الشال صوفي والدراجة الحمراء

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • رزان محمد
    أديب وكاتب
    • 30-01-2008
    • 1278

    الشال صوفي والدراجة الحمراء

    الدراجة الحمراء والشال الصوفي














    هو ذا الليل يميط لثامه عن وجه السماء، و الصبح بدأ يغزل مكانه غلالته الرقيقة بخيوطٍ شفافةٍ شيئاً فشيئاً...


    في تلك الليلة الشتوية القارسة، كانت الأم تقف وراء زجاج النافذة السميك تحدّق بعينين شاردتين في المجهول فتصطدمان بالأفق الوهمي البعيد معانقاً قمم جبال"البرينية" الشامخة المكللة بالثلوج...


    الكون كله في الخارج مغطىً بالبياض كأنه عالمٌ أسطوريٌ، أو لعله الحلم...


    الثلج يتساقط منذ يومين بشكل مستمر، يغطي المساحات الشاسعة الممتدة أمام النظر...فتبدو الدنيا كطفلة تفتح عيونها بدهشةٍ ناصعةٍ بريئة...!


    منذ سنوات لم يزرهم الثلج بهذه الكثافة... ثلاث سنوات تحديداً...منذ...منذ شتاء رحيل "إميلي"...


    هذا الشتاء سخيٌ بكل ما فيه، حتى الورود البيضاء في الحديقة مازالت تتفتح رغم البرد.. أول عام تتفتح فيه بهذا السخاء ...بل إنها ازدادت جمالاً عن ورود الصيف...


    أتراه يخبئ لها سخاءً من نوع آخر؟!


    تنظر إلى البيوت الجاثية بوداعة تحت سيل الزغابات الثلجية، على البعد بيوت من قرميدٍ أحمرَ تغفو على الربوة المقابلة حيث تستلقي على أعتابها غابة البلوط القريبة التي تقسم القرية إلى طرفين متقابلين، في تلك المنطقة دائمة الخضرة في " الآرييج" من جنوب فرنسا.


    ضمت شالها الصوفي إلى ذراعيها وصدرها بشدة من جديد، تشعر بقشعريرة تسري في أوصالها رغم نيران المدفأة الحجرية المتوهجة المشتعلة، التي تنشر الدفء بحنان وسخاء في أرجاء المنزل الريفي البسيط، تبعث رائحة الخشب المحترق وورق الشجر الجاف الأمان، وتشيع مع احتراقها في ذاكرتها أصداء حلم ملوّن قديم قديم...!!


    يوم كانت صغيرتها إميلي تلعب هنا وهناك في أنحاء المنزل وتنثر الربيع والحب والسعادة.


    هناك في زاوية الحديقة، وعلى كتف شجرة الكرز كانت تضع دراجتها الحمراء دائماً، وفي كل مرة كانت تصطنع الغضب وتقول لها:


    - إميلي!كم مرة علي أن أكرر أن مكان الدراجة ليس هنا؟!


    -آسفة ماما، لقد نسيت، أقصد... لقد كنت متعبة !


    وتنظر بأسف بعينيها الزرقاوين البريئتين تنتظر الرد ، فتبتسم الأم سراً وتقول في كل مرة بجدية مصطنعة


    -لا بأس، هذه المرة.


    تعود النجمتان في عينيها للالتماع بعد انطفاء لم يدم أكثر من لحظات، ويفترُّ ثغرها عن ضحكة تضيء وجهها العذب، وتعود لامتطاء الدراجة من جديد لتسابق الأثير.


    أطل الصبح في ذلك اليوم حزيناً شاحباً، الشمس تختبئ بحياءٍ خلف براقعٍ من السحب الداكنة، ارتدت إميلي ثيابها بسرعة، بعد أن شربت كأساً من الحليب بالشوكولا، وركبت دراجتها الحمراء بخفة ورشاقة أعوامها الغضة العشر .


    - انتظري، خذي قبعتك وشالك الصوفيين، إلى اللقاء حبيبتي.


    - شكراً ماما، إلى اللقاء.


    استدارت وخصلات شعرها الذهبي تتطاير تحت قبعتها وشالها الزرقاوين الصوفيين وابتسمت لأمها، وأرسلت لها قبلة هوائية ولوحت بيدها الصغيرة... وطارت تسابق الريح، كان آخر ما لمحته منها شالها الأزرق، الذي حاكته لها مع القبعة هديةً يوم عيد ميلادها العاشر، وهو يتطاير مع صفير الريح الباردة... وابتلعها الطريق ...والأيام والسنوات.


    تثاءب المساء ..وعاد الأولاد جميعاً إلى بيوتهم الدافئة، لقد تأخرت إميلي، ربع ساعة أو يزيد مضت على موعد الانصراف


    البيت موحش وتحس بانقباض، وكأن هنا عيون تتلصص عليها من خلف أبواب الغرف المعتمة، تروح وتجيء عشرات بل مئات المرات أمام النافذة.


    المدفأة مشتعلة ولهيبها يتراقص مع حفيف اشتعال أعواد الحطب كالمعتاد،وتسلل دخانها هارباً لخارج المنزل معانقاً المدخنة، و منتظراً بلهفة، بتوجس، وقلق عودتها.... و رائحة الحساء الساخن تنبعث من المطبخ بدفء وشهية، أما أبخرته الملتهبة المتواثبة فقد بدأت تشعر بالتعب و الضجر ففترت وهجعت إلى القاع...


    القلق يضرم في صدرها براكين قلق وجزع عارمين، ما عادت تحتمل الانتظار أكثر، سارعت كمجنونةٍ إلى خارج المنزل تسائل الجميع عن سبب تأخر وحيدتها، وتبلغ عن اختفائها.


    أخبارٌ شحيحةٌ من رفيقاتها عن خروجها من المدرسة فعلاً ولكنها لم ترافقهم، فضّلت عبور طريق الغابة عوضاً عن الطريق المعتاد فقد كانت متعبة من يوم دراسي طويل و تريد الوصول بسرعة لتنعم بالدفء والحساء.


    و شهدت إحدى العجائز في القرية أنها قد رأتها حقاً توغل في طريق الغابة الضيق المعتم على دراجتها ولكن ما شهد أحدٌ ما برؤيتها تخرج من الغابة المظلمة...منذ ذلك الحين.


    وبعد بحث مضنٍ ولأيامٍ متوالية طوال، عُثر على دراجتها الحمراء مرمية وشالها وقبعتها الزرقاوين متسخين ممزقين تحت دغل متكاثف من أشجار البلوط في الغابة ذاتها مطمورين تحت ركام الثلوج المتساقطة خلال أسبوع مستمر.


    تنفس الصبح شاحباً مع إطلالة الشمس الباهتة الباردة، بعد إغفاءة عميقة له طوال الليل.


    و تنهدت الأم بعمق و انتبهت إلى دموعها المنهمرة تغسل وجهها طوال هذه الليلة الثلجية، دون أن يغفو الأمل في قلبها لحظة واحدة طوال تلك السنوات الثلاث رغم تلال هواجس الأرق التي تكاد تخنقها...


    وهناك، ومنذ ذلك الحين، وعلى جدران البيوت المجاورة العتيقة، وعلى واجهات المحلات الصغيرة التي بدأت بالنهوض والحركة لليوم الوليد ، وعلى جدران المدرسة، وعلى حيطان الأماكن العامة في تلك القرية و في القرى المجاورة، بل وعلى امتداد فرنسا كلها من شمالها لجنوبها مازالت صور إميلي بأعوامها العشرة، ملصقةً في كل مكان تبسُم لكل من يراها بعينين تشعان نضارةً وحياة، وخصلات شعرها تنسدل على كتفيها دون قبعة أو وشاح...






















    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــ


    ***** أتمنى من الأساتذة الأفاضل المختصين النقد مع خالص الشكر.











    التعديل الأخير تم بواسطة رزان محمد; الساعة 24-08-2011, 16:02.
    أراها الآن قادمة خيول النصر تصهل في ضياء الفجر
    للأزمان تختصرُ
    وواحات الإباء تفيء عند ظلالها الأقمار تنهمرُ
    وأقسم إنها الأحرار تنتصرُ
    سيكتب مجدها ألقا نجوم الدهر والقدرُ
    بلى؛ فالله لايغفو ..يجيب دعاء مضطرٍ بجوف الليل
    للمظلوم، والمضنى
    فيشرق في الدجى سَحَرُ
    -رزان-
  • محمد الصاوى السيد حسين
    أديب وكاتب
    • 25-09-2008
    • 2803

    #2

    يمكن القول إننا أمام نص ثرى بالتخييل ، حيث تمتاز بنية التخييل فى النص بأنها صيغت بشاعرية خصبة موحية دالة على امتلاك أدوات الكتابة الجمالية الثرية السلسة ، ولنتأمل سياق المفتتح

    " هو ذا الليل يميط لثامه عن وجه السماء، و الصبح بدأ يغزل مكانه غلالته الرقيقة بخيوطٍ شفافةٍ شيئاً فشيئاً..."

    فنحن هنا أمام لوحة تمهيدية عذبة يتجسد أمام بصائرنا ، فنرى الليل كيانا حيا عاقلا يرتحل فى أسطورية تليق ببهائه ورهبته ، كما تتجلى لنا لوحة الصبح – لو تغاضينا عن لفظة " مكانه " التى أراها جاءت حشوا – تتجلى لنا بتخييل ثرى يتجسد لنا الصبح فى كده وعنفوانه ودأبه ينسج قميص النهار بما يستحيل تعبيرا كنائيا عن حالة الأمل التى تتجدد لدى هذى الأم بطلة النص

    - وكذلك سنتلقى لوحات تخييل ثرية منمنة كثيرة فنتلقى صورة " العينين الشاردتين " وهو السياق الذى يجسد لنا العينين طيرا لائبا لا يحط ولا يستكين مرتحلا فى ملكوت الأمل

    - كما نتلقى سياق" لم يزرهم الثلج " وهو السياق الذى يكنز تخييلا عبر الاستعارة المكنية التى تستحيل تعبيرا كنائيا يوحى بمحاولة وجدان بطلة النص كى تتصالح مع ذلك الثلج الذى يعزى إليه أنه ربما هو الذى التقم المواطنة الفرنسية إميلى

    - كما نتلقى لوحة تتخيل أخرى كهذا السياق الرهيف " تنظر إلى البيوت الجاثية بوداعة تحت سيل الزغابات الثلجية " حيث تمثل علاقة النعت " الجاثية " تخييلا عبر الاستعارة المكنية التى تشخص لنا البيوت فى هيئة جمالية وثيقة بالجو النفسى الذى يرى البيوت متعبة واهنة صموتا وهى الرؤية التى تنبع من حالة الأسى والحزن اللذين يتكثفان على بصيرة بطلة النص


    - ثم ولنتأمل هذا التخييل " هناك في زاوية الحديقة، وعلى كتف شجرة الكرز كانت تضع دراجتها الحمراء دائماً " ولنتأمل فيه سياق المجرور " كتف " وهو التخييل الذى يكنز الاستعارة المكنية البليغة التى تشخص لنا علاقة إميلى بالحياة من حولها فشجرة الكرز حاضرة حضورا إنسانيا عذبا فى بصيرتها وكذا فى بصيرة الأم

    - كما أن هناك الكناية الموحية التى تتمثل فى مشهدية تشبث الأم بذات الشال الصوفى الذى كان لإميلى فى دلالة واضحة على الأمل والتشبث به


    - الحقيقة أننا أمام تخييل بديع يليق بنص سردى يحمل قيمتة الإنسانية ،والتى تتمثل فى مشاعر حنين الأم الفرنسية لابنتها " إميلى " التى لا تريد أن تصدق رحيلها ، فتظل متشبثة بالأمل الواهى وهى تتابع الجهد الحثيث الذى يكتنف كارثة غياب المواطنة إميلى فنرى كيف يهتم المجتمع فتصير صورها فى كل شبر فى الدولة وليس مجتمعها المحلى وحده ،

    -لكن هل هذى الأم الفرنسية قادرة بحق على أن تؤثر فى وجدان المتلقى العربى للنص ،إن البيئة المكانية التى يقع عليها السرد تتحدث عن بيئة أخرى غير البيئة العربية ، ويتحدث عما لا يعتاده المواطن العربى من اهتمام المجتمع بآدميته ووجوده الإنسانى

    - أى أن النص إن كان ناجحا على مستوى التخييل إلا أنه فى رأيى أخفق من حيث البيئة المكانية للنص حيث إنه يقدم عبر هذى البيئة الفكرة السردية التى حين يقارنها المواطن العربى بما فى واقعه من فظائع لن يجد لها الحضور ولا التأثير الوجدانى المرجو من رسالة العمل الأدبى إلى الوجدان

    - فهو لن يشعر أن النص معنىٌ ببيئته العربية منشغل بها ، مجد فى الكشف عنها وعن خصوصيتها وثرائها ، مشغوف بواقعها ومشكلاته الحقيقية الملحة ، فبالتالى لن يكون هو منشغلا ببيئة أخرى تتحدث عن أناس آخرين لهم طبيعة أخرى وواقع لا يشبه واقعه الملىء بمرارات أشد فظاعة وبؤسا وأكثر عمقا من مجرد مشكلة إميلى التى راحت فى الثلج

    - لذا أجد أن النص جميل بحق ودالة على ثراء وموهبة لكنه يخفق فى التجذر فى بيئته ، إنه نص يشبه وردة جميلة باهرة كان يمكن أن تكون وردة بلدية نادية لكنها رغما تحاول أن تغرس جذرها فى الثلج

    تعليق

    • رزان محمد
      أديب وكاتب
      • 30-01-2008
      • 1278

      #3
      أستاذي القدير محمد الصاوي،
      أشكرك عميق الشكر لتكرمك بنقد نصي، وفيها قراءتك لابد أني سأستفيد في ترسيخ المحاسن والبعد عن السلبيات، رغم أنه يجب الإشارة إلى أن مثل هذه الحادثة تتكرر هنا في الغرب بصورة كبيرة، مما يجعلها بالفعل مآس انسانية، وربما بل أكثرها يحمل ظروفًا وحشية دموية أكبر من تلك المعروضة في النص...
      أشكرك أستاذنا الفاضل للجهد والنقد والوقت ... ولا أملك إلا جزاك الله خيرًا على ما تقدمه لنا وللعربية من جهود وأياد بيضاء...
      تقديري وامتناني.
      أراها الآن قادمة خيول النصر تصهل في ضياء الفجر
      للأزمان تختصرُ
      وواحات الإباء تفيء عند ظلالها الأقمار تنهمرُ
      وأقسم إنها الأحرار تنتصرُ
      سيكتب مجدها ألقا نجوم الدهر والقدرُ
      بلى؛ فالله لايغفو ..يجيب دعاء مضطرٍ بجوف الليل
      للمظلوم، والمضنى
      فيشرق في الدجى سَحَرُ
      -رزان-

      تعليق

      • دينا نبيل
        أديبة وناقدة
        • 03-07-2011
        • 732

        #4
        قراءتي على قصة " الدراجة الحمراء والشال الصوفي "
        الكاتبة أ / رزان محمد

        هذه القصة قصة رقيقة للغاية بكل تفاصيلها واركانها ابتداء بموضوعها والذي هو فقد احد الأبناء وحزن والدتها عليها ثانيا أن الشخوص في النص كلهم نساء ولم يظهر اي مظهر لأي رجل .. ثالثا البيئة الثلجية النقية ناصعة البياض وجو السكون المصاحب لها دائما .. رابعا الرموز في القصة وأهمها شجرة الكرز والتي تعتبر رمزا للزينة والجمال إلى جانب ثمنها الباهظ .. كل هذه العناصر مجتمعة خلقت جوا جميلا اوروبيا فرنسيا استطاعت الكاتبة بمهارة نقله كما هو للقارئ العربي الذي في الغالب لم يشاهد ثلجا يغطي أرضه قط .

        التفصيل :

        أولا العنوان ( The Title ) :

        " الدراجة الحمراء والشال الصوفي " : لأول وهلة كقارئة أخذت اتساءل ما العلاقة بين دراجة حمراء وشال صوفي وهذا ما يحدث أيضا لأي قارئ يبدأ باستلام النص وهذا أراه يحسب للكاتبة .. فبهذه الطريقة تجعل القارئ باستمرار في شغف لمعرفة العلاقة بين الاثنين وما تحمله من معان وروابط بصلب القصة فما ان تبدأ الدراجة بالظهور حتى يبدأ بالبحث عن علاقتها بالشال ..

        وفي النهاية يدرك أنها أشياء خاصة بتلك الفتاة الصغيرة " إميلي " وان وجود هذه الأشياء كان ما تبقى منها لأمها رغم أنهما قد تعرضا للتكسر والتمزق إثر الحادث الذي ماتت فيه الطفلة وأن وجودهما في حياة الأم وتمسك الأم خاصة بالشال يعكس مدى افتقادها لابنتها وربما الرغبة في تحصيل شئ مفقود ألا وهو الطفلة الميتة كفعل لا إرادي

        أما لألوانهما فأرى أن الكاتبة قد وفقت حتى في هذا العنصر البسيط ( الأحمر – الأزرق ) مع الثلج الأبيض وهي ألوان العلم الفرنسي ومن المعروف أنها الوان ذات علاقة وطيدة بمبادئ الثقافة الفرنسية المبنية على الإخاء والحرية والمساواة

        ثانيا: تطور الأحداث (The Plot ) :

        تأخذ الأحداث في هذه القصة شكلين من تطور الأحداث فهناك المبنى الأساسي الذي يرتبط بالام وحدها وهي واقفة خلف النافذة وهذه هي مقدمة الأحداث ويجد القارئ أن هناك جوا هادئا حزينا لا يعرف سببه والثلج يتساقط والمدفأة تعمل بدخانها وتدفئ المكان وعند هذه اللحظة لحظة المدفأة والتي هي محورية في القصة كما سأبين لاحقا يبدا التعقيد لما يكتشف القارئ سبب الحزن وهو رحيل " إميلي " الصغيرة

        وهنا أول ظهور للصراع الخارجي في نفس الأم فهي تقف عاجزة اما حقيقة لا يد لها فيها وهي موت ابنتها الحبيبة ورغبتها في عودة ابنتها غلى الحياة ويظهر هذا الصراع في " كانت الأم تقف وراء زجاج النافذة السميك تحدّق بعينين شاردتين في المجهول فتصطدمان بالأفق الوهمي البعيد" فهناك اصطدام بين رغبتها الداخلية التي ادت بها إلى حالة من الشرود لعدم القدرة على التحصل عليها وبين الواقع الذي هو وراء ذلك الزجاج السميك للنافذة .. فهو أشبه بالسراب تريد أن تمسكه لكن هناك حائل زجاجي .. يمنيها أكثر بالوهم لكن دون جدوى

        ثم يظهر مبنى سردي ثانوي يتمثل في الاسترجاع الزمني او ما يعرف في السينما باسم ( Flashback) ويبدأ بأحداث مقدمية جديدة تسترجع فيها الأم طفلتها إلى عالم الواقع بكل تفاصيله وتفاصيل عادات ابنتها اليومية ولعبها بالدراجة وكيف كانت تضعها على الشجرة ثم خروجها في جو قارس الى المدرسة ويبدأ هنا التعقيد وهو تغيب الفتاة عن البيت وشهادة البعض بتوجهها نحو الغابة المظلمة قلق الأم وصراعها مع غياب ابنتها ..

        وتظهر هنا المدفأة من جديد لتربطنا بأول القصة وكأنها العنصر الذي يعيد الذاكرة إلى الأم بدفئها أثناء برودة الشتاء ( الواقع المحيط ) وهذا تجسيد للصراع الأساسي في القصة ثم لحظة الذروة والتي تتشارك فيها المبنى الأساسي والثانوي للقصة وهو العثور على الفتاة ميتة إلا أنها في المبنى الثانوي تكون أشد .. ولم تذكر الكاتبة ردة فعل الأم في تلك اللحظة وهذا متروك لخيال القارئ إذ ان القلم يقف عاجزا عن تصوير مشاعر أم فقدت ابنتها ! .. لكن تعود إلى المبنى الأساسي وتذكر فقط انهمار الدموع من الأم وتنهداتها وحرقة قلبها ولهيبه والتي أيضا لا تزال تقف موقفها في الصراع مع الخارجي البارد الأبيض المتمثل في الثلج ..

        ثم تبدأ الأحداث في التباطؤ والهبوط نحو النهاية عندما يعلم القارئ انتشار صور الفتاة في المدينة أيام كان البحث عنها جاريا .. ويترك القارئ هنا ليتخيل ردة فعل الأم عند مشاهدتها إحدى هذه الصور ويبدأ يشعر بمدى الألم النفسي الذي تعانيه الأم .. وهذا أراه شيئا جيدا في القصة فقد استطاعت الكاتبة إشراك القارئ في القصة مع البطلة بأكثر من طريقة والاعتماد على ذكائه وهذا يحسب للكاتبة

        الشخصيات ( The Characters ) :

        الشخصيات في هذه القصة اثنان :
        الأم ( الشخصية الأساسية )( Round Character ) فهي مثل الكرة ( Sphere ) والتي يمكن أن تشاهد من جميع الجوانب فصار القارئ على دراية تامة بدواخلها النفسية فهي أم عطوفة بها جميع سمات الأم أي انها نمطية ( stereotype ) لجميع أمثالها من الأمهات وبدأت مشاعر الأمومة تتجلى أكثرلما تعرضت ابنتها للموت وصراعها الخارجي مع الواقع الثلجي واحتراقها بلهيب الألم من الداخل ثم صراعها النفسي مع ذاتها .. فكانما تشعر كأي ام في مثل تلك الظروف بشئ من التقصير في حق ابنائها وانها كانت لابد ان تكون معها تنقذها اثناء احتياجها إليها فكأنها تعاني من تأنيب الضمير ... وهذا شعور طبيعي كأم
        أرى أن الكاتبة كانت موفقة في عدم إعطاء اسما للأم لأنها كما ذكرت نمطية تمثل جنسها من الأمهات

        إميلي ( الشخصية الثانوية ) ( Flat Character ) وهي شخصية سطحية جدا في القصة كان دورها الأساسي ليخدم الشخصية الأساسية وقد اعطتها الكاتبة اسما لإظهار أثرتها عند أمها وتعلق الأم بها وهذا موفق جدا على ما أرى كقارئة

        الرسالة ( The Theme ) :

        الرسالة هنا في القصة هي الصراع الأزلي في داخل النفس البشرية بين ما تريده من ناحية والواقع الذي يفرض عليها فقد الذي تريد ومثلت الكاتبة هذه الفكرة بأكثر من طريقة
        -- الحائل الزجاجي بين الأم والأفق الوهمي البعيد
        -- المدفأة التي تجر دفئ الذكريات إلى الأم من ناحية والواقع الثلجي القارس
        -- ضم الأم للشال الصوفي الخاص بابنتها كأنما تريد ترفض الحقيقة وبين أيضا الجو البارد حولها
        -- اللعب بالألوان فهناك الشال الأزرق والدراجة الحمراء وما يمثلانه من حياة مفقودة من ناحية والون الثلج الأبيض الباهت الذي يفرض نفسه على العين ويمنعها من التمييز

        الرموز الايحائية ( Motifs ) :

        أهم هذه الرموز المتكررة معنا في النص هما :

        1- الثلج الأبيض : رغم أنه يحمل معنى النقاء والطهر والبراءة وعلاقة السماء بالأرض والسخاء وغيره إلا أنه في هذا النص كان له دور مختلف .. فقد كان يمثل الواقع بشكله العام أنه يفرض على النفس – لا تمييز في الألوان – لون للموت والشحوب – برودة وقسوة الحقيقة الواقعية حولها – الجو القارس الذي ينفذ إلى العظام فيؤلم أكثر مما ينعش - وقوفه بالندية أمام دفئ الذكريات – والأهم أنه العنصر الذي أدى لقتل الطفلة في القصة إثر سقوطه عليها

        2- شجرة الكرز : من المعروف أن ثمارها تؤكل وهي من أبهظ الثمار والأشجار ثمنا .. يعتبر موطنها الأصلي في اليابان وفي الأدب الياباني كان دائما هناك ربط بينها وبين قصر الحياة الجميلة وهذا واضح في علاقة اميلي بالشجرة وهي ماتت أيضا صغيرة .. كذلك لها علاقة بالارتباط بالذكريات الجميلة فترى الجنود اليابانيين ايام الحرب العالمية الثانية يحملون فروعا منها عند مغادرتهم بلادهم اثناء الحرب لأن هذا يعيد إليهم الذكريات المفقودة

        كما انها منظر للحياة والحيوية بلونها الأحمر الجميل ولكن هذه الثمرة قصيرة العمر جدا لذا كانت رمزا للحياة القصيرة

        المكان ( Setting ) :

        بيئة غربية غريبة على القارئ العربي لكن استطاعت الكاتبة باقتدار رسم تفاصيلها باحتراف وتمكن جعلت القارئ ملما بالصورة تماما وهو مكان جميل في جنوب فرنسا . اما مكان الأحداث فهناك المنزل مكان الذكريات الجميلة والمدفأة وهناك الغابة الثلجية المظلمة مكان الموت وفقدان الغالي

        اللغة ( Language ):

        اللغة رقيقة عذبة .. تنقل بصورها وتشبيهاتها إلى عالم الخيال وهناك عدد كبير من الاستعارات الجميلة مثل " هو ذا الليل يميط لثامه عن وجه السماء، و الصبح بدأ يغزل مكانه غلالته الرقيقة بخيوطٍ شفافةٍ شيئاً فشيئاً..."" الشمس تختبئ بحياءٍ خلف براقعٍ من السحب الداكنة - " لم يزرهم الثلج.."

        وغيرها .. إلا أنه هناك بعض كلمات كان ممكن الاستغناء عنها مثل ما أشرت لها بالأحمر وهناك تعبيرات أضيفت أضعفت صورة سابقة مثل " الكون كله في الخارج مغطىً بالبياض كأنه عالمٌ أسطوريٌ، أو لعله الحلم..."فالاسطورة أقوى من الحلم

        انطباع أخير( Final Impression ) :

        القصة أعجبتني جدا وآلمتني كثيرا لأنها تخص تجربة انسانية يمكن ان يقع فيها أي انسان بغض النظر عن بيئته .. لكن كقارئة عربية أحتاج للشعور بالدفء من خلال النص الأدبي الذي يستقي دفأه من بيئته فإن النص على جماله افتقد هذه النقطة لأنه من بيئة غريبة كان ممكنا ألا تذكر الكاتبة اسم المكان او تاتي باسم غير اسم اميلي يحتمل وجوده في بيئتنا العربية مثل " سارة " أو " سوزان " .. وتترك المكان كما هو بثلجه وبرودته لكن تعطيه ملامح خفيفة يحتمل وجودها في بلادنا مثل جبال لبنان مثلا وثلوجها لأن هذا يبعث الدفء في نفس القارئ

        كل الشكر والتقدر لقلمك المبدع غاليتي رزان

        تقبلي تحاياي

        تعليق

        • رزان محمد
          أديب وكاتب
          • 30-01-2008
          • 1278

          #5
          الأستاذة القديرة والأخت الغالية دينا نبيل،

          امتناني وتقديري عميق جدا، واختيارك لنصي لنقده كان له أكبر الأثر في نفسي...
          وفي الحقيقة دهشت حقًا لعمق تحليك وغوصك العميق في أبعاد نصي، ولقد أحببته من خلال نقدك الدقيق له...

          بالنسبة لملاحظتك الأخيرة عن كون القصة مستوحاة من بيئة غربية وليس شرقية، فأحب أن أشحر وجهة نظري مع احترامي لك ولرأي الأستاذ القدير محمد الصاوي فقد أبدى لي نفس الرأي مشكورًا...
          اختياري وتحديدي للبيئة كان مقصودًا، فهي أولا حقيقة محزنة وواقع معاش ... الإجرام والقتل والاغتصاب حوادث تكثر وبشكل كبير ومتكرر ويومي، في المجتمع الغربي ومنه الفرنسي... وقد تعمدت بل وهدف القصة هو هذا الأمر تحديدًا ، صحيح أننا تعاطفت مع حزن الأم ومع اغتصاب الطفلة بل وربما قتلها فيما بعد ، فصوت الانسانية فينا يصرخ رافضا وبقوة الإساءة للانسانية بكل ألوانها وإيًا كان عرقها... ولكن من ناحية أخرى وددت تسليط الضوء على هذه المجتمعات التي تعاني من التناقض، فهي تدعي الحرية والانفتاح والبعد عن الدين بهدف ارضاء غرائز الإنسان عامة والجنسية منها خاصة ولكن نجد أو نفاجأ بأن هذا الإشباع لهذه الغرائز لم يولد إلا همجية وطغيانا لهذه الغرائز وشذوذات تستحكم في الانسان بحيث يستبيح الجريمة لارضائها... هذا هو الانسان إن لم يحكمه دين ... هذه هي رسالتي التي أحببت إيصالها من خلال القصة.
          وبالمناسبة القصة حقيقة بتفاصيلها، فقك اسم الفتاة مختلف، رغم أن هذا النوع من الجريمة متكرر وجدا بل ومن أقرب المقربين .. عافا الله بلاد المسلمين من أمراض نفسية خلقية اجتماعية كتلك.

          أشكرك من جديد الأخت الغالية الناقدة دينا، تقبلي ودي وامتناني وتقديري وكل عام وأنت بألف خير، واعتذاري الشديد للتأخر بالرد، لمشاغل كثيرة أعاقتني رغمًا عني ولك مني كل الحب والامتنان.

          رزان.
          أراها الآن قادمة خيول النصر تصهل في ضياء الفجر
          للأزمان تختصرُ
          وواحات الإباء تفيء عند ظلالها الأقمار تنهمرُ
          وأقسم إنها الأحرار تنتصرُ
          سيكتب مجدها ألقا نجوم الدهر والقدرُ
          بلى؛ فالله لايغفو ..يجيب دعاء مضطرٍ بجوف الليل
          للمظلوم، والمضنى
          فيشرق في الدجى سَحَرُ
          -رزان-

          تعليق

          يعمل...
          X