النظرات الساخرة الموجهة إلى الملابس التى أرتديها تزيدها رقعاً وثقوبا ، وتزيد من شنطتى الظهرية المصنوعة من القماش رداءةً وثقلا ، وتزيدنى شعوراً بالضآلة والتقزم ، فأبطئ من سيرى حتى يصير كل التلاميذ المتجهين إلى المدرسة أمامى ، وما أن أيقنت أنه لا أحد يسير خلفى أو بجوارى حتى عادت ملابسى إلى حقيقة حالها ذات رقع ثلاثة وثقب واحد ، بعد أن تخلَصَتْ من مئات رقع السخرية والإستهزاء ، وخَفَت شنطتى فلم أكد أشعر بوجودها فوق ظهرى ، وشعرت بأننى أصبحت أخف وزناً ، وأكثر خفة ، وأزيد قدرة على الإنطلاق بعد أن كنت رازخاً تحت وطأة سخرية مريرة ..
..................
خلعت شبشبى البلاستيكى وأخفيته داخل شنطتى ، وعرجت إلى الحقول منطلقاً فى سعادة وإرتياح لاحدود لهما ، تاركاً خلفى المدرسة ، والتلاميذ ـ والناس جميعاً ..!
ولشبشبى البلاستيكى قصة ، أجد أنه من المناسب أن أقصها عليكم ..فقد توعدنى مدرس الفصل ذات يوم بالويل والثبور وعظائم الأمور إن عدت مجدداً وأنا أرتدى هذا الشبشب الأسود الملحوم برقع مختلفة الألوان ، ولقد تحايلت على هذا الأمر بحيلة تفتق عنها ذهنى وإن بدت نسبة نجاحها وقتئذ قليلة إلا أننى نفذتها غير عابئ بتبعاتها ، فقد أخفيت شبشبى داخل شنطتى بمجرد وصولى إلى باب المدرسة ، فإجتزت فناءها حتى دخلت إلى الفصل ( حافياً ) ..ومن العجيب أن مدرس الفصل فاجأنى برضائه عن فعلتى ، بل أنه أثنى علىّ ( للمرة الأولى )والأخيرة وأمتدحنى أمام التلاميذ ......:
( هكذا يجب أن يكون التلميذ المطيع ، فلأن تأتى حافياً خير ألف مرة من أن تأتى منتعلاً ذاك الذى لايمت إلى عالم الشباشب بأية صلة ).
فضحك التلاميذ ملء أشداقهم ، وتغامزوا ، وعلقوا على الموضوع تعليقات مؤلمة ومهينة ، وسخروا منى كما حلت لهم السخرية ، والغريب أن مدرس الفصل شاركهم ماهم فيه ، وأصبحت ملابسى وشنطتى وشبشبى مدعاة يومية للنقد الساخر والإستهزاء الماكر ، فكنت رغم تألمى وحزنى وتمزقات روحى أمنع دموعى من أن تنزل حتى لا تفضح مايعترك فى نفسى .!!
................
أبهَجَت نفسى ، وسَرَت قلبى تلك الخضرة المنبسطة حتى نهاية الأفق ، وأخذت أجرى يمنة ويسرة ، ولامست خيوط الشمس ، وداعبت النسيم ، وشربت من ماء الساقية ، وغصْت فى الطين ، وطاردت أبو قردان ، وأكلت ثمار التوت ، ولعقت بطون الضفادع ، وأخذت أتقافز حتى توسطت الحقول ، حيث وجدت صديقى فى إنتظارى كعادته ، فقابلنى بابتسام وبشاشة ومودة ، فبادلته الإبتسام ، وألقيت عليه التحية ، ورميت بشنطتى بين الزروع ، وجلست أمام صديقى ففاض الدمع من عينى وأنا أشكو له همومى ومعاناتى وأحزانى وسخرية الجميع منى ، وفقدانى لثقتى فى نفسى ، وإحساسى بالضآلة والتفاهة ، فطَيَب خاطرى بنظراته الهادئة وإبتسامته الوادعة ، فقد كانت له نفس ظروفى ، وكانت بيننا أشياء كثيرة مشتركة ، وهو الوحيد الذى كان يشعر بما يفتعل فى نقسى ، فهو يرتدى ملابساً تشبه ملابسى ، ويعامله الناس بقدر مايعاملوننى به من السخرية والإستهانة والإستهزاء ..
تبادلنا النظرات لحين ، فإطلعَ كل منا على سريرة الآخر دون حديث ، وتوحدت آلامنا دون شكاة ، وتعانقت خواطرنا دون أعلان ، وإندمجت أحاسيسنا دون بوح ..!!
القينا بكل شئ خلفنا دفعة واحدة ، وسرعان ما إبتسمتُ ، وأخرجت من شنطتى كتاب المطالعة ، وأخذت أقرأ على صديقى إحدى القصص الجميلة ، وهو ينصت فى إهتمام وشغف ..!
وما أن إنتهيت من قراءة القصة حتى عاد إلىّ بعض صفاء نفسى ، فقمت إلى صديقى ولعبت معه كما حلا لى اللعب ، فكان لايغضب منى إن رشقته بثمرة طماطم ، أو قذفته بحفنات الطين ، ولا يضيق بى إن أوقعته أرضاً ثم ساعدته على النهوض من جديد ، بل كان يبش فى وجهى وتشع عيناه ببريق السعادة والسرور تعبيراً عن رضاه عنى ومودته لى ، فكنت أجد فى نفسه النقية وقلبه النبيل ما أفتقده فى كل من أعرفهم ..!
جلست لألتقط أنفاسى فسرحت للحظة فيما اعانى ، ألا سُحقاً لهذا المدرس ، ولهؤلاء التلاميذ ، الا سحقاً لأبى وأمى أيضاً ، لماذا يصران على أن أرتدى هذه الملابس البالية ؟؟
ولماذا هذه الشنطة القماشية بالذات فى الوقت الذى يمسك فيه معظم التلاميذ بشنط جلدية لامعة ؟؟
وهذا الشبشب البلاستيكى ماله لا يبلى ؟؟
أتعرف ياصديقى ؟ حتى المصروف أصبح من الرفاهية المحرمة ..!!
إيه ياصديقى مالك لاترد علىّ ؟؟
فاجابتنى نظراته الحنون بعتاب رقيق حيث وجدنى وقد عدت إلى الشكوى والتبرم وتوقفت عن اللهو والمرح ..
عذراً ياصديقى فأنت الأقرب إلى قلبى والأعلم بخبايا ذاتى ، فلا يحزنك قولى ..هكذا تحدثت إلى صديقى ..، فبرقت عيناه وهو فاتح ذراعيه يحتضننى ويحتضن الكون كله معى ، وكأنه يقول لى أصبر فإن الغد يحمل لك الخير الكثير ..، فشعرت ببعض السعادة ، ومسنى قليل من التفاؤل ، وحف بى بصيص من الأمل ، فابتسمت لصديقى وقمت من فورى وقطفت ثمرة باذنجان ، فاكلت نصفها ، وقذفت صديقى بالنصف الآخر مازحاً ،فنظرنى فى حذر ، ثم ضحكنا معاً ، ورفرفت بذراعى كطائر وأنا أدور حوله ، وضحكت معنا السماء ، والحقول ، والأشجار ، والزروع ، والثمار ، والشمس ، وجداول الماء !
نظرت إلى ظلى تحت أشعة الشمس الباسمة فعرفت أن ميعاد خروج المدرسة قد أزف ، فأخذت الملم أشيائى وأنا أنظر إلى صديقى فى حنو وإشتياق ، وهو ينظر إلىّ فى إمتنان وعرفان ، فقبلت جبينه ، ووليته ظهرى فى طريق عودتى إلى القرية .... وما أن قطعت مسافة غير قصيرة حتى نظرت خلفى ، فوجدت صديقى مازال يلوح لى بذراعيه مودعاً ووصل إلى مسامعى صدى صوت لا أعرف مصدره يتردد فى أنحاء الحقول يدعونى للعودة غداً ..!!
وبالرغم من أنه لايسمع ، ولايرى ، ولا يتكلم ، إلا أن ( خيال الحقل ) أصبح صديقى الوحيد ..!!!!
.....................
نهاية أخرى للقصة كما إقترحها مشكوراً الاستاذ الاديب محمد فطومى :
صديقي الوحيد لا يسمع و لا يرى و لا يتكلّم مع ذلك أحبّه و يحبّني و أجدني في كلّ مرّة أغادره فيها أتمنّى أن تطول غفلتهم و لا ينتبهوا إلى أنّه لا يفزع الطّيور كما يعتقدون..
..................
خلعت شبشبى البلاستيكى وأخفيته داخل شنطتى ، وعرجت إلى الحقول منطلقاً فى سعادة وإرتياح لاحدود لهما ، تاركاً خلفى المدرسة ، والتلاميذ ـ والناس جميعاً ..!
ولشبشبى البلاستيكى قصة ، أجد أنه من المناسب أن أقصها عليكم ..فقد توعدنى مدرس الفصل ذات يوم بالويل والثبور وعظائم الأمور إن عدت مجدداً وأنا أرتدى هذا الشبشب الأسود الملحوم برقع مختلفة الألوان ، ولقد تحايلت على هذا الأمر بحيلة تفتق عنها ذهنى وإن بدت نسبة نجاحها وقتئذ قليلة إلا أننى نفذتها غير عابئ بتبعاتها ، فقد أخفيت شبشبى داخل شنطتى بمجرد وصولى إلى باب المدرسة ، فإجتزت فناءها حتى دخلت إلى الفصل ( حافياً ) ..ومن العجيب أن مدرس الفصل فاجأنى برضائه عن فعلتى ، بل أنه أثنى علىّ ( للمرة الأولى )والأخيرة وأمتدحنى أمام التلاميذ ......:
( هكذا يجب أن يكون التلميذ المطيع ، فلأن تأتى حافياً خير ألف مرة من أن تأتى منتعلاً ذاك الذى لايمت إلى عالم الشباشب بأية صلة ).
فضحك التلاميذ ملء أشداقهم ، وتغامزوا ، وعلقوا على الموضوع تعليقات مؤلمة ومهينة ، وسخروا منى كما حلت لهم السخرية ، والغريب أن مدرس الفصل شاركهم ماهم فيه ، وأصبحت ملابسى وشنطتى وشبشبى مدعاة يومية للنقد الساخر والإستهزاء الماكر ، فكنت رغم تألمى وحزنى وتمزقات روحى أمنع دموعى من أن تنزل حتى لا تفضح مايعترك فى نفسى .!!
................
أبهَجَت نفسى ، وسَرَت قلبى تلك الخضرة المنبسطة حتى نهاية الأفق ، وأخذت أجرى يمنة ويسرة ، ولامست خيوط الشمس ، وداعبت النسيم ، وشربت من ماء الساقية ، وغصْت فى الطين ، وطاردت أبو قردان ، وأكلت ثمار التوت ، ولعقت بطون الضفادع ، وأخذت أتقافز حتى توسطت الحقول ، حيث وجدت صديقى فى إنتظارى كعادته ، فقابلنى بابتسام وبشاشة ومودة ، فبادلته الإبتسام ، وألقيت عليه التحية ، ورميت بشنطتى بين الزروع ، وجلست أمام صديقى ففاض الدمع من عينى وأنا أشكو له همومى ومعاناتى وأحزانى وسخرية الجميع منى ، وفقدانى لثقتى فى نفسى ، وإحساسى بالضآلة والتفاهة ، فطَيَب خاطرى بنظراته الهادئة وإبتسامته الوادعة ، فقد كانت له نفس ظروفى ، وكانت بيننا أشياء كثيرة مشتركة ، وهو الوحيد الذى كان يشعر بما يفتعل فى نقسى ، فهو يرتدى ملابساً تشبه ملابسى ، ويعامله الناس بقدر مايعاملوننى به من السخرية والإستهانة والإستهزاء ..
تبادلنا النظرات لحين ، فإطلعَ كل منا على سريرة الآخر دون حديث ، وتوحدت آلامنا دون شكاة ، وتعانقت خواطرنا دون أعلان ، وإندمجت أحاسيسنا دون بوح ..!!
القينا بكل شئ خلفنا دفعة واحدة ، وسرعان ما إبتسمتُ ، وأخرجت من شنطتى كتاب المطالعة ، وأخذت أقرأ على صديقى إحدى القصص الجميلة ، وهو ينصت فى إهتمام وشغف ..!
وما أن إنتهيت من قراءة القصة حتى عاد إلىّ بعض صفاء نفسى ، فقمت إلى صديقى ولعبت معه كما حلا لى اللعب ، فكان لايغضب منى إن رشقته بثمرة طماطم ، أو قذفته بحفنات الطين ، ولا يضيق بى إن أوقعته أرضاً ثم ساعدته على النهوض من جديد ، بل كان يبش فى وجهى وتشع عيناه ببريق السعادة والسرور تعبيراً عن رضاه عنى ومودته لى ، فكنت أجد فى نفسه النقية وقلبه النبيل ما أفتقده فى كل من أعرفهم ..!
جلست لألتقط أنفاسى فسرحت للحظة فيما اعانى ، ألا سُحقاً لهذا المدرس ، ولهؤلاء التلاميذ ، الا سحقاً لأبى وأمى أيضاً ، لماذا يصران على أن أرتدى هذه الملابس البالية ؟؟
ولماذا هذه الشنطة القماشية بالذات فى الوقت الذى يمسك فيه معظم التلاميذ بشنط جلدية لامعة ؟؟
وهذا الشبشب البلاستيكى ماله لا يبلى ؟؟
أتعرف ياصديقى ؟ حتى المصروف أصبح من الرفاهية المحرمة ..!!
إيه ياصديقى مالك لاترد علىّ ؟؟
فاجابتنى نظراته الحنون بعتاب رقيق حيث وجدنى وقد عدت إلى الشكوى والتبرم وتوقفت عن اللهو والمرح ..
عذراً ياصديقى فأنت الأقرب إلى قلبى والأعلم بخبايا ذاتى ، فلا يحزنك قولى ..هكذا تحدثت إلى صديقى ..، فبرقت عيناه وهو فاتح ذراعيه يحتضننى ويحتضن الكون كله معى ، وكأنه يقول لى أصبر فإن الغد يحمل لك الخير الكثير ..، فشعرت ببعض السعادة ، ومسنى قليل من التفاؤل ، وحف بى بصيص من الأمل ، فابتسمت لصديقى وقمت من فورى وقطفت ثمرة باذنجان ، فاكلت نصفها ، وقذفت صديقى بالنصف الآخر مازحاً ،فنظرنى فى حذر ، ثم ضحكنا معاً ، ورفرفت بذراعى كطائر وأنا أدور حوله ، وضحكت معنا السماء ، والحقول ، والأشجار ، والزروع ، والثمار ، والشمس ، وجداول الماء !
نظرت إلى ظلى تحت أشعة الشمس الباسمة فعرفت أن ميعاد خروج المدرسة قد أزف ، فأخذت الملم أشيائى وأنا أنظر إلى صديقى فى حنو وإشتياق ، وهو ينظر إلىّ فى إمتنان وعرفان ، فقبلت جبينه ، ووليته ظهرى فى طريق عودتى إلى القرية .... وما أن قطعت مسافة غير قصيرة حتى نظرت خلفى ، فوجدت صديقى مازال يلوح لى بذراعيه مودعاً ووصل إلى مسامعى صدى صوت لا أعرف مصدره يتردد فى أنحاء الحقول يدعونى للعودة غداً ..!!
وبالرغم من أنه لايسمع ، ولايرى ، ولا يتكلم ، إلا أن ( خيال الحقل ) أصبح صديقى الوحيد ..!!!!
.....................
نهاية أخرى للقصة كما إقترحها مشكوراً الاستاذ الاديب محمد فطومى :
صديقي الوحيد لا يسمع و لا يرى و لا يتكلّم مع ذلك أحبّه و يحبّني و أجدني في كلّ مرّة أغادره فيها أتمنّى أن تطول غفلتهم و لا ينتبهوا إلى أنّه لا يفزع الطّيور كما يعتقدون..
تعليق