شمس الأصيـــل

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • رشيد الميموني
    مشرف في ملتقى القصة
    • 14-09-2008
    • 1533

    شمس الأصيـــل

    [align=justify]

    شمس الأصيل


    تنحدر شمس ناحية "رياض العشاق" بزيها المدرسي البني، محتضنة كتبها والريح تعبث بجدائل شعرها الذهبي ، فتتطاير وراء ظهرها . تتوقف برهة لتجلي عن عينها شيئا بفعل الرياح ، وتخطف نظرة صوب السور المطل على شارع النخيل لتجد "الولهان" كما صارت تدعوه سرا مع ثلة من صاحباتها ، جالسا كعادته ، منتصبا كجذع شجرة . يتشاغل بدوره بمسح عينيه من أثر الغبار المتعالي من ناحية الشرق ، ثم بالنظر إلى السيارات في صعودها وانحدارها . يظل يتأمل الحركة الدائبة إلى أن تغيب الفتاة جانب معمل السجائر، ثم يعود أدراجه إلى الحي النائي عن حركة السير الصاخبة ، هناك في أعلى الجبل ، فلا يصله إلا و نداء المؤذنين يعلن عن صلاة المغرب.
    منذ شهر وهو يواظب على موعده بعد العصر. سواء كان الجو صحوا أو ممطرا . على السور ينتظر. ينجز واجباته . يتناول شيئا يسد به رمقه حين لا يتمكن من العودة إلى المنزل ثم يتمدد التماسا للراحة، مستعيدا ذكريات قدومه لأول مرة إلى المدينة خالي الذهن من كل شيء سوى الدراسة ولا شيء غير الدراسة . يتذكر احتفاظه بالجلباب الأبيض يوم ولج المعهد ، ونظرات الآخرين ترمقه في فضول وتهكم ، ثم تجرأه على استبدال الجلباب بسترة تكاد تحاذي ركبته. لم يستطع محو نظرات السخرية وكلمات الهمز و اللمز ، ليعاني من ذلك أياما قيل أن تظهر شمس لتنسيه كل شيء وينشغل بها عن كل شيء ، إلا دروسه وواجباته... واليوم ، صار يعاني من جديد... بل أكثر من ذي قبل... لماذا يتلذذ الناس بإيذاء غيرهم ؟ ولم تستهويهم شؤون لا تخصهم ؟ ... بالأمس عير ببداوته وملبسه ولهجته ، ثم طال التلميح أباه وعمله في الحقول التي اخضرت أكثر مما ينبغي ، لكنها – كما قيل له – خضرة لا طعم لها إلا في ليالي السمر. وشبه اجتهاده وعكوفه على الدرس والتحصيل باعتزال كاهن في صومعته . لكن كل ذلك لم يعره اهتماما مثل ما آلمه الحديث عن شمس... ما الضرر في أن يكون أبوها من السلطة ؟ وما ذنبها فيما يقترفه من تسلط على الباعة المتجولين ، واختلاس لأموال عمومية؟ وما العيب في أن تنتمي إلى معهد التعليم الأصيل ؟ هل هو حكر على أولاد الفقراء والمفصولين عن الدراسة ؟
    المعهد الأصيل... شمس... قال له صديقه ، الوحيد الذي نال ثقته ، رغم سخريته اللا ذعة أحيانا:
    - أتعلم أن خبرك معها قد شاع على كل لسان ؟
    وحين لا يرد ، يواصل الآخر :
    - اختيارك للمكان مناسب ، وللزمان أنسب...وشغفك بشمس منطقي وانتماءك للمعهد موفق ، لكنك حنبلي أكثر من الحنابلة أنفسهم ... هل تحفظ أغاني أم كلثوم ؟ لا تقل لي إن الاستماع إلى الأغاني حرام . ثم إن أم كلثوم غنت "سلوا قلبي" و "الثلاثية المقدسة"... لكن صدقني ، إن أنسب أغنياتها لك..." شمس الأصيل" .
    شمس الأصيل... لم يغرم بالأغنية فحسب ، بل صار الإسم المفضل لديه عندما يناجي الفتاة في خلوته. يحس بامتنان نحو زميله رغم اعتداد هذا الأخير بنفسه ونظرته المتعالية تجاهه . في بعض الأحيان ، لا يبدو له فرق بينه وبين الآخرين . حتى مدرسه الذي لمس منه عطفا في بداية عهده بالمؤسسة ، فقد مكانته في نفسه بعد انكشاف سره وهو يسرب أسئلة الامتحان للنخبة من رفاقه ، ومنهم زميله الذي نجا من المعضلة بقدرة قادر. لكن المدرس زاد الطين بلة حين أوحى للتلاميذ بلقب " إسم الإشارة" لدى ذكر مقر سكناه بحي الإشارة في أعلى الجبل... الكل سواسية في الخبث والتعالي والسخرية .
    " ألم يعد في الدنيا خير ؟". يتساءل في مرارة وهو يرقب سكيرا يتبول عند بركة بالحديقة. قيل له إن البط كان يملآ البركة ، والنسانس تقفز هنا وهناك قبل أن ينزح إلى المدينة. الإسبان كانوا متشددين في معاقبة من يحدث بالحديقة ... كل شيء صار قبيحا ، بشعا . لكن الأمل لا ينقطع . وشمس هي الأمل... هاهي قادمة . فلتخرس كل الألسن ، ولتخمد كل الحركة... الآن ، كل شيء يبدو جميلا... الطريق المعبدة بسوادها وخطوطها البيضاء الناصعة ، والسيارات بمختلف الأشكال والألوان ، والأشجار الوارفة . ما أجمل الأصيل وشمسه المنحدرة نحو المغيب ، كما تنحدر شمس بمحاذاة " رياض العشاق". تتوقف كعادتها لتمسح عينيها... كم من مرة توقفت في نفس المكان منذ بدأ يلزم مقعده على السور؟ هل تنتظر منه شيئا ؟... تختفي ككل المرات وهو شارد الذهن . كم يستلذ ذلك ، ويسعد باللحظات القليلة التي سبقت وتلك التي أعقبت مرورها .
    - ماذا تنتظر ؟- سأله مرة زميله مستنكرا وهو يفاجئه مشرئبا بعنقه نحو الشارع المحاذي لمعمل السجائر- بادر وأنه هذه المهزلة . ماذا تريد منها ؟ تشجع وأشر فإذا هي بين يديك تفعل بها ما تشاء.
    يثير الحديث امتعاضه لكنه يجيب بهدوء:
    - إنك تجهل قدسية المشاعر .
    يقهقه الآخر قائلا :
    - لا تقل لي إنك تحبها وتحدثني عن هذه الترهات ، فهن كذرات الرمل من الكثرة . يكفي أن تشير لواحدة حتى تأتي الأخريات مهرولات ، خصوصا حين يعلمن ببورجوازيتك رغم أنها بورجوازية بدوية... معذرة ، مالكم وفير ، لكنكم لا تعرفون كيف تعيشون...
    يتركه مسترسلا في حديثه، مكتفيا بين الفينة والأخرى ، بهز رأسه.
    - ماذا عشقت فيها حتى تقدسها هكذا ؟ جمالها ؟ أنت أكثر وسامة منها . ألم تفكر يوما في أنها تأكل وتشرب وتمتلئ بطنها بالفضلات و...
    - كفى ... كلامك يقزز النفس .
    - لماذا ؟ هل هي من الملائكة ؟... دعنا من هذا... لنتحدث عن مزاجهن المتغير كل شهر... أتدري...؟
    ينفذ صبره فيتظاهر بنيته في الانصراف.
    - إلى أين ؟ هل أغضبك كلامي ؟ ألأني أنصحك ؟
    يتنفس الصعداء لانصراف زميله ويعود لمكانه... عليه من الآن فصاعدا تجنبه حتى لا ينغص عليه صفوه ومناجاته..." اللعنة عليكم جميعا... لا يسلم من أذاكم أحد ولو اعتزل في برج مشيد "... يتسلى بالنظر إلى الحافلات القادمة من الأسواق لأسبوعية . يحفظها عن ظهر قلب منذ كان مولعا باقتفاء أثرها وهي تغادر قريته تاركة إياه وسط زوبعة من الغبار الممزوج برائحة الوقود المحترق ... حافلة السدراوي... حافلة الرباحي... النقل المغربي... لا إيبيريكا . الإثنين ، سوق باب برد... الثلاثاء ، بني يدر... بو احمد... الأربعاء ، بني حسان ... باب تازة... الخميس ، أنجرة... باب المضبق... السبت ، واد لاو... تموروت – يخفق قلبه لذكر قريته – الأحد ، بني دركول... بني رزين... بني زيات...
    ينظر إلى ساعته اليدوية الضخمة... هذا موعد مرورها . يعتدل في جلسته وينظر في خشوع إلى الرصيف الآخر... تأخرت قليلا عن موعدها والشمس تجري حثيثا نحو المغيب ، لكنها قادمة.
    - "بسم الله والصلاة على النبي..." يكاد قلبه ينخلع وهو يرى قدمها تزل في حفرة بالرصيف وتقع ، فيشيح بوجهه حتى لا يرى ما انكشف من سوءتها . ماذا عساه الآن أن يفعل ؟ يعينها، فيأخذ بيدها ؟ هل يجرؤ؟... ينتظر خلو الطريق من السيارات كي يعبر إلى الرصيف الآخر... تنهض بمساعدة البعض وتنظر إليه . لا يدري ما تشي به نظرتها . عتاب؟ حنق ؟ احتقار ؟... يتشجع قليلا ويقترب هامسا :
    - الحمد لله على سلامتك...
    تلتفت إليه مبتسمة – أي والله – وتغمغم بصوت رقيق شبه باك :
    - الله يسلمك... شكرا .
    تميد الأرض تحت قدميه وينظر إلى السماء . غابت الشمس واختفت صفرة الأصيل... عليه بالعودة إلى المنزل قبل حلول الظلام...
    يطلع نهار جديد ويتلوه نهار آخر، وتنحدر شمس وقت الأصيل محتضنة كتبها بمحاذاة رياض العشاق. تتوقف قليلا قبالة السور المطل على شارع النخيل ، لتمسح الغبار عن عينيها وتخطف نظرة إلى هناك فلا تجد أحدا . وحين تتفحص الوجوه في المعهد ، لا يبدو له أثر .
    [/align]




  • آسيا رحاحليه
    أديب وكاتب
    • 08-09-2009
    • 7182

    #2
    جميلة القصة..
    أعجبتني..
    ربما النهاية لم تقنعني ..
    فلم يرد في سياق السرد ما ينبئ بأن البطل سوف يختفي.
    مجرد ملاحظة أخي الكريم رشيد .
    تحيّتي و احترامي.
    يظن الناس بي خيرا و إنّي
    لشرّ الناس إن لم تعف عنّي

    تعليق

    • رشيد الميموني
      مشرف في ملتقى القصة
      • 14-09-2008
      • 1533

      #3
      المشاركة الأصلية بواسطة آسيا رحاحليه مشاهدة المشاركة
      جميلة القصة..
      أعجبتني..
      ربما النهاية لم تقنعني ..
      فلم يرد في سياق السرد ما ينبئ بأن البطل سوف يختفي.
      مجرد ملاحظة أخي الكريم رشيد .
      تحيّتي و احترامي.
      الأخت الكريمة آسيا ..
      دعيني أولا أهنئ نفسي على هذا التجاوب الرائع منك و الذي أعتبره تشجيعا و تحفيزا لي على العطاء ..
      لو عن لي التجرد من صفة كاتب هذه القصة لأدليت بدلوي حول النهاية و قلت إنه ربما كان لحديث الزميل عن النساء ثم ما تلا ذلك من انكشاف سوأة المحبوبة أثرا في فقدان مكانتها في نظر العاشق خصوصا و أنه كان ينظر إلى محبوبته بقدسية .
      لك مني كل المودة و الشكر .

      تعليق

      • عائده محمد نادر
        عضو الملتقى
        • 18-10-2008
        • 12843

        #4
        الله ياميموني وشمس أصيلك
        أحببت النص
        أحببت شمس الأصيل أكثر مما كنت
        أحببت أم كلثوم وهي تغرد بها
        نص رائع لكنك وبكل قسوة تركته ..ياويلي
        ليتك فقط لمحت للبعد الآتي من طرفه لأنه تركها بعد أن تولعت فيه
        كيف طاوعك قلبك على ترك الومضة هكذا
        لو أنك قتلت البطل أو الحبيبه أو ألبستها خاتما ليس مهما المهم أن تكون هناك متربصا بالوجع
        وليتك تسمع مني وتراجع فقط ومضة النهايه
        تركت النجوم لأنها تليق بالقمر وشمس الأصيل
        أحببت وجدااااا هذه العبارة في حوار بين البطل وصديقه.. ياربي كانت رائعه
        تحياتي لك والف باقة ورد
        معذرة ، مالكم وفير ، لكنكم لا تعرفون كيف تعيشون ( فلسفة تنطبق علينا فعلا )
        الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

        تعليق

        • حسن لشهب
          أديب وكاتب
          • 10-08-2014
          • 654

          #5
          صباح الخير والجمال
          استمتعت بكل صدق وأنا أقرأ لك لأول مرة .
          السرد هنا منساب على سجيته انسياب الماء الصافي في غدير بتلة معشوشبة.
          شكرا لهذه الوجبة الممتعة.
          تقديري ومودتي لك

          تعليق

          • رشيد الميموني
            مشرف في ملتقى القصة
            • 14-09-2008
            • 1533

            #6
            المشاركة الأصلية بواسطة عائده محمد نادر مشاهدة المشاركة
            الله ياميموني وشمس أصيلك
            أحببت النص
            أحببت شمس الأصيل أكثر مما كنت
            أحببت أم كلثوم وهي تغرد بها
            نص رائع لكنك وبكل قسوة تركته ..ياويلي
            ليتك فقط لمحت للبعد الآتي من طرفه لأنه تركها بعد أن تولعت فيه
            كيف طاوعك قلبك على ترك الومضة هكذا
            لو أنك قتلت البطل أو الحبيبه أو ألبستها خاتما ليس مهما المهم أن تكون هناك متربصا بالوجع
            وليتك تسمع مني وتراجع فقط ومضة النهايه
            تركت النجوم لأنها تليق بالقمر وشمس الأصيل
            أحببت وجدااااا هذه العبارة في حوار بين البطل وصديقه.. ياربي كانت رائعه
            تحياتي لك والف باقة ورد
            معذرة ، مالكم وفير ، لكنكم لا تعرفون كيف تعيشون ( فلسفة تنطبق علينا فعلا )
            العزيزة عائدة حياك الله ورعاك ..
            لا أدري كيف لم ينشر ردي على تعليقك البهي منذ ايام .
            في الحقيقة وكما أجبت الأخت آسيا - كقارئ للقصة وليس ككاتبها - فإن المحبوبة ربما فقدت قدسيتها التي كان ينظر بها البطل غليها لعدة عوامل منها تأثير كلام صديقه عن الأنثى بصفة عامة ثم انكشاف سوءتها عند سقوطها .. إضافة إلى وضعه كبدوي محافظ .
            أسعدني هذا المرور وأتمنى أن أكون دوما عند حسن ظنك ..
            مع ودي وورودي
            التعديل الأخير تم بواسطة رشيد الميموني; الساعة 14-10-2017, 08:48.

            تعليق

            • رشيد الميموني
              مشرف في ملتقى القصة
              • 14-09-2008
              • 1533

              #7
              المشاركة الأصلية بواسطة حسن لشهب مشاهدة المشاركة
              صباح الخير والجمال
              استمتعت بكل صدق وأنا أقرأ لك لأول مرة .
              السرد هنا منساب على سجيته انسياب الماء الصافي في غدير بتلة معشوشبة.
              شكرا لهذه الوجبة الممتعة.
              تقديري ومودتي لك
              العزيز حسن ..
              لا أدري كيف أصف لك فرحتي بما لاقه نصي من ثناء وحفاوة منك ..
              كن دوما بالجوار لأسعد ببصمتك البهية ..
              تشجيعك هو تحفيز لي على المزيد من العطاء .
              مع خالص محبتي

              تعليق

              يعمل...
              X