أذكر أنني في تلك اللحظات أحسست بكرهي الشديد لها , تمنّيت لو أنها تمرض أو تموت أو أن معلّمتي توسعها ضربا , و تجعلها تقف في آخر الحجرة و وجهها إلى الحائط , لكنها اكتفت بفكّ تشابكنا فخلّصت شعري من قبضتها و خدّها من أظافري , و نهرت التلاميذ الذين وجدوا في شجارنا على من يفوز بالجلوس على المقعد الأوّل , فرصة للفرجة و الفوضى و الهرج .
عاد كلّ إلى مكانه و انتشر الهدوء , و بقينا طيلة اليوم , سلمى و أنا , ترمق إحدانا الأخرى بنظرات محمومة كأنّنا ألدّ الأعداء , لكن في صبيحة اليوم الموالي , وجدتها واقفة أمام مدخل المدرسة . ابتسمت لي . ابتسمت لها.. و تحدّثنا كأنّ شيئا لم يكن .
من يومها أصبحنا أروع صديقتين .
كانت سلمى في مثل سني .. جميلة القسمات , رقيقة الملامح , في وجهها مسحة من المرح الدائم , حتى أنه من الصعب أن تميّز ما يعتريها أحيانا من مشاعر غضب أو حزن .. و في عينيها براءة عجيبة تجعلك تشفق عليها من مداعبة الريح و تود لو تحميها من قبلة النسيم أو رشّة المطر .
تركنا مقاعد الإبتدائي و انتقلنا إلى المتوسطة ثم الثانوية ..كنا دائما معا , في الفصل و النادي و المكتبة . كانت أختي التي لم تلدها أمي و مرآة تعكس أفكاري و أحلامي ..قلّما اختلفنا حول فكرة أو موضوع . و كنا , كما هو شأن الصبايا في مثل سنّنا نوشوش بأحاديث الحب و الغرام و نترقّب الوقوع في شرك الهوى , و حين أحكي لسلمى عن فارس أحلامي و أوصافه الخيالية , كانت تضحك و تقول :
- أما أنا فلن أحب إذا كان حبيبي سيبعدني عنك ..أو ما رأيك ..تعالي نحب نفس الشخص ؟
و نغرق معا في ضحك عفويٍ بريء .
و... زارنا المبعوث الخفيّ الذي كنا نرهبه و نحلم به . مرّ أولا بقلب سلمى فأربك دقّاته , مسح بكفّه الرقيقة على وجنتيها فصبغتا بلون الورد , و ضرب بعصاه السحرية ضربا خفيفا على رأسها فامتلأ أحلاما وردية شفّافة جميلة . كان ذلك حين التحق بثانويتنا من مدينة بعيدة طالب يدعى محمود ..شابٌ شديد الوسامة , فارع القامة , أسمر البشرة , فاحم الشعر , لطيفا جدا و مؤدّبا ..لاحظت على سلمى ارتباكها و احمرار وجنتيها كلما أتى أحد على ذكر اسمه أو اجتمعنا به في ساحة الثانوية أو المكتبة ...
- سلمى ..صارحيني . هل تحبيبنه ؟
- من..من تقصدين ؟
- محمود الطالب الجديد في الثانوية . لن أتركك حتى تخبريني بكل شيء.
- لا أدري ..أشعر بإحساس غريب لم أحسه من قبل .أحب أن أراه و أحزن حين يبتعد..و كلما أنظر إليه يرتجف قلبي و تتلاحق أنفاسي و كأنّ..كأنّ .. كل جارحة مني تكاد تطير من الخفقان . قولي لي..هل هذا هو الحب ؟
- أعتقد هذا هو الحب ..لقد جرفك التيار عزيزتي .
- لا تسخري مني ..أرجوك .. دبّريني ماذا أفعل ..كيف أعرف شعوره نحوي ؟
- لا تفعلي شيئا ..دعينا نرى ما يكون منه أولا ..اصبري .
و لم تستطع سلمى أن تصبر.. كانت تتعذّب و لا يحس بعذابها سواي ..لم يكن يسعدها حديث سوى عنه ..و لا تنشرح نفسها إلا إذا رأته أو كلّمته .. و عشت معها أحاسيسها دفقةً بدفقة..شاركتها لوعتها..و شوقها ... قاسمتها قشعريرة الحب , وزفرة الوله , و أحلام اليقظة . كل آهة تبدأ في صدرها تنتهي في صدري و كل حلم يراود خيالها يمرح في خيالي ..صرت أردّد اسم حبيبها لأنها تحب اسمه , أختلق الأسباب لكي أكلمه لأن ذلك يسعدها , أسعى إلى لقائه لأن ذلك يبعث الحياة في عينيها و ... ابتسامتها .
و أفقت يوما على الحقيقة ..
أنا أحب محمود و أندفع نحوه بكل وجداني ..
انتفضت , صرخت ..لا..غير معقول .. لا يمكن !.. تصوّرت الحب واقفا يشير بيده و يقهقه..انظروا كيف ألعب بقلوب الصبايا ..فلتعترفوا بقدرتي و جبروتي . ثرت على نفسي .. لا يمكن أن تكوني بهذه الخسّة . لقد وقعت سلمى في حبّه قبلك . إنه ملك لها . كيف تسرقين فرحتها و بريق عينيها ؟
حاولت مقاومة مشاعري ..و خنق أحاسيسي فلم أفلح و احترت هل أرثي لنفسي أم لصديقتي و أنا أراها تذبل , يوما عن يوم , يشحب لونها و يقل مرحها و تستقر الدموع في عينيها ..
لم أعد أدري هل أبكي عليّ أم عليها ..
لم أعد أدري هل أبكي عليّ أم عليها ..
و قرّرت أن أفعل شيئا. مهما كلّفني الأمر .
صمّمت .." غدا سوف ألتقي بمحمود .." .
صمّمت .." غدا سوف ألتقي بمحمود .." .
و قضيت ليلة رهيبة.. تقلّبت فيها على جمر الحيرة و التردّد..أصوات تعصف برأسي ..أفكار تتقاذفني ..غبية ..مالذي ستفعلين ؟ ..كيف تضحّين بحبك ..نعم ..التقي به و لكن صارحيه بحبك أنت ..و سلمى سوف تفهم و تنسى.. لا..لا.. مستحيل ! هل ستغدرين برفيقة عمرك و حبيبة قلبك ؟ كيف تهدمين ما بنيتماه منذ الصغر ؟
واعدت محمود في قاعة المطالعة عند انتهاء الحصة ..و التقينا .. تحدّثنا طويلا .. و بذكاء جسست نبض قلبه .. و اختبرت مشاعره فأخبرني بأنّ قلبه خالٍ و مازال ينتظر فتاة أحلامه و أنه معجب بنا صديقتي و أنا و يحترمنا..جدا .. و أنّ صداقتنا مضرب الأمثال ..
كنت أستمع إليه و قلبي يرقص فرحا و إعجابا و حبّا , و كادت عزيمتي أن تنهار و قوّتي أن تتفتّت أمام نظرة عينية و سحر كلامه و عذوبة صوته..
كنت أستمع إليه و قلبي يرقص فرحا و إعجابا و حبّا , و كادت عزيمتي أن تنهار و قوّتي أن تتفتّت أمام نظرة عينية و سحر كلامه و عذوبة صوته..
و .. لكني طعنت قلبي بيدي و أنا أبتسم , و أخبرته بكل شيء ..
تعليق