قراءة في قصيد "الغريب" لمختار عوض - رؤية: رضا الزواوي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • رضا الزواوي
    نائب رئيس ملتقى النقد الأدبي
    • 25-10-2009
    • 575

    قراءة في قصيد "الغريب" لمختار عوض - رؤية: رضا الزواوي



    اللوحة الإبداعية:
    ========

    الغَـرِيب
    .
    .
    .
    كُنتَ تَحملُ فى قلبِكَ الخِصبَ والبَحرَ
    والنَّارَ والعَاصِفَهْ
    كُنتَ تحشدُ فى جَعبةِ الحُلمِ غَيْمًا وسَيْفًا وفَأْسًا
    وشَمْسًا تُضِيءُ الظَّلامْ
    كُنتَ تُسْلِكُ خِصبَ الأمَانى بِمُهْرَةِ حُلمِكَ
    تَرْتُقُ ثَوْبَ السَّلامْ
    فانْتَبِهْ؛
    أَيُهَذا الغَريبْ:

    ها هُوَ المَاءُ أُنْشودةُ الغَيْمِ للسَّهْلِ
    يُرْسِلُهُ الرِّيحُ للبَحْرِ عَبْرَ اخْتِلالِ الفُصُولْ!!


    ها هِيَ الشَّمْسُ
    - فى الصُّبحِ –
    تُشعِلُ - فى نَفْسِهَا – النَّارَ
    كى تُرسِلَ الدِّفءَ والضُّوءَ للأرضِ
    تحرِقُ عُشَّ اليَمَامْ!!

    ها هُوَ الزَّرعُ تهوي على جَذْرهِ الفَأسُ
    (صانعةَ الخِصبِ) رُغمَ اخْضِرارِ الفُرُوعْ!!

    ها هو السَّيفُ فى جَعبةِ الحُلْمِ
    - قَدْ عِشْتَ ترعاهُ عامًا فَعَامْ -
    يَثــقُبُ القلبَ عِندَ احْتِدَامِ الخِصَامْ!!


    فاحْفُرِ الآنَ قبرَكَ
    - ياأَيُهَذا الغَريبْ -
    ثُمَّ نَمْ
    هادئًا
    (في سَلامْ)
    ....


    الرؤيـة النقديـة:
    ========

    قبل البدء:
    يحمل العنوان "تناقضا" يصرخ بنا:
    - لستم أمام لوحة عادية، أنتم في عالم شائق؛ فاربطوا أحزمة الصمت، ودعوا المجال لسفر ذائقتكم!
    فرغم تعريف الاسم "الخارجي" "الغريب" يبقى "نكرة" لدى الآخر، فالغربة في هذه الحالة مؤلمة، ووقعها مؤذ!
    والمتأمل في العنوان يجده مختزلا لمعاني القصيد؛ فنحن أمام "غربة" ستصحبنا طيلة "سفرنا" في عالم هو الحياة بجميع مظاهرها عالم "الماء، والنار، والهواء، والتراب" مجمعة كلها في حياة منفصلة تحوي تلك العناصر كلها هنا:

    الماء: والبَحرَ -غَيْمًا -المَاءُ -الغَيْمِ -للبَحْرِ
    النار: والنَّارَ -وشَمْسًا -الشَّمْسُ -تُشعِلُ -النَّارَ-الدِّفءَ -والضُّوءَ -تحرِقُ
    الهواء: والعَاصِفَهْ-الرِّيحُ
    التراب: الخِصبَ -خِصبَ -للسَّهْلِ-للأرضِ -الزَّرعُ -الخِصبِ) -فاحْفُرِ
    الحياة: وسَيْفًا -وفَأْسًا -الظَّلامْ-الأمَانى -حُلمِكَ-السَّلامْ -الفُصُولْ!! -الفَأسُ-اخْضِرارِ -السَّيفُ -الحُلْمِ-القلبَ -الخِصَامْ!!-قبرَكَ-نَمْ-سَلامْ)
    فالصراع هنا حول حياة بدت بعناصرها تختال ما بين الداخل، والخارج في حركة دائرية متقنة برع الشاعر في تصويرها، وتركيب رموزها!
    وفي البدء:
    كان العنوان "الغريب" موحيا بالغياب في الحضور، بالغربة في الوطن، فتعريف لفظة "الغريب" بـ(ألْ) لم يخرج صاحبها من عالم "التنكير" واقعا، وإن أخرجه لغة!
    وكأني بالشاعر يريد إخبارنا أنّ لغة الخطاب النافذة في الصوت لدى "الغريب"قد لا تختلف عن "الصمت" لدى غيره!
    لذلك بدأ قصيدته بصمت أطبقت عليه علامة الحذف الموزعة عموديا، وكأني به يقرر أن انعدام العلاقة الأفقية، واختلال التواصل يجعل الصمت، أو "الخرس المجتمعي" يطفو على العلاقة بين أفراده؛ فالصمت هنا:
    صــــوت الغريب القابع في مجاهل حياة تتقاذفه!
    (و)
    مــــــوت هو في حقيقته نوم في سلام في عالم تختلط فيه الحقائق بالأوهام!
    (و)
    تــــــ"ـغريبة" الحالم الحامل لسيفه، وفأسه السائر تحت ظل أمانيه، وغيمه الهائم!

    إذا فالنقاط الثلاث العمودية:

    .
    .
    .


    هي في حقيقتها حروف ثلاثة، ولا غرابة إن توافقت مع حروف الصمت الثلاثة (ص-م-ت)!

    . (ص)
    . ( م )
    . (ت )

    "تغريبة" المكان:
    يتنقل بنا الشاعر بعدسته عبر الأماكن، فيبدأ من داخل "الغريب" من "خياله الخصب" وحلمه الرائق مع تأكيده على "الغرابة" بمزج الخصب، والبحر بالنار، والعاصفة، وذكر الغيم مقترنا بالسيف والفأس!

    كُنتَ تَحملُ فى قلبِكَ الخِصبَ والبَحرَ
    والنَّارَ والعَاصِفَهْ
    كُنتَ تحشدُ فى جَعبةِ الحُلمِ غَيْمًا وسَيْفًا وفَأْسًا
    وشَمْسًا تُضِيءُ الظَّلامْ
    كُنتَ تُسْلِكُ خِصبَ الأمَانى بِمُهْرَةِ حُلمِكَ
    تَرْتُقُ ثَوْبَ السَّلامْ

    ثم ينقل عدسته خارج "الغريب" إلى الأرض التي تحمل "جسدا" قد يكون له، فيأخذنا في رحلة الغيم، وهو يغازل البحر، واليابسة!

    ها هُوَ المَاءُ أُنْشودةُ الغَيْمِ للسَّهْلِ
    يُرْسِلُهُ الرِّيحُ للبَحْرِ عَبْرَ اخْتِلالِ الفُصُولْ!!


    وتتواصل رحلة العدسة من الأرض إلى السماء، فيصور لنا الشاعر الشمس المتقدة وهي تغزل الدفء من ذاتها الفاعلة!


    ها هِيَ الشَّمْسُ
    - فى الصُّبحِ –
    تُشعِلُ - فى نَفْسِهَا – النَّارَ
    كى تُرسِلَ الدِّفءَ والضُّوءَ للأرضِ


    ثم، وبحركة بارعة تعود العدسة نحو الأرض-الخصب التي ارتوت من السماء؛ ليصف لنا الفعل-السالب فوقها:

    ها هُوَ الزَّرعُ تهوي على جَذْرهِ الفَأسُ
    (صانعةَ الخِصبِ) رُغمَ اخْضِرارِ الفُرُوعْ!!


    وأخيرا ينفذ إلى داخل الذات ثانية، والعودة عبارة عن انكماش، وعزلة، أو هو عودة الآخر الذي نما، وترعرع خارجا؛ ليعود مهدما للحصون من داخلها!:

    ها هو السَّيفُ فى جَعبةِ الحُلْمِ
    - قَدْ عِشْتَ ترعاهُ عامًا فَعَامْ -
    يَثــقُبُ القلبَ عِندَ احْتِدَامِ الخِصَامْ!!


    "تغريبة" الزمان:
    فإلى جانب سفر "عدسة" الكاتب عبر الأماكن وهو يعرفنا بالغريب، وعالمه الممتدّ من نفسه إلى الآخر، ها هو يختزل الزمن بماضيه، وحاضره، ومستقبله، في لحظة يستدعيها من جدار ذاكرته المتعبة، ويجمع أزمنة الفعل بترتيب تصاعدي يدلّ على التفاعل، والانفعال، فمن رحلته عبر الماضي يبرز لنا الحركة الفاعلة:

    كُنتَ تَحملُ
    كُنتَ تحشدُ
    كُنتَ تُسْلِكُ


    ثم يعود بنا إلى الحاضر، وكأنه يريد أن يبين لنا نتيجة الأفعال الماضية في الحاضر:

    ها هُوَ المَاءُ ...يُرْسِلُــهُ
    ها هِيَ الشَّمْسُ...تُشعِلُ
    ها هُوَ الزَّرعُ تهوي
    ها هو السَّيفُ...يَثــقُبُ

    وبما أن الناتج لم يكن في حجم الفعل الماضي، وبلهجة تحمل "نصرا يائسا" أو قل "هزيمة مؤمّلة" نراه ينتقل إلى فعل الأمر بطلب السكون ما دامت الحركة لم تنتج إلا عودة إلى الداخل عبر سيف ينفذ حيث "الخصب والبحر والنار والعاصفة!

    فاحْفُرِ

    وكأني بالشاعر يعود بنا من جديد إلى البدء:

    كُنتَ تَحملُ فى قلبِكَ الخِصبَ والبَحرَ
    والنَّارَ والعَاصِفَهْ

    ...
    ها هو السَّيفُ فى جَعبةِ الحُلْمِ
    - قَدْ عِشْتَ ترعاهُ عامًا فَعَامْ -
    يَثــقُبُ القلبَ عِندَ احْتِدَامِ الخِصَامْ!!

    ...
    فاحْفُرِ الآنَ قبرَكَ
    - ياأَيُهَذا الغَريبْ -
    ثُمَّ نَمْ
    هادئًا
    (في سَلامْ)


    ثم يعود بنا الشاعر إلى الحذف من جديد لكن هذه المرة على شكل أفقي، وكأنه يريد تذكيرنا بأن الصمت لا يختلف عن الصوت إن كان هذا الأخير بلا صدى يحمل أمرا بالصمت الأبدي:

    صــــرير الأحلام المتخشبة
    (و)
    واحة تجمع ثلاثية الحياة (الماء والتراب والهواء)!
    (و)
    تــــابوت يرحل بالمدى حيث الصمت له صدى!

    بعد البدء:

    من هذا الغريب؟!
    هو نموذج لشخصية متوازنة تبدو فيها عقليته "متسقة" مع نفسيته، هو قابض على جمر "هويته" وهذا "نرتشفه" مما قيل عنه؛ فهو مماثل لنفسه مختلف عن الآخرين، تميز بالاستمرار عبر الأزمنة (الماضي-الحاضر-المستقبل) وبقاؤه كما هو رغم حركة الآخرين السلبية، ودعوتهم له بالسكون دليل على استحقاقه لقب "الغريب"!
    وكأننا نلمس داخل القصيد صراع هوية يبدو فيه الثابت على مبدئه فاعلا محلقا محاطا بعناصر السمو، والعلو، يحمل الخصب، ويحشد الغيم، ويسلك طريقا يحفه الأمل، ويرتق ما يفتقه القابعون تحت أقبيتهم "المتغرّبة" المنبتة القاتمة!
    وفي المقابل يركن المتحول إلى الأرض-الحصن قصد الامتصاص-الهدم، ويدعو المتحرك إلى السكون، والهدوء السلبي:

    فاحْفُرِ الآنَ قبرَكَ
    - ياأَيُهَذا الغَريبْ -
    ثُمَّ نَمْ
    هادئًا

    وإمعانا في "تزييف" الواقع العفن يتم تصوير الهزيمة كنصر، والموت كسلم:

    ثُمَّ نَمْ
    هادئًا
    (في سَلامْ)

    ماذا يريد؟
    بمجرد نظرة خاطفة مع استراق السمع لدلالات المعاني نستنتج أن "الغريب" هو الأمل -الحلم الكائن الكامن فينا من يحمل مشروعا إحيائيا نهضويا مقترنا بمبررات بقائه، لم يكن يحلم، وهو ساكن، بل كان يعمل، ويأمل، ويحمل دعوته عبر نفسه للآخر، والآخر يبدو في القصيد عنصرا "مثبطا" للعزائم تارة، وخارقا للصوت الواعي محاولا لفّ الصوت الثائر بصمت المقابر تارة أخرى!

    وبعد:
    هذه لمحة عن رؤية بدأتها، وحاولت من خلالها أن أجعل "نجمة القصيد" تتعرى في "وجه ظلمته" وأرجو أن أكون قد وُفِّقت!


    التعديل الأخير تم بواسطة رضا الزواوي; الساعة 15-09-2011, 07:22. سبب آخر: تصحيح: نستنج =نستنتج
    [frame="15 98"]
    لقد زادني حبّـا لنفسي أنني***بغيض إلى كل امرئ غير طائل
    وأنّي شقيّ باللئــام ولا ترى***شـقيّـا بهـم إلا كـريم الشـمـائل!

    [/frame]
  • سلاف شبانه
    أديب وكاتب
    • 11-12-2010
    • 210

    #2
    قراءة جميلة لجمال يستحق .

    تحياتي الطيبات
    [marq]


    لأجلك أحيا ، فهل سيطول الانتظار ؟؟؟


    سلاف
    [/marq]

    تعليق

    • رضا الزواوي
      نائب رئيس ملتقى النقد الأدبي
      • 25-10-2009
      • 575

      #3

      المشاركة الأصلية بواسطة سلاف شبانه مشاهدة المشاركة
      قراءة جميلة لجمال يستحق .

      تحياتي الطيبات
      شكرا سلاف لمرورك العبق.
      دمت بخير،
      مع تحياتي.
      رضا
      [frame="15 98"]
      لقد زادني حبّـا لنفسي أنني***بغيض إلى كل امرئ غير طائل
      وأنّي شقيّ باللئــام ولا ترى***شـقيّـا بهـم إلا كـريم الشـمـائل!

      [/frame]

      تعليق

      • مختار عوض
        شاعر وقاص
        • 12-05-2010
        • 2175

        #4
        أخي الكريم الأستاذ
        رضا الزواوي
        سلام الله عليكم ورحمته وبركاته
        سّرني أن وجهني الرابط في الصفحة الخاصة بقصيدتي "الغريب" إلى هنا بعد مقدمة أشارت إلى رضا ذائقتكم عنها؛ فمنيت النفس برؤية نقدية - لاشك - يتشوق لها كلّ مبدع لما تؤديه هذه الرؤية من إثراء للنص وإنارة لدربه، ولكنّ الفرحة لم تكتمل عندما اكتشفت أنّ حدثًا غير سار قد أذهب هذا الجهد قبل أن أطلع عليه، ومع ذلك فلا يسعني إلا تقديم وافر الشكر على ما بذلت من جهد نال تقدير زميلة راقية شهدت له بالجمال..
        تقديري وامتناني.

        تعليق

        • مختار عوض
          شاعر وقاص
          • 12-05-2010
          • 2175

          #5
          المشاركة الأصلية بواسطة سلاف شبانه مشاهدة المشاركة
          قراءة جميلة لجمال يستحق .

          تحياتي الطيبات

          الجميل هو حضورك الطيب، ورقي ذائقتك..
          تقدير يليق.

          تعليق

          • رضا الزواوي
            نائب رئيس ملتقى النقد الأدبي
            • 25-10-2009
            • 575

            #6


            المشاركة الأصلية بواسطة مختار عوض مشاهدة المشاركة
            أخي الكريم الأستاذ
            رضا الزواوي
            سلام الله عليكم ورحمته وبركاته
            سّرني أن وجهني الرابط في الصفحة الخاصة بقصيدتي "الغريب" إلى هنا بعد مقدمة أشارت إلى رضا ذائقتكم عنها؛ فمنيت النفس برؤية نقدية - لاشك - يتشوق لها كلّ مبدع لما تؤديه هذه الرؤية من إثراء للنص وإنارة لدربه، ولكنّ الفرحة لم تكتمل عندما اكتشفت أنّ حدثًا غير سار قد أذهب هذا الجهد قبل أن أطلع عليه، ومع ذلك فلا يسعني إلا تقديم وافر الشكر على ما بذلت من جهد نال تقدير زميلة راقية شهدت له بالجمال..
            تقديري وامتناني.

            يبدو أن التنسيق قد غيّب النص دون أن أتفطن، والحمد لله أني قد وضعت رؤيتي في مدونتي لذلك ها أني أنسخها، وألصقها هنا، وأرجو أن تكون كما توقعتها أخي الكريم.
            [frame="15 98"]
            لقد زادني حبّـا لنفسي أنني***بغيض إلى كل امرئ غير طائل
            وأنّي شقيّ باللئــام ولا ترى***شـقيّـا بهـم إلا كـريم الشـمـائل!

            [/frame]

            تعليق

            • مختار عوض
              شاعر وقاص
              • 12-05-2010
              • 2175

              #7
              أخي الكريم الناقد المبدع الأستاذ
              رضا الزواوي

              بكل الصدق..
              لا أجد من الكلمات ما أعبر به عن فرحي بهذه الرؤية النقدية البارعة..
              ولأعترف أن هذه القراءة مثلت اختراقا ملهما للنص..
              سلم الفكر والقلم..
              تقديري ومودتي.

              تعليق

              • شيماءعبدالله
                أديب وكاتب
                • 06-08-2010
                • 7583

                #8
                الأستاذ القدير رضا الزواوي
                قراءة مميزة وتحليل استنباطي رائع لقصيدة أديبنا الكبير الأستاذ مختار عوض
                قراءة تستحك المتابعة وفيها الفائدة العميمة
                وقد تشرفت بقراءة هذه القصيدة المميزة الثرية والآن دراستها من لدنكم الكريم
                بوركت السواعد والعطاء
                تحيتي وتقديري

                تعليق

                • الهويمل أبو فهد
                  مستشار أدبي
                  • 22-07-2011
                  • 1475

                  #9
                  الغريب المألوف

                  الغريب المألوف

                  أشركنا الناقد المتألق رضا الزواوي في قراءة ثرية لقصيدة الأستاذ مختار عوض بعنوان "الغريب"، وقد أبدع في تحليله وألمّ بأبعاد متعددة منها؛ وشأن القراءات المبدعة، فإنها تستثير القارئ لإعادة قراءة القصيدة ونقدها معا، وكان حصيفا في التنبيه إلى الفراغات البدئية خاصة، إذ عالج الصمت والصوت. فنبهنا إلى الفراغات العمودية التي تركها الشاعر في بداية قصيدته بالقول:
                  ((لذلك بدأ قصيدته بصمت أطبقت عليه علامة الحذف الموزعة عموديا، وكأني به يقرر أن انعدام العلاقة الأفقية، واختلال التواصل يجعل الصمت، أو "الخرس المجتمعي" يطفو على العلاقة بين أفراده))

                  ولا شك أن ملاحظة الحذف العمودي ملاحظة عميقة الدلالة لولا ان الاهتمام بالطرح البنيوي طغى على تفسيرها، فالغريب فعلا يعاني "انعدام العلاقة الأفقية" لكنه غير معني بـ "اختلال التواصل [الذي] يجعل الصمت أو الخرس المجتمعي يطفو على العلاقة بين أفراده." فليس للغريب مجتمع يطفو عليه الخرس ولا ثمة اختلال بينه وبين مجمتعه، فمثل هذا الاختلال بدهية قارة ومتجسدة في العنوان ("الغريب") الذي يعني فيما يعني البعد والانعزال والاختلاف والتميز ؛ بل لعل لغة الغريب نفسها تضيف مسافة وابتعادا محتوما! ولكي استبق نفسي، فإن الغريب في الأمر أن هذا الغريب غريب مألوف منعزل صامت يتلقى فقط "تنبيها" آمرا بعد "تنبيه"!

                  من هذا المنطلق أود أن أختلف في جزئية محددة من اطروحة الاستاذ الزواوي حين يقول: ((كان العنوان "الغريب" موحيا بالغياب في الحضور، بالغربة في الوطن، فتعريف لفظة "الغريب" بـ(ألْ) لم يخرج صاحبها من عالم "التنكير" واقعا، وإن أخرجه لغة! وكأني بالشاعر يريد إخبارنا أنّ لغة الخطاب النافذة في الصوت لدى "الغريب"قد لا تختلف عن "الصمت" لدى غيره!))

                  ومع أن العنوان وتوزيع الزمن في القصيدة يؤكد الغياب في الحضور (ربما الأفضل استحضار الغائب)، فإن الغريب يظل غريبا (أي يظل معرفة سواء كان ذلك بأداة التعريف أو بدونها)؛ ولذلك أيضا فإن عبارة "الغربة في الوطن" لا محل لها، بل الأفضل "الغربة في الذات" لأن هذا الغريب هو غريب غير غريب، هو غريب مألوف، هو المتكلم نفسه في القصيدة. وكان ابتداعة ضرورة لابد منها، لأن الذات لا تمتلك لغتها الذاتية لتخاطب نفسها، ولا يتسنى لها مثل هذه اللغة إلا من خلال الآخر (الغريب)، ولهذا فإن على المتكلم أن ينفصم عن ذاته ليستطيع مخاطبتها، والقصيدة هي تجسيد الوحدة بين الانا والآخر، دون البحث في البعد النفسي. فالقصيدة نفسها استنساخ لنفسها مثلما أن الغريب هنا استنساخ للمتكلم.

                  كان على عبارات مثل (الغياب في الحضور) أن تنبهنا إلى نفسها، ونبدأ معها، ونحفر عموديا دونما حاجة إلى البعد الأفقي (أي علينا أن لا نقع في حبائل البنيوية فنضطر إلى رسم المحاور). وإذا دققنا في مقطوعة الأفتتاح
                  الغَـرِيب
                  .
                  .
                  .
                  كُنتَ تَحملُ فى قلبِكَ الخِصبَ والبَحرَ
                  والنَّارَ والعَاصِفَهْ
                  كُنتَ تحشدُ فى جَعبةِ الحُلمِ غَيْمًا وسَيْفًا وفَأْسًا
                  وشَمْسًا تُضِيءُ الظَّلامْ
                  كُنتَ تُسْلِكُ خِصبَ الأمَانى بِمُهْرَةِ حُلمِكَ
                  تَرْتُقُ ثَوْبَ السَّلامْ
                  فانْتَبِهْ؛
                  سنجد أن القصيدة حلٌّ وتفسير لما انطوت عليه الافتتاحية بدءا من ماء البحر (اسطوريا مصدر الحياة) إلى (أرقد بسلام) لأن الغريب نفسه كان اصلا قد "رتق ثوب السلام"). هذا ما يدعو المتلكم "غريبه" إليه في توجيهه الآمر: "فانتبه"؛ فعلام إو إلى ما على الغريب أن "ينتبه"؟

                  عليه أن ينتبه إلى ما حل بالخصب والبحر والنار والعاصفة التي كل منها سيظهر في الحاضر أمام المخاطب والمتلكم وما آل إليه كل منها. انتبه إلى ما آل إليه حال الماء والخصب والنار والعاصفة (الهواء). نحن نعلم أن الماء والتراب والنار والهواء هي مكونات الكون ومصدر حياته (حسب الأساطير اليونانية القديمة)، ولذلك بعد ادماجها هنا في البدء معا، سيحضى كل عنصر منها بمقطوعته الخاصة التي سترسم لنا جدلية التناقض الخلاق (موحية بجدلية الأنا/الغريب)، التي ستنسجم في النهاية بالتآلف.

                  فالغريب لم يعد ذلك البعيد ولم يعد نكرة، بل هو الماثل أمام المتكلم ينبهه مباشرة إلى عناصر الوجود والحياة: فياأيهذا الغريب انتبه إلى ما كنت عليه واحفظ حقائق الحياة التي مرت بك/بي: هاهو الماء جاء نتيجة اختلال الفصول؛ ها هي الشمس تحرقنفسها لتبعث الدفء (ها هو الشاعر يغرب نفسه ليخاطبها ويبعث فيها الحياة)؛ الفأس تهوي على جذور الزرع لكنها أيضا صانعة الخصب؛ ويبقى السيف. أقول يبقى السيف كما في البدء مع العناصر الأخرى في "جعبة" وليس في غمده أو خارج الغمد مسلولا؛ وهو العنصر الوحيد الغريب على العناصر الحياتية، وهو الوحيد أيضا الذي يربط الحاضر بالماضي. إذا تذكرنا أن المقطوعة الأولى كانت في الماضي (كنت وكنت وكنت؛ ثم انتقلت فيما بعد لصيغة الأمر المباشر) فإن الصيغة تنتقل في باقي القصيدة إلى الحاضر إلا في حالة السيف، فأنه يجمع الحاضر بالماضي، وكأن الذاكرة عليها أن تتذكرمدى الاهتمام بالسيف "قد عشت ترعاه عاما فعام":
                  ها هو السَّيفُ فى جَعبةِ الحُلْمِ
                  - قَدْ عِشْتَ ترعاهُ عامًا فَعَامْ -
                  يَثــقُبُ القلبَ عِندَ احْتِدَامِ الخِصَامْ
                  ويبقى السيف في "جعبة الحلم" "يثقب القلب عند احتدام الخصام"، ولم يفارقها منذ البدء: "كُنتَ تحشدُ فى جَعبةِ الحُلمِ غَيْمًا وسَيْفًا وفَأْسًا/ وشَمْسًا تُضِيءُ الظَّلامْ"

                  وفي البدء كان السيف "محشودا" مع غيره، أما في النهاية فهو وحده: "هاهو السيف في جعبة الحلم... يثقب القلب"، لذلك عليك أن ترقد بسلام:
                  فاحْفُرِ الآنَ قبرَكَ
                  - ياأَيُهَذا الغَريبْ -
                  ثُمَّ نَمْ
                  هادئًا
                  (في سَلامْ)
                  على القارئ ان يبحث في مفردة "الحلم" لأنها— كما القصيدة وجدلية مفرداتها— على قدر عال من تفاعل المعاني: الرؤيا، سن البلوغ، الحكمة والنضج الفكري، لذلك كانت الجعبة المقر المناسب للسيف، الذي أرى أنه القلم. وقبر الغريب ليس غير القصيدة التي تغرب (بتشديد الراء) الذات وتخرجها من نفسها.

                  فالغريب هو الشاعر الذي اتخذ مرقده بسلام في القصيدة التي بقدر ما تغرّبه بقدر ما تصبح موطنه الأبدي لذلك كان على الغريب أن يحفر قبره بسيفه/قلمه ليحقق غربته ويحقق سلامه! ومع أن مثل هذه النهاية توحي بالصمت في مقابل الصوت، فإن المفارقة تكمن في تعالي الأصوات والأصداء على طول القصيدة في ما تتبناه من تنبيهات، وفي صدى الخاتمة التي قد نقرأ فيها "طوبى للغرباء"!

                  تحياتي للناقد الزواوي وللشاعر المجيد عوض
                  التعديل الأخير تم بواسطة الهويمل أبو فهد; الساعة 16-09-2011, 12:20.

                  تعليق

                  • مختار عوض
                    شاعر وقاص
                    • 12-05-2010
                    • 2175

                    #10
                    الراقية المبدعة الأستاذة
                    شيماء عبدالله

                    شكرٍا لحضورك الكريم وتقديرك الرائع للكلمة النقدية التي لولاها ما تقدمت نصوصنا نحو الأفضل..

                    تقديري ومودتي لشخصك.

                    تعليق

                    • مختار عوض
                      شاعر وقاص
                      • 12-05-2010
                      • 2175

                      #11
                      أخي الفاضل والناقد المبدع الجميل الأستاذ
                      الهويمل أبو فهد
                      تعجز الكلمات عن التعبير عما تستحق هذه القراءة من تقدير، وإنني لسعيد بأن تحظى قصيدتي المتواضعة بهذا الجهد الراقي الذي جاء من قِبَلِكُم مكملا لجهد أخي الأستاذ الفاضل رضا الزواوي..
                      فشكرًا كبيرة لكلٍ منكما أيها الرائعين مصحوبة باعتراف بأنني لم أحلم لقصيدتي بأكثر من هاتين القرائتين الماهرتين المخترقتين للنص اختراقًا معجزًا..
                      محبتي وتقديري.

                      تعليق

                      • الهويمل أبو فهد
                        مستشار أدبي
                        • 22-07-2011
                        • 1475

                        #12
                        العزيز مختار عوض

                        "الغريب" قصيدة تستحق الاهتمام، وقد نالت تقدير القراءة المعمقة التي قدمها الأستاذ الزواوي، وهو الذي يستحق الشكر لإشراكه القراء في جمالياتها. أما أنها قصيدة متواضعة -- كما تقول-- فهذا مالا أوافقك عليه، بل أراها قصيدة جمعت مقومات نجاحها جمعا قلما تأتى لمثلها بتيمتها وبنيتها وعمق ايحاءاتها

                        فإلى المزيد من الأبداع

                        تحياتي

                        تعليق

                        • مختار عوض
                          شاعر وقاص
                          • 12-05-2010
                          • 2175

                          #13
                          المشاركة الأصلية بواسطة الهويمل أبو فهد مشاهدة المشاركة
                          العزيز مختار عوض

                          "الغريب" قصيدة تستحق الاهتمام، وقد نالت تقدير القراءة المعمقة التي قدمها الأستاذ الزواوي، وهو الذي يستحق الشكر لإشراكه القراء في جمالياتها. أما أنها قصيدة متواضعة -- كما تقول-- فهذا مالا أوافقك عليه، بل أراها قصيدة جمعت مقومات نجاحها جمعا قلما تأتى لمثلها بتيمتها وبنيتها وعمق ايحاءاتها

                          فإلى المزيد من الأبداع

                          تحياتي

                          كل التقدير والمحبة لك أيها الطيب الكريم على حسن ظنك بخربشات أخيك، وأعود فأكرِّر تقديم شكري وامتناني لما بذلتم من جهد طيب مثمر من خلال قراءتكم الرائعة لقصيدتي.
                          محبتي حتى ترضى.

                          تعليق

                          • رضا الزواوي
                            نائب رئيس ملتقى النقد الأدبي
                            • 25-10-2009
                            • 575

                            #14
                            المشاركة الأصلية بواسطة مختار عوض مشاهدة المشاركة
                            أخي الكريم الناقد المبدع الأستاذ
                            رضا الزواوي

                            بكل الصدق..
                            لا أجد من الكلمات ما أعبر به عن فرحي بهذه الرؤية النقدية البارعة..
                            ولأعترف أن هذه القراءة مثلت اختراقا ملهما للنص..
                            سلم الفكر والقلم..
                            تقديري ومودتي.
                            القصيد "المشبع" بالرؤى يفتح آفاقا أمام القارئ، و"يشرّع" نوافذ تسافر به نحو "ضفاف" الكلمة المحلقة!
                            هكذا كانت "لوحتك الرائعة"، لمن يعيها، ويدرك معانيها، أخي مختار.
                            [frame="15 98"]
                            لقد زادني حبّـا لنفسي أنني***بغيض إلى كل امرئ غير طائل
                            وأنّي شقيّ باللئــام ولا ترى***شـقيّـا بهـم إلا كـريم الشـمـائل!

                            [/frame]

                            تعليق

                            • مختار عوض
                              شاعر وقاص
                              • 12-05-2010
                              • 2175

                              #15
                              المشاركة الأصلية بواسطة رضا الزواوي مشاهدة المشاركة
                              القصيد "المشبع" بالرؤى يفتح آفاقا أمام القارئ، و"يشرّع" نوافذ تسافر به نحو "ضفاف" الكلمة المحلقة!



                              هكذا كانت "لوحتك الرائعة"، لمن يعيها، ويدرك معانيها، أخي مختار.

                              أكرر - من جديد - تقديم وافر الشكر وعظيم الامتنان على ما قدمت من قراءة راقية أخي المبدع الأسستاذ/ رضا الزواوي، وهي فرصة لتقديم الشكر مرة أخرى للرائع القدير الأستاذ/ الهويمل أبو فهد على ما قدم من رؤية تعانقت مع رؤياكم فأضاءتا النص.
                              تقديري ومودتي.

                              تعليق

                              يعمل...
                              X