ترك يدا حانية
كأن طلّته هي العيد ذاته ولسانه الدافق بمعسول الكلام ووجوده الذي يفيض على روحي بالسكينة، يده السخيّة في العيديّات وفي كلّ سبل الخير، ضحتكه التي ترنّ كشلال هادر،لكنّ الدنيا طوته في رحاب الحياة البرزخيّة وليس لنا إلا أن نترحم عليه وندعو له أن يسكنه الله فسيح جنّاته.
رنين الهاتف يخرجني من دوامة الذكرى الحزينة : ألو أنا موظف من المصرف لدينا "حوالة مصرفيّة "من خارج البلد باسمك ،تفضلي لاستلامها قبل انتهاء الدوام، شكرا.
أخذت أتساءل قد يكون هناك خطأ ما، لم يحدث أن وصلتني "حوالة مصرفيّة "من أحد ، لكن الموظف أكدّ لي أنّها باسمي، توجهت إلى المصرف، اليوم وقفة العيد، ناولته بطاقتي الشخصيّة واستفسرت عن الأمر .
:هذه حوالة بمبلغ" ألف دولار"،وقعي بالاستلام .
وقّعت وحملتني الحيرة إلى التساؤل،لم ؟ أنها من أخي، لكني لم أطلب منه مالا، الحمد لله عندي، على الفور طلبت أخي من هاتفي الخلوي: مرحبا، كيفك حالك،ما هذه الحوالة؟: ما بك، هل نسيت ؟؟ أنها عيديّة والدي المعتادة.
-: والدي توفيّ منذ عام ، وأخذنا حقنا من الميراث!
-: لكنّ عمله الصالح لم ينقطع، وصلته لبناته مستمرة إلى ما شاء الله، لقد ترك وقفا للصدقات، ووقفا آخر من أمواله لبناته، وأوصانا أن تكون العيدية عندكن في كلّ عيد ، وأوصى- وأتمنى أن يمتعكن الله بالصحة والعافية- إذا احتاجت أيّ واحدة منكن تكاليف علاجيّة لأيّ مرض يكون على حساب هذا الوقف، وكل عام وأنت بخير يا أختي الحبيبة، سلام.
لم أدرِ في تلك اللحظة كم دفق دمعي حزنا على فراق هذا الأبّ الرائع الذي أصرّ أن يكون حضوره بالعمل الصالح مستمرا إلى ما بعد الحياة، في حياته كان صمّام الأمان لحياتنا بعد الله، وبعد وفاته استمر هذا الإحساس، وكم يمكنني أن أنحني لعظمة هذا الأب الدافق في عطائه، حنان مذهل وطيبة لا حدّ لها وحبّ عميق لبناته اللواتي طوّحت بهن الغربة في أنحاء العالم، كان حريصا على صلتهن بأيّ وسيلة، وكأنه ترك يده الحانية لتخفف عنا معاناة الألم، وتصافحنا في لحظات الفرح، وبوفاته أحسست التيه يشدني إلى قيعانه، كيف لا وأنا الأثيرة لديه، وعبارته الحميمة ترنّ في أذني:"أنا أنتِ يا غالية".
عدت إلى البيت ومزيج من المشاعر الحزينه تتماوج بصخب في داخلي، صوّبت نظري إلى صورته التي تتصدر الجدار وخلته يترك الإطار ليحتويني بين ذراعيه ويطبع على جبيني قبلته الدافقة بالحب والحنان ويشيح نظره ليخفي دمعة وجيعة وعبارته المعهودة: أنت جرحي الذي لم يلتئم يا ابنتي، وخلت نفسي أنحني على يده لأطبع عليها قبلة الحبّ والولاء قائلة: كل عام وأنت بخير يا أغلى إنسان علي قلبي.
تعليق