نجوى و الذئب .../ قصة في ثلاثة مشاهد /
... الأوّل .
الطبيبة صديقة عزيزة لخالتي . كانتا معا في الجامعة . اتّصلتُ بها . أخبرتها بما حصل, من بين أنفاسي المتلاحقة و دموعي التي لم أستطع كبحها. على نجوى أن تخضع للفحص , حالاً . يجب التأكّد من حجم الكارثة أولا ..ثم نفكّر فيما يمكن فعله . هدّأت الطبيبة من روعي . سألتني لمّ لم نتقدّم بشكوى . في الواقع , لم نفكّر في ذلك ثم كيف يمكن التعرّف على ذئب بين قطيع من الذئاب ؟ كلّهم نفس الصورة ..ربطات عنق حريرية و أحذية ملمّعة و ابتسامات صفراء..
العيادة على بعد أميال من الحيّ الجامعي . و لجنا من الباب الخلفي كما طلبت منا .
لم تسمح الطبيبة لي بالدخول . أشارت بيدها أن أبقى مكانك . لكنها تبسّمت متعاطفة قبل أن تتّجه إلى غرفة الفحص و هي تمسك بذراع نجوى التي كأنّما لم تكن تمشي بل تزحف ببطء مثل حيوان جريح .
أُغلق الباب في وجهي فتخطّفني الظنون , و في رأسي تقافزت ألف علامة استفهام .
انتبذت كرسيا قرب النافذة و تقوقعت أنتظر ..الإنتظار أبشع وجهٍ للموت .
يا الهي . لا . أرجوك . لا تسمح بذلك ! احتضنت جسدي بذراعي المرتجفتين . شعرت بالصقيع يسري في عروقي . لم تكن الغرفة باردة . هي برودة الخوف . أكيد . قدمي اليمنى تضرب الأرض بحركات لا إرادية , سريعة , متواصلة .
ماذا لو ..؟ أخبّئ رأسي بين كفّي ثم أرفعه و أشيح بوجهي نحو اللاشيء ..
لا .. لا ..مستحيل ..يا الهي . نجوى لا تستحق . ليست من ذلك النوع . ستموت لو ..ستنتحر...أرفض التفكير في ذلك .
أحملق في الشارع من خلف النافذة ... لماذا هي الحياة بهذه البشاعة ؟ لماذ يصرّ البشر على جعلها صعبة و مرّة و قذرة ؟ لماذ يصرّ الذئاب على جعلنا نكفر بوجود الأيائل و الأرانب و الفَراش ؟
أدقّق في زحام المارة ..من بعيد .. ترى من منهم الذئب لو تسقط الآن كل الأقنعة ؟ من يترصّد ذات الرّداء الأحمر و يتحيّن الفرصة لتصيّد البراءة..؟
ما عدت أومن البراءة .. كرهتها.. للبراءة مرادفٌ واحدٌ فقط. هو البَلَه !.
يا الهي .. ما أقسى أن يذبحك إيمانك و أن تصبح الثقة سكّينا يحزّ رقبة عمرك . ليس هناك حماقة أكبر من الثقة , و هي خطيئة في حق نفسك أن تتوقّع الخير و الجمال في عالم تسكنه الغيلان و تجوس في أزقّته العقارب و الثعابين ..
الحياة لا تحمي المغفّلين يا نجوى يا صديقتي ..
هل تذكرين حديثنا ؟ حاولت دائما اقناعك بأن تتوقّعي الشّر قبل الخير , في كل البشر..و دائما . كنت تقولين .. لا ..الشر دخيل , ليس أصلا في الإنسان , أما الخير فهو الفطرة فينا..
تفلسفٌ فارغ ..لا أدري بمَ نفعك الآن !
نظرت في ساعتي . وقفت . جلست . وقفت مرّة أخرى . ذرعتُ الغرفة الضيّقة جيئة و ذهابا . يا رب ..اعمل على أن ينتهي هذا الكابوس . نجوى .. لم فعلتِ ذلك ؟ كيف اندفعتِ ؟ لم يحصل أن تصرّفت إحدانا بطيش . أين كان عقلك حين خطوت داخل شقّته ؟ ثلاث سنوات انقضت و نحن هنا في هذه المدينة المجنونة .. المدينة الصاخبة القاسية التي لا تمدّ يدها لمن يسقط , بل ما أن تتعثّر حتى تدوسك بأقدامها ليتعفّر رأسك في الطين . لم يبق سوى فصلين دراسيين و نغادر , إلى قريتنا الهادئة و أهالينا الطيبين . و ها أنت ترين ... خطوة صغيرة في الإتجاه الخطأ و يكون الإنزلاق.
و حين ننزلق علينا أن نتوقّع السقوط !
فتحتُ النافذة . سرت في أوصالي رعشة خفيفة . هناك في آخر الشارع محطة للحافلات .
تقزّزت و انتابتني رغبة في التقيأ .
كم كرهت المحطّات ! لم تكن أمي توصيني حين أغادر إلى الجامعة سوى بالحذر من ذئاب المحطة ..
" كوني يقظة " تقول لي أمي " افتحي عينيك جيّدا حين تصلين المحطة " ..
المحطة .. نقطة البدايات أو النهايات و عالم غريب حقا.. مجسّمٌ صغير للدنيا الكبيرة ..فيه من كل الأصناف .. المجانين , المدمنين , اللّصوص , الشحّاذين , المحترمين , المتشردين , الفارّين من دنيا , الذاهبين إلى دنيا , أصحاب السّوابق و اللواحق , السعداء , البؤساء ..رجل غاضب , امرأة تعرض مفاتنها , صبية يتصيّدون الجيوب...
و الملفت للنظر أنّ الكل يحمل شيئا ..كلّهم .. جريدة , سيجارة , حقيبة , قفّة , حقدا دفينا , سرّا رهيبا , همّا تنوء به الجبال , خطّة شيطانية لجريمة ما .
المحطة .. مرفأ الإنتظارات ... مجمع الأقدام و الأقدار و ملتقى الأحلام و... الكوابيس .
مر دهرٌ من القلق قبل أن يُفتح باب الغرفة . ظهرت الطبيبة أولا و من خلفها نجوى .ربّاه ..هل أنا واهمة أم أنّ الطبيبة مبتسة ؟
على وجه نجوى تمدّدت معاني الخلاص .
ردّد صوت في صدري.. شكرا لك يا الله !
تركنا العيادة . في الخارج , أمسكت بيد نجوى . ضغطت عليها برفق . ثم نظرت إلى السماء , تنفّست عميقا و ملأت رئتي بالهواء .
...ما قبل الأوّل .
توقّف بمحاذاتها تماما .
- تفضّلي آنسة . سوف أوصلك حيث تريدين .
ليس شابا مستهترا من الذين يستعرضون مركباتهم و قمصانهم المستوردة المفتوحة على صدورهم , بل رجلا محترم المظهر , في العقد الخامس من العمر, يضع نظّارات طبية , أنيقلدرجة تلفت الأنظار ..بذلة سوداء و ربطة عنق من حرير , و بياض الوقار منتشر على صدغيه .
نبرته رزينة ,و على وجهه أمارات النبل.
رأت من اللباقة أن ترد عليه , لم يكن يعاكس بتلك العبارات التي تلاحقها في كل مكان ..
- لا . شكرا . سأنتظر سيارة أجرة .
- سيارات الأجرة في اضراب آنستي . و لو كانت وجهتك الجامعة فأنا معيد في كلية الحقوق و عندي اجتماع هناك بعد لحظات .
ما العمل الآن ؟ تقلّب نظرها يمنة و يسرة . تتمكّن منها الحيرة ..
تبا لهؤلاء السائقين ! تبّا لبلد لا يتقن سوى لغة الإضرابات .
لا يمكن أن تنتظر أكثر . موعد المحاضرة بعد دقائق . المحطة شبه خالية هذا الصباح , على غير العادة .
تغلق باب السيارة في حذر و تجلس , متردّدة , خجلة , و لكنّه غاية في اللطف .. في الطريق يحدّثها عن متاعب التدريس و مشاكل الطلبة .. يستفسر منها عن دراستها و مشاريعها ثم قبل أن ينحرف إلى طريق الجامعة يستسمحها المرور ببيته ليأخذ ملفّا مهما نسيه هناك ..و يصطحبان أخته التي تدرس في نفس كلّيتها.
- لا يمكن أن تبقي في السيارة آنستي . تعالي أعرّفك بأختي و تساعداني في حمل بعض الكتب إلى الكلية .
نعم . و ماذا في ذلك ..يا الله ! كم هو لطيف و مؤدّب !
يدلفان إلى الشقّة ..مرتّبة و جميلة ..رواقٌ طويلٌ واسع يؤدي إلى غرفة ذات باب عريض ..
بقيت واقفة في انتظار أن تظهر أخته و لكنها وحدها ... معه . لا أثر لأحد .
جرت نحو الباب , وقد انتبهت إلى المصيدة التي وقعت فيها .
الباب موصد ..بإحكام .
- تعالي هنا ... لن أوذيك . لا تخافي . سنقضي وقتا ممتعا معا ثم أوصلك إلى الجامعة ..
يشدّها من ذراعها .. يجذبها داخل الغرفة .. تحدّق في سحنته ..و قد تسابقت الدموع إلى عينيها ..لا أثر لذلك الرجل المحترم الذي كانه منذ لحظات .. وجهه محتقن , عيناه تلمعان بوميض غريب , مخيف , العروق في ظاهر يديه متصلّبة كأنّ الدّماء ستتفجّر منها .
تكاد نجوى أن تفقد صوابها من الخوف ...تقلّب عينيها في الشقّة ..تتوسّل إليه أن يرحمها و يتركها تمضي .
" أين أنا ؟ أين العالم ؟ أين الناس ؟ لماذا لا يطرق أحدهم الباب الآن أو تفتح النوافذ ؟ ..نعم . النافذة . سأفتحها و أصرخ , بـأعلى صوتي , لا تهم الفضيحة , المهم أن أنقذ نفسي ... الآن ."
تجري نحو النافذة , لكنه أسرع منها . لفّها من الخلف.. بقوّة .. مدّ ذراعيه الطويلتين و أحكم إغلاق النافذة ثم أدارها إليه و كتم صراخها بشفتيه قبل أن يلقيها أرضا..
نجوى تبكي و تصرخ و تتخبّط تحت ثقل جسده مثل سمكة في شبكة صياد . تحاول التملّص من ذراعيه , لكن قوّتها تنهار أمام قوّته , تدريجيا . قبضة يمناه تمسك بكتفيها , بشدّة , مثل كمّاشة..و وجهه كلفح النار يغوص في جيدها و صدرها .. بينما يده اليسرى ترفع عنها ثوبها ...
يتمطّى الوقت حين يغرقنا الخوف , و في عمر الفزع تطول الدقائق لتصبح شهورا , و تتمدّد الثواني فلا ندري متى تنتهي ..و كان الفزع قد ملك على نجوى كل حواسها و كان جسدها قد تخدّر تماما , و تصلّب كقطعة صفيح باردة ..
دقّات محمومة على باب غرفة في إقامة جامعية للبنات . يُفتح الباب .. يُطلّ وجهٌ أكله الفزع . تضرب الفتاة صدرها بكفّها لفضاعة المنظر , بينما نجوى , نصف ميتة , تتهالك بين ذراعي صديقتها .
...الأخير.
رحلة الإيّاب .
شابّتان تجلسان في المقاعد الأخيرة في حافلة متخمة , تطوي اسفلت الطريق . في حقيبة كل منهما شهادة جامعية و صرّة من الذكريات أغمضت نجوى عينيها و ألقت برأسها إلى الخلف . سرحت في العمر القصير الطويل الذي خلّفته وراءها . وداعا أيتها المدينة التي لا ترحم .
من نافذة الحافلة تبدو الأشجار و البيوت القريبة و الحقول و العصافير مسرعة كأنّها هاربة من قدر ما و من نوافذ الذاكرة تراقصت أمام نجوى صورٌ و أماكن و ملامح و مواقف , فلاشات حزن و فرح ..
و على زجاجٍ شفّافٍ صقيلٍ لإحدى النوافذ ارتسمت خدوش سوداء في شكل ذئب بربطة عنق .
... الأوّل .
الطبيبة صديقة عزيزة لخالتي . كانتا معا في الجامعة . اتّصلتُ بها . أخبرتها بما حصل, من بين أنفاسي المتلاحقة و دموعي التي لم أستطع كبحها. على نجوى أن تخضع للفحص , حالاً . يجب التأكّد من حجم الكارثة أولا ..ثم نفكّر فيما يمكن فعله . هدّأت الطبيبة من روعي . سألتني لمّ لم نتقدّم بشكوى . في الواقع , لم نفكّر في ذلك ثم كيف يمكن التعرّف على ذئب بين قطيع من الذئاب ؟ كلّهم نفس الصورة ..ربطات عنق حريرية و أحذية ملمّعة و ابتسامات صفراء..
العيادة على بعد أميال من الحيّ الجامعي . و لجنا من الباب الخلفي كما طلبت منا .
لم تسمح الطبيبة لي بالدخول . أشارت بيدها أن أبقى مكانك . لكنها تبسّمت متعاطفة قبل أن تتّجه إلى غرفة الفحص و هي تمسك بذراع نجوى التي كأنّما لم تكن تمشي بل تزحف ببطء مثل حيوان جريح .
أُغلق الباب في وجهي فتخطّفني الظنون , و في رأسي تقافزت ألف علامة استفهام .
انتبذت كرسيا قرب النافذة و تقوقعت أنتظر ..الإنتظار أبشع وجهٍ للموت .
يا الهي . لا . أرجوك . لا تسمح بذلك ! احتضنت جسدي بذراعي المرتجفتين . شعرت بالصقيع يسري في عروقي . لم تكن الغرفة باردة . هي برودة الخوف . أكيد . قدمي اليمنى تضرب الأرض بحركات لا إرادية , سريعة , متواصلة .
ماذا لو ..؟ أخبّئ رأسي بين كفّي ثم أرفعه و أشيح بوجهي نحو اللاشيء ..
لا .. لا ..مستحيل ..يا الهي . نجوى لا تستحق . ليست من ذلك النوع . ستموت لو ..ستنتحر...أرفض التفكير في ذلك .
أحملق في الشارع من خلف النافذة ... لماذا هي الحياة بهذه البشاعة ؟ لماذ يصرّ البشر على جعلها صعبة و مرّة و قذرة ؟ لماذ يصرّ الذئاب على جعلنا نكفر بوجود الأيائل و الأرانب و الفَراش ؟
أدقّق في زحام المارة ..من بعيد .. ترى من منهم الذئب لو تسقط الآن كل الأقنعة ؟ من يترصّد ذات الرّداء الأحمر و يتحيّن الفرصة لتصيّد البراءة..؟
ما عدت أومن البراءة .. كرهتها.. للبراءة مرادفٌ واحدٌ فقط. هو البَلَه !.
يا الهي .. ما أقسى أن يذبحك إيمانك و أن تصبح الثقة سكّينا يحزّ رقبة عمرك . ليس هناك حماقة أكبر من الثقة , و هي خطيئة في حق نفسك أن تتوقّع الخير و الجمال في عالم تسكنه الغيلان و تجوس في أزقّته العقارب و الثعابين ..
الحياة لا تحمي المغفّلين يا نجوى يا صديقتي ..
هل تذكرين حديثنا ؟ حاولت دائما اقناعك بأن تتوقّعي الشّر قبل الخير , في كل البشر..و دائما . كنت تقولين .. لا ..الشر دخيل , ليس أصلا في الإنسان , أما الخير فهو الفطرة فينا..
تفلسفٌ فارغ ..لا أدري بمَ نفعك الآن !
نظرت في ساعتي . وقفت . جلست . وقفت مرّة أخرى . ذرعتُ الغرفة الضيّقة جيئة و ذهابا . يا رب ..اعمل على أن ينتهي هذا الكابوس . نجوى .. لم فعلتِ ذلك ؟ كيف اندفعتِ ؟ لم يحصل أن تصرّفت إحدانا بطيش . أين كان عقلك حين خطوت داخل شقّته ؟ ثلاث سنوات انقضت و نحن هنا في هذه المدينة المجنونة .. المدينة الصاخبة القاسية التي لا تمدّ يدها لمن يسقط , بل ما أن تتعثّر حتى تدوسك بأقدامها ليتعفّر رأسك في الطين . لم يبق سوى فصلين دراسيين و نغادر , إلى قريتنا الهادئة و أهالينا الطيبين . و ها أنت ترين ... خطوة صغيرة في الإتجاه الخطأ و يكون الإنزلاق.
و حين ننزلق علينا أن نتوقّع السقوط !
فتحتُ النافذة . سرت في أوصالي رعشة خفيفة . هناك في آخر الشارع محطة للحافلات .
تقزّزت و انتابتني رغبة في التقيأ .
كم كرهت المحطّات ! لم تكن أمي توصيني حين أغادر إلى الجامعة سوى بالحذر من ذئاب المحطة ..
" كوني يقظة " تقول لي أمي " افتحي عينيك جيّدا حين تصلين المحطة " ..
المحطة .. نقطة البدايات أو النهايات و عالم غريب حقا.. مجسّمٌ صغير للدنيا الكبيرة ..فيه من كل الأصناف .. المجانين , المدمنين , اللّصوص , الشحّاذين , المحترمين , المتشردين , الفارّين من دنيا , الذاهبين إلى دنيا , أصحاب السّوابق و اللواحق , السعداء , البؤساء ..رجل غاضب , امرأة تعرض مفاتنها , صبية يتصيّدون الجيوب...
و الملفت للنظر أنّ الكل يحمل شيئا ..كلّهم .. جريدة , سيجارة , حقيبة , قفّة , حقدا دفينا , سرّا رهيبا , همّا تنوء به الجبال , خطّة شيطانية لجريمة ما .
المحطة .. مرفأ الإنتظارات ... مجمع الأقدام و الأقدار و ملتقى الأحلام و... الكوابيس .
مر دهرٌ من القلق قبل أن يُفتح باب الغرفة . ظهرت الطبيبة أولا و من خلفها نجوى .ربّاه ..هل أنا واهمة أم أنّ الطبيبة مبتسة ؟
على وجه نجوى تمدّدت معاني الخلاص .
ردّد صوت في صدري.. شكرا لك يا الله !
تركنا العيادة . في الخارج , أمسكت بيد نجوى . ضغطت عليها برفق . ثم نظرت إلى السماء , تنفّست عميقا و ملأت رئتي بالهواء .
...ما قبل الأوّل .
توقّف بمحاذاتها تماما .
- تفضّلي آنسة . سوف أوصلك حيث تريدين .
ليس شابا مستهترا من الذين يستعرضون مركباتهم و قمصانهم المستوردة المفتوحة على صدورهم , بل رجلا محترم المظهر , في العقد الخامس من العمر, يضع نظّارات طبية , أنيقلدرجة تلفت الأنظار ..بذلة سوداء و ربطة عنق من حرير , و بياض الوقار منتشر على صدغيه .
نبرته رزينة ,و على وجهه أمارات النبل.
رأت من اللباقة أن ترد عليه , لم يكن يعاكس بتلك العبارات التي تلاحقها في كل مكان ..
- لا . شكرا . سأنتظر سيارة أجرة .
- سيارات الأجرة في اضراب آنستي . و لو كانت وجهتك الجامعة فأنا معيد في كلية الحقوق و عندي اجتماع هناك بعد لحظات .
ما العمل الآن ؟ تقلّب نظرها يمنة و يسرة . تتمكّن منها الحيرة ..
تبا لهؤلاء السائقين ! تبّا لبلد لا يتقن سوى لغة الإضرابات .
لا يمكن أن تنتظر أكثر . موعد المحاضرة بعد دقائق . المحطة شبه خالية هذا الصباح , على غير العادة .
تغلق باب السيارة في حذر و تجلس , متردّدة , خجلة , و لكنّه غاية في اللطف .. في الطريق يحدّثها عن متاعب التدريس و مشاكل الطلبة .. يستفسر منها عن دراستها و مشاريعها ثم قبل أن ينحرف إلى طريق الجامعة يستسمحها المرور ببيته ليأخذ ملفّا مهما نسيه هناك ..و يصطحبان أخته التي تدرس في نفس كلّيتها.
- لا يمكن أن تبقي في السيارة آنستي . تعالي أعرّفك بأختي و تساعداني في حمل بعض الكتب إلى الكلية .
نعم . و ماذا في ذلك ..يا الله ! كم هو لطيف و مؤدّب !
يدلفان إلى الشقّة ..مرتّبة و جميلة ..رواقٌ طويلٌ واسع يؤدي إلى غرفة ذات باب عريض ..
بقيت واقفة في انتظار أن تظهر أخته و لكنها وحدها ... معه . لا أثر لأحد .
جرت نحو الباب , وقد انتبهت إلى المصيدة التي وقعت فيها .
الباب موصد ..بإحكام .
- تعالي هنا ... لن أوذيك . لا تخافي . سنقضي وقتا ممتعا معا ثم أوصلك إلى الجامعة ..
يشدّها من ذراعها .. يجذبها داخل الغرفة .. تحدّق في سحنته ..و قد تسابقت الدموع إلى عينيها ..لا أثر لذلك الرجل المحترم الذي كانه منذ لحظات .. وجهه محتقن , عيناه تلمعان بوميض غريب , مخيف , العروق في ظاهر يديه متصلّبة كأنّ الدّماء ستتفجّر منها .
تكاد نجوى أن تفقد صوابها من الخوف ...تقلّب عينيها في الشقّة ..تتوسّل إليه أن يرحمها و يتركها تمضي .
" أين أنا ؟ أين العالم ؟ أين الناس ؟ لماذا لا يطرق أحدهم الباب الآن أو تفتح النوافذ ؟ ..نعم . النافذة . سأفتحها و أصرخ , بـأعلى صوتي , لا تهم الفضيحة , المهم أن أنقذ نفسي ... الآن ."
تجري نحو النافذة , لكنه أسرع منها . لفّها من الخلف.. بقوّة .. مدّ ذراعيه الطويلتين و أحكم إغلاق النافذة ثم أدارها إليه و كتم صراخها بشفتيه قبل أن يلقيها أرضا..
نجوى تبكي و تصرخ و تتخبّط تحت ثقل جسده مثل سمكة في شبكة صياد . تحاول التملّص من ذراعيه , لكن قوّتها تنهار أمام قوّته , تدريجيا . قبضة يمناه تمسك بكتفيها , بشدّة , مثل كمّاشة..و وجهه كلفح النار يغوص في جيدها و صدرها .. بينما يده اليسرى ترفع عنها ثوبها ...
يتمطّى الوقت حين يغرقنا الخوف , و في عمر الفزع تطول الدقائق لتصبح شهورا , و تتمدّد الثواني فلا ندري متى تنتهي ..و كان الفزع قد ملك على نجوى كل حواسها و كان جسدها قد تخدّر تماما , و تصلّب كقطعة صفيح باردة ..
و...
بعد دهر و نيف , حين وصلها الإحساس بأن لهيب أنفاسه خفتَ و حركات جسده فوق جسدها توقّفت , انتبهت , دفعته عنها بكل قوّتها , بما تبقّى لها من قوّة ... و قامت بين الصحو و الغثيان ...تحاول إسترجاع وعيها بما حدث .. تتلفّت حولها في الغرفة ..تدور في الشقة... الحمام .. المطبخ ..الثلاجة ..تفحتها ... بقايا أكل , بيض و جبن و بضع قارورات خضراء ...كانت تبحث عن شيئ معيّن . نعم . وجدته . فتحت بأنامل مرتعشة القارورة و دلقت نصفها في جوفها , بسرعة و دون تفكير . أحسّت بطعم الحموضة في حلقها و أنفهاو أحداقها.. في جزء من الثانية صوّر لها خوفها كل شيء ..فتذكّرت الخل.... موضوع قرأته في مجلّة ما , لا تذكر تفاصيله .. عن الخل و الحمل أو منع الحمل ..شيء من هذا القبيل .
...دقّات محمومة على باب غرفة في إقامة جامعية للبنات . يُفتح الباب .. يُطلّ وجهٌ أكله الفزع . تضرب الفتاة صدرها بكفّها لفضاعة المنظر , بينما نجوى , نصف ميتة , تتهالك بين ذراعي صديقتها .
...الأخير.
رحلة الإيّاب .
شابّتان تجلسان في المقاعد الأخيرة في حافلة متخمة , تطوي اسفلت الطريق . في حقيبة كل منهما شهادة جامعية و صرّة من الذكريات أغمضت نجوى عينيها و ألقت برأسها إلى الخلف . سرحت في العمر القصير الطويل الذي خلّفته وراءها . وداعا أيتها المدينة التي لا ترحم .
من نافذة الحافلة تبدو الأشجار و البيوت القريبة و الحقول و العصافير مسرعة كأنّها هاربة من قدر ما و من نوافذ الذاكرة تراقصت أمام نجوى صورٌ و أماكن و ملامح و مواقف , فلاشات حزن و فرح ..
و على زجاجٍ شفّافٍ صقيلٍ لإحدى النوافذ ارتسمت خدوش سوداء في شكل ذئب بربطة عنق .
تعليق