تلميذ اسمه عباس

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • د.محمد فؤاد منصور
    أديب
    • 12-04-2009
    • 431

    تلميذ اسمه عباس

    تلميذ اسمه عباس
    وأنا في الثانوية العامة كنت طالباً مجتهداًومتفوقاً على كثير من أقراني ومع ذلك كانت لي علاقات صداقة متينة ببعض زملائي المتعثرين دراسياً في صفي وأغلبهم كانت تجمعني بهم إلى جانب زمالة الدراسة ، صداقة الجوار في السكن والاشتراك في اللعب أثناء أوقات الفراغ ، وهي صداقة دفعني إليها تعاطفي مع أحوالهم الدراسية المتردية من ناحيتي ورغبتهم في أن يتقربوا من تلميذ شاطر يساعدهم في فهم مالايفهمونه وماأكثره من ناحيتهم ، وكان يرضي غروري في ذلك الزمن البعيد أن يلتف حولي بعض الزملاء المتعثرين دراسياً وأنا أحل لهم مسألة صعبة في الفيزياء أو الرياضيات وسط عبارات استحسانهم وإعجابهم وكأنني ساحر يخرج من قبعته الأرانب ، إلى جانب توبيخ الأهل لهم كلما رأوني بصحبتهم باعتباري زميلهم "الفالح" الذي ينبغي عليهم الاقتداء به ، وكان يزيد اعتزازي بنفسي وشعوري بذاتي كلما ألح الأهل علي في أن "آخذ بالي منهم" وكأنني مدير المدرسة لامجرد تلميذ فيها ..
    من بين هؤلاء الزملاء لاأنسى قصة عباس وحكايته في امتحانات آخر العام وهي الامتحانات التي تحدد مستقبل الطالب المصري للأبد ،ويتم الاستعداد لها على مدار العام كله وأحياناً يبدأ الاستعداد من العام الذي يسبقه .
    وبالرغم من أن عباساً ذاك كان من ضمن أصدقائي المتعثرين إلا أنه كان يطمع في دخول الجامعة ، وكان لديه يقين لاأدري مأتاه أنه سيجتاز امتحانات الثانوية العامة بمجموع يذهب به إلى كلية الزراعة في أسوأ الأحوال ..
    على أن الرياح لاتجري دائماً بما تشتهي السفن فقد حدث أن امتحان الفيزياء النهائي كان شديد الصعوبة حتى أن "عباس " لم يتمكن من فهم الأسئلة فضلاً عن أن يجيب عليها ، وهكذا حين وجد نفسه وجهاً لوجه أمام ورقة الأسئلة وأيقن بالرسوب قدح زناد فكره وقرر أمراً وراح ينفذه دون إبطاء متصوراً أنه سيجتاز المحنة بسلام ..
    أما الحل السحري الذي توصل إليه عباس فهو أن يستغل وقت الامتحان في كتابة رسالة رجاء واستعطاف للمصحح ، ذكر فيها بأنه يتيم الأب وأنه تولى شؤون الأسرة بعد وفاة أبيه ، وأن كفاحه وانشغاله في تدبير لقمة العيش له ولأخوته قد أنساه مذاكرة الفيزياء كما ينبغي لطالب بالثانوية العامة ، وعلى هذا النحو مضى في كتابة رسالته التي أخذ يرجو المصحح في نهايتها أنه طامع في تفهمه وكرمه وانه لايطلب منه أن يمنحه درجة عالية قد تثقل ضميره و تحمله إلى كلية الطب أوالهندسة وإنما يرجوه أن يمنحه درجة النجاح فقط وهي تكفيه وقتها لدخول كليةالزراعة !!
    وهكذا كتب الرسالة في كراسة الإجابة ووضع فيها من التوابل المثيرة للشفقة ماظن أن بإمكانه أن يؤثر على عاطفة المصحح ، ثم نقل الفقرات الهامة من رسالته إلى ظهر ورقة الأسئلة وخرج من اللجنة وهو مرتاح الضمير واثقاً من أن الدنيا "لسه بخير " وأن الناس الطيبين لم ينقرضوا بعد .
    كنت أعلم أن امتحان الفيزياء كان صعباً خاصة وأنني شخصياً لم أكن موفقاً كما أحب في كل الأسئلة وبدأت أجهز نفسي للتعامل مع خيبة أمل عباس حين يقابلني خارج اللجنة وحشدت في رأسي عبارات المواساة والتشجيع فارغة المضمون في العادة وإن كان لها بعض التأثير في تخفيف الإحساس بالضياع عند البعض ،بل لعلي فكرت وقتها أن أنصرف عائداً إلى البيت وأن أتحاشى مقابلة عباس وجماعته تماماً حتى يهدأ وتزول آثار صدمته ، لكنني فوجئت به وقد خرج قبلي من اللجنة يقابلني بالأحضان وبابتسامة عريضة وسد علي الطريق وهو يشدني من يدي إلى ركن هاديء بعيداً عن بقية زملائنا وهو يقول :
    - عايزك ضروري
    - خير
    - شوف دي
    ثم أخرج ورقة الأسئلة من جيبه ونشرها أمامي فتصورت أنه سيستشيرني في إجابة أستشكلت عليه ولم أجد بداً من مسايرته للنهاية ، لكن حين وقعت عيناي على الكلام المكتوب اندهشت جداً فقد كانت رسالة بدأها بقوله "سيدي الفاضل الأستاذ المصحح .. " جرت عيناي سريعاً بين السطور دون أن أقرأ شيئاً غير أنني تاكدت من أنها رسالة ولاعلاقة لها بالإجابات أو الأسئلة فقلت مستغرباً :
    - ماهذا ياعباس؟
    - زي ماانت شايف .. جواب
    - أيوه عارف إنه جواب .. بس لمين ؟
    راح عباس يشرح فكرته وأنه استطاع أن يصور أوضاعه الأسرية بشكل مأساوي ترقق قلب الحجر على حد تعبيره ، ثم أضاف أنه متأكد من أن حالته ستؤثر على نفسية المصحح ، وأنه لم يطلب سوى درجة النجاح فقط لاغير .. لم أعرف حينها بماذا أرد عليه مع هذه الثقة التي تشع من عينيه وتعلقه المرضي بالأمل وتأكده من وقوع المصحح تحت تأثير كلماته ،اعطيته الورقة واعتذرت له بأنني سأفكر في الأمر ثم أرد عليه فيما بعد لأنني على عجلة من أمري وانطلقت في طريقي مسرعاً وهو يسرع الخطى خلفي ويلوح بالورقة في الهواء صائحاً
    - أخدت بالك من أبويا ميت وباصرف على اخواتي ..
    لم أرد فعاد يصيح خلفي :
    - وأيه رأيك في أمي عيانة وهايجرالها حاجة لوسقطت ..
    أسرعت مبتعداً أكثر وهو يلاحقني بالعبارات المؤثرة من وجهة نظره ..
    وظهرت النتيجة .. ورسب عباس وأعاد السنة ، لكنه كان كلما تذكر هذه الحادثة فيما بعد كان يهز رأسه متأسفاً ويقول
    - الناس اتنزعت الرحمة من قلوبها .. هو أيه اللي جرى للدنيا ؟.
  • mmogy
    كاتب
    • 16-05-2007
    • 11282

    #2
    الأستاذ القدير د.محمد فؤاد منصور .. سعدت جدا بقراءة مقالك الساخر بامتياز .. والذي يحمل بين سطوره الكثير من المفارقات والعبر وطريقة تفكير الكثير من الناس .. ويؤكد على أن الكثير منا " عباس " .. وأن الكثير من يخلط بين مواطن الرحمة ومواطن العدل .. بين الجد والهزل .. وربما نحن الشعب الوحيد الذي تعتبر فيه الرأفة جزء لايتجزأ من العملية التعليمية .. ويذكرني مقال حضرتك بإجابة تقليدية على سؤال تقليدي .. عندما تسأل عن حلاق ماهر فيجيبك الناس بأن هناك حلاقا طيبا جدا ههه
    حقيقة استمتعنا بالمقال وبتواجدك الثري بيننا
    إنْ أبْطـَأتْ غـَارَةُ الأرْحَامِ وابْـتـَعـَدَتْ، فـَأقـْرَبُ الشيءِ مِنـَّا غـَارَةُ اللهِ
    يا غـَارَةَ اللهِ جـِدّي السـَّيـْرَ مُسْرِعَة في حَلِّ عُـقـْدَتـِنـَا يَا غـَارَةَ اللهِ
    عَدَتِ العَادونَ وَجَارُوا، وَرَجَوْنـَا اللهَ مُجـيراً
    وَكـَفـَى باللهِ وَلـِيـَّا، وَكـَفـَى باللهِ نـَصِيراً.
    وَحَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوكيلُ, وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاّ بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ.

    تعليق

    • فوزي سليم بيترو
      مستشار أدبي
      • 03-06-2009
      • 10949

      #3
      هذا هو الأدب الساخر دكتورنا العزيز محمد فؤاد منصور
      لقد أنعشتني . لم أقرأ منذ زمن أدبا ساخرا بهذه القيمة الرفيعة .
      الماء والزيت لا يذوب كل في الآخر . ربما يختلطان حين يرتجّا
      وحين تذهب صدمة الإرتجاج ، ينفصلا كل في مكانه .
      قطَّع قلبي عباس . ولو كنت أنا المصحح كنت منحته درجة النجاح .
      لكن لا يصح إلا الصحيح .
      تحياتي ومحبتي
      فوزي بيترو

      تعليق

      • منار يوسف
        مستشار الساخر
        همس الأمواج
        • 03-12-2010
        • 4240

        #4
        دكتور فؤاد
        للأسف دكتور مثل عباس منتشرين جدا
        و هم من هذه الفئة التي لا تعتمد سوى على الآخرين
        حتى لو وصل الأمر لإستجداء و توسل رحمتهم
        ليقفزوا على اكتافهم و يحققوا طموحهم ببساطة
        و هم داخلهم يسخرون من أولئك البلهاء
        مقال ساخر رائع جدا دكتور
        استمعت بقرائته و انا أشعر ان مثل عباس قد مروا بحياتي كثيرا
        شكرا لك

        تعليق

        • د.محمد فؤاد منصور
          أديب
          • 12-04-2009
          • 431

          #5
          أخي العزيز الأستاذ محمد شعبان الموجي
          كل الشكر لك على تكريمي بأن تكون أول من يطالع النص ، في الحقيقة أنا الذي يتوجب عليه الشكر إذ تتيح لرواد الملتقى وأنا منهم هذه النافذة الرائعة لعرض كتاباتنا ولوجودنا بين أساتذة أفاضل .. مرورك وتعليقك اوسمة تزين صدري فكل الشكر لك.

          تعليق

          • د.محمد فؤاد منصور
            أديب
            • 12-04-2009
            • 431

            #6
            أخي العزيز فوزي سليم بيترو
            كل الشكر والتقدير لمرورك الكريم وتعليقك الذي أسعدني لأن النص لاقى لديك قبولاً حسناً ، تعليقك إضافة حقيقية للنص فشكراً جزيلاً لك.

            تعليق

            • د.محمد فؤاد منصور
              أديب
              • 12-04-2009
              • 431

              #7
              الأخت الكريمة منار يوسف
              أنا جد سعيد بمرورك وتعليقك ، وأرجوطامعاً أن تحظي نصوصي هنا بذات الاهتمام الذي أسعدني بمرور أقلام كبيرة ومحترمة من أهل هذا المكان الطيب .. كل الشكر لك.

              تعليق

              • مها راجح
                حرف عميق من فم الصمت
                • 22-10-2008
                • 10970

                #8
                المساحات الإنسانية لا يمكن ان تقوى بتعاطفها مع عباس وأمثاله..فلكل مجتهد نصيب
                نص ساخر وهادف ..
                قلم متألق دوما د.محمد
                رحمك الله يا أمي الغالية

                تعليق

                • د.محمد فؤاد منصور
                  أديب
                  • 12-04-2009
                  • 431

                  #9
                  الأخت العزيزة مها راجح
                  كل الشكر لك على حضورك البهي بمتصفحي .. أسعدني مرورك وتعليقك فتقبلي كل المودة.

                  تعليق

                  • د.نجلاء نصير
                    رئيس تحرير صحيفة مواجهات
                    • 16-07-2010
                    • 4931

                    #10
                    الدكتور الراقي وأستاذي القدير :محمد فؤاد منصور
                    نحن في حياتنا العامة ملايين من أمثال عباس
                    لايريدون بذل أي جهد في الحياة لكن يطمعون في الارتقاء بظروفهم ورفع مستوى معيشتهم عن طريق الاستجداء
                    أستاذي القدير ربما علينا أن نقوم بثورة على أمثال عباس هذا
                    وقد ظهر جليا الأخ عباس بعد ثورة 25 يناير حسب قانون الطفو أصبح ظاهرا على السطح فمنهم من أطلق على نفسه النخب ،
                    ومنهم من جلس بجوار دماء الشهداء يتاجر باسمه ويتربح منها
                    ومنهم من ينتظر ملايين مبارك
                    أشكرك على هذه القصة الرائعة
                    تحياتي ليراع يقطر ابداعا
                    كل عام أنت بخير
                    sigpic

                    تعليق

                    • د.محمد فؤاد منصور
                      أديب
                      • 12-04-2009
                      • 431

                      #11
                      صديقتي الرائعة نجلاء نصير
                      أعتذر بداية أن تاه مني هذا الموضوع ومن ثم لم تقع عيني على تعليقك البديع والذي هو إضافة حقيقية للنص .. حيثما تتواجدين فإنك تشعين روعة .. لك الود كمايليق.

                      تعليق

                      • رشا السيد احمد
                        فنانة تشكيلية
                        مشرف
                        • 28-09-2010
                        • 3917

                        #12
                        عزيزي الرائع د.محمد فؤاد
                        صباحك كما تشتهي

                        كتبت من قلب الواقع بجمال وبشفافية شديدة الحياة تريد منا أكثر من استعطاف قلوب الآخرين
                        تريد منا الجهد والعمل المتواصل ، لا الأستجداء
                        الأستجداء لا يوصل لم نريد وحده إصرارنا وجهدنا المثابر والعمل على الوصول لإهدافنا هو الذي يوصل
                        عرضت الفكرة المرجوة بإسلوب جميل ، أسلوب لين يصله الجميع دون عبء
                        ووصلت لنتيجتين متضادتين بنفس الإسلوب
                        كنت رائعا ً في نصك تركتنا مشدودين للنهاية
                        دم في جمال هذا العطاء الرائع .
                        تحايا تليق وياسمين لجمال الإبداع دائما .
                        https://www.facebook.com/mjed.alhadad

                        للوطن
                        لقنديل الروح ...
                        ستظلُ صوفية فرشاتي
                        ترسمُ أسرارَ وجهِكَ بألوانِ الأرجوان
                        بلمساتِ الشَّفقِ المسافرِ في أديم السَّماء .

                        تعليق

                        • فاطمة الضويحي
                          أديب وكاتب
                          • 15-12-2011
                          • 456

                          #13
                          د/ منصور

                          حقيقة مقال ذوبهجة !!

                          من يقرأ البداية لا يتوانى حتى يصل النهاية ..

                          وهو موضوع تصويري جمع عدد من المفاهيم الراسخة في الوطن العربي على حد سواء ..

                          لانملك سوى الشكر .
                          ذكريات عبرت مثل الرؤى : ربما أفلح من قد ذكرى
                          ياسماء الوحي قد طال المدى: بلغ السيل الزبى وانحدرى

                          تعليق

                          • د.محمد فؤاد منصور
                            أديب
                            • 12-04-2009
                            • 431

                            #14
                            عزيزتي المبدعة الرائعة رشا السيد أحمد
                            مرورك على نصوصي يحمل لي فرحاً خاصاً ، أنت تحولين النصوص إلى معزوفة تقطر ألقاً بماتضيفينه إليها من عطر المرور وروعة الحضور ..
                            كلمات الشكر لاتكفي لتعبر لك عن ااعتزازي وامتناني بك ولك .. كوني دائماً بخير أيتها الرائعة الراقية .

                            تعليق

                            يعمل...
                            X