ومضى عاشق الريح والرمل
يحيى الحسن الطاهر
ولأنه تغنى بالريح وهو المتهيج حلمًا ووهمًا، اصطفته الريح في أوديتها القصية عاشقًا للرمل، وهي التي خط في ذاكرتها المثقوبة الخوؤنة مخايل طفولته البعيدة بمكة المكرمة، توفي عاشق الرمل، الشاعر محمد الثبيتي، الذي يمكن اعتباره بحق أحد مجددي الشعر السعودي المعاصر، إذ مع بواكير موجة الحداثة التي هبت على ساكن القصيد في عكاظه ومنبت فحوله في بداية ثمانينيات القرن الماضي، بدأت مفردة شعرية جسورة تشق طريقًا للحداثة مزهوة بصبا مغامر وفتنة رشيقة، لا تخلو من شقاوة وإغاظة لأسلافها من قصيد البكاء على الطلول، برز صوت الثبيتي ضاجًا بثورة جمالية في نصه، ورنين قصي للأساطير وجنيات كهوف الروح وأزقتها البعيدة، دعا الثبيتي مفردته للتنزه في دروب المعنى الكلي للحياة، جوهرها الفلسفي، لم ترتعش الحروف وترتعد من المغامرة، بل تزيت بأبهى حللها، وغادرت في معية هذا العاشق للفرادة، الفرادة في زمن دمغ القصيدة بمفاهيم قارة في الوعي الجمعي كمفهمة ثابتة وراسخة لما هو شعري وما هو غير ذلك، كانت قصيدته تقهقه جزلى بهذا الحبور وهذا البهاء:
أليست هي يخضور الحداثة الشعرية في بيئة ما زال صهيل خيول الأقدمين في سهوبها، يرسم مسارًا لصوت الشعر، مسارًا إن حاد عنه القصيد، فقد صار طنينا مموسقًا وليس بشعر!
أسهمت قصيدة الثبيتي في تشكيل ذائقة شعرية جديدة، إذ احتشدت في مغامرتها بالكثير من الرؤى، التي كشفت أقاليم جديدة في اللغة، تضاريس بهية تكاد تسمع في منعرجاتها مسامرات عراف الرمل إذ يرسل تنبؤاته طي غمامة عبر بوابة الريح إلى عاشقة بعيدة أرقتها طيوف زمن وردي لم يجء بعد، وإن تخالست وقع أقدامه الحافية على مرمر نعاسها، من خلال شقوق مساء هادئ.
احتفى النص الشعري للثبيتي، بألق ساحر، بالحداثة نصًّا وغرضًا ومغامرة، وأشاح بوجهه في إباء سعيد عن صخب سدنة الشعرية السائدة وخطابهم الجمعي الذي يسور القصيدة في محابس تاريخ المخيلة المكرورة نصًّا وغرضًا ومغامرة! في دواوينه (عاشقة الزمن الوردي)، (تهيجت حلمًا.. تهيجت وهمًا)، (التضاريس)، (موقف الرمال.. موقف الجناس) نلمح أن الشاعر قد عقد حلفًا سريًّا مع مفردته: أن لا يكلفها رهقًا ويلزمها ما لا يلزم: أن يطلقها في فضاء هوسها الخاص وفوضاها الحميمة، وما شعره سوى تقص لرعشة النص بهذه الرحابة: بكونه نصًّا يستجن المستقبل?. مستقبل الشعرية ووعيها المفارق عن المكان، الزمان ومعجم صحرائها، فمفرداته تستقصي احتمالات السواد، وتتتوسل بموسيقاها الباطنة أن يشتري الباعة أساطيرها المجنحة في فضاءات الرماد.
وبدلاً من احتفاء النقاد بهذه الفتوح المعرفية والجمالية لنص الثبيتي، حورب الشاعر من سدنة السائد الجمعي، مثلما حورب قبلاً (أدونيس) الذي كان يشعر أنه (آت من المستقبل). رأى النقاد في مفردات الثبيتي خروجًا عن السائد الشعري، وقذفًا للغة في ثقوب سوداء خارج مدار (الجمعي) المطمئن ليقينه المركزي، ولكن الشاعر يعرض صفحًا عن كل ضجيج وصخب ما تحدثه مفرداته في فوضاها الحميمة وهوسها بالغناء الطليق على بوابة الريح، فهو يشكل من زراري الرمل وحباته شكلاً جديدًا لنصه، يفاجئ المخبوء من الشعور، ويحتفي بموسيقاه الباطنة التي لا تجي? من عصاب القافية، بل من همس كائنات المخيلة وهي تتسرنم في فضاء الإمكان الشعري الجديد، تتمشي في بهو الصيرورة خارجة من انحباسها زمانا في زي القافية الضيق.
(*) كاتب وشاعر سوداني
الأربعاء 1432/4/25 هـ 2011/03/30 م العدد: 17507- جريدة المدينة
رحيل سيد البيد.. محمّد الثبيتي | جريدة المدينة - ملحق الأربعاء
يحيى الحسن الطاهر
ولأنه تغنى بالريح وهو المتهيج حلمًا ووهمًا، اصطفته الريح في أوديتها القصية عاشقًا للرمل، وهي التي خط في ذاكرتها المثقوبة الخوؤنة مخايل طفولته البعيدة بمكة المكرمة، توفي عاشق الرمل، الشاعر محمد الثبيتي، الذي يمكن اعتباره بحق أحد مجددي الشعر السعودي المعاصر، إذ مع بواكير موجة الحداثة التي هبت على ساكن القصيد في عكاظه ومنبت فحوله في بداية ثمانينيات القرن الماضي، بدأت مفردة شعرية جسورة تشق طريقًا للحداثة مزهوة بصبا مغامر وفتنة رشيقة، لا تخلو من شقاوة وإغاظة لأسلافها من قصيد البكاء على الطلول، برز صوت الثبيتي ضاجًا بثورة جمالية في نصه، ورنين قصي للأساطير وجنيات كهوف الروح وأزقتها البعيدة، دعا الثبيتي مفردته للتنزه في دروب المعنى الكلي للحياة، جوهرها الفلسفي، لم ترتعش الحروف وترتعد من المغامرة، بل تزيت بأبهى حللها، وغادرت في معية هذا العاشق للفرادة، الفرادة في زمن دمغ القصيدة بمفاهيم قارة في الوعي الجمعي كمفهمة ثابتة وراسخة لما هو شعري وما هو غير ذلك، كانت قصيدته تقهقه جزلى بهذا الحبور وهذا البهاء:
أليست هي يخضور الحداثة الشعرية في بيئة ما زال صهيل خيول الأقدمين في سهوبها، يرسم مسارًا لصوت الشعر، مسارًا إن حاد عنه القصيد، فقد صار طنينا مموسقًا وليس بشعر!
أسهمت قصيدة الثبيتي في تشكيل ذائقة شعرية جديدة، إذ احتشدت في مغامرتها بالكثير من الرؤى، التي كشفت أقاليم جديدة في اللغة، تضاريس بهية تكاد تسمع في منعرجاتها مسامرات عراف الرمل إذ يرسل تنبؤاته طي غمامة عبر بوابة الريح إلى عاشقة بعيدة أرقتها طيوف زمن وردي لم يجء بعد، وإن تخالست وقع أقدامه الحافية على مرمر نعاسها، من خلال شقوق مساء هادئ.
احتفى النص الشعري للثبيتي، بألق ساحر، بالحداثة نصًّا وغرضًا ومغامرة، وأشاح بوجهه في إباء سعيد عن صخب سدنة الشعرية السائدة وخطابهم الجمعي الذي يسور القصيدة في محابس تاريخ المخيلة المكرورة نصًّا وغرضًا ومغامرة! في دواوينه (عاشقة الزمن الوردي)، (تهيجت حلمًا.. تهيجت وهمًا)، (التضاريس)، (موقف الرمال.. موقف الجناس) نلمح أن الشاعر قد عقد حلفًا سريًّا مع مفردته: أن لا يكلفها رهقًا ويلزمها ما لا يلزم: أن يطلقها في فضاء هوسها الخاص وفوضاها الحميمة، وما شعره سوى تقص لرعشة النص بهذه الرحابة: بكونه نصًّا يستجن المستقبل?. مستقبل الشعرية ووعيها المفارق عن المكان، الزمان ومعجم صحرائها، فمفرداته تستقصي احتمالات السواد، وتتتوسل بموسيقاها الباطنة أن يشتري الباعة أساطيرها المجنحة في فضاءات الرماد.
وبدلاً من احتفاء النقاد بهذه الفتوح المعرفية والجمالية لنص الثبيتي، حورب الشاعر من سدنة السائد الجمعي، مثلما حورب قبلاً (أدونيس) الذي كان يشعر أنه (آت من المستقبل). رأى النقاد في مفردات الثبيتي خروجًا عن السائد الشعري، وقذفًا للغة في ثقوب سوداء خارج مدار (الجمعي) المطمئن ليقينه المركزي، ولكن الشاعر يعرض صفحًا عن كل ضجيج وصخب ما تحدثه مفرداته في فوضاها الحميمة وهوسها بالغناء الطليق على بوابة الريح، فهو يشكل من زراري الرمل وحباته شكلاً جديدًا لنصه، يفاجئ المخبوء من الشعور، ويحتفي بموسيقاه الباطنة التي لا تجي? من عصاب القافية، بل من همس كائنات المخيلة وهي تتسرنم في فضاء الإمكان الشعري الجديد، تتمشي في بهو الصيرورة خارجة من انحباسها زمانا في زي القافية الضيق.
(*) كاتب وشاعر سوداني
الأربعاء 1432/4/25 هـ 2011/03/30 م العدد: 17507- جريدة المدينة
رحيل سيد البيد.. محمّد الثبيتي | جريدة المدينة - ملحق الأربعاء
تعليق