حاملاً قدري على كفّه...
غفران طحّان
كنت لا أملّ التجسّس عليه من تلك الكوّة المهترئة...أرقب جلوسه على سجّادته الخضراء رافعاً كفيّه إلى السماء...والدموع تسقي لحيته الكثّة...
كانت جموع البشر تأتيه من كلّ حدبٍ وصوبٍ...تطلب أن تجود كفّاه ولسانه بالدّعاء...لأنّه-كما يقولون- مجاب الدعوة...وثمّة كرامة قد خصّه الله بها...!!!
حتّى أصحاب المقام والنفوذ...كانوا يتحيّنون الفرصة لاسترضاءئه خوفاً من وابل دعوات قد ينهال منه عليهم...
أمّا أنا فقد نالني من كفّيه الخير الكثير...كنت كلّما رفع كفيّه إلى السماء...أوقن بإجابةٍ من الله ستخصّني برحمة...ونجاح...
كنت أعتبره مصدر نجاحي الوحيد...
منذ الطفولة ربّى في روحي إيماناً بقدراته...وعظيم الخير الذي يهطل من شلال دعائه...
ولكننّي عندما كبرت حاولت التمرّد،وابتعدت...
وها أنا أعود مع حقائب الفشل...وذاكرة الخيبة...متخماً بالخطايا...مثقلاً بالذنوب...أعود إلى بلادي وقد عنّاني السفر...وأكلتني غربة الروح...
نظر إليّ متفحّصاً، ثمّ راح يحرّك رأسه يمنةً ويسرة...إلى أن طأطأه، ثمّ أطلق زفرةً طويلةً...وقال:
- أنا من اهترأ...ولكنّ وجهك يبدو قاتماً أكثر من وجهي العتيق...!!!
ثمّ مدّ كفيه ليملأهما بماء الصباح...ويسقي جراح وجهه...
جدّي...أكل الدهر من جسده حتّى أصيب بالتخمة...ظهره محنيّ وكأنّ ثقل العالم قد توضّع عليه...أنفاسه بالكاد يلحقها...وسعاله يواصل الوثب كآهات متتالية...يداه ترتجف كنابض...ورجلاه فقدتا للحياة واستسلمتا لانحناءات الكرسيّ المدولب...شعره تلاشى مع زمن مرّ...وعيناه تختبئان تحت جفونٍ مكسّرة...
أمّا تلك الجراح التي تملأ وجهه...فلم تستطع لحيته الكثّة أن تخفيها...بل كانت تدأب على قصّ حكاياتٍ كثيرةٍ عن سبب ولادتها...ولكن ليس كما رواها هو...!!
حكى لي مراراً عن تلك الأرض التي غارت من جماله...فاهتزّت غيظاً...ورمت به في إحدى حفرها لتصنع تلك الأخاديد في وجهه...ولكنّ الله قد منحه كرامةً عوضته...!!
لم أصدق روايته تلك يوماً...بل كنت أتسلّى في نسج القصص عن جراحه تلك...
في أولى سنين عمري كنت أرى في جراحه أفواهاً مفتوحةً تريد التهامي...ولكنني مع الوقت اعتدت عليها...
كان جدّي صديقاً لروحي...يهمس لها بالفرح والأمل...بضحكاتٍ لا تفارق وجهه كلّما رآني...
كنت أقضي الأيّام والليالي أستمع إلى قصصه...وأخبار كرامته...ولا أملّ من تجرّع نفس الحكاية مراتٍ ومرّات...
كان أوّل من أثنى عليّ كرجل...وخير مستمعٍ لحديث الحبّ الأوّل...ومن نظرةٍ كان يقذف بها على روحي...يعلم ما بي ويفتح لي طريقاً من النور يمهّده بكفيه...وفيض دعاء...
وهاهو اليوم ...وبعد غياب امتدّت سنينه إلى الأربع...لم يتغيّر فيه شيء...عدا لون السبحة التي يتلو على كلّ حبّةٍ من حبّاتها صلواته المعتادة...
وبنظرةٍ واحدةٍ إليّ...شعر بقتامة وجهي...واحتراق النقاء فيّ...بل ربّما وصلت رائحة شياطه إلى روحه...
- آآآهٍ ياجدّي...لقد نال الزمن من جسدك...ولكنّ التآكل والعفن نالا حتّى من قلبي من يوم غيابي عنك...
كم تمنيت وقتها لو أصبّ كامل جراحي في حضنه الذي لطالما احتواني...وبدلاً من ذلك رسمت ابتسامةً صفراء على وجهي...وحاولت مداعبته متناسياً قوله:
- لقد هرمت ياجدّي...ها أنا أقارب الثلاثين..
نظر إلى ابتسامتي الشاحبة، وقال:
- انظر إلى ضحكتك يا أحمد...لقد نال الصدأ منها أيضاً...!!!
ارتعدت أوصالي...وتلعثمت الكلمات في فمي...ولكنني حاولت التماسك، وقلت:
- ما بالك اليوم يا جدّي...!!؟؟أهذا هو اشتياقك لي...ساعةً تقول إنّ وجهي قاتم...وساعةً تجعل الصدأ يعبر ضحكتي...هل تجدني قطعةً من المعدن..؟؟!!!
ورحت أهبط بهدوءٍ على ركبتيّ أمامه...وبدأت بزرع يديّ في خير كفوفه...ورحت ألثم العطاء الذي منعت نفسي منه...
تجاهل حميميّة اللحظة...وسدّ الطريق أمام دمعتين كانتا على وشك الانهمار من غيمتيه...عندما نزع كفيّه منّي...وأدار كرسيّه المدولب...ودلف إلى غرفته دون أن بنبس ببنت شفة..!!
لم يعتد منّي المراوغة...ولم أعرف منه الصوت الصارخ...وهاهو يلزم الصمت،ويغيب.
- ماذا تريد أن أقول لك يا جدّي...ما سأبوح به سيقطر سماً على روحك النقيّة...إن أمكن لك أن تعزّيني في أولى سنين غربتي التي قضيتها في غسل الصحون، والبحث عن أعفاب السجائر المرميّة على الطرقات...
فهل يمكن أن تغفر لي آثامي المعتّقة...؟؟!!هل ستتغاضى عن إدماني للكحول...والملذات...
وهل سيغفر لي ذلك الطفل الذي تركته كما خلّقته سفاحاً...!!؟؟؟
هل ستعفو عنّي المساجد التي لم أزرها..؟؟!!وهل سيذكرني الصيام الذي نسيت وقته...!!!
صدقني يا جدّي...حتّى الشهادة قد نسيت النطق بها...!!!؟؟؟
هل ستغفر لي كلّ هذا يا جدّي...!!!؟؟؟
هل ستطلب السماح لروحي الآثمة...وذاك الطهر الذي قتلته في داخلي...هل يمكن له أن يعود...؟؟؟!!!
هذا ما نالني من غربتي...آثامٌ وذنوب...مع أموالٍ مغسولةٍ بالعار والخطيئة...
وتتسأل عن قتامة وجهي...وصدأ ضحكتي...
ألقى نظرةً خاطفةً عليّ من كوّته تلك...، ثمّ رفع كفّيه إلى السماء...
تسلّل الذعر إلى روحي...ورحت أنتفض كقلبٍ شارف على نهاية العمر...
- هل سيدعو عليّ...لا بدّ قد سمع هذيان خواطري...
كان قد بدأ الدعاء بصوتٍ منخفض...لم أعرف كم من الوقت استغرقني وأنا أقف مصلوباً على حافة اليأس والألم...وثمّة غصّة في حلقي تمنعني من استعطافه، ورجائه بعدم الدعاء عليّ...
مطر عينيه غطّى بياض لحيته الكثّة...ويداه ترتجف...وتعلو إلى السماء...وكأنها مشدودةٌ بحبلٍ من نور...وأنا لا أسمع من دعائه إلاّ قوله(( يا ربّ))
وصلت دموعه إلى قلبي الذي بدأ ينزف بالنحيب...و على شفتيّ تتأرجح مقولة واحدة، أرددها كصلاة((ياربّ))
فجأةً...
بدأت السّماء تمارس طقوس البكاء...كانت حبّات المطر تجلدني...وتجرح أوصالي...حاولت اللحاق به لأقي نفسي من غضبها...ولكنّه أغلق الباب بإحكام، ومنعني من الولوج إلى عالمه...وقال:
- ابق تحت المطر يا بنيّ...علّ رحمة من الله تنال قلبك الآثم...
واستمرّ يمطر بالدعاء...كفّاه ترتجفان وتعلوان إلى السماء...
وأنا مسجّى على الأرض...وما زال المطر يجلدني...
غفران طحّان
كنت لا أملّ التجسّس عليه من تلك الكوّة المهترئة...أرقب جلوسه على سجّادته الخضراء رافعاً كفيّه إلى السماء...والدموع تسقي لحيته الكثّة...
كانت جموع البشر تأتيه من كلّ حدبٍ وصوبٍ...تطلب أن تجود كفّاه ولسانه بالدّعاء...لأنّه-كما يقولون- مجاب الدعوة...وثمّة كرامة قد خصّه الله بها...!!!
حتّى أصحاب المقام والنفوذ...كانوا يتحيّنون الفرصة لاسترضاءئه خوفاً من وابل دعوات قد ينهال منه عليهم...
أمّا أنا فقد نالني من كفّيه الخير الكثير...كنت كلّما رفع كفيّه إلى السماء...أوقن بإجابةٍ من الله ستخصّني برحمة...ونجاح...
كنت أعتبره مصدر نجاحي الوحيد...
منذ الطفولة ربّى في روحي إيماناً بقدراته...وعظيم الخير الذي يهطل من شلال دعائه...
ولكننّي عندما كبرت حاولت التمرّد،وابتعدت...
وها أنا أعود مع حقائب الفشل...وذاكرة الخيبة...متخماً بالخطايا...مثقلاً بالذنوب...أعود إلى بلادي وقد عنّاني السفر...وأكلتني غربة الروح...
نظر إليّ متفحّصاً، ثمّ راح يحرّك رأسه يمنةً ويسرة...إلى أن طأطأه، ثمّ أطلق زفرةً طويلةً...وقال:
- أنا من اهترأ...ولكنّ وجهك يبدو قاتماً أكثر من وجهي العتيق...!!!
ثمّ مدّ كفيه ليملأهما بماء الصباح...ويسقي جراح وجهه...
جدّي...أكل الدهر من جسده حتّى أصيب بالتخمة...ظهره محنيّ وكأنّ ثقل العالم قد توضّع عليه...أنفاسه بالكاد يلحقها...وسعاله يواصل الوثب كآهات متتالية...يداه ترتجف كنابض...ورجلاه فقدتا للحياة واستسلمتا لانحناءات الكرسيّ المدولب...شعره تلاشى مع زمن مرّ...وعيناه تختبئان تحت جفونٍ مكسّرة...
أمّا تلك الجراح التي تملأ وجهه...فلم تستطع لحيته الكثّة أن تخفيها...بل كانت تدأب على قصّ حكاياتٍ كثيرةٍ عن سبب ولادتها...ولكن ليس كما رواها هو...!!
حكى لي مراراً عن تلك الأرض التي غارت من جماله...فاهتزّت غيظاً...ورمت به في إحدى حفرها لتصنع تلك الأخاديد في وجهه...ولكنّ الله قد منحه كرامةً عوضته...!!
لم أصدق روايته تلك يوماً...بل كنت أتسلّى في نسج القصص عن جراحه تلك...
في أولى سنين عمري كنت أرى في جراحه أفواهاً مفتوحةً تريد التهامي...ولكنني مع الوقت اعتدت عليها...
كان جدّي صديقاً لروحي...يهمس لها بالفرح والأمل...بضحكاتٍ لا تفارق وجهه كلّما رآني...
كنت أقضي الأيّام والليالي أستمع إلى قصصه...وأخبار كرامته...ولا أملّ من تجرّع نفس الحكاية مراتٍ ومرّات...
كان أوّل من أثنى عليّ كرجل...وخير مستمعٍ لحديث الحبّ الأوّل...ومن نظرةٍ كان يقذف بها على روحي...يعلم ما بي ويفتح لي طريقاً من النور يمهّده بكفيه...وفيض دعاء...
وهاهو اليوم ...وبعد غياب امتدّت سنينه إلى الأربع...لم يتغيّر فيه شيء...عدا لون السبحة التي يتلو على كلّ حبّةٍ من حبّاتها صلواته المعتادة...
وبنظرةٍ واحدةٍ إليّ...شعر بقتامة وجهي...واحتراق النقاء فيّ...بل ربّما وصلت رائحة شياطه إلى روحه...
- آآآهٍ ياجدّي...لقد نال الزمن من جسدك...ولكنّ التآكل والعفن نالا حتّى من قلبي من يوم غيابي عنك...
كم تمنيت وقتها لو أصبّ كامل جراحي في حضنه الذي لطالما احتواني...وبدلاً من ذلك رسمت ابتسامةً صفراء على وجهي...وحاولت مداعبته متناسياً قوله:
- لقد هرمت ياجدّي...ها أنا أقارب الثلاثين..
نظر إلى ابتسامتي الشاحبة، وقال:
- انظر إلى ضحكتك يا أحمد...لقد نال الصدأ منها أيضاً...!!!
ارتعدت أوصالي...وتلعثمت الكلمات في فمي...ولكنني حاولت التماسك، وقلت:
- ما بالك اليوم يا جدّي...!!؟؟أهذا هو اشتياقك لي...ساعةً تقول إنّ وجهي قاتم...وساعةً تجعل الصدأ يعبر ضحكتي...هل تجدني قطعةً من المعدن..؟؟!!!
ورحت أهبط بهدوءٍ على ركبتيّ أمامه...وبدأت بزرع يديّ في خير كفوفه...ورحت ألثم العطاء الذي منعت نفسي منه...
تجاهل حميميّة اللحظة...وسدّ الطريق أمام دمعتين كانتا على وشك الانهمار من غيمتيه...عندما نزع كفيّه منّي...وأدار كرسيّه المدولب...ودلف إلى غرفته دون أن بنبس ببنت شفة..!!
لم يعتد منّي المراوغة...ولم أعرف منه الصوت الصارخ...وهاهو يلزم الصمت،ويغيب.
- ماذا تريد أن أقول لك يا جدّي...ما سأبوح به سيقطر سماً على روحك النقيّة...إن أمكن لك أن تعزّيني في أولى سنين غربتي التي قضيتها في غسل الصحون، والبحث عن أعفاب السجائر المرميّة على الطرقات...
فهل يمكن أن تغفر لي آثامي المعتّقة...؟؟!!هل ستتغاضى عن إدماني للكحول...والملذات...
وهل سيغفر لي ذلك الطفل الذي تركته كما خلّقته سفاحاً...!!؟؟؟
هل ستعفو عنّي المساجد التي لم أزرها..؟؟!!وهل سيذكرني الصيام الذي نسيت وقته...!!!
صدقني يا جدّي...حتّى الشهادة قد نسيت النطق بها...!!!؟؟؟
هل ستغفر لي كلّ هذا يا جدّي...!!!؟؟؟
هل ستطلب السماح لروحي الآثمة...وذاك الطهر الذي قتلته في داخلي...هل يمكن له أن يعود...؟؟؟!!!
هذا ما نالني من غربتي...آثامٌ وذنوب...مع أموالٍ مغسولةٍ بالعار والخطيئة...
وتتسأل عن قتامة وجهي...وصدأ ضحكتي...
ألقى نظرةً خاطفةً عليّ من كوّته تلك...، ثمّ رفع كفّيه إلى السماء...
تسلّل الذعر إلى روحي...ورحت أنتفض كقلبٍ شارف على نهاية العمر...
- هل سيدعو عليّ...لا بدّ قد سمع هذيان خواطري...
كان قد بدأ الدعاء بصوتٍ منخفض...لم أعرف كم من الوقت استغرقني وأنا أقف مصلوباً على حافة اليأس والألم...وثمّة غصّة في حلقي تمنعني من استعطافه، ورجائه بعدم الدعاء عليّ...
مطر عينيه غطّى بياض لحيته الكثّة...ويداه ترتجف...وتعلو إلى السماء...وكأنها مشدودةٌ بحبلٍ من نور...وأنا لا أسمع من دعائه إلاّ قوله(( يا ربّ))
وصلت دموعه إلى قلبي الذي بدأ ينزف بالنحيب...و على شفتيّ تتأرجح مقولة واحدة، أرددها كصلاة((ياربّ))
فجأةً...
بدأت السّماء تمارس طقوس البكاء...كانت حبّات المطر تجلدني...وتجرح أوصالي...حاولت اللحاق به لأقي نفسي من غضبها...ولكنّه أغلق الباب بإحكام، ومنعني من الولوج إلى عالمه...وقال:
- ابق تحت المطر يا بنيّ...علّ رحمة من الله تنال قلبك الآثم...
واستمرّ يمطر بالدعاء...كفّاه ترتجفان وتعلوان إلى السماء...
وأنا مسجّى على الأرض...وما زال المطر يجلدني...
تعليق