الشاعر مختار عوض لا تعرفه الساحة الأدبية مع أنه شاعر واعد له لغته ورؤيته اللتان يتميز بهما، وتشكلان ملمحا شعريا ملحوظا، وأصالة ملموسة يستشعرهما قارئ ديوانه: "قصائد على قارعة الضجر". وعنوان الديوان يحيلنا إليهما، فهو مهتم بلغته أو معجمه: ينتقيه بعناية، ويركز من خلاله على ما يريد التعبير عنه أو توصيله إلى القارئ، فقد اختار أن يشير إلى ديوانه من خلال لفظة قصائد التي تشير إلى مجموعة من الأشعار مطلقة ومبهمة، وقد تتنوع فيها الرؤى والدلالات. وهذه القصائد كلها ملقاة على قارعة الطريق الذي لم يعد طريقا، ولكنه تحول إلى ضجر بما يحمله الضجر من دلالة تصب في دائرة الوضع الاستثنائي للنفس البشرية حين تضيق بما حولها وتضجر منه، وقد يصل بها الضجر إلى حافة الإحباط واليأس، وكأن الشاعر يرى في الواقع المحيط به بيئة غير مناسبة للتعايش أو التفاعل مع أطرافها. والقصائد بصفة عامة تنبئ عن ذلك وتقود إليه، ولكنه في كل الأحوال يحلم بتجاوز هذا الضجر سواء على المستوى العام أو المستوى الشخصي، وإن كانت الحالة العامة لها حضورها الغلاب الذي يكاد يستغرق معظم قصائده المتضجرة الرافضة الغاضبة. الشاعر يعيش في أطراف مصر بعيدا عن الإعلام، والمراكز الثقافية التي تضج بالحركة والنشاط، حيث يسكن مدينة مطروح في الطرف الغربي للحدود المصرية، ولا يتذكرها المصريون إلا في الصيف حيث يذهبون إليها لقضاء الصيف والسباحة في بحرها والاستمتاع بهوائها النقي، فضلا عن كون الشاعر من طراز خجول، يهاب المجتمع الثقافي الذي يحتاج إلى مؤهلات غير أدبية لاقتحامه، خاصة بعد أن فرضت الحظيرة الثقافية تقاليدها الانتهازية الفاسدة على من يريد أن يستخدم وسائط التعبير القومية. ثم إنه فلاح مثلي يستحي أن يعرض نفسه في سوق الأدب البائس بمثل ما يجري هنا وهناك مما لا يليق بمن يحترمون أنفسهم ويعرفون قدرها. وكما قلت فإن ديوانه الأول: "قصائد على قارعة الضجر"، يشير إلى امتلاكه للأدوات التعبيرية امتلاكا جيدا يضعه في مصاف الشعراء الواعدين. ويؤكد ذلك أنه من مريدي الشاعر الراحل محمد عفيفي مطر، الذي عُرِف باهتمامه المتميز باللغة واختيارها من واقع البيئة الريفية، وصياغتها بما يحقق له سمة خاصة، وهو ما نراه قائما أو مهيمنا على معجم الشاعر مختار عوض في بعض مفرداته واستدعاءاته كما سنرى. كما يبدو انحياز الشاعر للغة العربية في نقائها وصفائها واضحا. وتبدو في ديوانه مجموعة من الظواهر الفنية يمكن أن نتوقف عند بعضها. الظاهرة الأولى قدرته الملحوظة على الاستفادة بالنص القرآني في أشعاره من خلال التضمين أو الاقتباس أو التناص، وكأنه يعود برؤيته العامة إلى القرآن الكريم في مواجهة الواقع، والتعبير عن مشاعره تجاهه، وإحساسه إزاء متغيراته وأحداثه: في قصيدته التي تحمل عنوانا غير معتاد لدى الشعراء يستخدم فيه لا النافية مكررة ثلاث مرات، مستوحيا سورة "العاديات" من الجزء الأخير في القرآن الكريم، ويأتي العنوان على النحو التالي: "لا العاديةُ، ولا المُوريَةُ، ولا المُغِـيرة!!" والسورة الكريمة تبدأ بالقَسَم بالخيل: "والعاديات ضَبْحًا، فالمُورِيَات قَدْحًا، فالمُغِيرات صبحا"، وكأنه في عنوان القصيدة ينفي عن خيل الواقع الراهن صفات المبادرة الإيجابية والفعل المنتصر، فلا هي مسرعة مقتحمة ولا هي مشعلة الشرر بسبب عدم إسراعها واندفاعها، ثم وهو الأهم ليست مغيرة ولا مهاجمة في الصباح كما تفعل الخيل الجريئة الشجاعة التي تغزو في الصباح وتنال من العدو، وكأن عنوان القصيدة يلخص رؤية الشاعر وتصوُّره لما هو كائن في المحيط العام والخاص! والقصيدة بعد العنوان ترجمة له، وتفصيل يوضح هذا الإحباط الذي أصاب خيله. صحيح أنه استبدل القصيدة بالخيل، والقصيدة يمكن تصورها حالة من حالات الوجود، وأداة من أدوات الفعل والسلوك، فهذه القصيدة التي أسرجها فر من صهيلها الغناء. هي قصيدة بلا عائد ولا مردود مثل الخيل البليدة التي لا تتقدم إلى الأمام، ولكنها تعود إلى الخلف، ولم تشعل النار ووهج الأمل، ولم تمارس فعل الإغارة على القبيلة المناوئة، بل تسلحت بالمكر والدهاء، والجبن والإجفال، والتراجع المخزي،.وأترك القارئ ليرى تفاصيل الانكسار: يقول في المقطع الأول: قصيدتي أَسْرَجْتُها بلعـنةِ الغـباءْ ففرّ من صهيلِها الغـناءْ لَكَـزْتُها (للعَدْوِ) لكزتينْ فما عَدَتْ إلا لخُطوتينْ ثمّ انزوتْ، واسّاقطتْ؛ و(الضَّبْحُ) في فؤادها لم يطمئنْ!! وفي المقطع الثاني يشير إلى ما بذله من جهد كي تندفع القصيدة / الحالة / الخيل، وتقوم بمهمتها النبيلة، ولكنها لم تستجب، وازّاورت مثل الشمس، أي مالت واختفت، كما تنبئنا سورة الكهف (تزّاور عن كهفهم ذات اليمين) الآية: 17، وخلفت للشاعر حزنا مريرا لافحا: وإِذْ جَعَلْتُ سَرْجَها جميعَ ما بنيتُ في الهواءْ تَسَلّحَتْ بالمكر والدَّهاءْ لَكَزْتُها (للقدحِ) لَكْزَةً مخاتلهْ فاستنكرتْ، واستوضحتني سائله: ماذا أردْتْ؟ وازّاوَرَتْ؛ لَمْ (تُورِ) غيرَ لافح الشَّجنْ!! وفي المقطع الثالث والأخير حاول معها بوسيلة أخرى أن يدفعها للإغارة، ولكنها أجفلت، واثاقلت، وارتمت على الأرض ضعفا ووهنا: وعندما أَسْرَجْتُ (صُبْحَها) بحُرقةِ البُكاءْ تسرَّبتْ من عينِها جدائلُ الدِّماءْ لَـكَزْتُها (لكي تُغِـيرَ) لكزةً مفاجئهْ فلم تُغِـرْ على مضاربِ القبيلةِ المناوئهْ، بل أَجْفَلَتْ واثَّاقَلَتْ؛ ثم ارتَمَتْ تُكابدُ الوهنْ!! ومن الظواهر المهمة في قصائد مختار عوض استلهام التراث بصفة عامة. ويمكننا أن نجده متكئا على أشعار الأقدمين والمعاصرين، وعلى المخزون الشعبي الذي يتناقله الرواة عبر العصور، وعلى الأسطورة الشعبية القديمة، ويفيد من هذا الاستلهام في التعبير عن الواقع المَعِيش الذي عادة ما يكون سائرا في الاتجاه إلى الخلف، بعيدا عن تحقيق الآمال والطموحات، بل قد يكون ضدها من الأساس على طول الخط. وها هو يتمثل حالة من حالات الرعب الأسطوري الذي يتبدى في الحكايات الشعبية التي يخيفون بها الأطفال: تَفَتّحَتْ على جنائزِ الكلامِ أعينُ السُّكوتْ فَجِئْتُ يامدينتي مُحَمّلاً بالرُّعبِ والخُنوعْ فمرّةً أَخافُ من ذراعهِ المقطوعْ ومرّةً يُكَبِّلونني بخيطِ عنكبوتْ ولكنه يستنجد بذكر أسطورة إيزيس ليحلم بالأمل الجميل في الزمن الملوث بعباءة الماضي الثقيل الذي أغلق أبواب الضياء في أوجه الأحلام: (إيزيسُ) راحتْ تبذُرُ الآمالَ للحُلمِ الجميلْ تَسْتَشْعِرُ الآلامَ في أحشائِها وزمانُها قد لوَّثتْهُ عباءةُ الماضي الثَّقيلْ فتغلَّقَتْ في أوجهِ الأحلامِ أبوابُ الضِّياءْ ويبدو التأثر بالوجد الصوفي وتراث الصوفية قائما في شعره إلى حد ما، وخاصة كتابات النِّفَّري أو مقولاته، بيد أنه يوظفها في معركة الواقع التي فرضت نفسها عليه وعلى الوطن كله. ففي أحداث الثورة المباركة (يناير 2011) يوظف لغة الصوفية ليشعل حماس الثوار في قصيدته التي كتبها في أيام بدايات الثورة (30/1/2011) حيث يؤكد انبلاج الفجر ويتفاءل بالنصر:
هذا صهيلُ الفجرِ في المَيْدانِ يتَّقِدُ والنُّورُ ينبلجُ والشَّمسُ صافنةٌ يا أيُّها الولدُ الحُلمُ مُنْعَقِدُ وإن كان هذا الوجد الصوفي الذي يحلم من خلاله بالنصر يتحول إلى صوت خشن مباشر يهتف بالثورة، ويتوعد الطاغية بالمقصلة كما نرى في قصيدته التي نظمها في1/2/2011 هُنا قد مضى زمنُ الولولهْ، ومازلتَ تبغي البقاءَ؟! تريدُ اتِّقاءَ الرحيلِ فتعزفُ لحنًا نشازًا ونحنُ لدينا نشيدٌ وحيدٌ هو المِقصلَهْ!! ويمكن أن نجد الظاهرة الثالثة ممثلة في حضور الشاعر الراحل محمد عفيفي مطر في شعر مختار، ومطر شاعر من طراز خاص، مارس التجديد الشعري بمنطق مختلف عن آخرين، حاولوا أن يجعلوا من التجديد مدخلا إلى القطيعة مع الأمة وتراثها، وأغرقوا في متاهات السريالية والضبابية، وبعثوا الشخصيات المشوهة والأحداث الدامية التي تزري بالأمة ولا تشرفها ولا ترفع هامتها. وأذكر أن علاقتي به بدأت حين أصدر مجلة "سنابل" بمدينة كفر الشيخ عام 1969، وكنت أيامها مجندا في القوات المسلحة. وميزة مطر أنه فلاح انتمى إلى قريته ومارس الفلاحة بيده، وعاش مستقلا عن السياقات الثقافية التي تخدم السلطة وتطرح تصورات مادية وماركسية. كان مطر يقرأ ويتأمل ويغوص في أعماق التراث، ويصنع لنفسه شخصية جاذبة تستعصى على التماهي مع أدباء العاصمة الموالين للسلطة المستبدة، وإن كانت علاقاته الإنسانية بهم قائمة وممتدة. ولعل هذا ما جعل مختار يفتتن به، ويخصص له أطول قصائده في الديوان، ويصفه بـ"أستاذه"، ويستخدم في هذه القصيدة، بل في بقية قصائده، كثيرا من معجم مطر الشعري وصوره التعبيرية.. يقول في قصيدة "الشاعر"، التي يهديها "إلى روح أستاذي: محمد عفيفي مطر" مشيرا إلى معجمه وبعض مجموعاته الشعرية: تُسافرُ في كتابِ الأمسِ (مُتَّئِدًا ومُنْسَلاًّ) إلى جَمْرِ البداياتِ تُرَوِّضُ قلبَكَ النَّاصِعْ لنجوى الطَّميِ.. (مَهْمُومًا ومُعْتَلاًّ) وتَرْحلُ للغدِ الآتي فتَرْقُبُ كونَنا الواسِعْ لتَنْسِجَ كامِلَ القِصَّه لتُضْحِكَنا وتُبْـكِينا برغمِ رَدَاءَةِ الزَّمَنِ!! ورغمِ فَدَاحَةِ النَّكْسَه!! ويمكننا أن نجد ظواهر أخرى في شعر مختار مثل البناء الدرامي في بعض القصائد ويأتي في صورة قصصية، كما نرى في قصيدة "على حافةِ الجُنون" (أربعةُ مشاهد)، والاعتماد على المفارقة في بعضها الآخر، والاعتماد على الاستفهام الإنكاري التهكمي كما نرى في قوله: "هل كان للنِّيــل اللـعينْ أنْ يحرمَ الوادي العتيـقْ مِنْ طميِهِ الحَيِّ الخصيبْ؟!" ويلاحظ أن تناول الشاعر لبعض الأحداث يوقعه أحيانا في مزلق الجهارة التي تقترب به من النثرية، أو تجعل صوت الهتاف أقوى من صوت الفن كما نرى مثلا في قصيدته التي تعالج عملية تنحي الرئيس المخلوع قي أثناء الثورة ( كتبها في 7/2/2011)، حيث يقول: فإذا الجموعْ في الليلِ قد نصبوا الخيامَ على مرافئ عجزنا يستقبلون سفينةَ الفجرِ الجديدْ وصدورُهم مفتوحةٌ لرصاصِ من جاءوا بخيلٍ أو بِغالٍ أو حَميرْ رُفِعَ الغِطاءْ ليعودَ ذو الوجهِ البغيضِ وتابعوه: "نحنُ استجبنا للحشود الواقفه" فيجيءُ صوتُ الجمعِ يهدرُ من ميادينِ الغضبْ: هذا أوانُ إبارةِ النَّخلِ العقيمْ هذا أوانُ رحيلِ ذي الوجهِ البغيضْ
وبعد: فالشاعر يملك طاقة شعرية واعدة يمكن أن يستثمرها استثمارا جيدا، لو أنه اتجه إلى المسرح الشعري، أو الدراما الشعرية، أو الملحمة الشعرية، ففيها مجال رحب وفرصة عظيمة لمن يريد من الشعراء أن يتجاوز كثيرا من عيوب الشعر الغنائي، وهو ما أطالب به كل الشعراء الذين ينظمون شعر التفعيلة أو شعر الشطرين، وآمل أن يكون الشاعر في غده مالئا لساحات الإنشاد والتغريد، بعد أن تتعرف عليه الساحة الأدبية، وتمنحه ما يستحق من تقدير. والله الموفق.
تعليق