قريبا من السطح
- ثقب وجدانك لايحتاج لهضبة من التراب، يكفيك النصف منها هدية مني لأنك ابن رجل فاضل.
في المساء وقبل أن يبتلع النهر قرص الشمس المتبقي، أفرغت الهضبة فوق ثقوبي.
نظرتُ إليه والغطاء لايزال في مكانه. انتفض كمعتوه نبيه، اعتدل في جلسته، زجَّ رأسه وجانب من عنقه الطويل بين حافة السرير والأرض، سحب حقيبة باهتة كما اعتاد أن يفعل ليلة كل خميس من الأسبوع، وشرع في لملمة ملابس لا قيمة لها.
استقبلتُ كعادتي سيولا هادرة من تيه يبعثر وجداني كلما قام هذا المعتوه الذي يقاسمني غرفة بحجم صندوق حلوى منتهية الصلاحية بهذا الاجراء الروتيني.
في الصباح يتحسس بيدٍ واثقة غطاء رأسه، يشهر في وجهي ثلاث أسنان أمامية ثم يعلق الحقيبة في كتفه الأيمن ويمسك حافتها بيده اليسرى من جهة الخلف ويتدحرج جهة مكتبه القذر، وقبل أن تنتهي ساعات العمل الرسمية بساعاتٍ طوال، يركض في الشوارع بحثا عن دابة تحمله جهة الموقف العام، علّه يلحق بحافلة الساعة الثالثة لتقله إلى حيث زوجته التي تحتل مساحة بحجم الحنين إليه.
تخصبت حيرتي وانجبت سنابلَ من الغبن وقنابل من الفضول، تسآءلت :
- أية لهفة هذه التي تتلبسه لامرأة مضى عليها عشر سنوات منذ أن ارتضت أن تكون رفيقته ؟
وكيف يقتطع من راتبه الضئيل قيمة تذكرة البص منها وإليها ؟
لملمتُ تساؤلاتي وضغطت بأصابع واجفة على أرقام زوجتي، جاءني صوتها حارقا، لم أدعها تكمل دهشتها، فضحتُ أمري أمامها وبأني سأزورها في نهاية الأسبوع.
تفوهت في وجهي بشظايا أوهامٍ وأشياء أخرى تشبه الكلام، جمعت لسانها وزجته في حلقي، شذبت حروف قراري الأهوج وقالت أن ما أنفقه في هذه الزيارة يعادل نصف راتبي، فقيمة التذكرة لوحدها تكفي لشراء سبعة أكياس من الأسمنت، وتكلفة العودة تساوي قيمة اسطوانة غاز جديدة وممتليئة، فلا داع للتهور، ومن الأفضل أن أنتبه لصحتي وفلوسي ليوم أكثر سوادا آتٍ لا محالة.
لم استسلم شرحت لها بأني ممدد في سهول غير منبسطة بسبب مرارة الفقد، ولن أدع ابني يغوص أكثر في رمال الحرمان. شعرتُ بأنفاسها تشوهني، تحولتْ موجاتها الهوايئة إلى آلة حاسبة لا تخطيء :
- رؤيتي ورسوم المدارس خطان متوازيان في مسار حياتك.
حاولت أن أغلق السماعة متذمرا، نبشت قاع ذهني علّني أتذكر نحيبها، وحده البكاء هو الذي يلهمني الصبر، استعطفتها أن تمنحني قطرة من نحيب، أن تبكي لي عبر الأثير، غافلتْ الخط الواصل بيننا ونحرت شريانه وعم الصمت.
لعنتُ في سري ناموسها الذي تهتدي به، تزوجتها من أجل سحر دموعها وتزوجتني بضربة حظ شاردة.
كانت القرعة من نصيبي ..
هكذا اعتادت عند كل منعطف يواجهها في حياتها أن تتعامل معه بهذا النظام القدري، توسطتْ المسافة بيني وبين ابن خالتها وخلفها لجنة تحكيم نزيهة، أشارت إلى اللجنة بسبابتها ثم رمقتني ببكاءٍ لا نظير له وكأنني الخيار الذي تريده.
لبكائها سمة لا تمت إلى هيكلها الضيئل بصلة، عشرون عاما ولم أستطع فك شفرته، أو على الأقل كتابته وفق الحروف الأبجدية المقررة علينا من قبل جهةٍ ما، ولكن عليّ الآن بطريقة أو أخرى أن أصف ذالك النحيب.
البكاء لا يوصف وإنما يُسمع !، هكذا نبهني ابني المعجزة الذي لا يفتر عن اشهار عصا الإنتباه في وجهي كلما أخطأت في التعبير، غريب هذا الكائن الصغير وبليد، لا هواية لديه كالأطفال الآخرين، في قاعه يتنزه حوت كبير من الاعتقاد بأن وقوفه لي بالمرصاد هي مهنته الأولى في هذا الكون الفسيح كلما حادثته من على البعد.
ولكن كيف نسمعه وقد تزوجتها قبل أن يتفضل أحدهم ويكتشف لنا أجهزة التسجيل؟ لن أنتظر منه سمكة تلتهم شوكة تساؤلاتي، تسمرت أمام شاشتي ورصفت رمالا من البحلقة، استلقي باطن كفي فوق محرك البحث وبحثت بجفن محمر عن بكاءٍ عادة ما ينتهي بشكل مفاجيء وحاسم.
تمددت الصفحات أمامي، نامت بعضها على وسادة اعتقادها بأن هذا النوع من النحيب لا يخرج إلا عبر شخص مغلوب على أمره.
بعضها ظن بأن الكرة الأرضية ستكف عن الدوران لو أفتقدت سر البكاء، أو ستعيش حالة من الدمار لا عاصم منه إلا بحضوره الجميل، بينما الأخريات عزت ملح الدمع اللازع إلى نظرية المؤامرة والقدرة على الاستمتاع بمآسي الآخرين، أو لأن الملح مشفر بطبعه ويعلن عن تضامن وهمي، بينما يتراقص داخل العين طربا وغباءً ولزوجةً.
الفتاة التي تعتقد بأنها صديقتي الوحيدة، حللت ما أرادت تحليله في سر اختفاء بكاء زوجتي المزخرف بخيال شاحب، وصدقتْ وفق معيار تفكيكي أن صاحبة الدمع المفتقد تبحث عن تميز كاذب في قاع جيوب من يتدهورون بشكل يومي وبمتوالية هندسية لا تخطئ.
الرجل الذي بلا أوراق مالية تستر عاهته، كلما رآني أتسول في المسجد طمعا في الحصول على صوت بكائي يشبهها، يرميني ببقايا فمه :
- كيف تسول لك نفسك الأمارة بالسؤال أن تسأل في بيت الله غير الله ..؟!
أكثر زميلاتي التصاقا بجسدي العاري عملت على إنتاج طريقة بكائها مرة أخرى وسخرتها لمصلحتها، وعندما تمددت بجوارها سكبتُ قارورة كاملة من مطهر تايواني الصنع في يدي اليمنى ابتعته ليلة البارحة تحسبا لمثل هذه الظروف.
تركت من اجتهد جانبا، اقتربت من زميلي وتقيأت في بطن حقيبته الأسبوعية بأسئلتي الحارقة :
- المكان هو المكان، وكلانا لا درهم لديه يسند العنق من غباء الطأطأة، فمن أين لك بحيوية تدهن رهق السفر بمائها من أجل امرأة لا تجيد البكاء ؟.
تكور بجانبي، قبل حافة الهاتف ومسح به سطح خده الأيسر، فتح مكبر الصوت وضغط على أرقامٍ رسخت في ذهني، انساب من الجهة الأخرى صوت حارق، بكلمات تلغرافية شرح لها بأنه لا يستطيع الحضور هذا الأسبوع. لم تمهله، تبدل الاحتراق إلى رقرقة هامسة :
- إياك يا معتوه تحسبها ماديا، حضورك هو الجسد بعينه فلا تدع هاجس الخوف من غد قد لا يأتي يفسد عليك سحر البكاء.
شعرتُ بمعتوه يميل ثم يميل حتى مس أذني بشفتيه، ولكن لم التقط من حشرجاته قبل أن أتسامى سوى قوله بأن زوجتي قالت له في ليلة باردة، أنها عندما ضاع منها السؤال ولم تعرف إلى الآن تاريخ انكسار الأفق أطلقت دمعتها الأخيرة في وجهي وضحكتْ.
تعليق