى التغير الذي طرأ على ذاته و على الأشياء المحيطة بالمكان ، لقد عاد طفلاً صغيراً ، و تحولت بقية المرئيات من حوله (الباب / النافذة / الثلاجة / الساعة / الإبريق) إلى أجسام عملاقة ، فيقول :

    " و لكن أين الباب ؟! اتجهت نحو النافذة لأستنجد ، ولكن أين النافذة ؟! صرخت ، و ما هذه الأصوات التي أصدرها ؟! اختبأت وراء الثلاجة , كل شيء قد غدا أكبر مما كان عليه ! قرص الساعة ! الثلاجة ! الباب ! وإبريق الماء الزجاجي ! إبريق الماء ، دنوت منه ، توقفت أرقبه بدهشة ، أين ذاك الشعر الذي كان يكسو جسدي ؟! وأين تلك التجاعيد التي أخفت ملامح وجهي ؟! ، وَي !! لقد غدوت طفلاً صغيرا ! .

    هبّت نسمةٌ باردة ، دفعتني إلى أحد أركان الغرفة ، شعرت بقشعريرة ، التحفت قطعة قماشٍ لرجلٍ عجوز ، وبابتسامةٍ بريئةٍ عكفت أرقب خيوط فجرٍ جديدٍ ، من أصغر منافذ النافذة " .

    بما سبق ، نكون أمام إدارج ذكي للمرئيات ، و توظيف جيد للخيال السردي المعني بالعالم العجائبي ، استطاع الكاتب به أن يشدَّ انتباه القارئ ، و أن يغيِّر من توقعاته تجاه النص السردي المنتظر لولادة (الربيع) ، أي (المستقبل) .

    في محيط النص الموسوم بـ "العانس" عدة مرئيات ، مثل : (الشقة / النافذة / الباب /الشارع الطاولة ...الخ ) ، بيد أن الحافز المرئي الأبرز هو (الزجاج) ، إذ أنه مرتبط بالحالة الاجتماعية للبطلة (العانس) ، فثمة علاقة دلالية ما بين الحافز اللفظي (العانس) ، و الحافز المرئي (الزجاج) ، تمكن في معاني متوازية حال ذبول زهرة كل منهما كـ (الألم ، الضعف ، التهشُّم ، التكسر ، الانهيار ...الخ ) .

    فالمرأة (العانس) ذات إنسانية تكسَّر قلبها ، و تحطمت أحلامها ، و هزم كبرياؤها ، فهي في ذلك أشبه بالزجاج المهشم ، و هذه إشارة تحيل إلى وصف النساء بـ (القوارير) كما ورد في الحديث النبوي الشريف ، و هو وصف يوحي بمعاني (الرقة ، البساطة ، الانكسار ، الضعف) المهيمنة على الذات النسوية ، يقول الراوي :

    " وعلى الوجه الآخر ..

    (( هاهنا ترقد عــــــانس .. وحدها .. والحلمُ قارس .. فوقها .. صفّت زهور .. ذبلت .. تحت شهادات المدارس .. وهنا .. ديوانُ شعرٍ .. فوقه .. بعض مناديل .. شجاها .. حرّ ما كانت تلامس .. وعلى الرفّ ملابس .. طولها شبرٌ ونصف الشبر .. كانت قد شرتها .. لتناغي بخيال الأم طفلاً .. وتناديه بفارس .. كل شيءٍ فوق هذا الرف أغراض لفارس .. دميةٌ .. لِهايةٌ .. صوفٌ على شكل قلانس .. بينها رضاعةٌ .. نامت .. تغطت .. بخيوط قد تدلت .. من عرى شرشف فارس .. ألف آهٍ أمّ فارس .. كم دعوت الله .. كم ذا .. وتوسلت .. وذا الدّمع على نقش مصلاك يائس .. إيه يا أما بلا طفل .. ويا روحاً على أعتاب إطراقة يائس .. تحبسين الدمع بين الناس إصراراً .. وما لله مع يا عانس حابس .. نمت والدمع بأجفانك .. آهـٍ .. من ترى يفهم دمعاً نام في مقلةِ عانس ؟ يحرق القلب .. تذوب الروح .. تُكوى شفّة البسمة إذ يهمس هامس .. تلك عانس ! )) . سقطت الورقة من يدي بعد أن هزّني صوت عقارب الساعة وهي تعلن عن السابعة .. ولينتهي معها العد التنازلي .. تذكرت الامتحان وخرجت مسرعــــــــــا ".

    نستنتج من النصوص السردية السابقة : (صمت الوفاء ، غداً سيولد الربيع ، العانس) ، تنوع وظائف الحوافز المرئية في مجموعة (يشكِّل أرواحهم الماء) ما بين ( الديناميكية الفعلية ) التي عبر عنها حافز (عقارب الساعة) ، أو (كسر توقعات المتلقي) التي جسدها حافز (السيجارة) ، أو (توليد الدلالة الانطباعية) كما في حافز (الزجاج) الذي أتى مرتبطاً بدلالات (الذبول /الألم /النهاية) .

    أخيراً ..

    نختم بالقول ، إن هذه المقاربة النقدية المبتسرة حاولت الاقتراب _ قدر الامكان _ من فضاءات و عوالم مجموعة (يشكِّل أرواحهم الماء) للقاص الشاب / أحمد جعفر الحبشي ، و هي منجزات نصية أنيقة ، مفعمة بلوحات تشكيلية زاهية الروح و الألوان .

    .................................................. ......

    المراجع :

    [1] - ينظر : النقد الأدبي في القرن العشرين ، جان إيف تادييه ، ترجمة / قاسم المقداد ، منشورات وزارة الثقافة ، دمشق ، طــ أولى 1993م ص : 21

    [2]- النص الروائي (تقنيات و نماذج) ، بير نار فاليط ، ترجمة رشيد بنجدو ، منشورات Nathun.paris،د. ط 1992م ص : 83

    [3] - لم يهتم الشكليون الروس بإنتاج نظام منهجي بقدر ما اهتموا بإيجاد منهج مستقل تشكله معطيات الدراسات الأدبية ، ينظر : المصدر السابق نفسه ، و آليات المنهج الشكلي في نقد الرواية العربية المعاصرة " التحفيز نموذجاً تطبيقياً " ، مراد مبروك ، دار الوفاء ، الإسكندرية ، طـ أولى 2002م ص : 11

    [4] - هناك مقولة معروفة لـ إيخنباوم عن نظرية المنهج الشكلي مفادها أن ما يميز هذه النظرية هو تلك الرغبة في إبداع علم أدبي مستقل انطلاقا من الصفات الذاتية للأدوات الأدبية . ينظر : مدخل إلى مناهج النقد الأدبي ، مجموعة من الكتاب ، ترجمة رضوان ظاظا ، سلسلة عالم المعرفة ، الكويت ، العدد (221) ، طـ أولى 1997م ص : 171

    [5]- ينظر : المصدر السابق نفسه ص : 171، و قضية البنيوية ، عبد السلام المسدي ، دار أمية ،

    د. ط ، د.ت ص : 133- 135.

    [6] - ينظر : نظرية المنهج الشكلي نظرية المنهج الشكلي ، ترجمة إبراهيم الخطيب ، مؤسسة الأبحاث العربية ،
    الشركة المغربية للناشرين ،ط أولى 1989م ص : 193، و بنية السرد في القصص الصوفي ، ناهضة ستار ، منشورات اتحاد الكتاب العرب ، دمشق 2003م ، موقع اتحاد الكتّاب العرب http:// http://www.awu –dam .org ص : 22

    [7] - ينظر : آليات المنهج الشكلي ص : 51

    [8] - ينظر : المصدر نفسه ص : 194

    [9] - ينظر : نفسه ص : 195

    [10] - يشكِّل أرواحهم الماء ،مجموعة قصصية ، أحمد جعفر الحبشي ، دار حضرموت للدراسات و النشر طـ أولى 2010م
  • سعاد ميلي
    أديبة وشاعرة
    • 20-11-2008
    • 1391

    #2
    الطبيعة اللا مبالية ، كالاستماع إلى مقطع غنائي في الوقت الذي تموت فيه إحدى الشخصيات[9] .

    راقني هذا المقطع جدا بحكم حبي للتمرد الإبداعي.. في كل شيء ^_^ يا لا سعادتي بك يا سعيد كن بالقرب دائما فنحن نسعد كلما وجدنا قلما نقديا راقيا .. وأنت كذلك..
    مودتي وتقديري
    مدونة الريح ..
    أوكساليديا

    تعليق

    يعمل...
    X