هبّة أهل القبور
هبّ أهل القبور، هبّة رجل واحد، رغم ثقل نومهم الذي لم يستطع التاريخ أو الهزات الأرضية أو الفيضانات أو الرياح أو العواصف أو الحروب، منفردة أو مجتمعة، من إيقاظهم على صراخ أهل الأرض وهم يودعون راحلهم بالبكاء والندب، فالنساء تولولن بصوت عال وتلوّحن بالمناديل وباقات الورود، والرجال بالأيدي والأعلام والخطابات والقصائد الطويلةطولالمعلقات، والفتاوى التي لم يذكر أهل القبور مثلها، وبما تتضمنه من تكريم وتعظيم وتضخيم وشهادات عبور لسابع جنة من جنات الخلد.
مثلا وقف ممثل بني مخزوم يودع الراحل، فقال:
"قلّ أن أنجبت البشرية مثله، بأخلاقه واستقامته، وتسامحه وعفوه وقدرته"
والكل يعرف أنه كان يستفزّ ظلَّه إن لم يجد من يستفزه !
وحين دعي ممثل بني غسّان، قال:
"من سوء تدابير التاريخ أن ولد حاتم الطائي قبل هذا الراحل الكريم، لأن الراحل أكثركرما من حاتم الطائي وأحقّ منه، كي يضرب المثل بكرمه وجوده وسخائه"
والكل يعرف أنه ما مدّ يوما مائدة ولا أطعم جائعا أو فقيرا أو يتيما أو سائلا أو مقهورا، و أنه كان يتنقل على موائد أصحاب المناسبات شعاره شاركوا الناس وجباتهم وموائدهم!
أمّا ممثل بني هلال فقال"
" إن عنترة العبسي كان صعلوكا مقارنة بالراحل الكريم"
أما رئيس السلطة المحلية قال:
" ظلم الراحل مرتين مرة في الكرم حيث حرم من مضرب المثل بكرمه، ومرة بالوفاء لأن السموأل كان قزما بوفائه مقارنة بالراحل"
ثم تقدم ممثل بني علاء الدين دون دعوة من أحد وقال:
"من جميل الأفعال أن تؤدّى الأمانات في أوقاتها،ولهذا أشهد، والله شهيد أنه لم يكن للراحل الكريم ثان على وجه الأرض،كان نقيا، تقيّا، ورعا في مأكله، ومشربه وملبسه ونظرته وشهوته، كان متديّنا لا يقاطع الفرائض الدينية والصيام الأسبوعي، والصلاة والزكاة ، وزيارة أولياء الله الصالحين والالتزام بالأركان الروحانية والروحية"
وأمام هذا الكمّ الكبير من الفتاوى وشهادات الوداع، خرج أهل القبور من قبورهم بجموعهم،كبيرهم وصغيرهم،قديمهم وحديثهم على شكل مظاهرة كبيرة،تعبيرا عن احتجاج وغضب وتمرد وتساؤل وحيرة، بعضهم يبكي وبعضهم يضحك، مرتبكين بعد أن عقدت المفاجأة ألسنتهم المعقودة منذ كُنْ فكان، وتجمعوا كما يتجمع المواطنون في قرانا عند المظاهرة، تلبسهم الحيرة، ويمسح وجوههم الخوف، فتبدو باهتة كأعلام الاستسلام، واحتاروا كيف يستقبلون الزائر العظيم وأي مركز يبوئوه؟!
قال أقد مهم: "لم يزرنا منذ خمسة آلف سنة زائر بمثل هذه الفخامة والعظمةّ"
وقال أحد قدمائهم أيضا مما يُشهد له بطيبة القلب وحسن المعشر بين أهل القبور فهو منذ آلاف السنين لم يؤذ نملة أو دودة من ديدان الأرض:
"لا بد أن الزائر ولي من أولياء الله الصالحين، لنعمل له مثوى يكون ضريحا يؤمّه أهل المقابر فيما بعد"
انبرى شاب حديث العهد في المقابر، جاءها بعد حادث طرق، وقال:
" مهلا، لا تتسرعوا، كنت أعرف القادم واعرف أين ولد وأين وكيف عاش، وما تسمعونه لا يزيد عن ضريبة كلامية، تتلاشى في الهواء بعد وصول القادم إلينا، كما يتلاشى البخار في طبقات الجو العليا ، كان أكثر اعوجاجا من أفعى تزحف في العرض، وأبخل من بخلاء الجاحظ مجتمعين، واجبن من أرنب، ما وعد وعدا ألاّ وأخلف وعده..."
قاطعته فتاة جاءت قبل ايام بعد رحلة معاناة مع مرض السرطان، وقالت متشجعة بشجاعة من سبقها:
" كانت عينه أكثر شهوانية من معدته التي لا تشبع، وكانت\ جيبه أكثر اتساعا من بطنه، أحتار أهل قريته كيف يقنعونه بإنزال الهوائيات عن سطح داره التي يشتبه بأنها من مسببات السرطان، كان جوابه "جيبي وبعده الطوفان"، ثم لا تنسوا أن في مملكتنا مساواة أكثر مما في أيّ واحة فوق الأرض تدّعي الديمقراطية والمساواة ، لا فرق عندنا بين متديّن وعلماني، شجاع أو جبان، كريم أو بخيل، غنيّ أو فقير، لا نتقاتل على تراب ولا حتى على تبر، كلنا من التراب وفي التراب نعيش ،متآخون ، متساوون سواء كنّا أغنياء أو شحا دين..
صمت أهل القبور وهدأت ثورتهم، واختفت حيرتهم، وصمتت معهم الملائكة والجن احترامالهم، وعاد كل إلى مثواه راضيا مرضيا ليد خل في جنات الله كبقية عباده المؤمنين!!
تعليق