حُب

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • حنان المنذري
    أديب وكاتب
    • 06-08-2011
    • 32

    حُب

    حب

    بعد منتصف الليل, تصاعد رنين هاتفي النقال المسجّى على السرير بجانبي فأطار مني أحلام المساء, كانت خديجة, تنشج بالبكاء وتلح على ذهابي إليها قائلة:
    - لا أحد لي سواك ... أحتاجك.
    تنهدت بحرقة وأغلقت الخط!.
    الظلام حالك .. والفجر قارب على البزوغ .. ترى كيف سأوافيها في مثل هذا الوقت؟!
    حسمت أمري سريعاً, لا يجوز ترك خديجة لوحدها في ظرفٍ كهذا ... خلسة وعلى أطراف أصابعي, فتحت غرفة أبويَّ وبخفة سرقت مفتاح سيارة والدي من جيب دشداشته, أغلقت الباب وخرجت أطوي عتمة الليل .. حين وصلت, وجدت أضواء مصابيح باحة منزلهم مطفأة, كان من عادتهم تركها مضاءة طوال الليل درءًا لأطماع اللصوص, سرى في هاجسي أنها ربما تكون قد احترقت, رفعت هاتفي واتصلت بخديجة, قالت والضعف يكسو صوتها:
    - أشكر حضورك, سأرسل من يفتح لكِ الباب.
    تنهدت قليلاً ثم أغلقت الخط.
    بعد مُضي بِضع دقائق, جاء سامي أخوها ذو العشر سنين, فتح الباب وأشار إلى الداخل قائلاً:
    - ستجدينها في الغرفة.
    هرولت مسرعة باتجاه غرفتها, وضعت يدي على مقبض الباب فوجدته مقفلاً, طرقته بطرقات خفيفة لكي لا أوقظ أهلها النائمين, بعد حوالي دقيقتين فُتح الباب وظهر وجه خديجة وقد غيّم الحزن على تقاطيعه الحلوة, حالما تفوهت بسؤالي عما قد حلَّ بها انقلبت على ظهرها وأغمي عليها أمام الباب!.
    كان الموقف عصيبًا, تسارعت دقات قلبي بخوفين, خوفٌ عليها وخوفٌ من وجودي في تلك الساعة المتأخرة في بيتها دون عِلم أبويّ, حِرت فيما يمكن لي أن أفعل, سحبت جسد خديجة الثقيل بصعوبة بعيدًا قليلًا عن الباب باتجاه دولاب الملابس, وضعت رأسها على ركبتي, هززتها بخوف حين تبين لي أن صدرها لم يعد قادراً على إخراج الأنفاس, همست في أذنها:
    - خديجة أرجوكِ استيقظي ... غير أن خديجة لم تكن ترد!!.
    كان لا بدَّ من ذلك وقد تأزم الموقف... ناديت بأعلى صوتي لأوقظ النائمين ... هرع إلى الغرفة شقيقها الأكبر ولحقت به عمتها, حين رأياني ذُهلا وصرخ أخوها في وجهي:
    - حسنة! ماذا تفعلين هنا في هذا الوقت ؟! يا إلهي.. ماذا أصاب خديجة؟!!
    أجبت كمن يحاول إبعاد تهمة ألصقت به:
    - هي من دعاني للمجيء, قالت إنها تحتاجني.
    استدركت وضع خديجة الحرج فصرخت فيهما:
    - لا تكثرا من الأسئلة, أخبراني, ماذا نفعل لكي نجعلها تفيق؟!.
    كان إغماؤها ثقيلاً, لم يُجد في إيقاظها ماء الورد الذي رششته على جبهتها فأتت عمتها بالثوم ومن ثم البصل, لم يُجد معها شيء, صرخت عمتها:
    - فلنذهب بها إلى المستشفى.
    رددت باضطراب:
    - فلنوقظها أولاً فهي ثقيلة ولن نتمكن من حملها معاً!.
    حين ازدادت قوة صفعاتي على وجهها حركت جفنيها وعقدت ما بين الحاجبين ثم تنهدت, أشارت عَليًّ فطنتي بأن أبقى لوحدي معها, فحين تبدأ بالهذيان فلن أضمن كتمانها لأي سر!.
    أجابا دعوتي وخرجا ولم يبق غيري وخديجة ثالثنا الخوف, خوفٌ عليها وخوفٌ من أظافرها التي بدأت تغرزها بلا وعي في ساقي!.
    خفت عليها, وخفت على نفسي من أظافرها الطويلة, احتضنتها بقوة ملصقةً رأسها على صدري لأشعرها بالأمان, مددت يدي متحسسة ذراعها وببطء رفعت كفها الأيسر عن ساقي فشعرت أنا أيضاً ببعض الأمان!.
    بدأ اللعاب يخرج من فمها ويسيل على ياقة قميصي, في حين تحركت شفتاها وعيناها لم تزل مسبلة, قالت بصوت مختنق:
    - ناصر.. ناصر يا حسنة.. ناصر انتهى!! خرج من حياتي وأقصاني عن حياته.
    قالت ذلك وعادت لغرز أظافرها في ساقي من جديد!
    خديجة وناصر.. قصة حب لا تحدث إلا مرة واحدة في كل قرن, تلك المحبة الجارفة لا عهد لي بها من قبل إلا على شاشة التلفاز حين أدير مفتاح التحكم على قناة الأفلام المكسيكية, خديجة وناصر وأنا, رابعنا ليل يطوي العاشقين ويحفظ سر هدهدات اللقاءات الوردية.
    هناك بدأ اللقاء الأول, على شاطئ البحر.. كنا نلهو برمله ونصنع قلاعاَ وحصوناً من طين, حين أنتهيت من بناء مدينتي صرخت منتشية:
    - هذه حصوني وتلك قلعتي, صنعت لأحميها رشاشات وقنابل!! لن يجرؤ أي أحدٍ على الاقتراب من حصوني ولن تسقط قلعتي في يد أي محتل!
    ضحكت ناثرة كومة الرمل التي جمعتها لصنع قلعتها أمامي, قالت بجذل:
    - أمَّا أنا فسأصنع لقلعتي باباَ واحداَ بمفتاحٍ واحد أسلمه لأول رجل يطلع من بين الغمام.
    مدت يدها وأشارت إلى السماء!!.
    وعندما أغرقتنا الأحلام تدثرنا بالوهم, جرينا نحو البحر تسبقنا أنفاسنا والضحكات وجنون اللحظة... حين عُدنا كانت السماء قد أجابت خديجة!
    شاب عريض المنكبين سامق الطول أسمر, اجترأ على مدينتي الصغيرة فأخذ منتشياً يدُّكُ قلعتي وقد أتت قدماه على كل الحصون!! وحين لم أستطع الكلام من فرط الغيظ, وحين خانتني قدماي عن التقدم خطوة إلى حيث وقف الشاب يعيث إفساداً بما صنعت, زأرت خديجة كأسد جريح:
    - ماذا تراك تفعل؟!
    أردفت والشرر يتطاير من عينيها النجلاوين:
    - الويل لك!! لقد دمرت ما اجتهدت صديقتي في بنائه ساعتين!.
    ارتبك, أسرف في الاعتذار لنا, أسرع في جمع أكوام الرمل والطين, جثت صديقتي على ركبتيها تساعده, التقت أعينهما عدة مرات ... وبدا أنهما قد توحدا ووقعا في الغرام!.
    ذلك يوم تغيرت الأيام بعده, كنت صديقة فقط, وأصبحت صديقة ومتواطئة في قصة عشق, أقوم بمهمة وسيط الغرام بين الحبيبين, أضرب المواعيد وأختار أماكن اللقاءات السرية ومن ثم أسرق سيارة والدي لأحمل فيها صديقتي إلى المتيم!.
    عام مر على ميلاد قصة حبهما, عام مر وأنا أرافقها في هزيع الليل, أسلَّمها إلى حبيبها وأتوارى بعيداً بما يكفي لعدم استراق السمع في الظلام, أكتفي بتأملهما من بعيد... وحيدة يلفني البرد ويقتلني الأسى.
    “لم تلحظني في أي يوم يا ناصر!! “لم تكن سوى حلم”.
    بعد أن هدأت خديجة قليلاً أسندت رأسها إلى صدري, احتويتها بين ذراعيّ, همست في أذنها:
    - خيراً إن شاء الله, بعد الشدة يأتي الفرج وبعد الظلام يبزغ نور الفجر, وحبكما كالمحيط .. لا يهزم المحيط إلا الله يا خديجة .. أخبريني ماذا حدث؟
    علمت من خديجة أن والديّ ناصر قد رفضا حبهما بسبب انتماء خديجة لقبيلةٍ أخرى, علاوةً على انتسابها لمذهب ديني مختلف ... مسكينة خديجة, كلما بزغ نور أملٍ في حياتها, عاكسته الأقدار!
    هدهدتها كالطفل وغنيت لها أغاني الهوى المعِّبرة عن قوة الغرام ولذة صراعاته التي يتمخض عنها انتصار العاشقين في النهاية ... نامت خديجة مطمئنة على صدري, أسبلت عينيها ودمعتها جفت على طرف المحجر.
    هنا كانت مهمتي قد انتهت, استبدلت ذراعي بوسادة وضعتها تحت رأسها وانسللت إلى الخارج.
    ساعة معصمي تشير إلى الرابعة والنصف موعد انطلاق أبي بسيارته إلى المسجد لأداء صلاة الفجر, انتابتني الهواجس .. ماذا تراني سأقول له حينما لا يجد سيارته في الموقف ثم يلمحني عائدة بها في مثل هذا الوقت؟!
    انطلقت أطوي بعثرتي والطريق.. صراخ يتنامى في داخلي رغماً عني وأمنية شريرة تعلن عن نفسها في قبح مجترأ, أمنية تتوهج وتتلوى صاعدةً مع الأنفاس ... موتي يا خديجة واتركي لي ناصر.
  • آسيا رحاحليه
    أديب وكاتب
    • 08-09-2009
    • 7182

    #2
    لا أدري هل قرأت لك قبل الآن أم لا ..
    أسجّل إعجابي ..باللغة و الأسلوب و البناء ..
    و أنتظر نصوصا أخرى .

    تحيّتي و تقديري.
    يظن الناس بي خيرا و إنّي
    لشرّ الناس إن لم تعف عنّي

    تعليق

    • حنان المنذري
      أديب وكاتب
      • 06-08-2011
      • 32

      #3
      أستاذة آسيا .. سعيدة بمرورك العطر .. تقبلي أرق الأمنيات

      تعليق

      • سائد ريان
        رئيس ملتقى فرعي
        • 01-09-2010
        • 1883

        #4
        وهاهي الأستاذة حنان المنذري الأديبة الرائعة
        تتحفنا برائعة جديدة من روائعها الأخاذة ..

        (ولنقل : ألف رائعة ورائعة - سلسلة روائع بتوقيع حنان)

        في هذه القصة الجميلة،
        البداية تشد القارئ بشكل محكم فترسم على وجهه علامات التأثر بالحدث
        وكنت أتوقع أن تكون المفاجأة أكثر من ( حالة حب - علاقة غير شرعية - ) حيث البداية في تمهيدها للمفاجأة أقوى منها بكثير
        أما النهاية بالإعلان عن الأمنية الشريرة من قبح مجترأ .. فجميلة جداً ومتميزة ومحبكة بإحتراف

        الأستاذة حنان المنذري
        أنت أديبة بارعة وقاصة من الدرجة الأولى مع مرتبة الشرف

        تحياتي لكِ من نهر لا ينضب

        دمتِ ودام قلمكِ


        أبارك لكِ مرور الأستاذة الأديبة ( آسيا رحاحليه )من قصتكِ وإعجابها بقلمكِ ولغتكِ

        تعليق

        • ريما ريماوي
          عضو الملتقى
          • 07-05-2011
          • 8501

          #5
          نعم وانا اعجبتني القصة وخصوصا القفلة العجيبة
          عجيب الحب وما يعمله بالنفسيات في
          حالات كحالة بطلتك فيه طاقة مدمرة, ولكن كيف هي
          متأكدة من حب البطل لها؟؟
          شكرا لك اسلوب جميل, استمتعت بالقراءة.
          تحيااااتي.


          أنين ناي
          يبث الحنين لأصله
          غصن مورّق صغير.

          تعليق

          • حنان المنذري
            أديب وكاتب
            • 06-08-2011
            • 32

            #6
            عزيزي الأستاذ سيد ريان .. كم هو جميل أن يحصد الكاتب قراء بهذا التسامي والألق .. أسعدني أن القصة أمتعتك .. وأشكرك على التهنئة الجميلة بشهادة الأستاذة آسيا .. شهادة أعتز بها دائما وأبدا .. كما أعتز بما نثرته ها هنا من كلمات رقراقة .. تقبل كل الود

            تعليق

            • حنان المنذري
              أديب وكاتب
              • 06-08-2011
              • 32

              #7
              العزيزة الأستاذة ريما .. هكذا هو الحب .. يولد فينا طاقات جديدة .. يجعلنا نعيد أكتشاف أنفسنا .. يصدمنا في ذواتنا .. يفضحنا ويعرينا .. هي محاولة غوص في أتون النفس البشرية .. محاولة لأن نعري الحب من كماله المخاتل.. ولكنه يظل حبا بكل ما يحمله من معنا .. أشكر مرورك العطر .. دمت بحب

              تعليق

              • محمد فطومي
                رئيس ملتقى فرعي
                • 05-06-2010
                • 2433

                #8
                براعة كبيرة في صنع الدّهشة و امتلاك القارىء.
                أحببت نصّك و أسلوبك أختي حنان.
                بوسعنا الآن أن نعد أنفسنا بأعمال أرقى و أجمل ممّا قد تعدين به في مقبل الأيّام.
                يجب أن تستمرّي بثقة حنان،فلديك الموهبة و المنطق الأدبيّ الكافيين لشقّ الطّريق.
                مودّتي لك أختي العزيزة.
                مدوّنة

                فلكُ القصّة القصيرة

                تعليق

                • حنان المنذري
                  أديب وكاتب
                  • 06-08-2011
                  • 32

                  #9
                  أشكرك بغزارة على هذا التعزيز الجميل أستاذي العزيز .. إضافتك تعني الكثير لقلمي .. تقبل أرق المنى

                  تعليق

                  يعمل...
                  X