ما إن تستدير شمس يوليو المتقدةُُُ عند إرتقائها سلم الأفق ، حتى تُسطر بقيظها الشديد كلمات
صلفة"يوم حار آخر" ..أهالي مدينة حمص ، يبكرون صباحاً لقضاء حوائجهم
قُبيل جحيم منتصف الظهيرة، حيث تغدو الشمس في لهيبها ،
كأنها جمرة حارةُ مُستعرة، فتصلي المدينة بسياط من اللهب،وتلفح جدرانها بوشاح من القيظ الشديد ،فتتلظى المدينة وتشتعل، كأنها توقد تنورا من الجحيم .كل شيء يلوذ هارباً
حتى الظلال الباردة لم تجد مايدفع عنها تلك الحمم الساخنة ،فولت هاربة إلى مسام الجدران ،تلوذ من سخط يوليو الملتهب مكرهة علي الإنزواء والتخفي إلى آشعار أخر ريثما تنتهى تلك الموجة الحارة التى اعتقلت كل نسمة باردة .
وعند طرف المدينة،نبتت حديقة صغيرة ،ذات عشب أخضر رقيق،وتكاثر حولها شُجيرات الكرز، ثم تناصت في شكل دائرة ،والتف حولهما سياج خشبي تسامقت فوقه ألفاف النباتات ، وفوق العشب هنا وهناك نبتت بعض الزهور البيضاء،وتصاف بعضها في نسق آخاذ فريد.
قُرب الحديقة تسامقت نافورة عملاقة قديمة، جرى الماء من تحتها ،ثم انبثق من أشداقها الفاغرة التي تشبه أفواه الأناكوندا، فامتلأت الحياض بالماء
، وروت الحشائش الزّمرّديّة، وزهور الياسمين .وفوق قبة النافورة
،إرتقى تمثالاً إسطوري قديم ، فارس يونانى ذو جناحين عملاقين، متقلداً سيف ودرع فولاذي يطلقُ عليه العامة" أخيل" حارس المدينة العظيمة ..كانت الشمس قد توسطت كبد السماء ،واعتقل القيظ كل النسائم التي أطلقها شلال الغدير الفضي الذي ُيغذي ماء النافورة ..سكون تام يجتاح المكان إلا من بعض الهمس الذي يُصدر خلف الشجيرات الصغيرة ..صغيران يستظلان من لهيب الشمس ،ويتبادلان بعض الكلمات ..ومالبثا أن اتفقا على شيء ما ..طفلة صغيرة تبدو فى نهاية عقدها الأول ، بوجه أصفر كالح يضرب للزرقة ، وعينين منكسرتين لامعتين لمعانا حزينا ، غائرتين وسط وجه ممصوص ،مُصفر شاحب سقيم ، يُناسب جسدا نحيلا، يغوص فى جلباب من القطن الردىء ، وقد بُهتت أطرافه وتهرأت ، فضلا عن ثقوب توزعت عليه فى غير انتظام ، تسيرُ بقدمين عاريتين تغمرها ارتجافات تنخلع لها القلوب رحمة وشفقة ..كانت برفقة شقيقها الذي يبلغ السابعة ..كانت الفتاة تخفف لهيب الشمس عن رأس شقيقها بلمستها الحانية وتضمة كل فينة وأخرى إلى وثير صدرها الحاني ..قالت :
- لا تنسى ياأخى أن تلحق بي عندما يستدير الحارس ..وقتها سأُشير أليك ..لاتنسى يارجلي الصغير ..ثم قبلته بلثمة حانية على خده القاني الذي تلظى إحمرارا بفعل حرارة الشمس ..
وثبت الفتاة فوق السياج ومرقت كالسهم خلف الحارس ،وركضت بكل ما أوتيت من قوة، ثم وثبت كجواد أصيل فوق شجيرات الكرز متجهة صوب النافورة.. ونجحت في الوصول إلى الجهة الأخرى ،واختفت خلف أجنحة التمثال ،وانثنت تلتقط أنفاسها المتسارعة جراء الخوف والفزع، ثم جالت ببصرها هنا وهناك تنتظر ، ريثما تسنح الفرصة ويستدير الحارس ،وعندما حانت اللحظة اطلقت إشارة بإيماءة رأسها إلى شقيقها الذى تخطى السياج بمشقة وعسرة ،فكانت تؤزرة وتحضه على المسير والمتابعة ، لكن قدماه تعثرت فاختل توازنه، لكن الحظ أسعفه لاسيما عند سقوطه فوق الأعشاب الطويلة المتكاومة..
فطن الحارس لجلبة تصدر قريباً منه،ذهب يتفقد الأمر،شعرت الفتاة أن شقيقها في مأزق
خلعت حذائها، وقذفت به أحد أعمدة الإنارة..
لتلفت إنتباه الحارس الذي كاد أن يطأ بأقدامه رأس شقيقها المستتر خلف الشجيرات ..
عاد الحارس القهقري، ليتفقد ما أصاب عمود الإنارة، نهض الفتى، وركض بقوة صوب النافورة إلى أن نجح في العبور إلى شقيقته ..إلتقطا أنفاسهما وملأ رئتيهما بالنسيم البارد الرابض تحت ظلال النافورة، استظلا سوياً تحت أجنحة التمثال وجلسا
يحتسيان الماء البارد،نظر الفتى إلى أقدام شقيقته،فارتد طرفه خجلا لأنه تسبب في ضياع حذائها،أسرعت الفتاة تبدد عن شقيقها مايخالجه من أسى قائلة: لاتفكر.. لقد كان حذاء بالي ..غداً ستبتاع لي أجمل منه، انكفأت الفتاة تغترف الماء حثوات، وتدفعه برقة في وجه شقيقها لتخفف عنه الأذى، الذي آلم ببشرته جراء القيظ الشديد..
كان لزوار الحديقة مذاهب عدة يسلكونها لتخفيف شدة الحرارة الواقعة على أجسادهم ، فهناك فئة تُكثر من إحتساء المشروبات الغازية،وهناك من يقبل بنهم على تناول المرطبات والمثلجات،والقاعدة الكبرى،كانت لتناول "الأيس كريم" المحلى بالشوكولا..
كان الفتى يرقب بشغف قطع "الأيس كريم"وهي تغدو وتروح بين أيد الأطفال ،تذوب بين الشفاه، وتسري بين الحلق، ترطب الفم اليابس، وتدفع الحرارة ، يسيل لعابه ويتدلى لسانه، وهو يرمق قطع الأيس كريم بأنواعها تتمدد طواعية بين أيد الأطفال يرتشفون قطعها ويمتصون الشوكولا العالقة بين الكريمة ويلعقون ماتبقى منها فتذوب في أفواههم مثل السحر ..كان الطفل يتأوه من شدة الحرمان والجوع، وقد تلظى لسانه من القيظ ..فترى خياله يسبح في مدينة عائمة بقطع الأيس كريم ..يلتهم الكثير منها حتى يشعر بالأمتلاء والتخمة، ويقوم بتوزيع قطع الأيس كريم على الفقراء والمعدمين ..
،لكنها أحلام سرعان ما تتبخرعند
إرتطامها بصخرة الواقع..فقطع "الأيس كريم" لا تباع ولا تنقد إلا بالمال ،تلك السياسة القاسية التي نصبت القوانين الوضعية بحجة تنظيم الحياة والمعاملات، تلك القوانين التي لا تراعي حاجة الفقراء والمساكين ولا تسمح بنقد مفاهيم تأصلت على قانون المادة المستمد من الرأسمالية .!
،سرعان مايرتد لسانه خائباً، بعدما اكتوى من لسعات الحرارة وسياطها اللاذعة ..
نكس الفتى رأسه متحسراً وقد غشي جبينه سحابة أليمة من الحزن ، ثم دس رأسه بين ذراعيه ..في سكون تام غلبت عليه مشاعر الحزن الإنكسار ..
شعرت الفتاة بوخز الحرمان الذي يراود شقيقها،فانفطر قلبها ..أغرورقت عينيها بالدموع ،وانحدرت على نحرها، وأجهشت بالبكاء ..سرعان ما كفكفت دمعها خشية أن يفتضح أمرها أمام شقيقها بعدما رأت
انه يختلس النظر إليها، انكفأت مبتسمة ، تداعب مقدمة رأسه : مادمت أنا معك..لاتقلق من شيء.قال الفتى: إنني أشتاق إلى أمي..نظرت الفتاة إلى الأفق ..
- إنها هنا..تراقبنا..تعتني بنا ..كما وعدتنا ..ألا تذكر حديثها ..يوما ما لن نفترق
: هل تذكر الأغنية التي كانت تنشدها أمي دائما ..لابد أنك تحفظ الكلمات
الفتى مبتسماً :نعم
-هيا بنا نغنيها سوياً
-تلاقت أرواحنا ..فحمل سرنا الملاك...
وما كادا ينتهيا حتى قطع إنشادهما قطعة
نقود معدنية، تدحرجت بجوارهما ، هوت إليها
الفتاة ..تناولتها ،علا وجهها إبتسامة ظفر
قالت مداعبة وهي تنحني : سيدي الغالي..أي قطعة من "الأيس كريم" تريدها..نحن طوع أمرك :
:دعني أفكر
: حسناً..سنأتي لك بأكبر قطعة من "الأيس كريم"..ذهبت الفتاة ،إلى أحد الباعة الجائلين
لشراء قطعة "الأيس كريم"، لكن البائع أشار
إليها أن القطعة المعدنية ،لاتكفي لشراء قطعة ولو من الحجم الصغير،نظرت الفتاة إلى شقيقها..حاولت مراراً إقناع البائع ..لكنه رفض طلبها ،توسلت إليه ..أمعن في الرفض ..حاولت مقايضته بحذائها.. لكنه تعلل بأن فردة واحدة لاتصلح بدون أختها..رفض البائع كل المحاولات بمنتهى الصلف والغلظة ..بات كل محاولاتها في مقايضة البائع بالفشل ..ركلت الأرض وتلمظت من شدة الغيظ ،وعادت تجتر أذيال الخيبة والحسرة
، ناكسة رأسها تتمتم
بكلمات نابية من شدة الغضب والفتور،حانقة
على ذلك العالم..الذي لا يعرف طريقا للرحمة
جلست بجوار شقيقها، الذي مال برأسه إلى كتفها
ورمقت دمعة حارة تنساب على خده،ألقت نظرة حانية على شقيقها، وداعبت وجنتيه قائلة: لاتراع من شيء ..طالما كنا سوياً ،سنكون بخير ..أنصت إلي جيداً
لقد وعدت أمي أن أعتني بك.. ولن أخذلها ما حييت ، كانت الفتاة تدبر شيئا في طيات عقلها ..طالما أن القوانين هي التي تنظم وتسير الحياة على الأرض ..فلابد أن يكون لها قوانين تتفق مع حاجاتها ومتطلباتها ..وليست القوانين كتب مقدسة لايمكن تغييرها في ذلك العالم الغريب. نظرت الفتاة لشقيقها
- ستذهب الأن بمفردك .وانتظرني عند المنحنى الذي يقطعر طريق الحديقة قرب السياج الخشبي
لقد صرت كبيراً ..سأختبر مدى سرعتك اليوم ..حسناً لاتجفل ..أعتمد عليك يا رجلي الكبير
ذهب الفتى وهو يلقي نظرة حانية إلى شقيقته التى استدارت كالصقر يرمق هنا وهناك، يتحين الفرصة للإنقضاض على شيء ما
عزمت الفتاة علع إختراق القوانين والتمرد عليها،وسنحت لها الفرصة ،وجدت ضآلتها
طفل حظى بقطعة من "الأيس كريم" الحجم الكبير، وفي غفلة من ذويه، وبصمت وحذر ..دنت منه بتباطأ شديد وقالت
- أيها الفتى ..ثم أخرجت من طيات أكمامها قطعة النقود..هاك قطعة معدنية ..يمكنك استخدامها في المراهنة مع اصدقائك أنظر ..إنها تلتمع تحت ضوء الشمس ..وتصدر رنين ووميض ..هل تقايضني بقطعة الأيس كريم ..الفتى - ليس لي حاجة بها ..أبي يملك الكثير منها ..ثم أعرض عنها ..لكن الفتاة عاجلته باقتناص قطعة الأيس كريم
- طالما أن والدك ثري هكذا ..فلن يضيره إذا أضعت واحدة
،ثم أنطلقت مهرولة تعدو كالريح، .. لكن الطفل صرخ صرخة عظيمة ، ثم انخرط في نشيج مرير خالطه بكاء وعويل ، احتشد الاطفال حوله اشتد الصراخ
، سادت حالة من الذعر بين الأطفال، الفوضى عمت المكان، شرطي الحديقة، أطلق صافرة الإنذار..
الفتاة تعدو مسرعة، رنا إلى مسامعها صخب وضجيج، التفتت خلفها وجدت مئات من الرجال والنساء يطاردونها ..علام كل ذلك ..؟ تسائلت في براءة
من أجل ماذا؟من أجل قطعة أيس كريم!! يالها من مدينة بخيلة حقاً!.
شعرت الفتاة بالخوف والقلق يداهمها نسيت متاعبها ، تذكرت شقيقها، تسائلت في وجل : تُرى أين هو؟تعثرت..
فقدت توازنها، ترنحت على حافة الطريق ، صدمتها شاحنة مسرعة ، أطاحت بها قرب السياج الخشبي، تهشمت قطعة "الأيس كريم" تجشأت دماء غزيرة من فمها ،وشعرت ببرودة تدب في أوصالها، ترائت لها أطياف وكائنات نقية ، يحمل بعضهن هدايا ،والأخريات قطع من الأيس كريم محلى بالشوكولا..ندت بسمة من عينيها تدحرجت إلى شفتيها اليابستين هي تنازع في الرمق الأخير
- أسفة يا أمي.. العالم لم يسعنا!
تحجرت عيناها ،ثم لفظت أنفاسها الأخيرة..
إحتشد الناس حول جثة الفتاة وتكاوموا جميعاً تسائل بعضهم : علام كنا نطارد؟
قال أحدهم: لا أدري وجدت الجميع يركضون ففعلت مثلهم.
قال آخر :شرطي الحديقة ، هو من أطلق صافرة الإنذار.
دنا مُسن أسود يقطن بجوار الحديقة حدج إليهم طويلاً ثم قال ساخراً: بئس القوم أنتم ،ُنزعت الرحمة من قلوبكم ، تطاردون تلك الضعيفة المسكينة ،وأشار إلى الفتاة المسجية بجوار السياج الحديدي ، من أجل ماذا ، من أجل قطعة أيس كريم! ياللخزي والعار، هل تحجرت قلوبكم إلى ذلك الحد !!، وتبلدت من الأحاسيس ! تباً لكم أيها الأوغاد..
ثم بصق الأرض أمامهم واستطرد قائلاً :أتمنى أن أراكم في الجحيم.. أيها الأشقياء
غادر العجوز يدندن بكلمات حزينة: غادر الأمل حنايا المدينة البائسة.. فلم تعد مدينتي إنى بريء من قوومي...
أقترب شقيقها ولا يكاد يصدق ، هول الصدمة التى خلعت قلبه من جذوره ،أغرورقت عينيه بالدموع إنسابت كالخيوط على خده حاول يائسا رتق الأمواج المنهمرة من فيضان الدموع الذي أدمى عينيه بكلتا يديه ، مسح بأنامله الرقيقة دموعها المنحدرة فوق خديها الأسيلين داعب ثغرها المتعب ،وشرع ينشد بصوت ٍ عذب
تلاقت أرواحنا..فحمل سرنا الملاك..
يداه تضمّانها بعنفٍ إلى جسده المحموم انتفاضاً ، وقد أسند ظهره إلى الجدار ، ينزلها برفقٍ على منكبيه ، يمسّد شعرها وخصلاته الناعمة التي ترشح باللّون الأحمر .امتلأت الساحة عن آخرها برؤوسٍ ذات أشكالٍ متعدّدةٍ ،وعيون مرتعدةٍ ،فضوليّةٍ ،، وقلوبٍ لها نشيج ..لا تخلو من الرحمة والشفقة ممّا ترى
جاء شرطي آخر..
دنا من الفتاة ، جثا على ركبتيه، إنتزع سترته، وغطى بها سيقان الفتاة العارية،حدج الشرطي إلى القوم وقال مكفهراً:
من الأحمق الذي أطلق صافرة الإنذار؟.. أشار الناس جميعاً إلى شرطي الحديقة..أجهشت بالبكاء إحدى السيدات
البدينات، وتأثرت لمصرع الفتاة الصغيرة فقامت بشتم الشرطي وركله أسفل خاصرته عقاب له ، فتأوه متوجعاً وسقط على بطنه ..
وقالت مقطبة: صدق الرجل الأسود..ما أنتم إلا مجموعة من الحمقى الأوغاد ..لاتعرف الرحمة طريقها إليكم ، تباً لكم جميعا،وتباً لتلك المدينة المشئومة ، تكالب الأطفال حول الفتاة، وأحسوا بالشفقة لما آل إليه مصيرُها ..قام الشرطي بحمل الفتاة بين ذراعيه، وقال للفتى :لن تصير وحيداً يا بنى بعد الآن ،هيا بنا .. صار الفتى برفقة الشرطي والدموع تسيل على نحره ينشد بصوت خافت متقطع : تلاقت أرواحنا...
في اليوم التالي، قام الأهالي بنقض التمثال القديم...صلفة"يوم حار آخر" ..أهالي مدينة حمص ، يبكرون صباحاً لقضاء حوائجهم
قُبيل جحيم منتصف الظهيرة، حيث تغدو الشمس في لهيبها ،
كأنها جمرة حارةُ مُستعرة، فتصلي المدينة بسياط من اللهب،وتلفح جدرانها بوشاح من القيظ الشديد ،فتتلظى المدينة وتشتعل، كأنها توقد تنورا من الجحيم .كل شيء يلوذ هارباً
حتى الظلال الباردة لم تجد مايدفع عنها تلك الحمم الساخنة ،فولت هاربة إلى مسام الجدران ،تلوذ من سخط يوليو الملتهب مكرهة علي الإنزواء والتخفي إلى آشعار أخر ريثما تنتهى تلك الموجة الحارة التى اعتقلت كل نسمة باردة .
وعند طرف المدينة،نبتت حديقة صغيرة ،ذات عشب أخضر رقيق،وتكاثر حولها شُجيرات الكرز، ثم تناصت في شكل دائرة ،والتف حولهما سياج خشبي تسامقت فوقه ألفاف النباتات ، وفوق العشب هنا وهناك نبتت بعض الزهور البيضاء،وتصاف بعضها في نسق آخاذ فريد.
قُرب الحديقة تسامقت نافورة عملاقة قديمة، جرى الماء من تحتها ،ثم انبثق من أشداقها الفاغرة التي تشبه أفواه الأناكوندا، فامتلأت الحياض بالماء
، وروت الحشائش الزّمرّديّة، وزهور الياسمين .وفوق قبة النافورة
،إرتقى تمثالاً إسطوري قديم ، فارس يونانى ذو جناحين عملاقين، متقلداً سيف ودرع فولاذي يطلقُ عليه العامة" أخيل" حارس المدينة العظيمة ..كانت الشمس قد توسطت كبد السماء ،واعتقل القيظ كل النسائم التي أطلقها شلال الغدير الفضي الذي ُيغذي ماء النافورة ..سكون تام يجتاح المكان إلا من بعض الهمس الذي يُصدر خلف الشجيرات الصغيرة ..صغيران يستظلان من لهيب الشمس ،ويتبادلان بعض الكلمات ..ومالبثا أن اتفقا على شيء ما ..طفلة صغيرة تبدو فى نهاية عقدها الأول ، بوجه أصفر كالح يضرب للزرقة ، وعينين منكسرتين لامعتين لمعانا حزينا ، غائرتين وسط وجه ممصوص ،مُصفر شاحب سقيم ، يُناسب جسدا نحيلا، يغوص فى جلباب من القطن الردىء ، وقد بُهتت أطرافه وتهرأت ، فضلا عن ثقوب توزعت عليه فى غير انتظام ، تسيرُ بقدمين عاريتين تغمرها ارتجافات تنخلع لها القلوب رحمة وشفقة ..كانت برفقة شقيقها الذي يبلغ السابعة ..كانت الفتاة تخفف لهيب الشمس عن رأس شقيقها بلمستها الحانية وتضمة كل فينة وأخرى إلى وثير صدرها الحاني ..قالت :
- لا تنسى ياأخى أن تلحق بي عندما يستدير الحارس ..وقتها سأُشير أليك ..لاتنسى يارجلي الصغير ..ثم قبلته بلثمة حانية على خده القاني الذي تلظى إحمرارا بفعل حرارة الشمس ..
وثبت الفتاة فوق السياج ومرقت كالسهم خلف الحارس ،وركضت بكل ما أوتيت من قوة، ثم وثبت كجواد أصيل فوق شجيرات الكرز متجهة صوب النافورة.. ونجحت في الوصول إلى الجهة الأخرى ،واختفت خلف أجنحة التمثال ،وانثنت تلتقط أنفاسها المتسارعة جراء الخوف والفزع، ثم جالت ببصرها هنا وهناك تنتظر ، ريثما تسنح الفرصة ويستدير الحارس ،وعندما حانت اللحظة اطلقت إشارة بإيماءة رأسها إلى شقيقها الذى تخطى السياج بمشقة وعسرة ،فكانت تؤزرة وتحضه على المسير والمتابعة ، لكن قدماه تعثرت فاختل توازنه، لكن الحظ أسعفه لاسيما عند سقوطه فوق الأعشاب الطويلة المتكاومة..
فطن الحارس لجلبة تصدر قريباً منه،ذهب يتفقد الأمر،شعرت الفتاة أن شقيقها في مأزق
خلعت حذائها، وقذفت به أحد أعمدة الإنارة..
لتلفت إنتباه الحارس الذي كاد أن يطأ بأقدامه رأس شقيقها المستتر خلف الشجيرات ..
عاد الحارس القهقري، ليتفقد ما أصاب عمود الإنارة، نهض الفتى، وركض بقوة صوب النافورة إلى أن نجح في العبور إلى شقيقته ..إلتقطا أنفاسهما وملأ رئتيهما بالنسيم البارد الرابض تحت ظلال النافورة، استظلا سوياً تحت أجنحة التمثال وجلسا
يحتسيان الماء البارد،نظر الفتى إلى أقدام شقيقته،فارتد طرفه خجلا لأنه تسبب في ضياع حذائها،أسرعت الفتاة تبدد عن شقيقها مايخالجه من أسى قائلة: لاتفكر.. لقد كان حذاء بالي ..غداً ستبتاع لي أجمل منه، انكفأت الفتاة تغترف الماء حثوات، وتدفعه برقة في وجه شقيقها لتخفف عنه الأذى، الذي آلم ببشرته جراء القيظ الشديد..
كان لزوار الحديقة مذاهب عدة يسلكونها لتخفيف شدة الحرارة الواقعة على أجسادهم ، فهناك فئة تُكثر من إحتساء المشروبات الغازية،وهناك من يقبل بنهم على تناول المرطبات والمثلجات،والقاعدة الكبرى،كانت لتناول "الأيس كريم" المحلى بالشوكولا..
كان الفتى يرقب بشغف قطع "الأيس كريم"وهي تغدو وتروح بين أيد الأطفال ،تذوب بين الشفاه، وتسري بين الحلق، ترطب الفم اليابس، وتدفع الحرارة ، يسيل لعابه ويتدلى لسانه، وهو يرمق قطع الأيس كريم بأنواعها تتمدد طواعية بين أيد الأطفال يرتشفون قطعها ويمتصون الشوكولا العالقة بين الكريمة ويلعقون ماتبقى منها فتذوب في أفواههم مثل السحر ..كان الطفل يتأوه من شدة الحرمان والجوع، وقد تلظى لسانه من القيظ ..فترى خياله يسبح في مدينة عائمة بقطع الأيس كريم ..يلتهم الكثير منها حتى يشعر بالأمتلاء والتخمة، ويقوم بتوزيع قطع الأيس كريم على الفقراء والمعدمين ..
،لكنها أحلام سرعان ما تتبخرعند
إرتطامها بصخرة الواقع..فقطع "الأيس كريم" لا تباع ولا تنقد إلا بالمال ،تلك السياسة القاسية التي نصبت القوانين الوضعية بحجة تنظيم الحياة والمعاملات، تلك القوانين التي لا تراعي حاجة الفقراء والمساكين ولا تسمح بنقد مفاهيم تأصلت على قانون المادة المستمد من الرأسمالية .!
،سرعان مايرتد لسانه خائباً، بعدما اكتوى من لسعات الحرارة وسياطها اللاذعة ..
نكس الفتى رأسه متحسراً وقد غشي جبينه سحابة أليمة من الحزن ، ثم دس رأسه بين ذراعيه ..في سكون تام غلبت عليه مشاعر الحزن الإنكسار ..
شعرت الفتاة بوخز الحرمان الذي يراود شقيقها،فانفطر قلبها ..أغرورقت عينيها بالدموع ،وانحدرت على نحرها، وأجهشت بالبكاء ..سرعان ما كفكفت دمعها خشية أن يفتضح أمرها أمام شقيقها بعدما رأت
انه يختلس النظر إليها، انكفأت مبتسمة ، تداعب مقدمة رأسه : مادمت أنا معك..لاتقلق من شيء.قال الفتى: إنني أشتاق إلى أمي..نظرت الفتاة إلى الأفق ..
- إنها هنا..تراقبنا..تعتني بنا ..كما وعدتنا ..ألا تذكر حديثها ..يوما ما لن نفترق
: هل تذكر الأغنية التي كانت تنشدها أمي دائما ..لابد أنك تحفظ الكلمات
الفتى مبتسماً :نعم
-هيا بنا نغنيها سوياً
-تلاقت أرواحنا ..فحمل سرنا الملاك...
وما كادا ينتهيا حتى قطع إنشادهما قطعة
نقود معدنية، تدحرجت بجوارهما ، هوت إليها
الفتاة ..تناولتها ،علا وجهها إبتسامة ظفر
قالت مداعبة وهي تنحني : سيدي الغالي..أي قطعة من "الأيس كريم" تريدها..نحن طوع أمرك :
:دعني أفكر
: حسناً..سنأتي لك بأكبر قطعة من "الأيس كريم"..ذهبت الفتاة ،إلى أحد الباعة الجائلين
لشراء قطعة "الأيس كريم"، لكن البائع أشار
إليها أن القطعة المعدنية ،لاتكفي لشراء قطعة ولو من الحجم الصغير،نظرت الفتاة إلى شقيقها..حاولت مراراً إقناع البائع ..لكنه رفض طلبها ،توسلت إليه ..أمعن في الرفض ..حاولت مقايضته بحذائها.. لكنه تعلل بأن فردة واحدة لاتصلح بدون أختها..رفض البائع كل المحاولات بمنتهى الصلف والغلظة ..بات كل محاولاتها في مقايضة البائع بالفشل ..ركلت الأرض وتلمظت من شدة الغيظ ،وعادت تجتر أذيال الخيبة والحسرة
، ناكسة رأسها تتمتم
بكلمات نابية من شدة الغضب والفتور،حانقة
على ذلك العالم..الذي لا يعرف طريقا للرحمة
جلست بجوار شقيقها، الذي مال برأسه إلى كتفها
ورمقت دمعة حارة تنساب على خده،ألقت نظرة حانية على شقيقها، وداعبت وجنتيه قائلة: لاتراع من شيء ..طالما كنا سوياً ،سنكون بخير ..أنصت إلي جيداً
لقد وعدت أمي أن أعتني بك.. ولن أخذلها ما حييت ، كانت الفتاة تدبر شيئا في طيات عقلها ..طالما أن القوانين هي التي تنظم وتسير الحياة على الأرض ..فلابد أن يكون لها قوانين تتفق مع حاجاتها ومتطلباتها ..وليست القوانين كتب مقدسة لايمكن تغييرها في ذلك العالم الغريب. نظرت الفتاة لشقيقها
- ستذهب الأن بمفردك .وانتظرني عند المنحنى الذي يقطعر طريق الحديقة قرب السياج الخشبي
لقد صرت كبيراً ..سأختبر مدى سرعتك اليوم ..حسناً لاتجفل ..أعتمد عليك يا رجلي الكبير
ذهب الفتى وهو يلقي نظرة حانية إلى شقيقته التى استدارت كالصقر يرمق هنا وهناك، يتحين الفرصة للإنقضاض على شيء ما
عزمت الفتاة علع إختراق القوانين والتمرد عليها،وسنحت لها الفرصة ،وجدت ضآلتها
طفل حظى بقطعة من "الأيس كريم" الحجم الكبير، وفي غفلة من ذويه، وبصمت وحذر ..دنت منه بتباطأ شديد وقالت
- أيها الفتى ..ثم أخرجت من طيات أكمامها قطعة النقود..هاك قطعة معدنية ..يمكنك استخدامها في المراهنة مع اصدقائك أنظر ..إنها تلتمع تحت ضوء الشمس ..وتصدر رنين ووميض ..هل تقايضني بقطعة الأيس كريم ..الفتى - ليس لي حاجة بها ..أبي يملك الكثير منها ..ثم أعرض عنها ..لكن الفتاة عاجلته باقتناص قطعة الأيس كريم
- طالما أن والدك ثري هكذا ..فلن يضيره إذا أضعت واحدة
،ثم أنطلقت مهرولة تعدو كالريح، .. لكن الطفل صرخ صرخة عظيمة ، ثم انخرط في نشيج مرير خالطه بكاء وعويل ، احتشد الاطفال حوله اشتد الصراخ
، سادت حالة من الذعر بين الأطفال، الفوضى عمت المكان، شرطي الحديقة، أطلق صافرة الإنذار..
الفتاة تعدو مسرعة، رنا إلى مسامعها صخب وضجيج، التفتت خلفها وجدت مئات من الرجال والنساء يطاردونها ..علام كل ذلك ..؟ تسائلت في براءة
من أجل ماذا؟من أجل قطعة أيس كريم!! يالها من مدينة بخيلة حقاً!.
شعرت الفتاة بالخوف والقلق يداهمها نسيت متاعبها ، تذكرت شقيقها، تسائلت في وجل : تُرى أين هو؟تعثرت..
فقدت توازنها، ترنحت على حافة الطريق ، صدمتها شاحنة مسرعة ، أطاحت بها قرب السياج الخشبي، تهشمت قطعة "الأيس كريم" تجشأت دماء غزيرة من فمها ،وشعرت ببرودة تدب في أوصالها، ترائت لها أطياف وكائنات نقية ، يحمل بعضهن هدايا ،والأخريات قطع من الأيس كريم محلى بالشوكولا..ندت بسمة من عينيها تدحرجت إلى شفتيها اليابستين هي تنازع في الرمق الأخير
- أسفة يا أمي.. العالم لم يسعنا!
تحجرت عيناها ،ثم لفظت أنفاسها الأخيرة..
إحتشد الناس حول جثة الفتاة وتكاوموا جميعاً تسائل بعضهم : علام كنا نطارد؟
قال أحدهم: لا أدري وجدت الجميع يركضون ففعلت مثلهم.
قال آخر :شرطي الحديقة ، هو من أطلق صافرة الإنذار.
دنا مُسن أسود يقطن بجوار الحديقة حدج إليهم طويلاً ثم قال ساخراً: بئس القوم أنتم ،ُنزعت الرحمة من قلوبكم ، تطاردون تلك الضعيفة المسكينة ،وأشار إلى الفتاة المسجية بجوار السياج الحديدي ، من أجل ماذا ، من أجل قطعة أيس كريم! ياللخزي والعار، هل تحجرت قلوبكم إلى ذلك الحد !!، وتبلدت من الأحاسيس ! تباً لكم أيها الأوغاد..
ثم بصق الأرض أمامهم واستطرد قائلاً :أتمنى أن أراكم في الجحيم.. أيها الأشقياء
غادر العجوز يدندن بكلمات حزينة: غادر الأمل حنايا المدينة البائسة.. فلم تعد مدينتي إنى بريء من قوومي...
أقترب شقيقها ولا يكاد يصدق ، هول الصدمة التى خلعت قلبه من جذوره ،أغرورقت عينيه بالدموع إنسابت كالخيوط على خده حاول يائسا رتق الأمواج المنهمرة من فيضان الدموع الذي أدمى عينيه بكلتا يديه ، مسح بأنامله الرقيقة دموعها المنحدرة فوق خديها الأسيلين داعب ثغرها المتعب ،وشرع ينشد بصوت ٍ عذب
تلاقت أرواحنا..فحمل سرنا الملاك..
يداه تضمّانها بعنفٍ إلى جسده المحموم انتفاضاً ، وقد أسند ظهره إلى الجدار ، ينزلها برفقٍ على منكبيه ، يمسّد شعرها وخصلاته الناعمة التي ترشح باللّون الأحمر .امتلأت الساحة عن آخرها برؤوسٍ ذات أشكالٍ متعدّدةٍ ،وعيون مرتعدةٍ ،فضوليّةٍ ،، وقلوبٍ لها نشيج ..لا تخلو من الرحمة والشفقة ممّا ترى
جاء شرطي آخر..
دنا من الفتاة ، جثا على ركبتيه، إنتزع سترته، وغطى بها سيقان الفتاة العارية،حدج الشرطي إلى القوم وقال مكفهراً:
من الأحمق الذي أطلق صافرة الإنذار؟.. أشار الناس جميعاً إلى شرطي الحديقة..أجهشت بالبكاء إحدى السيدات
البدينات، وتأثرت لمصرع الفتاة الصغيرة فقامت بشتم الشرطي وركله أسفل خاصرته عقاب له ، فتأوه متوجعاً وسقط على بطنه ..
وقالت مقطبة: صدق الرجل الأسود..ما أنتم إلا مجموعة من الحمقى الأوغاد ..لاتعرف الرحمة طريقها إليكم ، تباً لكم جميعا،وتباً لتلك المدينة المشئومة ، تكالب الأطفال حول الفتاة، وأحسوا بالشفقة لما آل إليه مصيرُها ..قام الشرطي بحمل الفتاة بين ذراعيه، وقال للفتى :لن تصير وحيداً يا بنى بعد الآن ،هيا بنا .. صار الفتى برفقة الشرطي والدموع تسيل على نحره ينشد بصوت خافت متقطع : تلاقت أرواحنا...
،وشيدوا تمثالاً لفتاة صغيرة ناشرة جدائلُها ، تحمل جناحين صغيرين ، قابضة بكلتا يديها على قطعة أيس كريم.
شرع الأهالي في إقامة منافذ ترفيهية، من أجل قطع الأيس كريم مجاناً ، وكذلك المساهمة في تلبية الإحتياجات الضرورية للتخفيف عن الفقراء والمعدمين داخل المدينة ، وصارت مدينة "حمص" رمزاً في الخير والعطاء ، وسعى الأهالي في عزمهم إلى تخليد ذكرى الفتاة التى لاقت حتفها في ذلك المكان عن طريق إقامة تمثال لها داخل الحديقة العامة.. وبعد عشرين عاماً ظل المكان مزاراً يُحتفى به ،ويغشاه الزوار من كافة أنحاء العالم ، ويحكى قصته فتى وسيم يشير إلى ذلك التمثال بزهو: تلك الفتاة الجميلة شقيقتي، وهذه المدينة مدينتى ،مدينة الأيس كريم"
تعليق