وداعاً .. صديقي الشهيد :
مرة ، في حصة الموسيقى ..
حين كان يجمعني به صف واحد أواخر المرحلة الإعدادية ..
ضاق ذرعاً بأغنيات العشق و الغرام ،فطلب الإذن بأن ينشد .
خرج صوته مقطَّعاً بمخارج حروف التجويد ، ليقول إن صاحبه من براعم القرآن
ورغم الاستهزاء القميء من كثير من زملائه ، فقد أكمل أنشودته تلك حتى النهاية ...
مازلت أسمع صوته اليوم في أذنيَّ مردداً :
سبح الطير و كبَّر ...... منشداً الله أكبر
و مرة ...
حين سرق جمع من التلاميذ المؤذين كرة من المدرسة و طلبهم المدير ، فأنكروا و قالوا : إنها لهم ، و كنا جلوساً فسئلنا ، فران علينا عجزنا و خوفنا منهم .
حينها التفت السائل إليه و قال له : أنت لا تكذب و لا تعرف الكذب ، فأخبرني .
وقف عندها بشجاعته و عنفوان قيمه ، غير مبالٍ بالضرر الكبير الذي سيلحقه منهم ، فأخبره الحقيقة .
و لما اجتمع هؤلاء كلهم عليه – و كانوا يربون على العشرين – نظرت إلى الأرض قائلا ًلنفسي : أبله ، لقد أودى بنفسه . و لم أدر أنني كنت الأبله الحق حينها .
لكم كانت مثله العليا تجلله ، و كم كانت كلماته تنضح براءة و خُلقاً .
في الأسبوع الأخير صادفته مرتين على غير العادة ، فكانت بيننا كلمات قليلة لم أحسب لحظةً أنها ستكون كلماتنا الأخيرة المتبادلة .
و حين قفز في وجهي نبأ استشهاده ، فارقني طائر التوازن محلقاً بلا أجنحة ، و توقف عقلي ليعرض شريطاً مصوراً للمواقف التي جمعتني به في ثلاث عشرة سنة .
أرحل ؟
نعم ... رحل
رحل الذي ما رأيته يوماً إلا في لَبوس أخلاق الصالحين ، رحل الذي عرفته تقياً مذ كان في أيام الصبا ، رحل الذي ما حسبت أنني سأتلقى نبأ استشهاده يوماً ، و إن كنت ألمح فيه كثيراً من صفات الشهداء .
غادرنا نحو السماء راكباً حصانه المطهَّم بالخير ، رحل كما كان قدوة لكل رفاقه في إيمانه و صدقه و تقواه .
رحل تاركاً أثراً أعمق مما كان له في حياته ، أثراً لا أحسب أنْ قد تذهب به أيٌّ من أحداث الدنيا و ما عليها .
رحل و هو يجبرنا اليوم و غداً و بعد غد، بل في كل وقت يرد فيه ذكره على أن نصفه بأنه كان دوماً : عظيماً .... عظيماً ... عظيماً .
تعليق