كانت عظيمة..
التحقت به بعد أربعة أيام من رحيله.. لذلك ما زلت مصرة على أن سبب رحيل جدتي المفاجئ هو جدي وليس "افلونزا الخنازير" كما ورد في شهادة وفاتها.. وما زلت مصرة أيضا على أني لو قضيت معها ليلة أخرى لرحلت قبلها وقبل جدي.. منذ ليلتها، وهي لا تغيب عن ناظري.. تنتصب لعيني دائما هرما جبارا وأراني أمامها حشرة جدباء.. فأنكمش على نفسي أطلق كل دهائي حتى لا أصطدم يوما بهشاشتي وحقيقتي المخجلة..
هي لم تكن تزورنا.. ولم تكن تزور أحدا منذ أن سقط جدي مريضا كأن المرض سكن جسدها وليس جسده.. أمي من أودعتني عندها لتمضي لحضور مؤتمر طبي في العاصمة.. فقضت جدتي طوال الليل تتنقل بيني وبين جدي تهدئ ألمنا وتسكت أنيننا.. جدي فوق فراشه لا يأتي منه غير الأنين والشخير، وأنا في سرير جدتي المقابل أصرخ ضيقا من شخير جدي ومن التهاب في رأس أصبعي بسبب شوك بغيض انغرس في سبابتي.. حز في نفسي أمرها وما تكابده من عذاب يومي، فجذبتها إلي في أواخر الليل وهمست في أذنها وأنا أشير لها بعيني إلى جدي الذي سكنه المرض مدة فاستحال مرضا لا يتحمله غيرها: "كركبيه من فوق سريره واضغطي على حلقومه ولا تدعيه حتى يلفظ آخر أنينه.. وسترتاحين من شخيره وأرياقه ومخاطه.." هزت رأسها موافقة ثم هدهدت ظهري ودعتني للنوم ومضت إليه مسرعة..
جثوت على ركبتي وسط سريرها أمدد رقبتي أطل على هيكل جدي الخامد فوق سريره والذي لا يبدو منه غير الرأس.. حريصة أن أرى للمرة الأخيرة أطرافه تتحرك تتشبث بالحياة التي لم تعد تسكن غير حلقه.. جلست جدتي على حافة سريره وحضنت رأسه إلى صدرها كطفل صغير.. سقته الدواء ثم مسحت فمه الذي يسرب إلى الخارج أكثر مما يبتلع وانحنت عليه تقبل جبهته.. ثم ابتسمت له تريه المنشفة وأدوات الحمام.. وتعده بأن تتولى تحميمه بعدما تفرغ من صلاة الفجر.. تشنجت لغبائها وصرخت بأعلى صوتي.. فعادت إلي تنفخ على أصبعي وتمرر عليه لسانها الرطب.. وقالت لي ونبرة الضجر تثقل صوتها هذه المرة:
ـ أمك حرمت الخلفة لأنها قضت ثلاث ساعات تتألم حتى ولدتك وأنتِ ــــــ
قاطعتها متشنجة وأنا أسحب أصبعي من يدها أحدق في عينيها الغائرتين:
ـ أنا سأحرم الزواج والخلفة ودخول حديقتك إذا كان ألم الولادة أشد من ألم أشواك زهورك..
زمت شفتيها تخنق الضحك من كلامي وأنا لا أدري من أين يأتيها الضحك وسط شخير جدي الذي يملأ الغرفة ويهزم صوت المؤذن الذي زاد سمعي تورما.. فأخبرتني بأن ليس في عائلتنا فتاة غير متزوجة.. وأن لا ربي ولا أحد في عائلتي سيقبل برغبتي في الرهبنة.. ثم انصرفت لتتوضأ لصلاة الفجر..
خمنت طويلا في كلامها وأنا أنظر بتقزز إلى جدي الذي يخترق شخيره أذني كهدير طائرة مروحية وضوء الفجر كان قد بدأ يتسلل إلى غرفتنا.. وتسللت معه صورة ابن عمي تضيء فضائي.. هو نحيف جدا مصفر وذابل على الدوام سيموت بعد الدخلة مباشرة.. وإن كتبت له الحياة بعد الدخلة، فلن أبتلي بولد أو بنت.. "النحافة المفرطة تسبب العقم": هكذا أخبرتني مجلتي .. سأترمل وأنا بدون ولد ولا بنت.. وأطلق عويل وفاة زوجي قبل أن أسمع شخيره أو تمتد يدي لتمخط أنفه أو تجفف البلل من تحته.. فقفزت من سرير جدتي أخبرها بفرحة غامرة:
ـ هو كريم.. ابن عمي ولن أتزوج غيره.. هو كريم زوجـ.....
ابتسمت لي جدتي وهي تستقبل القبلة للصلاة.. وحلقتُ بعيدا عن شخير جدي وأنينه أرتب طريقة لأشبك بها حبيبي كريم قبل أن يخطفه مني شبح الموت.. فشبح الموت مهووس بأرواح الذكور في عائلة أبي.. وساكن أبدا سماء بيتنا الكبير.. أحيانا لا يغيب عن بيتنا غير ما يستغرقه من الوقت لنقل الأرواح إلى قرارها المحتوم.. وأحيانا يمد مقطافيه فيقطف روحين في آن واحد.. دون إنذار أو إشعار غير هذا الانطفاء البادي على حبيبي كريم.. ونادر جدا ما تخطئ يده فتصيب روح امرأة عجوز عفتها الأيام..
كان يوم جمعة حيث تجتمع عائلتنا في بيت جدتي لأبي.. الأطفال يهزون البيت لعبا وصخبا، بينما كريم كعادته دائما، ذابلا في زاوية فناء بيتنا تحت شجرة الكرمة... ألقيت نظرة خاطفة على جميل ملبوسي وتسريحة شعري الفاتنة أمام مرآتي.. تعطرت ونزلت إليه أجري لأشبكه إلي قبل أن تكتشفه إحدى قريباتي الشابات ويخطفنه مني أو يحط عليه شبح الموت فيخطفه منا جميعا.. ابتسم لي مرحبا بي.. وبصعوبة لملم أطرافه المفسوخة وفسح لي مكانا بجانبه حيث أشرت له بطرف عيني وأنا أبدي الخجل.. عرضت عليه الزواج بعد كلمات إعجاب قليلة نثرتها عليه وأنا أزيح خصلات شعره الأشقر الخفيف عن جبهته المتفصدة عرقا.. احمر وجهه وابتسم لي يهز رأسه قابلا..
كان علينا أن ننتظر فقط مرور أربعينية جدتي لنحتفل بزفافنا.. هو في الخامسة عشرة من عمره وأنا في الثانية عشرة.. هم هكذا أفراد عائلة أبي يتزوجون مبكرا.. ولو انتظروا حتى يكبروا ليتزوجوا لانقرضوا منذ عصور غابرة.. كانت فترة الانتظار مشوبة بقلق قاتل.. رأيت فيها شبح الموت يلازم خطيبي كريم كظله وينازعني فيه في وضح النهار.. فأمضي طول الوقت معه أدفئ يديه الباردتين علي أسرب إليهما حرارة الأحياء التي أرى شبح الموت الساكن في داخله يمتصها من جسده.. وصرت أخشى أن أغفو فأستيقظ على العويل يهز بيتنا الكبير كما العادة دائما..
أخيرا، تزوجنا ومرت الدخلة بسلام وسمن زوجي وقوي عوده وصار وسيما.. وأحسست أن شبح الموت هاجر بيتي لكن بعدما سرب إلي تقنياته في قبض الأرواح الصغيرة.. كل بذرة حية يقذفها كريم في رحمي أسطو على روحها بخفة شبح الموت.. وأترك زوجي يطلق عويله المكتوم عليها دون أن يدري شيئا على سطوة يدي.. لم أرفع يدي عن بذراته حتى سربت إلي أمي الطبيبة خبر ذلك الإنجاز الطبي العظيم.. وبه أنجبت ثلاثة أطفال كالأنوار.. بمجرد أن أشعر بضيقهم في أحشائي، أمضي رفقة أمي لأستودعهم في مستودعات الأجنة.. ولا أستلمهم من المركز الطبي إلا حبا فيهم وشوقا إلى احتضانهم.. ولو شئت لانتظرت حتى يجيئون بأقدامهم يبحثون عني.. والشخير لم يعد مشكلة كما كان أيام جدتي العظيمة رحمها الله.. يكفي أن أغطي نفسي بغطاء مزرر وأكبس على زر التشغيل ليعزلني عن نفسي وعن الواقع كله وليس عن مجرد سعال زوجي أو شخيره..
لا شيء ينغص علي حياتي ويردني إلى النبش في قصة حياتي هذه غير حفيدتي سارة.. تذكرني دائما بحال زوجي كريم أيام كان طفلا.. يصعب عليها حتى الانحناء لالتقاط شيء يسقط من يدها.. في الحقيقة، جل أطفال سنها هكذا.. فوضوا طاقاتهم للأزرار لتقوم بدلهم بكل شيء.. ترفع أصبعها على زر المصعد وتكبس على زر الحذاء لتمضي إلى مدرستها كدمية مجرورة بخيط غير مرئي.. فأخطف منها حقيبتها وأحملها على كتفي كما كنت أفعل أيام كنت تلميذة في سنها.. أكره أن أرى حقيبتها تسبقنا كأن ليس لها صاحب وحفيدتي سارة تحركها عن بعد نحو مدرستها كما يفعل زوجي بقفة الخضر فتدخل علي من نافذة المطبخ مع الهواء.. فأفتحها وأنا ألعن الأزرار التي تتحكم في كل شيء وحانقة لأني لم أستلمها من يده الدافئة وأرى بسمة الحياة تملأ وجهه المشرق..
ناولتها حقيبتها عند بوابة المدرسة وظللتُ بجانبها أنتظر أن يفرغ المكان من عجلات التلاميذ وحقائبهم السابحة فوق الرصيف لأمضي إلى بيتي.. فقرع الجرس اليدوي، فأجهشت حفيدتي تبكي لانقطاع التيار الكهربائي وتوقف المصعد وترجتني أن أحمل لها حقيبتها وأرافقها حتى قسمها في الطابق الثاني.. أعدت المحفظة إلى كتفي وصعدت معها السلم وأنا أحمل حفيدتي حملا حتى أوصلها إلى باب قسمها. شدت على يدي وحدقت مليا في قدمي تطبعان الأرض ثم إلى عجلات قدميها فانكمشت على نفسها كحشرة جدباء تخمن في أمر ما.. ثم رفعت رأسها إلى وجهي وقالت لي بحزن وضعف مبينين:
ـ أنت عظيمة جدتي.. أنت هرم يمشي..
تعليق