اقتحمتها العيون عندما بدأ وهجها
يخبو في الدقائق الأخيرة من عمر
النهار فتوارت خجلة خلف الجبال..
إنها لحظة التجلّي الثانية لذلك القرص
العظيم بعد دقائق الإشراق الأولى..
إنّ الشمس لا تمنحنا شرف النظر إلى
محياها البهي إلاّ في غضون بضع
دقائق عند الشروق ومثلها عند
الغروب فما سر ذاك التجلّي يا ترى ..
مازلت لا أدري..
أضاءت بعد مغيبها قناديل السماء
تباعاً وأمست تهمي على جنح الدجى
زخّات الوميض..خمد صخب الكائنات
وهدأ ضجيج الحياة..خلع الكادحون
جلابيب العمل وأسندوا على حائط
السبات آلات المعاش..وهناك تحت
قبة السماء الجنوبية حيث يبسط
سهيلٌ سناه ثمّة حدث تتابع فصوله
في غرفة متقاربة الزوايا..محدودة
الفضاء..يتناقص الأكسجين فيها بمعدّل
شهيق المتواجدين..
كنت في مجموعة من الأقارب
تحيط بجدتي التي تحتضر بيننا..
سكونٌ مهيب يغمرنا تخترقه تراتيل
خافته للذكر الحكيم وحشرجات
روح ينازعها الموت أذيال الحياة..
كانت مسجّاةً وسط الغرفة وعلى صدرها
ريحان أخضر ينفث في الأرجاء عبق
الخلود ويرطّب بنفحاته النديّة حلقوماً
ستبلغه الروح عمّا قريب..
لا يبدو الحزن ظاهراً على وجيه
الحاضرين ربما لأن الجدّة قد
استوفت العمر الطبيعي للبشر وهاهي
تودّع نَصَب الدنيا بطمأنينة وترحل
عن شقائها بسلام..وبينما كانت
أبصارنا تودّع هيكلها المترنّح على
حافّة الوداع الأخير نهضت إحدى
القريبات نحوها ..جلست مستوفزة
عند رأسها..أمسكت ساعدها النحيل
برفق ورفعته عن الفراش بلطف..
ثمّ أخذت تخلع عنه السّاعة ذات
الأرقام الفسفوريّة..يا إلهي ماذا
يجري! ما الذي يحدث أمامي !
..الآن فقط بدأت أتجرع مرارة
الفقد وأنغمس في لوعة الفراق
الأبدي..إنّي أسمع صهيل
الموت القادم يدوّي في حنايا البرزخ
..لقد غار ذلك المشهد المؤثر في
تجاويف قلبي فولّد عاصفاً من الحزن
أغرق ملامح الحاضرين في عَينَي..
إنّه إيحاءٌ ملائكيٌّ تقمّص دوراً بشرياً
ليحرّر شمعةً يستعبدها الظلام في
أعماقي..وتغطي أطرافها رقائق
الزمهرير..شمعة لا يجاوز ضوءها
مجال طاقتها المتذبذبة..ولا يذيب حرّها
سوى صلبها النحيل..إنّها هديٌ رهين
وجهتي وسكون لا يؤثر لولا تحرّكي..
لقد كان خلع الساعة تمهيداً للانتقال
القسري من زمن الحركة إلى حركة
اللازمن..ففي زمن الحركة ليست
الساعة سوى حركة دائريّة لمؤشرها..
ولا اليوم إلاّ حركة دائريّة للشمس..
ولا الشّهر إلاّ دورات متعاقبة للقمر..
ولا الوجود بأسره سوى دوران
دائم لدولاب الكون..
لا ريب أنّ الأرواح تتحرّك بعد
الموت في حيّزٍ ما..وتكون حركتها
إمّا شوقاً للثواب أو هلعاً من العقاب..
ولكن كيف يتسنى لها حساب
الوقت وقد جُرّدت من ثياب
الظل وسُلبت مجسّات الرصد
الزمني..ما زلت لا أدري..
لم يعد بوسعي البقاء في الغرفة
فقد بلغت من التأثّر حد الانكسار
وآن لي التواري عن الأنظار..نهضت
لأبحث عن معزلٍ أمارس فيه ضعفي
وأستذكر وعداً قطع في السماء لأجلي
قال تعالى: ( وفي السماء رزقكم وما توعدون)..
جلست في فناء المنزل أجتر
من ذاكرتي تفاصيل المشهد..
وأستخلص بمفكّرتي مدلولاته..
وأرسم بمخيلتي خارطة المستقبل
بإحداثيات الحاضر وانفعالاته
- الحاضر الذي بدأت أشك في وجوده-
فكان من النتائج التي استخلصتها
في تلك الخلوة..أنّ الوقت يقودنا
عنوةً ..ولكن إلى حيث نريد..أنّ الوقت
هو من يمنح الأعمال قيمةً واعتباراً ولكن
لا قيمة له ما لم تكن نزيلاً ترعاه في سجن
الدنيا..أن الموت عندما يرتطم بطريدته
تسمو أرواحنا على إثر ارتطامه
وبعدما يعرج بها في السماء ويتوارى
خلف سُجف النسيان تتهاوى أرواحنا
من جديد.. أنّ للموعظة لباباً يستجنّ في
بطون النوازل ويستكن تحت قشور
الأحداث ولا سبيل لامتصاصه إلا بتأمل
عميق وتفكّر يشمل أدق التفاصيل..
حقّاً لقد عمّق ذلك المشهد شعوري
بالتفريط ..فبستان النخيل لا يفصله
عنّي سوى مجرى الوادي ومع ذلك
لم أبذر فيه نخلة!..
في هذه اللحظة ..هل توقفت العقارب
في ساعة جدتي عن الدوران أم أنّها
ما زالت تؤشر في كل دوره على رقم
فسفوري يكبر سابقه بمقدار نقصانه
عما يليه ؟..هل مازالت تنهي دورتها
في كل مرّة عند بداية دورة جديدة ؟..
كم هي المساحة التي يحتلها المؤشر
بين الدورتين؟.. ما زلت لا أدري..
إنّ الحاضر هو الحد الزمني الفاصل
بين الماضي والمستقبل ..بين
ما كان وما سيكون لأنّه ما هو كائن
..وفي تقديري أنّ مساحة (الآن)
لا تتسع لأي مقدارٍ من الزمن ..
فالحاضر ليس إلاّ وهمٌ أسكنّاه عقولنا
لكي نبرر امتلاكنا المزعوم للوقت..
فمثلاً لو أني كنت ماشياً على رمال
الصحراء الناعمة فإنّ خطاي تشبه
دقّات ساعتي..دقّة سمعتها وأخرى
لم تأتي بعد..خطوة تركتها خلفي
وأخرى لم تأتي بعد..وإذا توقفت
لأبحث عن الحاضر فإني سأرى آثار
خطواتي الماضية ..ومنطقياً لن أرى
المستقبلية..ولكن هناك أثرٌ يختفي
تحت قدمي ويتخذ من جسدي حجاباً
يغطي به حقيقته فهل يكون هو الحاضر؟
ما زلت لا أدري ..نعم إنّه موجود ولكني
لا أراه ..وحتى لو رفعت قدمي لكي
أراه فعندئذ سيكون ماضياً..
إنّ أقرب مفهوم للحاضر يقرّبه
تقسيمنا للزمن إلى..ساعة ..
دقيقة..ثانية..جزء من الثانية
..أقل ..أقل..إلى (لاشيء) فهل
(لاشيء) هي سمك الحاضر الذي
يفصل بين الماضي والمستقبل ..ما زلت
لا أدري..استلقيت على ظهري أقدُّ بأشفار
عيني قميص ليلٍ بللته الدموع
حتى بلغت صدر صبح يتنفس..
وعندما زحف الإسفار من الشرق
بدت لي حواف الجبال البعيدة
وكأنها مؤشّرٌ يرسم في الأفق
النازف أسهم الحياة..فتارة يصعد
لأسباب نجهلها وتارة أخرى يهبط
لنفس الأسباب.. فيموت بعضنا
في مهده..والبعض في شبابه..
والبعض الآخر في أرذل العمر..
فهل سيخضع الجميع لمحاكمة
عادلة تراعي تفاوت الفرص في
الحياة..أم أنّ هذا التفاوت هو
العدالة بعينها..مازلت لا أدري..
بزغت الشمس ..تعالت الأصوات
من الغرفة..إنّا لله وإنا إليه راجعون..
يخبو في الدقائق الأخيرة من عمر
النهار فتوارت خجلة خلف الجبال..
إنها لحظة التجلّي الثانية لذلك القرص
العظيم بعد دقائق الإشراق الأولى..
إنّ الشمس لا تمنحنا شرف النظر إلى
محياها البهي إلاّ في غضون بضع
دقائق عند الشروق ومثلها عند
الغروب فما سر ذاك التجلّي يا ترى ..
مازلت لا أدري..
أضاءت بعد مغيبها قناديل السماء
تباعاً وأمست تهمي على جنح الدجى
زخّات الوميض..خمد صخب الكائنات
وهدأ ضجيج الحياة..خلع الكادحون
جلابيب العمل وأسندوا على حائط
السبات آلات المعاش..وهناك تحت
قبة السماء الجنوبية حيث يبسط
سهيلٌ سناه ثمّة حدث تتابع فصوله
في غرفة متقاربة الزوايا..محدودة
الفضاء..يتناقص الأكسجين فيها بمعدّل
شهيق المتواجدين..
كنت في مجموعة من الأقارب
تحيط بجدتي التي تحتضر بيننا..
سكونٌ مهيب يغمرنا تخترقه تراتيل
خافته للذكر الحكيم وحشرجات
روح ينازعها الموت أذيال الحياة..
كانت مسجّاةً وسط الغرفة وعلى صدرها
ريحان أخضر ينفث في الأرجاء عبق
الخلود ويرطّب بنفحاته النديّة حلقوماً
ستبلغه الروح عمّا قريب..
لا يبدو الحزن ظاهراً على وجيه
الحاضرين ربما لأن الجدّة قد
استوفت العمر الطبيعي للبشر وهاهي
تودّع نَصَب الدنيا بطمأنينة وترحل
عن شقائها بسلام..وبينما كانت
أبصارنا تودّع هيكلها المترنّح على
حافّة الوداع الأخير نهضت إحدى
القريبات نحوها ..جلست مستوفزة
عند رأسها..أمسكت ساعدها النحيل
برفق ورفعته عن الفراش بلطف..
ثمّ أخذت تخلع عنه السّاعة ذات
الأرقام الفسفوريّة..يا إلهي ماذا
يجري! ما الذي يحدث أمامي !
..الآن فقط بدأت أتجرع مرارة
الفقد وأنغمس في لوعة الفراق
الأبدي..إنّي أسمع صهيل
الموت القادم يدوّي في حنايا البرزخ
..لقد غار ذلك المشهد المؤثر في
تجاويف قلبي فولّد عاصفاً من الحزن
أغرق ملامح الحاضرين في عَينَي..
إنّه إيحاءٌ ملائكيٌّ تقمّص دوراً بشرياً
ليحرّر شمعةً يستعبدها الظلام في
أعماقي..وتغطي أطرافها رقائق
الزمهرير..شمعة لا يجاوز ضوءها
مجال طاقتها المتذبذبة..ولا يذيب حرّها
سوى صلبها النحيل..إنّها هديٌ رهين
وجهتي وسكون لا يؤثر لولا تحرّكي..
لقد كان خلع الساعة تمهيداً للانتقال
القسري من زمن الحركة إلى حركة
اللازمن..ففي زمن الحركة ليست
الساعة سوى حركة دائريّة لمؤشرها..
ولا اليوم إلاّ حركة دائريّة للشمس..
ولا الشّهر إلاّ دورات متعاقبة للقمر..
ولا الوجود بأسره سوى دوران
دائم لدولاب الكون..
لا ريب أنّ الأرواح تتحرّك بعد
الموت في حيّزٍ ما..وتكون حركتها
إمّا شوقاً للثواب أو هلعاً من العقاب..
ولكن كيف يتسنى لها حساب
الوقت وقد جُرّدت من ثياب
الظل وسُلبت مجسّات الرصد
الزمني..ما زلت لا أدري..
لم يعد بوسعي البقاء في الغرفة
فقد بلغت من التأثّر حد الانكسار
وآن لي التواري عن الأنظار..نهضت
لأبحث عن معزلٍ أمارس فيه ضعفي
وأستذكر وعداً قطع في السماء لأجلي
قال تعالى: ( وفي السماء رزقكم وما توعدون)..
جلست في فناء المنزل أجتر
من ذاكرتي تفاصيل المشهد..
وأستخلص بمفكّرتي مدلولاته..
وأرسم بمخيلتي خارطة المستقبل
بإحداثيات الحاضر وانفعالاته
- الحاضر الذي بدأت أشك في وجوده-
فكان من النتائج التي استخلصتها
في تلك الخلوة..أنّ الوقت يقودنا
عنوةً ..ولكن إلى حيث نريد..أنّ الوقت
هو من يمنح الأعمال قيمةً واعتباراً ولكن
لا قيمة له ما لم تكن نزيلاً ترعاه في سجن
الدنيا..أن الموت عندما يرتطم بطريدته
تسمو أرواحنا على إثر ارتطامه
وبعدما يعرج بها في السماء ويتوارى
خلف سُجف النسيان تتهاوى أرواحنا
من جديد.. أنّ للموعظة لباباً يستجنّ في
بطون النوازل ويستكن تحت قشور
الأحداث ولا سبيل لامتصاصه إلا بتأمل
عميق وتفكّر يشمل أدق التفاصيل..
حقّاً لقد عمّق ذلك المشهد شعوري
بالتفريط ..فبستان النخيل لا يفصله
عنّي سوى مجرى الوادي ومع ذلك
لم أبذر فيه نخلة!..
في هذه اللحظة ..هل توقفت العقارب
في ساعة جدتي عن الدوران أم أنّها
ما زالت تؤشر في كل دوره على رقم
فسفوري يكبر سابقه بمقدار نقصانه
عما يليه ؟..هل مازالت تنهي دورتها
في كل مرّة عند بداية دورة جديدة ؟..
كم هي المساحة التي يحتلها المؤشر
بين الدورتين؟.. ما زلت لا أدري..
إنّ الحاضر هو الحد الزمني الفاصل
بين الماضي والمستقبل ..بين
ما كان وما سيكون لأنّه ما هو كائن
..وفي تقديري أنّ مساحة (الآن)
لا تتسع لأي مقدارٍ من الزمن ..
فالحاضر ليس إلاّ وهمٌ أسكنّاه عقولنا
لكي نبرر امتلاكنا المزعوم للوقت..
فمثلاً لو أني كنت ماشياً على رمال
الصحراء الناعمة فإنّ خطاي تشبه
دقّات ساعتي..دقّة سمعتها وأخرى
لم تأتي بعد..خطوة تركتها خلفي
وأخرى لم تأتي بعد..وإذا توقفت
لأبحث عن الحاضر فإني سأرى آثار
خطواتي الماضية ..ومنطقياً لن أرى
المستقبلية..ولكن هناك أثرٌ يختفي
تحت قدمي ويتخذ من جسدي حجاباً
يغطي به حقيقته فهل يكون هو الحاضر؟
ما زلت لا أدري ..نعم إنّه موجود ولكني
لا أراه ..وحتى لو رفعت قدمي لكي
أراه فعندئذ سيكون ماضياً..
إنّ أقرب مفهوم للحاضر يقرّبه
تقسيمنا للزمن إلى..ساعة ..
دقيقة..ثانية..جزء من الثانية
..أقل ..أقل..إلى (لاشيء) فهل
(لاشيء) هي سمك الحاضر الذي
يفصل بين الماضي والمستقبل ..ما زلت
لا أدري..استلقيت على ظهري أقدُّ بأشفار
عيني قميص ليلٍ بللته الدموع
حتى بلغت صدر صبح يتنفس..
وعندما زحف الإسفار من الشرق
بدت لي حواف الجبال البعيدة
وكأنها مؤشّرٌ يرسم في الأفق
النازف أسهم الحياة..فتارة يصعد
لأسباب نجهلها وتارة أخرى يهبط
لنفس الأسباب.. فيموت بعضنا
في مهده..والبعض في شبابه..
والبعض الآخر في أرذل العمر..
فهل سيخضع الجميع لمحاكمة
عادلة تراعي تفاوت الفرص في
الحياة..أم أنّ هذا التفاوت هو
العدالة بعينها..مازلت لا أدري..
بزغت الشمس ..تعالت الأصوات
من الغرفة..إنّا لله وإنا إليه راجعون..