وظيفة
ما ان تبخرت ايام الجامعة سراعا,,, بأحلامها الوردية ,, مرّها ،وحلوها ،،حتى ابتَلعَنا الجيش ,, وكأنه يقف على باب الجامعة .
الوطن و الرجولة وما شابه ,, وكأننا انتقلنا فجأة مما يسمونه اوربا الى مجاهل افريقيا ,, لم يكن الامر صعبا علينا نحن : ابناء القرى قياساً بزملائنا ابناء البسكويت ! كما كان المدربون يسمون ابناء المدينة ,,, فالنهوض المبكر , واستخدام السلاح , وحفر الخنادق : ليس بالجديد على الفلاحين ,, اما الطعام فكان لبعض ابناء القرى النائية : نعمه نسبة للفقر والفاقة التي كانت تميّز تلك القرى حين ذاك .
سنه ونصف وانتهت بشق الانفس .
وموسم عمل شاق جديد استقبلنا بمجرد التسريح من الجيش ,, موسم حصاد وايّ حصاد ,, يدوي طبعاً بشمسه الحارقة ,, وتحضير الارض لموسم الخضراوات قبل فوات موسم الزرع ,, وغير هذا وذاك : كري الانهار والسقي الليلي .
المنحوس منحوس ,,, اما كان الاجدر ان يؤخروا التسريح اياماً ؟
(سلّم على عمك الحاج محمود ),, فاجأني الوالد بصوته الآمر ,,الجهوري حال جميع القرويين فقد تعوّدوا الحديث في الاراضي المفتوحة وعلى رأيهم : اذا انخفض صوت الرجل,,, ارتفع عليه صوت المرأة,,,, رميت الدراجة , ومسحت يدي بذيل ملابس الحصاد ولامست تلك اليد الناعمة وكأنها : رغيف حنطة مستوردة ,,,وخشيت ما خشيت ان يطلب الوالد ان اقبّل يد الحاج احتراماً فقد طلب منّي ذلك مرّة من قبل ,,, ولكن حين كنت صغيراً
الحاج محمود : قريب والدي من بعيد , يسكن المدينة حيث كان يعمل موظفاً في احدى الدوائر , وقد احيل اخيراً على التقاعد وصار يزور القرية احياناً ,,, فله بستان يديرها والدي مقابل : نصف المحصول .
اعتذرت من الرجل بالانصراف وتركت الوالد يجامله على العشاء ,,, على باب غرفة الضيوف التقتني الوالدة بأبريق الماء والمنشفة ,,, وصاح الوالد : صابون ,, وقفت اصب الماء على يد الحاج وهو يمرر الماء في فمه فيصدر اصواتاً كادت تضحكني لولا الخوف من الوالد فقد كان يبالغ في الاحترام لقريبه,, ثم اني رغم اكمالي الجامعة كنت اخشى غضبه ,,,,,ومن بين الماء والصابون قال : اين وصلت ؟,, فصاح والدي : اكمل الجامعة والجيش ,, فبادر الرجل : الم تحصل على وظيفة ؟
طبعاً لم يكن الحصول على وظيفة في تلك الفترة بالشيء السهل خصوصاً لأمثالي من ابناء الفلاحين .
نظر الرجل اليّ وكأنه خيّاط يريد ان يخيط لي بدله ,, وتوقعت ان يطلب مني ان استدير ثم قال : ستأتي معي غداً ,,,فلدي في الدائرة معارف كثيرون , ولي عليهم افضال ,, لم اقل شيئا فبادر الوالد بذات الصوت : قل له شكراً والله يطيل بعمرك ,, المدير الجديد كان يعمل تحت يدي وسترى كيف آمره ,,, واضاف بصيغة الآمر: احلق شعرك ولحيتك ولأتنسى البدلة وربطة العنق و,,,, توكل .
في الصباح وصلنا الدائرة مبكرين بعد ان دلقت الوالدة خلفنا دلو ماء طلبا للتسهيل ,,,,,لم يكن باستقبالنا غير المنظفين ومن بقي من الحراس ,,فلم يصل الموظفون بعد,,, لكنهم استقبلوه بحفاوة , وفتحوا له باب غرفة المدير ,, جلس على كرسي المدير وجلست على احد المقاعد ,, وتقاطر الموظفون يحيوه وهو يلاطفهم ويذكّر البعض بمواقفه وعاداته في التأخر ,, ,,كان قلبي يقفز من مكانه كلما دخل موظف ببدله ظنّاً مني انه المدير ,, واخيراً ظهر صدق الحاج ,, فقد كان محل احترام حتى المدير الذي اصرّ ان يبقى الحاج على كرسيه .
كان كوالدي يصرخ : سلّم على فلان وفلان ويردد للجميع هذا ابن اخي ,, احسست ان الوظيفة اصبحت كما يقولون بالجيب .
بعد الشاي اخرج الحاج علبة سجائره وقدم للمدير ,, طبعاً نسيت ان اذكر : كان المدير ضخماً مهيباً بصلعته وشاربه الكبير وكأنه جنح غراب يغطي شفته العليا .
المهم زرع الرجل السيجارة في ذلك الحقل من الشعر ,, وبحركة رشيقة مد الحاج ولاعته ليجامل المدير بإشعال سيجارته .
من سوء حضي كانت الولاعة الغازية على اعلى درجاتها ,,وطبعاً تعلمون ما حدث فقد احترق نصف ذلك الشارب بغمضة عين ,, ظل الرجل يمس شاربه بطريقة آلية وهو يردد: بسيطة , بسيطة .
اما انا فقد وجدت الرجل وكأنه : انكمش الى الربع او اقل,,, فقد كانت لتلك الشعرات التي فاحت رائحتها هيبة خاصة ,, فايّ طاووس وقد فقد ذيله؟ ,,,عموماً لم اتمكن ان امسك نفسي عن الضحك فهربت خارج الغرفة لأكمل ضحكة تعقبها آهة طويلة على الوظيفة التي احترقت مع هيبة المدير .
لم اجد من اللائق ترك الحاج والعودة بخيبة الامل ,,اما هو,, فقد خرج بعد حين وهو يلوح بفخر الفاتحين لكاتبة الطابعة بورقة: تحمل امر تعيين، ومن خلفه رجل يشبه المدير ولكن بشارب محروق .!!
ما ان تبخرت ايام الجامعة سراعا,,, بأحلامها الوردية ,, مرّها ،وحلوها ،،حتى ابتَلعَنا الجيش ,, وكأنه يقف على باب الجامعة .
الوطن و الرجولة وما شابه ,, وكأننا انتقلنا فجأة مما يسمونه اوربا الى مجاهل افريقيا ,, لم يكن الامر صعبا علينا نحن : ابناء القرى قياساً بزملائنا ابناء البسكويت ! كما كان المدربون يسمون ابناء المدينة ,,, فالنهوض المبكر , واستخدام السلاح , وحفر الخنادق : ليس بالجديد على الفلاحين ,, اما الطعام فكان لبعض ابناء القرى النائية : نعمه نسبة للفقر والفاقة التي كانت تميّز تلك القرى حين ذاك .
سنه ونصف وانتهت بشق الانفس .
وموسم عمل شاق جديد استقبلنا بمجرد التسريح من الجيش ,, موسم حصاد وايّ حصاد ,, يدوي طبعاً بشمسه الحارقة ,, وتحضير الارض لموسم الخضراوات قبل فوات موسم الزرع ,, وغير هذا وذاك : كري الانهار والسقي الليلي .
المنحوس منحوس ,,, اما كان الاجدر ان يؤخروا التسريح اياماً ؟
(سلّم على عمك الحاج محمود ),, فاجأني الوالد بصوته الآمر ,,الجهوري حال جميع القرويين فقد تعوّدوا الحديث في الاراضي المفتوحة وعلى رأيهم : اذا انخفض صوت الرجل,,, ارتفع عليه صوت المرأة,,,, رميت الدراجة , ومسحت يدي بذيل ملابس الحصاد ولامست تلك اليد الناعمة وكأنها : رغيف حنطة مستوردة ,,,وخشيت ما خشيت ان يطلب الوالد ان اقبّل يد الحاج احتراماً فقد طلب منّي ذلك مرّة من قبل ,,, ولكن حين كنت صغيراً
الحاج محمود : قريب والدي من بعيد , يسكن المدينة حيث كان يعمل موظفاً في احدى الدوائر , وقد احيل اخيراً على التقاعد وصار يزور القرية احياناً ,,, فله بستان يديرها والدي مقابل : نصف المحصول .
اعتذرت من الرجل بالانصراف وتركت الوالد يجامله على العشاء ,,, على باب غرفة الضيوف التقتني الوالدة بأبريق الماء والمنشفة ,,, وصاح الوالد : صابون ,, وقفت اصب الماء على يد الحاج وهو يمرر الماء في فمه فيصدر اصواتاً كادت تضحكني لولا الخوف من الوالد فقد كان يبالغ في الاحترام لقريبه,, ثم اني رغم اكمالي الجامعة كنت اخشى غضبه ,,,,,ومن بين الماء والصابون قال : اين وصلت ؟,, فصاح والدي : اكمل الجامعة والجيش ,, فبادر الرجل : الم تحصل على وظيفة ؟
طبعاً لم يكن الحصول على وظيفة في تلك الفترة بالشيء السهل خصوصاً لأمثالي من ابناء الفلاحين .
نظر الرجل اليّ وكأنه خيّاط يريد ان يخيط لي بدله ,, وتوقعت ان يطلب مني ان استدير ثم قال : ستأتي معي غداً ,,,فلدي في الدائرة معارف كثيرون , ولي عليهم افضال ,, لم اقل شيئا فبادر الوالد بذات الصوت : قل له شكراً والله يطيل بعمرك ,, المدير الجديد كان يعمل تحت يدي وسترى كيف آمره ,,, واضاف بصيغة الآمر: احلق شعرك ولحيتك ولأتنسى البدلة وربطة العنق و,,,, توكل .
في الصباح وصلنا الدائرة مبكرين بعد ان دلقت الوالدة خلفنا دلو ماء طلبا للتسهيل ,,,,,لم يكن باستقبالنا غير المنظفين ومن بقي من الحراس ,,فلم يصل الموظفون بعد,,, لكنهم استقبلوه بحفاوة , وفتحوا له باب غرفة المدير ,, جلس على كرسي المدير وجلست على احد المقاعد ,, وتقاطر الموظفون يحيوه وهو يلاطفهم ويذكّر البعض بمواقفه وعاداته في التأخر ,, ,,كان قلبي يقفز من مكانه كلما دخل موظف ببدله ظنّاً مني انه المدير ,, واخيراً ظهر صدق الحاج ,, فقد كان محل احترام حتى المدير الذي اصرّ ان يبقى الحاج على كرسيه .
كان كوالدي يصرخ : سلّم على فلان وفلان ويردد للجميع هذا ابن اخي ,, احسست ان الوظيفة اصبحت كما يقولون بالجيب .
بعد الشاي اخرج الحاج علبة سجائره وقدم للمدير ,, طبعاً نسيت ان اذكر : كان المدير ضخماً مهيباً بصلعته وشاربه الكبير وكأنه جنح غراب يغطي شفته العليا .
المهم زرع الرجل السيجارة في ذلك الحقل من الشعر ,, وبحركة رشيقة مد الحاج ولاعته ليجامل المدير بإشعال سيجارته .
من سوء حضي كانت الولاعة الغازية على اعلى درجاتها ,,وطبعاً تعلمون ما حدث فقد احترق نصف ذلك الشارب بغمضة عين ,, ظل الرجل يمس شاربه بطريقة آلية وهو يردد: بسيطة , بسيطة .
اما انا فقد وجدت الرجل وكأنه : انكمش الى الربع او اقل,,, فقد كانت لتلك الشعرات التي فاحت رائحتها هيبة خاصة ,, فايّ طاووس وقد فقد ذيله؟ ,,,عموماً لم اتمكن ان امسك نفسي عن الضحك فهربت خارج الغرفة لأكمل ضحكة تعقبها آهة طويلة على الوظيفة التي احترقت مع هيبة المدير .
لم اجد من اللائق ترك الحاج والعودة بخيبة الامل ,,اما هو,, فقد خرج بعد حين وهو يلوح بفخر الفاتحين لكاتبة الطابعة بورقة: تحمل امر تعيين، ومن خلفه رجل يشبه المدير ولكن بشارب محروق .!!
تعليق