" رقصةُ الدحة "

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • الدكتور نجم السراجي
    عضو الملتقى
    • 30-01-2010
    • 158

    " رقصةُ الدحة "

    نُشرتِ القصةُ في مجلة" حسمى " الورقية نادي تبوك،
    العدد الخامس بتاريخ 26.05.2011


    قيلَ لإعرابية، ما الجرحُ الذي لا يندمل *
    قالتْ: وقوفُ الكريم بباب اللئيم ثم صده.


    قصة قصيرة " رقصةُ الدحة "

    ـ الدَمُ والحرارةُ يغليان في بَدني ،
    وتِلكَ الأعرابيةُ التي هيَ" أُمي " جرحُها أعمقُ مِنْ أنْ يَنْدمل !
    وقفتْ ببابه في ليلةِ عرسه ِ :
    ـ ابنكَ يحتضرُ / يَضَوَّرُ من شدّةِ الحُمَّى / !
    ولأنهُ لئيمٌ فقدْ صدَّها، بلْ رَفضَها مِنْ مَمْلكةِ الرمْلِ التي يحكُمُها، ورَفضَ ذلكَ الجسدَ الصغيرَ الملتهبَ المرمي على كَتفِها الذي هوَ جسدي أنا / ابنه البكر /
    ستلاحِقك لعنةُ الصحراءِ " أبي "...
    ***
    مخادعٌ ، أَرْوَغُ من يَرْبُوعٍ مُحافِرٍ ، لا يقْدر عليه أحَدٌ ، رَهينُ الخَطيئةِ ،في صَدرِهِ يَحتَبسُ الغدرُ، نفسُه الأمارةُ بالسوءِ غرَّتْه حِينَ أوْحَتْ إليه ليطْغى ويجرِّدَ ذاتَه عنْ قوامِها الإنساني وينسلخَ عنْ أديم المكَانِ ليبْدُو كَنبتةٍ هَجينةٍ لا جَذْر لها ولا انْتِماء!
    طَالَ غَدرُهُ المكانَ وقَطَعَ آخِرَ خَيطٍ للمرُوءةِ في ذِمَتِه لتمتدَ سِياطُ الخيانَةِ ويَدُ غَدرِهِ إلى سيدِ المَكانِ ويُطْعَن غَدْراً وهوَ عَزيزُ قَوْمٍِ جَوَاد... كانَيَحْكِي عَنِ الجذُورِ كَمَنْ يَصوْغ المَاءَ ويَرْسِب في الأرضِ فَتنبتُ الرَحْمَةُ في قلبهِ نخلةً يتكئُ علَيْها الرجال، وكانَ يمتَطي صهوَ الصِعابِ لتُلْهِبَ الرَمْضاءٌ جِلدَهُ وينالهُ مِنها ما ينالُ من لينٍ ومن عسرِ، وينذر روحَه للعَطاءِِلينضمَ إلى ركبِ الحبِِ ويلتصقَ بجذورِ الأرضِ حَتَى تنبض فيها عروقُه ويكون بينهُ وبينَ أديمَها مُلحة، يقولُ :
    الأرضُ " أمٌ "
    بِرُّها نذرٌ فَيُقْضى
    وفيْضُ دمعٍ ومشربِ
    هو ذكرٌ أُفيضُ فيهِ
    ويفيضُ صدري بسِرِّه
    وارتوي

    .***
    لوْ كانَ قاسياً كالماسِ شديدَ القبضِ حذراً ، لَمَا امتدَّتْ يدُ الغدرِ إليهِ ، لكنَهُ رخوٌ كالسرابِ ،تركَ اليدَ التي تُطاردُه في المنامِ ليصْحُو على هاتفِ الموتِ وخنجرٌ مزروعٌ في خاصرتهِ والجاني يلعبُ بالمُلْكِ ويدقُ الرقابَحتى تَتبعَه القبائل خوفاً وطمعاً ، تُعلنُ بيعتَها مصحوبة بزغاريدِ النساءِ ومباركةِ الفتاوى وصليلِ السيوفِ، بعدَها ، سيمشقُ بسيفهِ ويمتطي فَرَسا ً مُنَعَّلاً تعبثُ حوافرُهُ بحباتِ الرملِ ويأتي صوتُهُ من تيهِ المكانِ :
    أنا الردى / سيدُ الرملِ والرجال / أعَلِّمُهم التدبيرَ واتبعُ الطرقَ إلى العلياء!
    أنا الصوابُ ، أنا المهاب ،
    أنا ... ،
    ـ "أبي" لا تُكِدِّرْ صَفوَكَ / لنْ أفْسِدَ عَليكَ ليلةَ عرْسك /
    سَتَفعَلُ مَا تَشاء إلا أنْ تَهربَ من الخطيئةِ لأنكَ عينُها وهي ظِلُّك !
    ***
    الليلةُ ... سترقصُ نسوةٌ وترجزُ حناجرٌ بما يشبهُ الغناء وتـُهَزُّ لهيبتِهِ أرْدافٌ فِي كَرنفالٍ رمْليٍ أسطوريٍ تعْتلي فريستُه الأولى فيهِ " خِدْرَ زوجتِه " ليمتلكَ بُضْعَها ويخْرج إليهُم مُنتصراً رافِعاً رايةَ الفحولةِ الحمراءِ ، يصنعُ بعدَها مِن دمِ البكارَةِ وعَرَقِِ الشهوةِ وحباتِ الرملِ طفلاً مِن الفُخارِ يطعنُهُ غَدْرا ويخلفُه في الحكم ِ!
    وليلةٌ أخرى ... يتبعُها ما يُشبِه حُلمَ يقظةٍ ، يرْمي فيها عَصَاه ، تتسابقُ " نسوةٌ " ، تلوذُ بها مَنْ تجاهد وتثابر وتزاحم بناتَ جِنْسِها لتمنَحَه جَسداً بِكْراً طَرياً بشهوة فرسٍ وَدِيقٍ ، يجَرِّبُ بهِ فحُولتَه مَرَّةً أخْرى ويَنشرُ أفراحاً مُقّنَّعةً يَعلوها صَريرُ لحظاتٍ تتَجددُ لتقِفَ في اليومِ التالي عِندَ بابهِ ذليلةً / يَطْرُدها / وَيفْتلُ شَاربَيه ويَرمي عَصاهُ مَرّاتٍ ومَرَّات وفي كُلِ مَرَّةٍ يَجِدُ منْ تقاسِمه المُباضَعةَ بشبقٍ!
    لمَ لا وهوَ المهابُ وشهواتُهن تطاردُ عصاه !
    ـ " أبي "... لنْ أدعَ الحمّى وذئابَ الصحراءِ تفترسُ خلايا دماغي ، ستحيطُني أمي بأسرارِ القوةِ و الدعاءِ ولن أموت حتى أراك ذليلا تستجدي العطف ورحمة الأعداء ، حينها ستَذْكرُ "أمي" وهذهِ الليلة التي طرَدتَنا فيها إلى ظلمةِ الليلِ وتركتَنا في ذمَتِهِ نصارعُ المجهول .
    ***
    هي... منْ اختارتهُ دونَ الرجال، أحبتْ فيهِ الرجلَ الشهمَ الشجاعَ ورفضَتهُ حينَ سقطَ قناعُ الغدرِ لتختارَ كبرياءً اكبَر منْ ترغيبِهِ وأقوى منْ ترْهيبِهِ ،
    في هذهِ الليلة حينَ وقفتْ ببابهِ لمْ يكن الأمرُ هيناً عليها ، لمْ تطلب منه عفواً أو عطاء، هي أكبرُ من ذلكَ، لكنَها سألتْ فيه لِحَاءَ الأبوةِ فخابَ ظنُها وامتدَ جرحُها النازفِ عبرَالصحاريوالرمال و عبرَ بيتعرسهِ الأول ... بيتٌعتيقٌمنالشعرِ أعْمَلَتْشموسُالصيفِوأمطارُالشتاءِوغبارُالباديةِيَدها عليه.
    الحمى تلهبُ بدنَ الرضيعِ وهي تضمُهُ بشدةٍ إلى قلبِ الأمِّ الكسيرِ وتنطلقُ به كلبوةٍ جريحةٍ في طريقٍ موحشٍ طويلٍ عبرَ رمضاءٍ مَضِلَّةٍ يتيهُ في ليلها الفكرُ والإنسان، تنظرُ بقلبِها إلى الأمام وهي تهمسُ بالشفاء همْسَا يفوحُ برائحةِ النباتِ البري، يخرجُ من القلب ، همْسا ً موجِعا ً كنغمةِ الدعاءِ الحزينةِ في ليلِ الغرباء :
    ـ " يا رب "
    سنصلُ يا ولدي، ستشفى يا بني !
    اشتدتِالحمَىعليه، فمُهُ الفاغر، أنفاسهُ الحارة المتصاعدة، لهيبُ أحشائهِ يتدفقُ على صدرِها، تضمُهُ بحنو، تقتاتُ على أملِ الوصول ،
    انطلقتْ أسرع ينيرُ لها القمرُ تلكَ الكثبان الرملية يرافقُهما الكلبُ المطرودُ معَهُما ، لم يساوِرها أيّ خوف من التيهِ والضياعِ بينَ براثنِ صحراءٍ بكرٍ وسماءٍ صافيةٍ لامعةٍ كصفيحةِ قصدير، يحركُها حسُ النجاحِ ويجذِبُها خيطٌ سريٌ بالاتجاهِ الصحيح، بوصلتُها النارُ التي تتوقَدُ باستمرارٍ إزاء قلبِها المحزونِ وسرِ الأمومةِ الخالدِ وصدرٌ يعلو ويهبطُ خافقاً لشدةِ الإحساسِ بالحنينِ الدافئِ الذي لا ينقطع وقوةالشعورِ به... هي الأمُ وحدها تعرف سرَّه وبلوغَ كنهه ،
    التهمتْ خطواتُها المسافات ، تسحقُ بقدميها الحافيتين هوامَ البراري بلا وجل، تمدُّ قامتَها البدويةَ المفتولةَ والممشوقةَ كَغزلانِ الفيافي السمراء إلى الأمام... إلى أمام :
    ـ سنصل يا ولدي،
    هوى شهابٌ من كبدِ السماءِ بسرعةِ البرق، ضمتْ ابنَها بقوةٍ إلى صدرِها، نبحَ الكلب، رمقتْ السماءَ بنظرةِ عتابٍ ورجاءٍ وتابعتِ المسير،
    الهمسُ ما يزالُ يأتي من قعر القلب :
    ـ ستعيشُ يا أحمد.. تكبرُ، يتلونُ خدُك بالقمحِ ، بلونِ الصحراء و ضوءِ النجومِ المتناثرةِ وأُزَوِجُكَ أجملَ عروسٍ/ أميرةُ البادية، حوريةٌ إنسية، كاعبٌ من النجوم، عروسُ الفرات / سأرقصُ في عرسِك في ليلةٍ مضيئةٍ تستقبلُ فيها أذرعُ القمرِ الفضيةِ الدافـئةِ هيبةَ العرسِ البدوي وزينةَ الهودجِ وعطورُ الهندِ القديمة تقذفُ الفضاءَ بروائِحها، سترقصُ الصحراءُ في تلك الليلةِ المضيئةِ وتتعالى الزغاريدُ فيها والسامرُ يكبرُ، ليلةٌ تُشكِّلُ فيها مسحةُ الحزنِ القديمِ والفرحُ المغيبُ والأملُ مع إيقاعاتِ رقصة " الدحة " وفحيحِ أصواتِ راقصيها وانفتالِِ الأجسادِ الجسورة لوحةً رائعةً/ إرهاصة تخلق القوة والإقدام / لوحة المروءة الأزلية/
    الليلُ طويلٌ والطريقُ يمتدُ ويتكررُ حتى تضيع الاتجاهات، النعاسُ ينسلُّ إلى عينيها وتكيدُه، تناورُه تحت حملها الناري. تمدُ بصرَها تطاردُ المساحاتِ الممدودةِ والأفقَ اللامتناهيَ على أملِ الوصول ، ليس ثمةَ وجهُ السماءِ وبساطٌ ممدودٌ من الرملِ والحصى والزواحفِ والأخاديدِ وفحيحِ الأفاعي وارتدادِ صدى الوحوشِ الضواري ينقله الريحُ وصمتُ البريةِ والسكون .
    تعالتِ الأصواتُ واقتربَ عواءُ ذئب ، تقدمَ الكلبُ ، تحفزَ استعدادا للمواجهةِ وعوى عواء ً مستطيلا ًبنبرةٍ غريبةٍ تُنذِرُ بوقوعِ فاجعة ، حَمَلتهُ ريحُ البريةِ إلى قلبِ الصحراء ، جاءَ أولُ جوابٍ وتعالتْ بعدها أصواتُ الإنقاذِ مسرعة صوبَ المكان ، استمرَ الكلب بالعواءِ حتى اقتربَ الذئبُ وكانتِ المواجهةُ ... معركةٌ داميةٌ شرسةٌ سلاحُها المخالبُ وأنيابٌ تُمَزِقُ الأحشاء ، استمرتْ دونَ تراجعٍ أو فرٍّ أو إدبار/ معركةُ بقاءٍ بينَ الجوعِ والوفاءِ / سالَ الدمُ فيها وانتهتْ بفرارِ الذئب تتبعُه الكلابُ التي لبتِ النداء ،
    راقبتِ " الامُ " تلكَ المعركة وهي تهمسُ بالدعاء ، انطلقتْ صوبَ غبار المعركةِ وانين الكلب ، انحنتْ عليه ، حاولَ تحريكَ لسانَه ، لم يستطعْ ، امتزجَ دمعُها بدمه النازفِ بالوفاءِ وفارقتْ روحُه الحياةَ تاركاً رسالةً قرأتْها في عينيه،

    انتهت
    الدكتور نجم السراجي
    مدير مجلة ضفاف الدجلتين
    [URL="http://www.magazine10.net"]www.magazine10.net[/URL]

    [BIMG]http://i54.tinypic.com/b5m7vr.jpg[/BIMG]
  • محمد الصاوى السيد حسين
    أديب وكاتب
    • 25-09-2008
    • 2803

    #2
    تحياتى البيضاء

    وأهلا د . نجم ومرحبا بهذا النص الجميل الذى ستكون لى معه وقفة تليق بما يحويه من رسالة وإبداع ، والحقيقة قرأت النص مرة واحدة حتى الآن وانطباعى الأول عنه أنه نص ابن بيئته ، فهو يرتكز على البيئة وينبع منها تخييلا ورسالة ، ثم إنه يصب فيها رافدا من الحس والوعى ، على كل سيكون لنا وقفة بإذن الله ، وإنما هذا مرور تحية فأهلا ومرحبا

    تعليق

    • الدكتور نجم السراجي
      عضو الملتقى
      • 30-01-2010
      • 158

      #3
      المشاركة الأصلية بواسطة محمد الصاوى السيد حسين مشاهدة المشاركة
      تحياتى البيضاء

      وأهلا د . نجم ومرحبا بهذا النص الجميل الذى ستكون لى معه وقفة تليق بما يحويه من رسالة وإبداع ، والحقيقة قرأت النص مرة واحدة حتى الآن وانطباعى الأول عنه أنه نص ابن بيئته ، فهو يرتكز على البيئة وينبع منها تخييلا ورسالة ، ثم إنه يصب فيها رافدا من الحس والوعى ، على كل سيكون لنا وقفة بإذن الله ، وإنما هذا مرور تحية فأهلا ومرحبا
      سيدي الكريم الناقد والأديب الرفيع خلقا وعلما وأدبا والموشح بالفطنة والتركيز وسعة الأفق والتمحيص
      نعم سيدي قف هناك مرة ومرات فمن لها غيرك يغوص في الأعماق واللؤلؤ هناك دفقة إيحاء وصور شعرية ونثرية واستعارة وتمازج وتضاد وحكمة وبلاغة كلمة وسطوة تعبير و........الخ
      شرف لي سيدي الكريم أن تكون هنا ولمجرد المرور وشرف أعظم حين ينال النص منك دراسة متكاملة لتكون نموذجا ينشر في أرجاء الساحة الأدبية العربية ويشار إليه بالبنان
      أنت لها سيدي الكريم
      أهلا ومرحبا بك
      دمت لي ناقدا وأديبا وصديقا وزميلا افخر به
      الدكتور نجم السراجي
      مدير مجلة ضفاف الدجلتين
      [URL="http://www.magazine10.net"]www.magazine10.net[/URL]

      [BIMG]http://i54.tinypic.com/b5m7vr.jpg[/BIMG]

      تعليق

      • محمد الصاوى السيد حسين
        أديب وكاتب
        • 25-09-2008
        • 2803

        #4
        رقصة الدحة

        يمكن القول أننا أمام العنوان النص ، أمام العنوان الذى ينسرب إلى عصب النص حتى يستحيل مكونا عضويا فى بنيته الجمالية والدلالية ، كما أنه يمكن القول أن التعبير بعنوان رقصة الدحة – تلك الرقصة البدوية الفلكلورية التى تمثل بهجة العرس أو النصر – ينداح فى سياق النص عبر مستويين كما يلى :-

        - رقصة السيد الأب التى تعبر عن حالة النشوة العمياء والفرح المغصوب من أعمار ومسرات الآخرين

        - رقصة الأم على كتفها رضيعها شبه المحتضر فى حركة دؤوب لإنقاذ وليدها ولكنها تبدو كرقصة المذبوح ألما وحسرة


        ويمكن القول أن مشهدية رقص الدحة تتجلى لنا عبر شخصية الأب فى سياق
        (تُعلنُ بيعتَها مصحوبة بزغاريدِ النساءِ ومباركةِ الفتاوى وصليلِ السيوفِ، بعدَها ، سيمشقُ بسيفهِ ويمتطي فَرَسا ً مُنَعَّلاً تعبثُ حوافرُهُ بحباتِ الرملِ ويأتي صوتُهُ من تيهِ المكانِ :
        أنا الردى / سيدُ الرملِ والرجال / أعَلِّمُهم التدبيرَ واتبعُ الطرقَ إلى العلياء!
        أنا الصوابُ ، أنا المهاب000 أنا )

        وكما يتجلى لنا تستحيل الرقصة فى مشهدية حضور الأب إلى ما هو أبعد من مجرد الطقس الاحتفالى تستحيل تعبيرا كنائيا عن الخنوع والانكسار ، عبر فرحة مزيفة وإغراق فى الإكبار والإجلال لمن تلعنه الضمائر وتود وهى تختال حول هبيته بالسيوف لو أنها غدرته أو جهرت بالعصيان ، لكنها لا تستطيع فالسيد الأب محاط بسلطة الفتاوى وعرف المكان وأغلال تقاليده ، فلا يكون أمام النسوة العجائز إلا أن يطلقن زغرودة مريرة كالعويل ، ولا يكون أمام الرجال إلا أن يوغلوا فى سكرة الفرح المزيف فى محاولة لكتمان صوت الأسى الدفاق فى ضمائر الخانعين

        - لذا يمكن القول أن الزمن السردى لمشهد رقصة الأب فى عرسه يعمد إلى تكرار المشهد من زوايا متعددة إمعانا فى الشغط على وجدان المتلقى بحرفية وذكاء لتكسثيف مرارة الفرح المزيف وكذبه وخداعه فنتلقى هذا السياق

        (الليلةُ ... سترقصُ نسوةٌ وترجزُ حناجرٌ بما يشبهُ الغناء وتـُهَزُّ لهيبتِهِ أرْدافٌ فِي كَرنفالٍ رمْليٍ أسطوريٍ تعْتلي فريستُه الأولى فيهِ " خِدْرَ زوجتِه " ليمتلكَ بُضْعَها ويخْرج إليهُم مُنتصراً رافِعاً رايةَ الفحولةِ الحمراءِ ، يصنعُ بعدَها مِن دمِ البكارَةِ وعَرَقِِ الشهوةِ وحباتِ الرملِ طفلاً مِن الفُخارِ يطعنُهُ غَدْرا ويخلفُه في الحكم ِ

        - سنلاحظ فى السياق السابق أن الزمن السردى يقدم لنا اللحظة الآنية والتى هى لحظة الرقص واحتدامه ، لكنه يرتحل إلى المستقبل ليضع أمامنا وأمام هيمنة الأب وتفرده وسلطته يضع لنا نهاية فاجعة للمشهد هى مقتل السيد الأب غدرا ليس فى زمن اللحظة الآنية ولكن فى زمن آخر يخيم عبر ختام السياق على المشهد ليطفىء فى تشفى فنى هذى الاحتفالية الأليمة التى نتلقاها عبر مشهدية رقص الأب فى عرسه

        - سنلاحظ أن السرد يقدم لنا أيضا مشهد الرقص عبر لحظة أخرى تناقض السياق السابق لتقدم لنا مشهدية للرقص متحررة من الخنوع والطاعة المغصوبة وذل السيد حيث نتلقى مشهدية لحلم الأم عبر مونولج بينها وبين رضيعها حيث نتلقى سياق

        (سأرقصُ في عرسِك في ليلةٍ مضيئةٍ تستقبلُ فيها أذرعُ القمرِ الفضيةِ الدافـئةِ هيبةَ العرسِ البدوي وزينةَ الهودجِ وعطورُ الهندِ القديمة تقذفُ الفضاءَ بروائِحها، سترقصُ الصحراءُ في تلك الليلةِ المضيئةِ وتتعالى الزغاريدُ فيها والسامرُ يكبرُ، ليلةٌ تُشكِّلُ فيها مسحةُ الحزنِ القديمِ والفرحُ المغيبُ والأملُ مع إيقاعاتِ رقصة " الدحة " وفحيحِ أصواتِ راقصيها وانفتالِِ الأجسادِ الجسورة لوحةً رائعةً/ إرهاصة تخلق القوة والإقدام / لوحة المروءة الأزلية )

        فكما يبدو أننا أمام حلم يقظة يغسل بهاؤه ما ران على مشهدية رقص الأب وقسوة الفرح الكذوب واحتفالية الذل والخضوع ، هنا الأم تقدم لنا مشهدية مغايرة توازن عبر بنية السرد الخبرة الدلالية التى نتلقاها لمشهدية الأب وطقس احتفاله

        2- ثم إننا يمكن أن نتلقى مشهدية حركة الأم داخل بنية السرد فيما يشبه الرقص الأليم الذى تكابده الأم غصبا حيث نتلقى هذا السياق ولنتأمل السرد وكيف يتم توتيره فنيا
        (اشتدتِ الحمَى عليه، فمُهُ الفاغر، أنفاسهُ الحارة المتصاعدة، لهيبُ أحشائهِ يتدفقُ على صدرِها، تضمُهُ بحنو، تقتاتُ على أملِ الوصول ،انطلقتْ أسرع ينيرُ لها القمرُ تلكَ الكثبان الرملية )

        - ثم ولنتأمل هذا السياق والذى تبدو الحركة فيه شبيهة بحركة راقصى الدحة للخلف والأمام حيث هى بين النكوص إلى الأب راجية متوسلة وبين الإقدام على الخطر ورحلة مهولة فى عتمة البادية حيث نتلقى سياق

        ( يحركُها حسُ النجاحِ ويجذِبُها خيطٌ سريٌ بالاتجاهِ الصحيح، بوصلتُها النارُ التي تتوقَدُ باستمرارٍ إزاء قلبِها المحزونِ)

        2-الحوار خطاب أم نجوى

        يمكن القول أن السمة الرئيسة التى مازت فنية الحوار هنا ، هى أن الديولوج الذى يتجه إلى الآخر فى ذات الوقت يتجه إلى الداخل فيما يشبه النجوى الداخلية ، أو أنه يتجه إلى الداخل فى جوهره بينما يبدو لنا خطابا للآخر ، إما لأن المخاطب كما فى حالة الأب وصل إلى مرحلة من الكبر والتجبر تجعله ميئوسا من أن تصل إليه رسالة الحوار كما نتلقى فى سياق

        ( في ليلةِ عرسه ِ
        ـ ابنكَ يحتضرُ / يَضَوَّرُ من شدّةِ الحُمَّى / !
        ولأنهُ لئيمٌ فقدْ صدَّها )

        حيث يسكت السرد عن الكيفية التى صد السيد الأب بها الأم بما يجعلنا أمام بطلة النص الأم وهى كمن تمارس نجوى داخلية أمام حجر أصم كبرا وتجبرا ، لذا يعبر السرد بذكاء على كيفية صده للأم كأن أمام تحصيل حاصل لحوارها معه وما كان متوقعا منه غير حالة الصد

        - سنلاحظ أيضا أن خطاب بطل النص ولد السيد يحمل سمة النجوى الداخلية أولا لفنية الزمن الذى يجعلنا نتلقى صوت بطل النص رضيعا ، ثم لمشهدية الأب وبنية شخصيته المتسلطة الصماء عن أى صوت إلا صوت ذاتها وحده فنتلقى هذا السياق

        ("أبي" لا تُكِدِّرْ صَفوَكَ / لنْ أفْسِدَ عَليكَ ليلةَ عرْسك ، سَتَفعَلُ مَا تَشاء إلا أنْ تَهربَ من الخطيئةِ لأنكَ عينُها وهي ظِلُّك !)

        - سنلاحظ فى السياق السابق أننا المُخاطب فى غيبة كبره بينما الحوار ينداح نجوى فى تعبير كنائى عن انقطاع الصلة والتواصل بين الولد الرعية من جهة ، وبين الأب السيد من جهة أخرى

        -ثم يأتى حوار هذا السيد والذى يوجهه إلى رعيته حيث نتلقى حواره معها عبر هذا السياق

        ( ويأتي صوتُهُ من تيهِ المكانِ :
        أنا الردى / سيدُ الرملِ والرجال / أعَلِّمُهم التدبيرَ واتبعُ الطرقَ إلى العلياء!
        أنا الصوابُ ، أنا المهاب000 أنا )

        - سنلاحظ فى الحوار السابق أيضا أننا لسنا أمام ديالوج بل أمام ما يشبه النجوى الداخلية أو الحديث إلى الفراغ فالسيد لا يرى فى رعيته إلا خانعين هو بالنسبة لهم الردى والسيد والصواب والمهاب ، إنهم إذن توحدوا به وذابوا فى كيانه وحضوره فحين يخاطبهم لا يكون الحوار حوارا فالحوار يحمل ملمحا من الندية لكنه هنا يستحيل صوتا واحدا يصدح وحده فى فراغ يتجلى له بين قبضته طيعا لا روح له ولا حس

        - ثم ولنتأمل حوار الأم التى تخاطب رضيعها بما يجعلنا أيضا أمام النجوى الداخلية أو المونولج حيث نتلقى هذا السياق

        (سنصلُ يا ولدي، ستشفى يا بني )

        أو كما نتلقى هذا السياق

        ( وتابعتِ المسير، الهمسُ ما يزالُ يأتي من قعر القلب ـ ستعيشُ يا أحمد.. تكبرُ، يتلونُ خدُك بالقمحِ ، بلونِ الصحراء و ضوءِ النجومِ المتناثرةِ وأُزَوِجُكَ أجملَ عروسٍ/ أميرةُ البادية )

        وهو السياق الذى لا تخاطب به الأم رضيعها إلا عبر النجوى الداخلية فهى فى الأصل تخاطب ذاتها فى تعبير كنائى عن ذات تحاول أن تتشبث بما يشد عزيمتها ويبث فى نفسها الطمأنينة عبر هذا الخطاب مع الرضيع

        -لذا يمكن القول أن السمة العامة للحوار هى النجوى الداخلية بما يكثف من رسالة النص والتى تشير إلى عصب الصراع وهو افتقاد القدرة على التواصل بين الرعية والسيد ، وبين الأم وما ترمز إليه وبين هذا الأب المتجبر ، كما أنها تشير إلى حالة القلق والاضطراب الذى يجعل من الحوار مع الغائب طوق نجاة وتكثيفا لتيار الحلم ونبوءته داخل بنية السرد كما رأينا فى حلم الأم بعرس ابنها وكما رأينا فى حوار الولد متوعدا خطيئة السيد الأب وعيدا ينبع من وجدان يرقص رقصة الدحة لكن على جمر أليم

        تعليق

        • الهويمل أبو فهد
          مستشار أدبي
          • 22-07-2011
          • 1475

          #5

          وانتهتْ بفرارِ الذئب تتبعُه الكلابُ التي لبتِ النداء ،
          راقبتِ " الامُ " تلكَ المعركة وهي تهمسُ بالدعاء ، انطلقتْ صوبَ غبار المعركةِ وانين الكلب ، انحنتْ عليه ، حاولَ تحريكَ لسانَه ، لم يستطعْ ، امتزجَ دمعُها بدمه النازفِ بالوفاءِ وفارقتْ روحُه الحياةَ تاركاً رسالةً قرأتْها في عينيه،


          انتهت

          ********


          كيف تخطئ العين "انتهت"!!!!! فقد قرأت القصة أكثر من مرة وفي كل مرة أسأل نفسي هل "انتهت" جزء من القصة أم هي مجرد إشارة إضافية لمن يحتاج إلى معرفة اين انتهت القصة. وكم من مرة قلت في نفسي إن "الفاصلة (،)" بعد "في عينيه" هي إضافة غير مقصودة. لكن عندما تتحول "بكر" إلى كلاب وفيّه، ويتحول زئير رجال "الدحة" إلى "فحيح" في عرس يمثل مولدا جديدا وبناء حياة أفضل، عندها أدركت أن "يوم ذي قار" قد ولى، وأن "هند" قرأت في عيون الوفي مصيبة، إذ لا بد أن تكون قد قرأت "انتهت"، رسالة مجلجلة.

          تعليق

          يعمل...
          X