الهرَمُ الذّهبي
بقلَم يوسف قبلان سلامة
كان فارس يعيش في كنَف أسرةٍ ميْسورة الحال في منطقةٍ صحراويّةٍ في مدينة أبوظبي، عاصمة دولة الإمارات العربيّة المتّحِدة. كان أفراد عائلته مولَعين بالزّراعة، ومنزِلُهُم مُحاطاً بالمزروعات، حتّى لَيُخيَّلُ للمُشاهِد أنّهُ في الفردوس.
نال فارس في تلك المدينة قَدْراً كافياً مِن العِلم، خصوصًا العُلوم المُختَصّة بالكون والخليقة التي كانت تستهويه كثيراً. كان دائِم التأمّلِ بالنّجوم والشّمس عندَ بُزوغِها و مَغيبها، لا سيّما أنّ للشّمس رونَقاً خَلاّباً في تلك اللحظات في الصّحراء. في كُلّ ليلةٍ كان يَسيرُ مُتَأمّلاً الحَيَوانات التي كانت البادية تقوم على تَربيتِها، كالدّواجِن، والجِمال، والأبقار، والماعِز التي كانت تسير في كُلّ مكان.
في إحدى الليالي، بينما كان يتَنَزّه بالقُربِ مِنْ مَنْزِلِه، شاهَدَ ظاهِرَةً قَمَريّة حدَثَت أمام سُكّان تِلْكَ المدينة، إذ كان القمر قَريباً مِن الأرض بحيثُ استطاع كثيرون رؤية تضاريسِه بِكُلّ وضوح، إذ بَدَت كأنّها جِبال على الأرض، وتبَعَ هذه الظّاهِرة بُروزُ حَلَقات مُشِعّة حول القَمَر. أمّا الأمر الأغرَب فهو اختفاءُ القَمَر تدريجيّاً عن العَيان (على الرَغم مِن عدم ظهور أيّ سحابة على الإطلاق في الجوّ). وبقيت تلك الهالة مُشِعّةً حول القَمَر! على أثر ذلك حَدَثَ هَرجٌ و مَرْجٌ شَديدَان. فراح كلُّ فردٍ يُفسّرُ هذه الظاهرة على طريقَتِهِ.
فجأةً شوهِدَ شيخٌ مِنَ البادية ذو لحيةٍ كَثّة بُنيّة اللون، طويلة و ناعمة، ذو عينَين كحيلتَن وواسعتَين، وعليه عباءةٌ قُرمُزيّة. أمّا هيئتُه فقد بَدت هيئةَ كائنٍ آتٍ من عالَمٍ فضائيّ. مَرّ الشيخُ وَسْطَ الشّعْب متَوَجّهاً نحوَ فارِس، طارِحاً عليه السّؤال التّالي: "ما هي المَرحلة أو اسم (الوَجه) الذي يَكون للقَمَر عِنْدَ حُدوث براكين هَوائيّة فيهِ؟"
لم يستَطِع فارِس الإجابَة، إذْ كان في العاشِرة مِن عُمْرِهِ. لكِنّهُ ألَحّ على الأعرابيّ أن يُعيد سُؤالهُ. فأجاب الأعرابيّ: "كيف يَبدو القمَر لِلْعَيان مِنَ الأرض، هَل يبدو في حالة مُحاق، أم بَدْر، أم غير ذلك؟..."
فأجَابَهُ: شاهدتُ مُسلسَلاً عن قِصّة "ألف ليلةٍ و ليلة" تتحَدّث فيه بَطَلَة القِصّة عن وجود أوجُه أو مَراحِل كثيرة لِلقمَر، يُناهِزُ عَدُدها العِشرين.
لكنَّ فارِس لَم يُصِب في جَوابِه،إذ كان عسيراً حَتّى على الأساتِذة المُختَصّين في عِلْمِ الفَلَك.
إستطْرَدَ الشّيخ قائِلاً: "طَرَحْتُ هذا السّؤال على كثير مِن عُلَماء الفَلَك، إلاّ أنّ أحداً لم يأتِني بالجَواب الوافي. فالجواب الوافي على أحجيَّتي لا يكفي فيه أن تقول ’القمَر بَدر أو أن تُعَدّد الأوجُه‘. ثمّ تابع كلامه قائلاً: "ألم يعلّموك في المدرسة أيَّ شيء عن الفلَك؟... ألم يحُلَّ الأُحجيَّة أيُّ شخص بعد؟" ثمّ أطلق ضحكةً هستيريّة سمعها كثيرون.
بَعْدَ ذلك مَضى، ولَم يَعُد يَراهُ أحَدْ البتّة.(تُرى أَتوجَد مَرحلة مِن مَراحِل القَمَر يُمكِن أن تظهر فيها "للعين البَشَريّة" هالاتٌ ضوئيّة في مِنطَقة مُعيّنة مِن الأرض، وفي موقِعٍ مُعيّنٍ للقَمَر؟") أنا أعتقِد أَّنَّ هذا ما عَناه الشّيخ في سؤالِه الغريب. لكنْ مِن المَعروف أيضاً لا هواءَ على سطح القَمَر إلاّ بِمُعدّلاتٍ ضَئيلةٍ جِدّا بل نادرة، ذلك إنْ وُجِدَت. إذاً يُمكِن القول إنّ المَقصود بالبَراكين الهوائيّة الزّوابِع الكهرَمغنَطيسّة التي تُطلِقها الشّمس بين فترَةٍ وأخرى لِتَصِلَ إلى طَبقات الأرض الغازيّة، وكذلك من الشّمس إلى جوّ القَمَر. هذه أكثر التّفسيرات منطِقيّة لهذه الأحجيَّة، والله أعلم.
بعد أن مضَى عَشرُ سَنَوات على تِلْكَ الحادِثة، قَرّرَ أهل فارس أن يُغادِروا الصّحْراء لِكَي يُتابِع ابنُهم دراسَتَهُ في إحدى الجامِعات اللبنانيّة. كان دائمَ الشّعور بِمَيْلٍ نحوَ الأمورِ الرّوحيّة. وكثيراً ما كان يُحدّثُ أهله عَن الرّؤى والأحلام الغَريبة التي كان يُشاهِدها أثناء نَوْمِه. كانت ملأى بالقِصَص والأحاجيِّ الجميلة. هكذا راح يتأقلُم شيئاً فَشيئاً مَعَ الجوّ الجَديد. إلاّ أنّ الحالة الاجتماعيّة الصّعْبَة التي كان يَعيشُها أهلُ قَريَتِهِ أحْزَنَتهُ كَثيراً. فالتّعَلُّق بالماديّات كان الأمرَ السّائد فيها. لِذلك كان حديثُ النّاس في تِلْكَ القَريَة يقتَصِر على الحُصول على مَبالِغَ طائلة مِنَ المال، لكَيْ يَستَطيعوا تحقيقَ رَغَباتِهم الدّنيَويّة كبِناء قُصورٍ شامِخة، وَمطاعِمَ فاخِرة إلخ... وكَثُرَت الإشاعات والأخبار التي تَتَحَدَّث عن الحُصول على مبالغَ ماليَّة كبيرة عَن طَريق التّعاويذ، ومنها الحَديث عَن زِئبَق يُدعى بالزّئبَق الأزْرَق، وعن أنّ هذه المادّة (النّادِرة الوجود) تَكونُ مُتَرَسّبَةً على الحِجارَة، ذلك إن وجِدَت. وَيُزْعَم أنّهُ إن تسَنّى لأحدِ الحُصول عَليها، يَزْداد إذ ذاك رَصيدُه في المَصْرِف الذي يودِع أموالهُ فيه أضعافاً مُضاعَفَة بِقوّةٍ خَفيّة. ويُقال إنَّ هذا النّقش يأخذ هَيْئة هَرَم حيثُ يتَرَسّب، وإنّ أحد الفُقَراء قَد حَصَلَ على هذا النّوع مِن الزّئبَق، فاحتَلّ مَرْكَزاً مَرْموقاً، إذ أصبَحَ حاكِماً سياسيّاً، و بَدأ حِسابه في المَصْرِف يَزْدَاد دون أي سَبَبٍ مَنطِقيّ.
لقَد حاوَلَ فارس تحليل هذا الأمْر، لَكِن دونَ جَدْوى. وكان يَعْمَلُ جاهِداً على إظهار كَلِمَةِ الحَق لإزالة جَميع التّعاليمِ الكاذِبة، إذ لم يكن يؤمن البتَّة بوجود إنسان يصنعُ المعجزات سوى الأنبياء. وكان يُحاربُها بواسِطَةِ كَلامِ الله الوارد في الكُتب السّماوِيّة. لَكِنّهُ تَذَكّرَ حَديث أهلِهِ عَن مَنْزِلِهِ الذي كان مَحَطّ رِحال مُعْظَم المَسافِرين المّارّين في قَرْيَتِهِ مِن شَخْصِيّاتٍ سياسيّةِ إلى فُقَراء ومعوزين. وكان الجميع يَذكُرونَ الخِصال الحَميدة التي كانت عائلته تَتَحَلّى بِها. وكان الزائرون يَسْتودِعونَ عِندَ أَهلِه كُتُباً قديمة ونادِرَة. ومِراراً قام بِمُحاولةٍ لِقِراءَةِ تِلكَ الكُتُب للتّوَصُل إلى نتيجةٍ لِحَلّ تِلْكَ المُعْضِلَةِ التي حَدّثَهُ عنها الشيخ. وكان يقرأ أيضاً جميع المجلاّت العِلميّة المُختَصّةِ بِعِلمِ الفَلَك، وأخبارَ البَعْثات الفضائيّة التي تمّ إرسالها إلى الفَضاء الخارِجيّ. وهكذا مَضَت الأيّام و الشّهور وهو يَدْرُس ويبحَث في هذه العُلوم، راسِماً مَنازِل القمَر، واضِعاً الدّوائر بعضها تحت بعضِ لتُشَكّل حلَقة دائريّةً. )وكان آخِر ما قرأه عن تلك الظاهِرة التي حدَثت مُنذُ عشر سنوات هو استِنتاج بعض العُلماء أنَّ أجساماً طائرة آتيةً مِن عالم آخر كانت تحوم حول القَمَر، الأمر الذي أدّى إلى ظهورِ تلك الهالات مُشِعّة حوله.( أمّا الأمر الأغرَب أيضاً فهو عدَم استِطاعَة العَدسات الفضائيّة نفسها كشف القَمَر المُختَفي. وتحدّثت هذه الصّحُف عنزعم بعض العُلماء عن أنَّ سبَب اختفاء القَمَر في تلك الآوِنة يعود إلى توجّه القَمَر نحو مِنطقة مُثَلّث برمودا الشّهير مِمّا سبّب اختفاءه التدريجيّ الفِعليّ (كأن قوّةً ما جذبتهُ إلى تلك المِنطقة أي الإمارات العربيّة المتحدة، بحسب رأي عُلماء الفَلَك). فهَل لظاهِرة اختِفاء القَمَر عِلاقة بذلك المُثَلّث حقّاً؟!
في أحَد الأيّام حَدَث أن شاهَدَ فارس حُلْماً عَجيباً. لَقَد شاهَدَ ذلك الشّيخ مُحاطاً بِجيشٍ كثير العَدَد، لكنّه لَم يستطِع تبيُّن هويّة ذلك الجيش، بل حتّى إن كان مَع الشّيخ أو ضِدّهُ. ثُمّ ذكَرَ الشّيخ لِفارس أُحْجيّةً غَريبَة (يُمْكِن) أن تحْمِل حَلاًّ لذلك اللغز عَنِ القَمَر. إنّه ذلك السّؤال الذي طَرَحَهُ الشّيخ لِفارِس عِندَما كان صَغيراً. بَعْدَ استيقاظهِ مِن النّوم، حاوَلَ جاهِداً استِجماع ما جاءَه في الحُلم و قام بِتَدوينِه. تَقول الأحجيَّة: "عِندَ انقضاء الهَزيع الثّاني مِنَ الليل، في ليلةِ يُوارَى فيها القَمَر، يَبْرُزُ شُعاعٌ مِنَ السّماء،فاحذَر السّقوط في الهُوّةِ التي في قَلبِ مَرْكَزِ القُوّة. واصْمُد و انتَظِر حتى يتَسَنّى لَكَ الانتصار حيث التّماسُك و الثّبات."
بعد أن قام بتحليل ما رآه، استنتج أنَّ للأحجيَّة شقّين، واحدًا فكريًّا أو عقائديًّا، والآخر جسديًّا. وخرَج إلى شُرفة منزِلِه وراح يتأمّل في السّماء. فجأةً، لاحظ نوراً قويّاً مُنبَعِثاً منإحدى شُرف منزله العلويّة. فقال في نفسِه: علّ لمَنزِلي علاقة بحلّ هذا اللُغز ، ولا سيَّما أَّن نوراً عجيباً ظهر في تلك اللحظة من طابِق منزِله العُلويّ. وفِعلاً صَعدَ إلى الطّابِق العُلويّ عِنْدَ السّاعَةِ الواحِدَة. ولَكِن، يا لَلْهوْل! لَقَدْ شاهَدَ أشِعّةً تَتَسَرّب مِنَ انشِقاقاتٍ في داخل الحائط لِتَبدو كأنّها أشِعّة الشّمس أو ليزر، وقد شكّلت طبقة دائريّة! مَع العِلم بأنّ القَمَر كان غير مُضيء في السّماء في تلك الليلة. تُرى ما هو تفسير هذه الظّاهِرَة الغَريبة؟ نَظرَ إلى الحائط، فرآه مَكْسوًّا بالغُبار الكَثيف. ما إن قام بِإزالة الغُبار اللاصِق كالإسْمّنْت، حتى اكتَشَفَ فجوات في الجدار. فجعَلَ يُكسِِّرُها بواسِطة حجر كان قد وجَدَهُ على الأرض. و ما إن حَطّم الحائط حتّى دُهِشَ لدى مُشاهدَتِه بابًا مُستَديرًا كان بحجم تلك الطبقة الضوئيّة، وَبَدا كأنّه مُقفَل مُنْذُ مِئات السّنين. ثُمّ لاحَظَ أنّ الباب يَقِفُ كَدعامَةٍ للسّقف، فالباب ذو قُطْر واسعِ جِدّاً. ولمّا حاوَل فتحَه، شَعَرَ باهتِزازٍ في أعْمِدَةِ البيْت. فكان عليه أن يَفْتَحَهُ بِبُطء وحَذَرٍ شديدين، وأن يَحْشُرَ نَفْسَهُ بين الباب والحائط ثُمّ يَدْخُل الغُرفة. هكذا نَجَحَ في الدّخول، وأعاد إغلاقَهُ مُجَدّداً. وقَد شَعَرَ بِتَعَبٍ شديد بسَبَب دَفْعهِ الباب إلى الأعلى وخوفِه مِن انهيار السّقْف، إذ كان يَدْفَعُه تارةً إلى أعلى و طَوْراً إلى أسْفَل، ثمَّ إلى الدّاخل فالخارِج. وما إن دخل الغُرفة حتّى شاهَدَ، ولِعينِ الدّهشَة، دفّةَ سفينة كَبيرة قَديمة، مَصنوعةً مِن الذّهَب، ومعلّقة على الحائط، وحولها تمتدُّ عشرون عصًا صغيرة للتحكّم بها. وفي وسط الدّفّة صفيحة معدنيّة ذهبيّة نُقِشَ عليها كلمة "جاهِدْ"، وقد كُلّلَت الكلمة بأوراق غارٍ ذهبيّة منقوشة أيضاً. كذلك شاهَدَ أدواتٍ أُخرى كَتَماثيلَ لِسُفُنٍ عَرَبيّةٍ و غَربيّةِ مُرَصّعَةٍ باللؤلؤ والأحجار الكَريمة اللامِعَة الزرقاء، والخضراء، والحمراء. كما شاهد كتُباً قديمة جدّاً تختصُّ بالأدب وعلوم الفِراسة، والفَلَك والجيولوجيا إلخ... إنّها غُرفة سِريّة قام أحدُ أجداده بإيداع تُحَفِها، لكنّه مات دونَ يُعلِم أحداً، لكي لا يقوم أحدٌ ببيعِها، إذْ كان مُتخوّفاً مِن مَجيء أيّام اقتِصاديّة صعبة قد تأتي بِمَجاعاتٍ عليه و على كُل سكّان بَلَدِه. فقد اختزنها ليُساعدَ الفُقراء والمُحتاجين في وقت الضّيق .
ما إن فَتَحَ الباب الُمُستَدير الذي وَجَدَه في تلك الغٌرفَة وخرجَ إلى الشّرفة ذات الطابع الأندلسيّ القديم حتّى شاهَدَ سِلسِلَةَ جِبال ملأى بالمَغارات، والجُسور الخَشَبيّة القديمة، والسّهول، واليَنابيع، والأزهار المُضيئة. والجديرُ ذِكرُهُ هو أنّه لا يَستطيع أحد مُشاهدَة هذه الجَنّة المَخفيّة (في قريته) إلاّ مِن خِلال ذلك الباب، إذ كانت هنالك فَجوَةٌ (سِريّة) في الجَبَل قَد أُسّسَ المَنزل عِندَها. فَتَلك المِنطقة لها طريق سريّة لَم تُكَتَشَف بَعْد.إذ إنَّها مُغطّاة بالصّخور حتّى مِن فوق، لتبدو كالمَغارة الهائلة الحَجْم. هذا فَضلاً عَن الأغصان الكثيفة المُتشابِكة ذات المتانة البالِغة التي تحجُب الرؤية من فوق لتشكيلِها سقفاً للمغارة، فيَظُنّ النّاظِر مِن الخارِج أنّه يَرى كُتلاً مُتراصّة من الصّخور. وحَدَثَ أن شعَر فارِس بالنّعاس لدى مُشاهَدَته ذلك المَشهَد الخلاّب النّادِر الذي يُحدِثُ أثَراً عَميقاً في النّفس. وفجأة سَمْعَ هديراً قَويّاً آتياً مِن السّماء! فالتفَت إلى ناحيَةٍ مُعَيّنَة (شِبه مكشوفة) في سقف تلك المغارة، المُكوَّن مِن نباتات الصندل و البُطُم ذات الرائحة الزكيّة الفوّاحة، ليُشاهِدَ أشِعّة القَمَر وقَد بَدَت كخيوطٍ حَريريّة وهّاجة. وكانت الأشعَّة تتّخِذُ مِن وَقت إلى آخَر ألواناً كألوانِ قَوْسِ قُزَح (وقد شكّلت شعاعاً آتياً من السّماء مُخترقاً منزله)فتذكّر قول الأُحجيَّة: "يبرز شعاع من السّماء." وإذا به يلَمَح مَركَبَةً فضائيّة مُتّجِهَةً نحوَ الشّرْق، وقَد بَدَت كنيْزَكٍ فَضائيّ! فتَذكّرَ ما قرأهُ في الصّحُف عَن إطلاقِ مَكّوكٍ فَضائيّ في تِلك اللّيلة نفسِها. ثُمّ نَظَرَ إلى أسفَل، فشاهدَ قارِباً مَربوطاً بِحَبْل. ثُمّ فوجئ لدى مُشاهَدَتِهِ شيخًا يَبْرُزُ مِن بين الأشجار التي تحمل ثماراً بلّوريّة، وكان متوجِّهاً نحو القارِب. واشتدّت الريّاح، وعَلا زئيرُها، وراحَ هديرُ مياه النّهر المُنصَبّ في فجوَةٍ تحتَ مَنْزِلِهِ يَزْدادُ صَخَباً. جعلَ فارِس يُدَقّق في تلك المناظر الخلاّبة، عَلّهُ يَعْثُر على المنفَذ الآخَر للنّهْر، إذ كانَت الرّياح مُنحَصِرةً في تِلكَ المِنطَقَة السّريّة.
فجأةً استرعَت انتباهَه ثمرةٌ بلَّورية تُشبه الإجاص مُكلَّلةً بوردٍ جوريّ متَّصل بعضُه ببعض. وكانت هذه الثمرة تبعد عن الشّرفة حوالى متر ونصف. ما إن أمسك بها مادّاً يدَه بكلِّ قوَّة وهو واقفٌ على الشُّرفة حتّى انهمرَ منها سائلٌ أزرق. فشَعَرَ فارِس فَورًا بِدُوار، وسَقَطَ في مياه النّهْرِ الجارِفة فاقِداً وعيَه ليَجِدَ نَفْسَهُ في ما بعد داخلَ القارب المربوط بشجرة صنوبر، على ضِفّة النّهر في أسْفَلِ البيْت، وبين يدَي ذلك الشيخ. وما إن شاهد الشيخُ السّائل الذي ترسّب في القارب حتى قال في نفسه: "إنّه الفتى المقصود." فأخرج فَورًا سيفاً ذهبيّاً وقطعَ حبلَ القارب صارخاً بأعلى صوتِه. وفي الحال استيقظ الفتى ليجدَ نفسَه في قاربٍ منطلِق بسرعة جنونيّة! وكانت عيناه مُسمَّرتَين بالسيف المُشِعّ الذي اخترق أحد جوانب القارب، وقد نُقِشَت عليه كلمة "جاهِد".
راح صخبُ هدير المياه يزداد. فأدْرَكَ فارِس، إذ ذاك، أنّهُ مُتّجِهٌ نحوَ مُنحَدَرٍ عميق، وبالأحرى نحوَ شَلاّل كان يَـبْعُد عن منزِلِهِ حوالى خَمْسَة أميال. جعَلَ يُفَكّرُ باللُّغزِ وبالهوّة التي ذكرَها لهُ الشيخُ في أُحْجِيَّتِهِ. فجأةً أَقبلَت موجةٌ عالية جعلَت تتَّخِذُ هيئةَ طائرٍ مائيّ جبّار طويلِ الجناحَين، آتٍ مِنَ النّاحيَةِ الشماليّة المُقابِلةِ. وكان نورٌ وهّاج مُعمٍ للأبصار منبعثاً منه. وبَدا هَديرُ المياه كأنّهُ آتٍ مِن حُنُجُرَة ذلك الطائر باتّجاهِ ذلك القارِب. كان الشيخ محتضنًا فارس ومُمسِكاً إيّاه بكلّ قوّته لئلاّ يسقُط. وكانت الموجة عالية جدًّا فابتَلَعَت كُلّ ما في طَريقِها مِن صُخورٍ وأشجار صنوبَرٍ و نَخيل. فَجأةً، فَتَحَ ذلك النّسرُ فَمَهُ مُبتَلِعاً القارِب وما فيه! فوجدَ فارِس نَفْسَهُ وحيداً بَيْنَ تيّارَين مُتَعارِضين يشُدّانِه باتّجاهَين، حتّى شَعَرَ بأنّ جَسَدَهُ بَدَأ يَتَقَطّع، لأنَّ الشيخ لم يستطع تحمُّلَ تلك القوّة الصّاهرة للأجساد صهراً. لكِنّهُ أدرَك فيما بعد أنَّ التيّارين هُما جَناحا نسْر، إذْ بَدا النّسرُ كأنّهُ يُحَلّق في الفضاء وعلى ظهرِهِ فارِس! تُرى هل كان في تِلك اللحظة قد سقَطَ لدى وصولِه إلى حافّة الشلاّل، وما لبَثَ بعْد ذلك أن غَرِقَ في المياه؟
ثُمّ فَتَحَ فارس عينَيه ليجدَ نفسَه في صحراء رَمليّة ملأى بالكُثبان! وازداد عَطَشُهُ. سأل نَفسَه: تُرى أينَ أنا؟ وأين ذلك الشَلاّل العَظيم؟ ومِمّا لَفتَ نظرَه، بعد ذلك، هو أنَّ تضاريسَ هذه الأرض تُشبهُ إلى حَدّ كبير تلك التي شاهَدَها على القَمَر، أي قَبْلَ عودَتِه إلى وَطَنِهِ! لكنْ ما الذي جاء بالرّمال إلى سطح القَمَر؟ تُرى، هل تحوّل ما شاهدَهُ الى حقيقة؟ أي هَل أصبحَ الآن على سَطْحِ القَمَر؟ هكذا مَضَت السّاعات وهو هائمٌ في ذلك القَفْرِ يَشْرَبُ مَن مياه إحدى الواحات، ويأكُل مِن أسماكِها اللذيذة الطّعم! بعد ساعةٍ تقريباً، سمِعَ صوْتاً كانّه صوْتُ رَعْد، بَدأ يحَدّثهُ قائلاً: أنا سأدلّك على الطّريق. ما إن التفَتَ خَلفَهُ حتّى شاهَدَ قصراً ظهَرَ فجاةً في وسط جَبَلٍ مُقفِر، وكان يُشبِهُ في تكوينهِ الهَرَم المِصْريّ.وكانت مَساحة قاعِدة الهَرَم مُطابقة لمساحة هرَم خوفو المصريّ. ثمّ شاهَدَ فارِس أطيافاً بدأت تهيمُ حولَ ذلك القَصْر! وكانت تلك الأطياف تتعاوَن لِجَرّ أحجار مُكَعّبَة الشّكْل بالِغَة الثّقَلِ وهائلَة الحَجْم. ثمّ جعلَ يُدَقّق النّظَر في ذلك الهرَم، فوَجَدَ درَجاً عالياً. ثمّ رأى في نهاية الدّرَج شيخاً جالِساً على كُرسيّ ذهبي مُرَصّعٍ بالأحجار الكَريمة. كان ذلك الشّيخ ينتظرُ ساعةَ إنهاء بِناء القَصْر. وكان مُرتَدياً غِطاءً حَريريّاً مُذهّباً على رأسِه، وقَد بدا حِجابُه كأحجِبَة الفَراعِنَةِ المُلوك. فأدرَك فارِس أنَّ هذا الشّيخ هو نَفسُه الذي رآه في الحُلم وفي القارب. حاوَلَ فارِس الاقتِراب مِن العُمّال، لكنّه لَم يستَطِع، إذ شعَرَ بِقوّةٍ تدفعهُ عنهُم. فَهُم أَطيافٌ روحيَّة محكومون مِن قِبَل سُلطَةٍ ذاتِ نفوذ عالٍ. وَشَعَرَ بأنّهُم كانوا يتَحَدّثون معَهُ، لكنّه لم يكُن يسمَع أَصواتهم، كأنّ حاجِزاً روحيّاً كان يحول بينه وبينَهُم! وقد شاهد أيضاً حول ذلك الهرَم، بمسافة كيلومتر على الأكثر، مصانعَ ذريّة متطوّرة للدّرجة القُصوى، وطُرُقًا، وجسورًا وسيّارات تسير بشكل منظَّم دون عجلات كالطّائرات! وفجأةً شَعَرَ بِقُوّةٍ كانت تجذبهُ نحو الهَرَم، وشَعَرَ بضيقٍ في التّنَفّس، وأَحسَّ بيدٍ ذاتِ مخالِب كأنّها قابِضَة على كَتِفيْهِ. ثمَّ سمِعَ صوتاً كالرّعد قائلاً له: "إحذر السّقوط في الهوّة التي في قلب مَركز القوّة". ثمَّ تلبَّدت السّماء بالغيوم، وهطلَت أمطارٌ غَزيرة كادت تودي بِحياةِ المَلِك والعُمّال و القَصر الذي تهالكوا على بِنائِهِ. وهكذا جعلت الرياح تَجذب فارِس بِقوّة نحوَ القَصر مُتّخِذَةً مُجَدّداً هيئة نَسْر جَبّار كانت مَخالِبُه تنغرس في جَسَدِ فارِس، إلاّ أن قوّة روحيّة مَنَعت دَمَهُ من النّزيف، لأنَّه كان في مُهِمّةٍ روحيّة تحريريّة لم يعرِفها. كما لاحَظَ أيضاً أنّهُ كُلّما ضعُف ذلك النسر من جرّاء المشادّة خفّت حِدّة انهمار الأمطار الغزيرة مَعَ الرّياح على القَصْر و العُمّال. وكُلّما كان النّسر يشعُر بالقوّة جاذِباً فارِس نحوَ نفسِه، اشتدّت الرياح في قوّتها، لذلك ظلّ فارس مُمسكاً بمخالب النسر. و قد كان هَدَف ذلك النّسر حماية تلك المنطَقة من دخول الغرباء بإغراق الغُرَباء بالمياه. وبعد إنعامِ التفكير، أدرَك فارِس أَّنَّ النّسر في جَذْبِه نحو نفسه يُمّثّل "قلْب مَركز القوّة" كما وَرَدَ في تِلك الأحجيَّة. )مع العِلم بأنّه لم يكن ثمّة أيّ تأثير خفيّ من النّسر على فارس البتّة سوى الاحتكاك الجسديّ الخارجيّ المحسوس). لقد كانت تلك اللحظة الخطيرة وما تبعها من ظواهر لفارس مرهونة بتلك اللحظة عينها لا غير. فتذكّرَ قَوْل الشيخ في الأحجيَّة: "اثبُت و اصبرْ حتّى يتسَنّى لَكَ الانتصار حيث التّماسُك والثّبات."
كان فارِس في صِراعٍ نَفْسيّ مَرير، إذ أرادَ تحطيمَ هذه المَزاعِم الشِرّيرة المَنسوبَة لهذه (المسمّاة) بالرّقية للتغلُّب على ذلك الطائر. وبعد صِراعٍ مَرير تمَثّل بدوران فارِس حول الهَرَم، استطاع التغلُّبَ على النّسر و تَرويضَه، فظلّ جاثِماً على كتفِهِ. وفجأة سُمِع صوتُ تحطُّم حجارة عنيف. فقد سقط الهَرَم على إثر الرياح الشّديدة على الملك و عُمّاله غارِقاً في التّراب إلى الأبد. شعَرَ فارِس بِتَعَب شديد لَم يشعُر بِهِ في حياتِه، بَل قلّما شَعَرَ بِهِ مَخلوق، لكنَّه بَقيَ على قيْد الحياة. ثمّ استغرَقَ في نومٍ عميق. وما إن استيقَظ حتّى شاهَدَ رِجالاً يُمسِكونه بيدِه، إذ لَم يكونوا أشباحاً أو أطيافاً. كانوا يَرتَدون خوذات زُجاجيّة و بَزّات سميكة مضغوطةٍ بالهواء. وكانت صوَرُهم معَكوسةً على صفحة المياه المُجتَمعِة في الحُفَر التي أحدثَها وقعُ أقدام فارِس عِند مُصارَعَتِه للنّسر الذي تَغَلّبَ فارِس عليه. لكنَّه لَم يستطع رفعَ رأسه إلى أعلى، بِسَبَب الإرهاق الشّديد النّاتِج عن تلك المَعرَكة. وَعلِمَ بأنّهُم يريدون مُساعَدَتَهُ. فدارت في رأسه أسئلة مُحيّرة: تُرى ما الذي أتى برجال الفضاء إلى هذه الصّحراء الجرداء؟ وأين هو مكان هذه الصّحراء الموحش؟ وبينَما كان الرّجال يحمِلونَهُ، التفَتَ إلى القَصْر مُجَدّداً، لكنّه لم يجد له أثراً، فقَدِ اضمَحَل تدريجيّاً مَع تلك الأطياف والنّسر أيضاً، بل جميع مظاهر الحياة. أمّا بقاؤه على قَيد الحياة على القَمَر فيرجِع إلى قوّة روحيّة سُلّطت عليه بإذن من الله تعالى لإبقائهِ على قَيد الحياة لفكّ اللغز العجيب وفهم أسراره، إذْ لم تتكشَّف هذه الأطيافُ الروحيَّة و مظاهرُ الحياة المادّية إلاّ لسواه، إذ بدا كأنّه يصارع الهواء للعين البشريّة!
إستيقَظَ فارِس، بَعدَ ذلك، ليَجد نفسَه في المُستشفى وسط أطبّاء و مُمَرّضين قَد سَهِروا على عِنايَتِه. وشاهَدَ ذلك الشّيخ مُستَلقياً على سَريرٍ مجاوِرٍ. وكان أولئك الرّجال الذينَ كانوا يرتدون ملابِس روّادٍ الفَضاءِ واقِفين حولَ سَريرِه، وأقَرّوا بأنّهُم كانوا في بعثةٍ مُتوَجّهَةٍ إلى القَمَر. لكنَّ الأمرَ المُذهِلَ العَجيب هو أنّهُم شاهَدوه مع ذلك الشيخ بعد ظهورهما للعين البشريّة. وسُرْعان ما تَذكّر ذلك النّيزَك الذي شاهَدَهُ في تلك الليلة، إذ كان يَظُنّ بِأنّهُ شهاب، لكنّه لَم يَكُن كذلك على الإطلاق، بَل كان المكّوكَ الفضائيّ الذي شاهَدَهُ هوَ نَفسُهُ عَبر النّافِذة في منزلِهِ حين كان (المكّوك) مُنطَلِقاً مِنَ الولايات المتّحِدَة الأمريكيّة وعلى مَتْنِهِ رُوّاد الفضاء الذين التقوا بِفارِس على سَطْحِ القَمَر. كاد فارِس يفقِد عَقلهُ مِن جَرّاء هذه الألغاز والمُعمَّيات، فهو لم يُصَدّق بِأنّهُ كان هُناك. لكنّ روّاد الفضاء أكّدوا له ذلك بِدَليل وجود الصّوَر التي التقَطوها هُناك مُرسِلين إيّاها إلى الأرض عَبر وسائل الاتّصالات. وقَد شاهَدَه المَلايين مِن سُكّان الأرض، لكنّهُم كانوا مُتَعَجّبين مِن سَبَب بقائه على قيْد الحياة بالرّغم مِن انقِطاع الأكسجين هُناك. لكِنّه عَلِم بعد ذلك بأن قوّة روحيّة غامِضة حَفِظَته مِن الموت، وحَمَتهُ مِن أشِعّة الشّمس القاتِلة، وجعلته يُشاهد جميع تلك المناظر الحياتيّة. فتلك القوَّة هي التي حفظَت حياته الروحيّة إلى حين زوال انتقال سيّالاتها. لكنْ على الرّغم من محاولة فارس إقناع رُوّاد الفضاء بقصّة ذهابه إلى هناك، أكّدوا له أنّهم لم يشاهدوا أيَّ شيء ممّا رواه لهم.
ما إن غادَرَ روّادُ الفَضاء تِلك الغُرْفَة في المُستشفى حتى سَمِعَ صوتَ الشّيخ يتحَدّث إليه قائلاً: "ما هي المَنزِلَة التي يَكون عِندَها القَمَر لدى حُدوث براكين هوائيّة فيه؟" جَعَلَ فارِس يُفَكّر بالجواب، لكنّه لم يستَطِع حَلّ اللّغز. صلّى بِحَرارةٍ عَلّ الله يُلهِمهُ الإجابة الصّحيحة، وراح يُقارِن هذه الأحجيَّة بِتِلكَ التي شاهدها في الحُلم. وما كاد يَبوح بالسّر حتى رأى ذلك الشّيخ المُسْتَلْقي على السّرير يَرفَع يَدهُ في الهواء ويختفي كأنّهُ يَتَبَخّر في الفَضاء. فَجأةً ظهَرَت فتاة جميلة جِدًّا ذات شعر بنيّ طويل ووجهٍ عربيّ وعينين كحيلتين كعينَي الرّيم، وشامة بين الحاجبَين، و أخرى بين الأذن والكتف الأيمن. كانت هذه الحسناء مُستَلقيَة مكان ذلك الشيخ في السّرير. وكان فارِس يَتَصَبّب عَرَقاً. فأخرَجَت تِلك الفتاة مِنديلاً ذا رائحةٍ عَطِرَة، ومَسَحَت عَرَقَه المُتَصَبّب. وإذا به يُشاهد ما كان يُفَكِّر فيهِ بالنّسبّة لِحَلّ المُعْضِلَة، إذ كان الحَلّ مُدوّناً بِقُوّةٍ روحيّة على ذلك المِنديل. ومِمّا جاء في الكتابة هو أنَّ تلك (المسمّاة) بالبَراكين الهوائيّة يُمكِن أن تأتي في أيِّ وقت وليس في وقت زمنيّ مُحدّد، إذ يقوم العمّال في المصنع الذّريّ بتحويل موادَّ ونفايات إلى أغراض قابِلة للاستعمال، فينتُج عن ذلك التحويل طاقةٌ إشعاعيّة تقوم موجاتُها بإخفاء القمر عن العين البَشريّة مُدّةً زمنيّة مُعيّنة. فهناك حياة غير مَرئيّة على سَطح القَمَر، وهُناك حَضارة ومصانِع "ذريّة"، ويُمكِن أن يستغرِق اختِفاءُ القَمَر رُبع ساعةً كامِلة. إذاً الجواب على اللغز هو أنّ البَراكين يُمكِن أن تظهَر في (جميع) مَراحِل القَمَر، إذ لا وجودَ لموقِع مُعيّن له يُمكِن أن تظهَر فيه، إذ إنَّ قوّة التفاعُل النّوَويّ لا يُمكِن أن يعوقَها شيء عِندَما تُسَلّط، وقد نجَحت أوّل تجرِبة نوَوِيَّة. وكان ذلك عندَما شاهد سُكّان الأرض هذه الظّاهِرة مُنذ عشر سنوات. وإذ ذاك تَنتُج هذه الغازات التي (وصفها) الشّيخ بالبراكين الهوائيّة على هيئة سُحُب. وليس لمُثلّث برمودا أيّ علاقة في اختفاء القَمَر.
قال فارِس: باعتقادي الخاصّ إنّ كُلَّ المَظاهِر الماديّة و ما تحمِلهُ مِن أشكال، وأبعاد، و ضعْفٍ وقُوّة، ناتجةٌ عن جزاء وِفاق لِما فعلناه في تقَمّصات سابِقة مِن أعمال. وهكذا شُفيَ فارِس وحُرِّر العمّال الذين كانوا تحت نير الأشغال الشّاقة .أمّا عن قصّة وجود العمّال هناك فهي أنّهم قد شاهدوا في أثناء بنائهم للقصر في أيّام الفراعنة (أي منذ آلاف السّنين) رؤيا لنهرٍ كان ينبُع أمامَ أقدامهم. لكن ما لبث أن جرفهُم تيّار مائيّ ليُشاهدوا، وهم سابحون بعد ساعتين تقريباً، مشاهدَ لمُروج و سهول ووديان خضراء، وأثمار أشجار مُضيئة مِن جميع الأصناف، فضلاً عن أسواق قديمة ذات قناطر ونافورات أندلسيّة ذات مياه بلّوريّة صافية، تماماً كالتي شاهدها فارِس من تلك الشّرفة السّريّة. وهكذا دخل العُمّال إلى تلك البُقعة الغريبة. وما هي إلاّ دقائق حتى وجدوا أنفسهُم على سطح القَمَر مَحكوماً عليهم بالأشغال الشّاقة. كما إنّه لم يحقّللعمّال استعمال أيّ آلة يمكن أن تسهّل عملهم في رفع تلك الأثقال، ليُخَلّدوا تحت هذه الأشغال (كَمَساجين) حتّى يقوم أحد بِحلّها (إذ وعدهم الشيخ بالخلاص عند حلّ أي شخص للأحجيَّة). أمّا سببُ مُكابَدتهم تلك الأشغال الشّاقّة فهو حُكم مسؤوليهم على كلِّ مَن لم يُتمّم عملَه بكفاءة؛ فكانت النتيجة إيقافَ عملِ أيِّ نوعٍ من أنواع الآلات مهما كانت وظيفتُها، ولا سيَّما تلك الرّافعة للأحجار، وبالتالي العمل وَفقَ إرشادِ أحدِ المسؤولين. وقد حدَث، فور انتقالهم، أن شاهدوا قِطعة أرض مطابِقةً لتلك القطعة التي كانوا فيها على الأرض، لكنّ الشيخو كُل من وجِد معه لا يُرون بالعين البشريّة إذ وضِع عليهم سيّال* ليختفوا أمام أعيُن البشَر الكائنين على كوكب الأرض. و قد أبقتهُم قوّة روحيّة على قيد الحياة. و هكذا فقد حَلّها فارِس بعد صِراع نفسيّ وجسديّ عجيب مع السيّالات الضّعيفة الكامِنة في نفسِه والتي تقمّصت مُجتَمِعةً نسراً على سطح القَمَر (في تلك اللحظات فقط)، وقد تغَلّب عليها، أي سيّالات التّجرِبة الكامِنة في نفسِه، روحيّاً وجسديّاً، فقد قهَرَها (بإيمانِه). أمّا صِلة فارس بالنسر فهي أنَّ الأوَّل كان أميراً في مصر الفرعونيّة، وقد تجسّد أحدُ سيّالاته كنسرٍ ضخم على القمر لِحماية العُمّال (لكنَّ هذا بالتأكيد لا يعني أنّه كان لفارس أيّة علاقة مباشرة أو غير مباشرة بصُنع الخوارق).و هكذا بعد أن حُلّ اللغز، نال أولئك العُمّال رَحمةً مِن الله و تَقَمّصوا في كوكَب ذي دَرَجة أعلى لا يعلَمها إلاّ الله عَزّ وجَلّ، إذْ كان شرط فِكاك أسر العُمّال أن يقوم أحدٌ بِحلّ تلك المُعضِلة العجيبة. لقد اكتشف الشّيخ مخرجاً كونيّاً سريّاً أثناء تجواله على سطح القمر.إذ وجد حلقة مطمورة بالتّراب، فأراد إخفاءها ببناء هرَم لمنع العمّال من اكتشافه ومن ثمّ الخروج، إذْ كانت طريقاً كونيّة تَصِل الأرض بالقمر في لحظات، فقد سُدّت تلك الثَّغرة فور وصولهم إلى هناك. أمّا مِن ناحيةٍ أخرى فقد وظّف عُمّالاً كي يعمَلوا على إرساء حضارة قَلّ نظيرها، إذ يملُك الحِكمة على إدارَة المصانِع و بنائها بواسِطَة هندَسةٍ خاصّة. فهو أوّل مَن أنشأ مَصنَعاً ذرّياً على القَمَر، إذْ أراد إجراء تجاربه العلميّة هناك. وكان من فترة إلى أُخرى يقومُ بتغيير هندسةِ المتاهة الدّاخليّة للهرَم بتغيير المكعَّبات الذهبيَّة التي هي أساسُ بناءِ ذلك الهرَمِ العجيب، وَفقَ شيفرة رقميّة، فتقوم إحدى الآلات داخلَ المبنى بتحريك المكعَّبات بحسب ذلك النظام. وما ذلك إلاّ لكي لا يستطيع أحد إيجاد ذلك النّفق الكونيّ السرّيّ . لكِنّ الهَرَم تحوّل بقوّة الله إلى كنزٍ لا يَفنى في إحدى الدّرَجات العُلويّة بَعد انتصار فارِس العجيب. أمّا ذلك الفرعون فهو ذلك الشّيخ عينه الذي كان يظهَر لِفارِس، وهو المُكتشِف لِتِلك الأشِعّة، وذلك نتيجةً لابتِكاراتِه العِلميّة المُتَفوّقة. وقد استَطاع إحداث خرق مِن بُعدِه الرّوحي والزّمَنيّ مؤثّراً في البُعد الجَسدي الماديّ إذ استطاع إحداثَ هذا الاحتِكاك العجيب. فتتَجَسّد تِلك الإشعاعات ليراها البَشَر، وتظهر على هيئة سُحُب (كان قد سمّاها مجازيّاً بالبراكين الهوائيّة)، وبسبب تلك الإشعاعات يظهر القمر تارةً ويختفي طوراً بسبب تلك القوّة الإشعاعيّة القادرة على منع أيّ عين بشريّة أو حتّى أيّ رادار متطوّر مِن كشفه. ولكن عِند معرِفة فارِس وحلّه للأحجيّة بِنفسِه تبخّر جَسدُ الشّيخإذ انتَصَرَ فارِس. أحبّ فارس أن يسأل فتاته عن المصير الرّوحيّ لأولئك العمّال، فأجابتهُ: لن يتحمّل أولئك العُمّال سوى نتيجة أعمالهم، وبالطبع لن يبقوا مقيّدين إلى الأبد، لأنّ نهاية عُمر القمر أو وجوده ستُسبّب لهم الانتقال أو ما يُعرف بالموت، و سيتقمَّصون بحسب استحقاق سيّالاتهم أي أعمالهم الإراديّة الخاصّة. وسيُعيّن بحسب العدالة الإلهيّة مكان وجودهم وحتّى هيئتهم الجسديّة. أمّا بالنسبة للزئبق الأزرق فهو عائد إلى تلك الثّمرة البلوريّة الشبيهة بالإجاص. فالشيخ كان يحبّ تلك الثّمرة العجيبة، وحدثَ أّنه جمعَ قدراً كبيراً من مكان لا أحد يعلمه سواه، وكان كلّما أكل منها، خرج سائل ترسّب على بعض الحجارة، فدُعيَ بالزئبق الأزرق. إنّها وسيلة ذكيّة لكي يُلمّح لما جرى من أحداث روحيّة إلى الشّخص المعنيّ الذي هو أنت، لتفكّر في حلّ اللُغز لتحرير العمّال. إذ كادت عُقدة الذّنب بسبب سجنهم تقضي عليه. فضلاً عن ذلك، كان السّائلالمتجمّد (مثلما كان يُروى) يُصاغ على هيئة جوهرة، ثمّ يوضَع في خاتم و يُلبس في الأصبع.كان هذا الحجر ذو النّقش الأهراميّ يحمل موجات مغنطيسّة تقوم بإخراج النّقود من آلة سحب النّقود الإلكترونيّة أو الصرّاف الآليّ، بعد ضغط القيمة المُعيّنة على الصرّاف الآليّ. وبالتالي يستطيع سحب أيّ مبلغ يريده الجهاز دون عِلم أحد، ويبقى السّببُ غامضاً. فلتلك المادّة موجات مغنطيسيّة قادرة على فتح الصندوق الداخليّ للآلة و إغلاقه مُجدّداً مخترقةً جميع أنظمة الشيفرات للحاسوب المركزيّ. وللتمويه، كان ذلك الشّخص يقوم بفتح حساب صغير لكي لا يشكَّ أحد بأمر تعامُلِه مغ المصرف . كان فارِس ينظُر إلى فتاتِه السّمراء المُطوِّقة عُنُقَها بعقدٍ مَحْبوك مِن اللآلئ و الأحجار الكريمة. حقّاً لقد تسَنّى لهُ الفوز في ذلك الامتِحان الخطير والعَسير الذي امتحَنَه بِهِ الشّيخ. وتمَثّلَت آيةُ السيّد المسيح، عليه السّلام، في ذهنِهِ، وهي تقول: "ماذا يَنتَفِع الإنسان لو رَبِحَ العالم كلّه و خسِرَ نفسَهُ." آمين. أجل لقد امتُحِن فارِس امتحاناً عسيراً و فاز في معرَكتِه... أمّا ذلك الشيخ فلم يعلَم أحدٌ مِن أين جاء.
هكذا عاد فارِس مع حبيبته إلى منزلِه. و أحبّ أن يُريها تِلك الغُرفة التي بدأ فيها مُغامَرتهُ. وأراها التّحف القَديمة التي يعود عمرها إلى خمسمِئة عام. لكن يا للهول! إذ اختفَى ذلك المنظرُ الخلاّب لتِلك الغابة، وحَلّت مكانه صخرةٌ سَدّت النّافِذة،إذ اختفت تلك الطريق الرّوحيّة عن العيان. هذا ما أفهمتهُ إيّاه الفتاة، وهذا ما آمَنَ بِه. وكانت آيةُ السيّد المسيح التي قالتها الفتاة تترَدّد في أذنه مانحة إيّاه أمَلاً مُتجَدّداً.
نابَيْه-المتن الشماليّ، لُبنان
في 23-1-2008
*السيّال: وَرَدَت كلمة "سيّال" في أحد كتُب الأديب العظيم جبران خليل جبران،و اسم الكتاب هو "الأجنحة المُتَكَسّرة".تقع هذه الكَلمة في قِسْم "باب الهيكَل"ص.54،عن دار الجيل للنّشر.
أمّا الجُملة فهي:"هو سيّالٌ خافٍ عن العين يتموّجُ بين عواطِف النّاظِر و حقيقةِ المنظور."
أمّا التّفسير العِلمي لكلمة سيّال-كما شرحها الدكتور العظيم غازي براكس،الحائز على شهادة الدكتوراه في الآداب و أستاذ علم النّفس الأدبي في قسم الماجستِر بكليّة الآداب في الجامعة اللبنانيّة-هو أن السيّال وحدة نفسيّة ذات طاقة حيويّة انفعاليّة،و إدراك نسبي،و إرادة مُحرّكة،و نزعة نوعيّة،وخصائص وظيفيّة.و قِوامه جوهرٌ روحيّ إشعاعيّ خالِد.
تعليق