إضاءة : ” كم هو مليء بالعزلة هذا الذهب ”
* خورخي لويس بورخيس
***************
الساعة مساءً، تدور.. رأسي،هي الأخرى تدور.ربما أحتاج إلى قهوة سوداء ..بالتأكيد أحتاج إلى ذلك..لكن قبل كل هذا علي أن أطل على صندوق الأحلام و البريد،تقاذفت خطاي مسرعة نحو واجهة “بريد المغرب”…رسالة واحدة في الصندوق…إسم المرسل أكاد أجهله تماما…من أين لي أن أتشرف بمراسلة الهيئات…؟؟؟
(السيد الفاضل المحترم.
تحية إبداعية مشرقة..
يسعدنا أن نخبركم،أنه وقع عليكم الاختيار لعضوية لجنة الاقرار لجائزة ياقوت للابداع، وعليه ننتظر تصوراتكم إزاء آليات الجنس الكتابي. وتقويمكم لأنساق السرد،ويهمنا إقراركم الأخير،بحرفك العربي الداهش،وحتى يتسنى لكم ذلك بيسر أعددنا لكم ورقة تقنية تخص الرد المضبوط.
وفي انتظار الرد السريع العاجل،تقبلوا سيادتكم فائق الاحترام والتقدير.
توقيع رئيس جائزة ياقوت للابداع.)
…
أين الورقة التقنية..؟ هاهي الورقة التقنية ..في الأعلى، يستوي شعار الهيئة..ثم ملاحظات نمطية إزاء النص الأدبي.. وفراغات قصد الإقرار..الإقرار…ثم الإقرار..الغقرار بماذا… بماذا..أي إقرار هذا..؟؟؟
لا بد من قهوة سوداء..مقهى الجزيرة..ألطف بي في مثل هذه الأحوال….:
ـ الله يهديك أمولاي ..شي قهوة كحلة… وشي كاس ما …
الورقة التقنية.. غاصت عيناي في تفاصيل المرقون..
** عنوان النص: “الزعيم”
** اسم المؤلف : ( محمي لتحقيق نزاهة الإقرار )
** إقراركم ( بعد قراءة النص أسفله)/………
شكرت النادل الوسيم ، يبدو أنه مجاز في…الفرنسية…يتكلمها بطلاقة… مذاق القهوة منعش، مشجع على القراءة… والإقرار أيضا…النص…أين النص..؟؟ أين “الزعيم”؟؟؟
ها..هاهو النص؛”الزعيم”..
{{{ يا إلهي إنها لحظة انزلاق ..لا.. لا.. إنه اقتضاء المبدأ.. إنها الجرأة… إنه الايمان .. صدق الثاني.. ثارالثالث منزلقا..قاطعه الرابع معدلا ومستدركا:
ـ كلنا آمنا..مشينا في طريق مقمر..وبحكم رسالة المبدأ نحن هنا…ربما كان قدرنا أن نلتقي في صهد الجمر..كلنا مشينا في طريق مقمر، وكان الفضاء زنزانـة بلا رسم…بلا إسم…و بلا وصف حتى…وكنا شخوصا أربعة وخامسنا لغة شعر وتذكار..كم تذركنا في صمت وسكون حديقة كلية الآداب والعلوم الانسانية…تلك الشجيرات التي توردت بالألوان..نقاشاتنا الحادة حول مقاطعة مشروب “كوكاكولا”،وشفرة”جيليت2 ” للحلاقة…حومنا الفكري صبحا ومساء…سجون غرامنا وأحلام الفيض والمراهقة الطلابية..أتذكرون كم كنا نمكر حلما..بعضنا حلم كثيرا…مثلا…مثلا؛ أنت وأنا..نحن معا،كنا على وشك الافلاس الرهيب.. نحلم بالتبرع ، بعد الإجازة والعمل طبعا، بحوالة شهرية مستوفاة الأجر والعد لصالح معتقلي الرأي ..في الأرض المعمور…! رضوان،أنت كنت تسافر دوما في حلمك الرهيف إلى كندا… آه ..آه..كم كان حلمك رهيفا.. كنت تسافربعيدا عن الشجيرات التي توردت ألوانا…أما أنت “ألزعيم” فما نجا محفل قط من شراهة أحلامك، من بطش خيالك..كنت مبدع أحلام..ابن سيرين أنت…
تعمد استفزاز “الزعيم” عساه… لم يكن “الزعيم” يأبه لحروب اللفظ العصبية.. حالم هو..حالم ما بين منعرجات الحديث وشحوب الصمت.يتأمل الجدار تلو الجدار، يتيه في مسارب التأمل.. في قلق من فلق..يتيه أكثر في صـدى الجدران الجربانة…يغرق في صمته اكثر..يستنطق الجدران،يهيج بالوصف الرهيف خربشات العمرالفاني من غيرحسبان..كان بعضها أشبه برسوم خيول صاهلة وخرائط أوطان مجهولة..آه، كم كان يدهشني صمت”الزعيم”، نظراته الذابلة،إيمانه العتيق..حاولنا كثيرا تشويقه إلى نقاشاتنا، بإخلاصنا للذاكرة.لكنه كان مصراً ،دوما، على الإخلاص للذات..مرة سألته عن جدوى الصمت فرد علي بسؤال ماكر،داهش..:
- وما جدوى الكلام.. ما جدوى الكلام ونحن في بطن الظلام..؟
رد في قمة السخرية والاقناع..منحته سيجارة رديئة.. سيجارة في مستوى ثورتنا المنهجية في الحياة.
رفضها حفاظا على ما تبقى من نسبة الأكسجين المسموح بها داخل فضاء الزنزانة ..مرة أخرى كان رده ساخرا مقنعا…نبهني أنيس إلى اختيار تجاوز الموقف حرصا على راح “الزعيم” الذي يبدو مرهقا وحزينا..تكلمنا‘تحاورنا..و”الزعيم”صامت واجم..يتأمل الجدران ويقرأ نوايا الأشباح والرموز..يرسل نظراته الشاحبة صوب وجوهنا الملتحية…
عذب هذا الحوارالثنائي الشاهق بين أنيس و رضوان .. عذب جارح رعش الضفة الأخرى.الاستنساخ البشري…
أنيس يرى في الأمر فائدة للتاريخ والبشرية… على الأقل بالنسبة للبشر في مثل أوضاعنا..استحسن الفكرة ، ناصرها بحنكة مفاوض أوطمي*:
- أنا مع فكرة استنساخ البشر…تصوروا معي أنـنا من نمط النسخة .. ولسنا اصلا في ذواتنا كما نعتقد.. لسنا أصلا… تصوروا معي .. أن شبيهي رقم واحد يحضر الأن اجتماعا حزبيا لتداول إقالة مسؤول حزبي كبير، وسام استحقاق سياسي من صنف “خمس نجوم”…تصوروا معي شبيهي الثاني يتسكع في سوق أسبوعي،يختال في خطوه مزهوا بحذائه الأسود الجديد..شبيهي الثالث يجري لاهثا وراء ضوء الحب الهارب..وشبيهي….وشبيهي…
قاطعه رضوان منفعلا كعادته، محتجا بالطرح المضاد:
ـ قل ، ماذا سيكون شأن زوجتك ، لو تشابهت عليها البقر..تناسلت في عينيها الأشباه والأشباح؟؟…
لو دق شبيهك رقم واحد،أو الرقم ألألف..بابها ليلا أو نهارا..ماذا لو استوى المسمار في ملمس الخشب .. لو..قل ألن يكون الأمر جد مفيد لرفاقي ورفاقك في الحزب..؟
الأعين توقدت والتهبت، الطرح المضاد كالصاروخ اللامضاد جرح دواخل أنيس،فاهناج رادا:
- الاستنساخ أرحم بنا من خيانة الأخر..أكيد أنـها هناك في مقهى من الشكل الذي على بالك..الآن كانت تجالس عشيقها..عشيقها الحاج أبرشان / أبرشان،لفظ بالأمازيغية يفيد الأسود/. كان يركبها إلى جنبه في السيارة التي على بالكم..يختار لها مجلسا حارا بمقهى “بــالــيــمـــا”..وفي المساء، ستخط لي رسالة كاذبة على الشمعة الواهمة…وتراني أنا البليد العنيد..أثق جنبكم بالمبدأ وأحلم بالموعد..تراني وتراني…تراني استحق اللعنة…اللــــــــــعـــنـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــة…
سكت مرة واحدة، إذ هل الزعيم واقفا،إعجابا باللسان والمعنى، تريث قليلا في صمت قاهر..انضم إلى حضرة النقاش..بالإلزام سيخلص الزعيم للنقاش الفكري الجاد. دفع بالسؤال الساخرإلى حيز الوجود:
ـ وماذا لو طلب منا “المخزن”استنساخ شبيه لمشهدنا هذا في جملته وتفصيله..؟؟ ماذا لو حول هذا المشهد الساخن،العافن تمثالا في مدينة…ماذا لو خيرنا بهذا الشكل..؟؟ ماذا لو حررنا.؟؟؛ للفرد الواحد منا كامل الحق في نحت تمثال يسمي للزعامة بالمدينة،..للفرد الواحد منا حق تسخير قوى الفكر والفن والهوى، من غير قيد أو منشار…ماذا عسى أن ينحت الفرد الواحد منا…وبأي مستقر سيستقر. ولأي ريح سيميل…؟؟؟ الأفيد لي و لكم ،في مجلسنا هذا..في زمننا هذا،أن نروض الذهن على أنساق المخيال .. ماذا لو دخل المخزن، نادى علينا باسمائنا..وصاح في فضاء الغيم:”آتوني إذن بتماثيلكم..تماثيلكم أشباهكم..أتوني بها في الظرف المعلوم،إن كنتم بالفكر والرأي تؤمنون.ورددوا معي المخزن للصلاح والصالحين..قولوا؛ آمين…”
أنهى” الزعيم” سؤاله العسير..راح يرسل صوبنا نظرات محتشمة، بريئة…وغاص في صمته المكين.
ساد الصمت القاطب فضاءنا، كأننا طلاب علم في حصة اختبار..احتلت الحيرة مساحات من تفكيرنا الجريح ..آه،، آه.. كم كان سؤال “الزعيم” قاسيا علينا، ساخرا منا وجوديا..أنيس نعت السؤال ب
( لعبة الزنزانة)… رضوان مال إلى مقامات التأمل والتأويل..كلنا نعاني في ضيق المكان من قيض السؤال وداء السعال..
أنيس لا زال ينتصر لنعت(لعبة الزنزانة)..سافر في المخيال بعيدا،،ثم هتف مهلهلا:
ـ وجدتها…وجدتها…وجدتها… لنلعب يارفاق، لنلعب (لعبة الزنزانة) فنحن مازلنا أطفالا..لنلعب في رحاب المخيال…
تجرأ أنيس..آمن رضوان..تجرأ.. عشق الكلام :
- لو قدر وتحقق النعت والمنعوت..لحولتكم جميعـا، أفرادا وثلاثا، إلى مجاذيب تتلألأ بدواخلهم جذبة صوفية مكتومة..مجاذيب أخلصوا للصامت فيهم فضاع منهم ما تبقى من كلام…
سكت..أرخى رأسه بين راحتيه..كأنه المعنى..المغنى..تجرأ أنيس ثانية وكسر مقام الحكي بمقطع آهات حزينة…واسترسل في اللعب:
- أما أنا..لو تحقق المعنى كما تزعمون، فسأبدع لمشهدنا هذا، مخلصا لأحزانه وأحلامه، تمثالا من الصنافة التي..تمثال امرأة جميلة، قادة وهادة، اكتوى ساقها الأيمن وهي تشوي لحم خنزير على مشواة كهربائية…هذا تمثالي يارفاق..وإذا حدث الذي أنتم تبتغونه فلينصب شامخا أمام مقهى”باليما”.
من الضفة الأخرى، جاءنا صوت “الزعيم” هادئا مبحوحا:
- انني..وبعد الذي سمعته، سأعمل على تحويل سقف هذه الزنزانة إلى ثريات مذهبة ترسل أضواء خافتة ،أحيانا تبرق وأحيانا كثيرة تنطفئ…أنتم وأسراركم عندي ذهب..وربكم الأعلى، أنتم ذهب…
بح الكلام وساد الصمت عمراً قصيراً،ثم استرسل وهو يقهقه…يقهقه..وكأنه يتعمد إخرجنا من غيض الصمت وفيض السؤال
- أما أنتم..أنتم ييا….. فسأترككم على حالكم البئيس ..وإذا كان لابد من زيادة ما ، فسأقيدكم بأغلال ذهبية ..أو أسوقكم عراة إلى سوق النخاسة ..
قهقهنا جميعا عدا “الزعيم” فقد درج على الصمت كعادته ..انتبهنا إليه فانتفضت دهشتنا بالحكي اعتلت نظراتنا حمولـة مثقلة بالأحزان ..صمتنا في انتظار أن يتأهب “الزعيم” للعبة .. شيء ما أرق “الزعيم”…الكلمات تطاوعه‘ يخطب من جديد:
- أما وقد أنهيتم اجتهادم أيها الرفاق. فلي أن أخبركم أنه لو قدر ما إتفقنا عليه لصنعت لمشهدنا هذا تمثال سلحفاة ذهبية،ترفض أن تطل برأسها على قبح العالم..وبعد ذلك، لكم ما تشتهون..لكم؛ ولكم
ما استقرت عليه أفواهكم…صمتنا والردى فينا… صمتنا والردى فينا..
أسند”الزعيم” رأسه بين راحتيه وأشعر متقطعا:
صمتنا والردى فينا…
صمتنا والردى فينا…
وعلى الرصيف ضاعت أمانينا،
ساءت مستقرا وسبيلا…
صفقنا وهلهلنا إعجابا كعادتنا..كانت كلماته حبلى بالمعاني. انحاز كل واحد منا إلى زاويته التي تعشقه لغير ما زمان…آه ، آه ..إلى كم يحتاج هذا العالم من العمر ليستقيم على حال أصله..دخنا فيما مضى من العمر..في الطريق المنحدر..في الدرب المظلم.. في الشارع الذي يفضي إلى مقرات عملنا ـ إن هي وجدت ـ…كلنا كنا نسبح في عالم ملتهب بالذكرى و الأسى..لكن كل واحـد منا في واده المنفرد..تتناسل في رؤوسنا الاحزان..تلو الأحزان.. تتكاثر في خيام المخيال…
حينها كان “الزعيم” غارقا في بكاء ساخن ..أعضاؤه ترتعش..أسنانه تصطك..ربما تربصت به - كعادتها - نوبة الصرع..أسند رأسه إلى الجدار..الجدار..فمه أزبد..عيناه يعلوهما البياض..وربما كان الموت أقرب…تهاوى “الزعيم” أمامنا كورقة التوت…تهافتنا حزناً وأسى…تقاذفت نحوه أجسادنا طائعة..تجمعنا حوله..وضعت أذني على صدره،ناحية القلب :
ـ انقطع النبض .. ربما مات.. مات أيها الرفاق ..!
- كلا…كلا…لم يمت، ولن…، هي نوبة صرع فقط …لم يمت .. ولن…!
- آه ،انظروا..قطر دم دافق،يتدفق من أنفه…!
- “الزعيم” مات..مات..مات.. يقينا مات أيها الرفاق ..يا عدو الهواء..أيها الحارس الملعون.. افتح..افتح.. هنا جثة “الزعيم”…!
رددنا للتو جموعا:
ـ هنا جثة “الزعيم”…هنا جثة “الزعيم”…رددنا اللازمة عشراً…
(شرشرت) عيوننا..انهارت أعصابنا..انتحبت حناجرنا.. ولا من يسمع ..! ولا من يرد..نحن في غابة من غيم، زماناً..مكاناً جنب جثة “الزعيم”…، نحن إذن، مواطنون في عمر الغيم…
صاح صغيرنا:
ـ يارفاق…رجاء،اسمعوني…لقد وجدتها…في معصم الحزن وجدتها…وجدتها…وجدتها…لنحتفظ بجثة “الزعيم”…لنجعل منه رمزنا الحكيم في زمن الغيم…
صادق الجميع على الخلف، صغيرنا زعيمنا..والحق أشرف…هتفنا عاليا ، وكأننا لم نبكي، من قبل… هتفنا ثلاثا وجثة “الزعيم” رابعة في مقام الغيم..:
صمتنا والردى فينا…
صمتنا والردى فينا…
كلنا زعماء..
كلنا زعماء..،
وهذا “الزعيم” بيننا أرعى و أشهد…
كلنا زعماء..،
زعماء، بلا كفر
بلا كبر
بلا غدر،
بلا عذر، وربك أعلى وأشهد…}}}
هكذا نطق النص..بهذا أوصت الرسالة..وعلي أن أقرر..أن أقرر،لا..لا ، علي أن أعيد القراءة..فالأمر في منتهى الجدية اللازمة..من يكن هذا المؤلف؟؟؟ آه..الرئاسة تعمدت ذلك..(محمي للتحقيق نزاهة الإقرار)… ومع ذلك،علي أن أقرر…علي أن…أصبر حتى جنون الليل…وعلى الشمس التي عانقت غروبها الآن أن تطردني نحو بيت العائلة…
* خورخي لويس بورخيس
***************
الساعة مساءً، تدور.. رأسي،هي الأخرى تدور.ربما أحتاج إلى قهوة سوداء ..بالتأكيد أحتاج إلى ذلك..لكن قبل كل هذا علي أن أطل على صندوق الأحلام و البريد،تقاذفت خطاي مسرعة نحو واجهة “بريد المغرب”…رسالة واحدة في الصندوق…إسم المرسل أكاد أجهله تماما…من أين لي أن أتشرف بمراسلة الهيئات…؟؟؟
(السيد الفاضل المحترم.
تحية إبداعية مشرقة..
يسعدنا أن نخبركم،أنه وقع عليكم الاختيار لعضوية لجنة الاقرار لجائزة ياقوت للابداع، وعليه ننتظر تصوراتكم إزاء آليات الجنس الكتابي. وتقويمكم لأنساق السرد،ويهمنا إقراركم الأخير،بحرفك العربي الداهش،وحتى يتسنى لكم ذلك بيسر أعددنا لكم ورقة تقنية تخص الرد المضبوط.
وفي انتظار الرد السريع العاجل،تقبلوا سيادتكم فائق الاحترام والتقدير.
توقيع رئيس جائزة ياقوت للابداع.)
…
أين الورقة التقنية..؟ هاهي الورقة التقنية ..في الأعلى، يستوي شعار الهيئة..ثم ملاحظات نمطية إزاء النص الأدبي.. وفراغات قصد الإقرار..الإقرار…ثم الإقرار..الغقرار بماذا… بماذا..أي إقرار هذا..؟؟؟
لا بد من قهوة سوداء..مقهى الجزيرة..ألطف بي في مثل هذه الأحوال….:
ـ الله يهديك أمولاي ..شي قهوة كحلة… وشي كاس ما …
الورقة التقنية.. غاصت عيناي في تفاصيل المرقون..
** عنوان النص: “الزعيم”
** اسم المؤلف : ( محمي لتحقيق نزاهة الإقرار )
** إقراركم ( بعد قراءة النص أسفله)/………
شكرت النادل الوسيم ، يبدو أنه مجاز في…الفرنسية…يتكلمها بطلاقة… مذاق القهوة منعش، مشجع على القراءة… والإقرار أيضا…النص…أين النص..؟؟ أين “الزعيم”؟؟؟
ها..هاهو النص؛”الزعيم”..
{{{ يا إلهي إنها لحظة انزلاق ..لا.. لا.. إنه اقتضاء المبدأ.. إنها الجرأة… إنه الايمان .. صدق الثاني.. ثارالثالث منزلقا..قاطعه الرابع معدلا ومستدركا:
ـ كلنا آمنا..مشينا في طريق مقمر..وبحكم رسالة المبدأ نحن هنا…ربما كان قدرنا أن نلتقي في صهد الجمر..كلنا مشينا في طريق مقمر، وكان الفضاء زنزانـة بلا رسم…بلا إسم…و بلا وصف حتى…وكنا شخوصا أربعة وخامسنا لغة شعر وتذكار..كم تذركنا في صمت وسكون حديقة كلية الآداب والعلوم الانسانية…تلك الشجيرات التي توردت بالألوان..نقاشاتنا الحادة حول مقاطعة مشروب “كوكاكولا”،وشفرة”جيليت2 ” للحلاقة…حومنا الفكري صبحا ومساء…سجون غرامنا وأحلام الفيض والمراهقة الطلابية..أتذكرون كم كنا نمكر حلما..بعضنا حلم كثيرا…مثلا…مثلا؛ أنت وأنا..نحن معا،كنا على وشك الافلاس الرهيب.. نحلم بالتبرع ، بعد الإجازة والعمل طبعا، بحوالة شهرية مستوفاة الأجر والعد لصالح معتقلي الرأي ..في الأرض المعمور…! رضوان،أنت كنت تسافر دوما في حلمك الرهيف إلى كندا… آه ..آه..كم كان حلمك رهيفا.. كنت تسافربعيدا عن الشجيرات التي توردت ألوانا…أما أنت “ألزعيم” فما نجا محفل قط من شراهة أحلامك، من بطش خيالك..كنت مبدع أحلام..ابن سيرين أنت…
تعمد استفزاز “الزعيم” عساه… لم يكن “الزعيم” يأبه لحروب اللفظ العصبية.. حالم هو..حالم ما بين منعرجات الحديث وشحوب الصمت.يتأمل الجدار تلو الجدار، يتيه في مسارب التأمل.. في قلق من فلق..يتيه أكثر في صـدى الجدران الجربانة…يغرق في صمته اكثر..يستنطق الجدران،يهيج بالوصف الرهيف خربشات العمرالفاني من غيرحسبان..كان بعضها أشبه برسوم خيول صاهلة وخرائط أوطان مجهولة..آه، كم كان يدهشني صمت”الزعيم”، نظراته الذابلة،إيمانه العتيق..حاولنا كثيرا تشويقه إلى نقاشاتنا، بإخلاصنا للذاكرة.لكنه كان مصراً ،دوما، على الإخلاص للذات..مرة سألته عن جدوى الصمت فرد علي بسؤال ماكر،داهش..:
- وما جدوى الكلام.. ما جدوى الكلام ونحن في بطن الظلام..؟
رد في قمة السخرية والاقناع..منحته سيجارة رديئة.. سيجارة في مستوى ثورتنا المنهجية في الحياة.
رفضها حفاظا على ما تبقى من نسبة الأكسجين المسموح بها داخل فضاء الزنزانة ..مرة أخرى كان رده ساخرا مقنعا…نبهني أنيس إلى اختيار تجاوز الموقف حرصا على راح “الزعيم” الذي يبدو مرهقا وحزينا..تكلمنا‘تحاورنا..و”الزعيم”صامت واجم..يتأمل الجدران ويقرأ نوايا الأشباح والرموز..يرسل نظراته الشاحبة صوب وجوهنا الملتحية…
عذب هذا الحوارالثنائي الشاهق بين أنيس و رضوان .. عذب جارح رعش الضفة الأخرى.الاستنساخ البشري…
أنيس يرى في الأمر فائدة للتاريخ والبشرية… على الأقل بالنسبة للبشر في مثل أوضاعنا..استحسن الفكرة ، ناصرها بحنكة مفاوض أوطمي*:
- أنا مع فكرة استنساخ البشر…تصوروا معي أنـنا من نمط النسخة .. ولسنا اصلا في ذواتنا كما نعتقد.. لسنا أصلا… تصوروا معي .. أن شبيهي رقم واحد يحضر الأن اجتماعا حزبيا لتداول إقالة مسؤول حزبي كبير، وسام استحقاق سياسي من صنف “خمس نجوم”…تصوروا معي شبيهي الثاني يتسكع في سوق أسبوعي،يختال في خطوه مزهوا بحذائه الأسود الجديد..شبيهي الثالث يجري لاهثا وراء ضوء الحب الهارب..وشبيهي….وشبيهي…
قاطعه رضوان منفعلا كعادته، محتجا بالطرح المضاد:
ـ قل ، ماذا سيكون شأن زوجتك ، لو تشابهت عليها البقر..تناسلت في عينيها الأشباه والأشباح؟؟…
لو دق شبيهك رقم واحد،أو الرقم ألألف..بابها ليلا أو نهارا..ماذا لو استوى المسمار في ملمس الخشب .. لو..قل ألن يكون الأمر جد مفيد لرفاقي ورفاقك في الحزب..؟
الأعين توقدت والتهبت، الطرح المضاد كالصاروخ اللامضاد جرح دواخل أنيس،فاهناج رادا:
- الاستنساخ أرحم بنا من خيانة الأخر..أكيد أنـها هناك في مقهى من الشكل الذي على بالك..الآن كانت تجالس عشيقها..عشيقها الحاج أبرشان / أبرشان،لفظ بالأمازيغية يفيد الأسود/. كان يركبها إلى جنبه في السيارة التي على بالكم..يختار لها مجلسا حارا بمقهى “بــالــيــمـــا”..وفي المساء، ستخط لي رسالة كاذبة على الشمعة الواهمة…وتراني أنا البليد العنيد..أثق جنبكم بالمبدأ وأحلم بالموعد..تراني وتراني…تراني استحق اللعنة…اللــــــــــعـــنـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــة…
سكت مرة واحدة، إذ هل الزعيم واقفا،إعجابا باللسان والمعنى، تريث قليلا في صمت قاهر..انضم إلى حضرة النقاش..بالإلزام سيخلص الزعيم للنقاش الفكري الجاد. دفع بالسؤال الساخرإلى حيز الوجود:
ـ وماذا لو طلب منا “المخزن”استنساخ شبيه لمشهدنا هذا في جملته وتفصيله..؟؟ ماذا لو حول هذا المشهد الساخن،العافن تمثالا في مدينة…ماذا لو خيرنا بهذا الشكل..؟؟ ماذا لو حررنا.؟؟؛ للفرد الواحد منا كامل الحق في نحت تمثال يسمي للزعامة بالمدينة،..للفرد الواحد منا حق تسخير قوى الفكر والفن والهوى، من غير قيد أو منشار…ماذا عسى أن ينحت الفرد الواحد منا…وبأي مستقر سيستقر. ولأي ريح سيميل…؟؟؟ الأفيد لي و لكم ،في مجلسنا هذا..في زمننا هذا،أن نروض الذهن على أنساق المخيال .. ماذا لو دخل المخزن، نادى علينا باسمائنا..وصاح في فضاء الغيم:”آتوني إذن بتماثيلكم..تماثيلكم أشباهكم..أتوني بها في الظرف المعلوم،إن كنتم بالفكر والرأي تؤمنون.ورددوا معي المخزن للصلاح والصالحين..قولوا؛ آمين…”
أنهى” الزعيم” سؤاله العسير..راح يرسل صوبنا نظرات محتشمة، بريئة…وغاص في صمته المكين.
ساد الصمت القاطب فضاءنا، كأننا طلاب علم في حصة اختبار..احتلت الحيرة مساحات من تفكيرنا الجريح ..آه،، آه.. كم كان سؤال “الزعيم” قاسيا علينا، ساخرا منا وجوديا..أنيس نعت السؤال ب
( لعبة الزنزانة)… رضوان مال إلى مقامات التأمل والتأويل..كلنا نعاني في ضيق المكان من قيض السؤال وداء السعال..
أنيس لا زال ينتصر لنعت(لعبة الزنزانة)..سافر في المخيال بعيدا،،ثم هتف مهلهلا:
ـ وجدتها…وجدتها…وجدتها… لنلعب يارفاق، لنلعب (لعبة الزنزانة) فنحن مازلنا أطفالا..لنلعب في رحاب المخيال…
تجرأ أنيس..آمن رضوان..تجرأ.. عشق الكلام :
- لو قدر وتحقق النعت والمنعوت..لحولتكم جميعـا، أفرادا وثلاثا، إلى مجاذيب تتلألأ بدواخلهم جذبة صوفية مكتومة..مجاذيب أخلصوا للصامت فيهم فضاع منهم ما تبقى من كلام…
سكت..أرخى رأسه بين راحتيه..كأنه المعنى..المغنى..تجرأ أنيس ثانية وكسر مقام الحكي بمقطع آهات حزينة…واسترسل في اللعب:
- أما أنا..لو تحقق المعنى كما تزعمون، فسأبدع لمشهدنا هذا، مخلصا لأحزانه وأحلامه، تمثالا من الصنافة التي..تمثال امرأة جميلة، قادة وهادة، اكتوى ساقها الأيمن وهي تشوي لحم خنزير على مشواة كهربائية…هذا تمثالي يارفاق..وإذا حدث الذي أنتم تبتغونه فلينصب شامخا أمام مقهى”باليما”.
من الضفة الأخرى، جاءنا صوت “الزعيم” هادئا مبحوحا:
- انني..وبعد الذي سمعته، سأعمل على تحويل سقف هذه الزنزانة إلى ثريات مذهبة ترسل أضواء خافتة ،أحيانا تبرق وأحيانا كثيرة تنطفئ…أنتم وأسراركم عندي ذهب..وربكم الأعلى، أنتم ذهب…
بح الكلام وساد الصمت عمراً قصيراً،ثم استرسل وهو يقهقه…يقهقه..وكأنه يتعمد إخرجنا من غيض الصمت وفيض السؤال
- أما أنتم..أنتم ييا….. فسأترككم على حالكم البئيس ..وإذا كان لابد من زيادة ما ، فسأقيدكم بأغلال ذهبية ..أو أسوقكم عراة إلى سوق النخاسة ..
قهقهنا جميعا عدا “الزعيم” فقد درج على الصمت كعادته ..انتبهنا إليه فانتفضت دهشتنا بالحكي اعتلت نظراتنا حمولـة مثقلة بالأحزان ..صمتنا في انتظار أن يتأهب “الزعيم” للعبة .. شيء ما أرق “الزعيم”…الكلمات تطاوعه‘ يخطب من جديد:
- أما وقد أنهيتم اجتهادم أيها الرفاق. فلي أن أخبركم أنه لو قدر ما إتفقنا عليه لصنعت لمشهدنا هذا تمثال سلحفاة ذهبية،ترفض أن تطل برأسها على قبح العالم..وبعد ذلك، لكم ما تشتهون..لكم؛ ولكم
ما استقرت عليه أفواهكم…صمتنا والردى فينا… صمتنا والردى فينا..
أسند”الزعيم” رأسه بين راحتيه وأشعر متقطعا:
صمتنا والردى فينا…
صمتنا والردى فينا…
وعلى الرصيف ضاعت أمانينا،
ساءت مستقرا وسبيلا…
صفقنا وهلهلنا إعجابا كعادتنا..كانت كلماته حبلى بالمعاني. انحاز كل واحد منا إلى زاويته التي تعشقه لغير ما زمان…آه ، آه ..إلى كم يحتاج هذا العالم من العمر ليستقيم على حال أصله..دخنا فيما مضى من العمر..في الطريق المنحدر..في الدرب المظلم.. في الشارع الذي يفضي إلى مقرات عملنا ـ إن هي وجدت ـ…كلنا كنا نسبح في عالم ملتهب بالذكرى و الأسى..لكن كل واحـد منا في واده المنفرد..تتناسل في رؤوسنا الاحزان..تلو الأحزان.. تتكاثر في خيام المخيال…
حينها كان “الزعيم” غارقا في بكاء ساخن ..أعضاؤه ترتعش..أسنانه تصطك..ربما تربصت به - كعادتها - نوبة الصرع..أسند رأسه إلى الجدار..الجدار..فمه أزبد..عيناه يعلوهما البياض..وربما كان الموت أقرب…تهاوى “الزعيم” أمامنا كورقة التوت…تهافتنا حزناً وأسى…تقاذفت نحوه أجسادنا طائعة..تجمعنا حوله..وضعت أذني على صدره،ناحية القلب :
ـ انقطع النبض .. ربما مات.. مات أيها الرفاق ..!
- كلا…كلا…لم يمت، ولن…، هي نوبة صرع فقط …لم يمت .. ولن…!
- آه ،انظروا..قطر دم دافق،يتدفق من أنفه…!
- “الزعيم” مات..مات..مات.. يقينا مات أيها الرفاق ..يا عدو الهواء..أيها الحارس الملعون.. افتح..افتح.. هنا جثة “الزعيم”…!
رددنا للتو جموعا:
ـ هنا جثة “الزعيم”…هنا جثة “الزعيم”…رددنا اللازمة عشراً…
(شرشرت) عيوننا..انهارت أعصابنا..انتحبت حناجرنا.. ولا من يسمع ..! ولا من يرد..نحن في غابة من غيم، زماناً..مكاناً جنب جثة “الزعيم”…، نحن إذن، مواطنون في عمر الغيم…
صاح صغيرنا:
ـ يارفاق…رجاء،اسمعوني…لقد وجدتها…في معصم الحزن وجدتها…وجدتها…وجدتها…لنحتفظ بجثة “الزعيم”…لنجعل منه رمزنا الحكيم في زمن الغيم…
صادق الجميع على الخلف، صغيرنا زعيمنا..والحق أشرف…هتفنا عاليا ، وكأننا لم نبكي، من قبل… هتفنا ثلاثا وجثة “الزعيم” رابعة في مقام الغيم..:
صمتنا والردى فينا…
صمتنا والردى فينا…
كلنا زعماء..
كلنا زعماء..،
وهذا “الزعيم” بيننا أرعى و أشهد…
كلنا زعماء..،
زعماء، بلا كفر
بلا كبر
بلا غدر،
بلا عذر، وربك أعلى وأشهد…}}}
هكذا نطق النص..بهذا أوصت الرسالة..وعلي أن أقرر..أن أقرر،لا..لا ، علي أن أعيد القراءة..فالأمر في منتهى الجدية اللازمة..من يكن هذا المؤلف؟؟؟ آه..الرئاسة تعمدت ذلك..(محمي للتحقيق نزاهة الإقرار)… ومع ذلك،علي أن أقرر…علي أن…أصبر حتى جنون الليل…وعلى الشمس التي عانقت غروبها الآن أن تطردني نحو بيت العائلة…