رسائل الكسندرا
قبل أن يؤذن الشفق بالرحيل، نُدف كبيرة من الثلج تتطاير ببطء فوق أسطُح البنايات المجاورة لمكتبة سان بطرسبرج القديمة،
وتكسو بطبقة رقيقة، أعمدةُ الإنارة التي أضاءت للتو.وعلى إمتداد الطريق قرب حانة "ماريشكا" توقف
صوت حافلة قريبة ، وقد انطفىء مُحركها بجوار أحد البنايات، وترجل منها سيدة بيضاء سمينة ، في منتصف العقد الرابع ،تجترُ معطفها الثقيل الذي اكتسى بطبقة رقيقة من الجليد, وهي تُثابر مجتهدة في الوصول إلى سُلم المكتبة.
خلعت معطفها الثقيل ، وانتزعت قبعتها الجلدية،ودست نظارتها في فتحة قميصها الأرجوانى، ففتر وجهها عن كائن ملائكي ذو عينين زرقاوين متقدتين كالفيروز، دلفت السيدة إلى المكتبة، وألقت التحية بإيماءة صغيرة :
عمت مساءًا .. سيد (لوكاييف).
- مرحباً.. سيده لافروف
- تأخرت اليوم.. كدنا أن نغلق
-الجليد يغمر الطريق ياعزيزي.. وهناك الكثير من السيارات العالقة
-لاعليك.. سننتظر قليلاً
- شكراً لك
- هل إنتهيت من روايتك؟
- ليس بعد.. تنقصني بعض الإضافات..ها !.. لديكم مجموعة نادرة من الكتب!
- حظاً سعيداً.
أمين المكتبة يدعى "لوكاييف "، رجل في منتصف العقد الخامس, أصلع، هجرته زوجته وهربت مع مهرج يعمل في السيرك يدعى "لانسكي ".
لايدري " لوكاييف "هل هجرته زوجته من أجل صلعته؟، أم أن المهرج-لانسكي- قادر على إضحاكها، كما أخبرته في رسالتها الأخيرة ..
توغلت لافروف إلى عمق المكتبة ، جال بصرها بين أرفف الكتب وسقوفها المطرزة برسومات هندسية .. افترشت مجموعة من الكتب انتقت بعضها من فوق الأرفف القريبة وجلست تتفقد صفحاتها .. شعرت بوهنٍ يتسرب إلى جسدها الذي استحال كتلة باردة , إعتورها دوار شديد، شعرت بالأعياء ، حاولت أن تتناول أقراصها لتفادي الأزمة .. إرتجفت أناملها، فقدت توازنها، أطاحت بالحقيبة عند سقوطها،فانقطع صوتها وتحشرج ..
ظلت السيدة تزحف فاقدة الشعور ، وقد تيبس جسدها مثل كتلة صخرية ، وعيناها لا تفتأُ تلحظ إلى أقراصها المتناثرة وقد انتحت في زوايا الغرفة ،والزبد يطفح من شفتيها..طوحت بذراعيها .. والرؤية تستعصى على الأبصار ..
ظفرت بحبتين ،تناولتهما، وعندها شعرت بإرتياح شديد، ومن ثما هدأت نفسها ،وغادرت المكتبة.
قبل أن تخلد للفراش، تذكرت أن تُدير بريدها الإلكتروني، أدارت الحاسوب، وجدت صديقها (ماردوك) أوف لاين، أرسلت له.
صديقي الصغير- الذي لم أره- ماردوك عمت مساءًا.. اليوم عاودتني الأزمة..
أعلم أن أيامي معدودة في الحياة.. أنت الوحيد الذي أسر له بمكنون مايجيش به صدري،وما يعتريه من تقلُبات ..
لأنك وحيد مثلي.. آسفة أني أثقل عليك بقصصي التافهة..أنا أنانية حقاً!.. لا تنسى ياعزيزي أن تناول كوب اللبن قبل أن تخلُد لفراشك..أحاول أن أعتني بك .. مثلما تعتني بي.. كن بخير ياصديقي.
في اليوم التالي..
دلف إلى المكتبة شاب وسيم، قد أرسل جدائله الشقراء المعقودة خلف رأسه وألقى بتحية الصباح :
-صباح الخير..سيد لوكاييف. سيد لوكاييف متأوهاً
-صديقي مارد.. أين كنت طيلة تلك المدة؟
- تعلم سيد لوكاييف..المنحة الدراسية.. أُكابد ألا تفوتني
- هل من جديد؟
- لاتقلق صديقي.. روايتك المفضلة"ماكبث" ستصلُنا قريبا.
- هل لي بمعروف؟
- كما تحب
أخرج (لوكاييف) من حقيبته قلادة.
- هذه القلادة.. وجدها الحارس صباح اليوم ،وهو يتفقد زوايا المكتبة.. وأغلب الظن أنها للسيدة( لافروف).. التي زارتنا أمس.. سأذكر لك عنوانها.
ماردي مازحاً
- إنها مقايضة إذاً.
تناول ماردري القلادة مازحاً:إنني أمزح
- ثق أنها وصلت الآن.غادر ماردري المكتبة، وحاول بتطفل تفقد ملامح الصورة التي تتوسط القلادة، لفت إنتباهه إستغاثة عجوز تستجدي المساعدة، وثب لنجدتها ،باغتته بركلة قوية ثم انتزعت حقيبته والقلادة، وبرشاقة قفزت إلى دراجة بخارية لتلوذ بالفرار مع صديقها بعدما ألقت شعرها المستعار.
حاول ماردري اللحاق بهما متألماً من شدة الضربة التى ألمت به:
- أنتما .. توقفا .. يا إلهي!
خذا الحقيبة بربكما .. ودعا القلادة.. يا إلهي.. ماذا سأخبر صاحبتها؟.. ماذا سأفعل؟
عاد ماردري إلى حجرته الضيقة، في فندق "براغ" المتواضع،الذي يأوى حشداً كبيراً من الخارجين عن القانون، وثلة من بائعات الهوى، وما ارتاده ماردري إلا لتواضع كلفته المادية.
ألقى بثقله إلى الفراش ، فرك وجهه بكلتي يديه، نهض والغضب يقدح شرراً من عينيه ، أخذ يركل الحائط
ويكيل السباب لتلك العجوز..ياإلهي !!..
-أنا أحمق.. هل أتجاهل الأمر.. وماذا سأخبر سيد لوكاييف.. هل ستواتيني الشجاعة لأكذب.. وماذنب السيدة المسكينة ؟
تساؤلات كثيرة خلقت فضاء من علامات الإستفهام، دلف إلى الشرفة بوجه مكفهرا:ملأ رئتيه بالهواء
- تنفس بعمق ..وتحدث إلى نفسه .. إهدأ لكي نجد حلاً للخروج من ذلك المأزق، تذكر صديقته (ألكس).
فتح الماسنجر، ضغط مراراً على أيقونة التنبيه ،أرسل إليها :
- ألكس.. ألكس.. بربك أين أنت.. أحتاجك
إنفرجت أساريره عندما أُضيئت الأيقونه الخضراء راسلته :
- مرحباً صديقي الصغير.. أين كنت؟
- رفع وجهه: شكراً أيها القدير:
-أحتاجك بشدة
- ما الخبر؟
- مأزق
تضحك ألكسندرا:
- هل كانت صفعة قوية؟
ماردري مندهشاً
- كيف علمت؟
- الفتاة
- لا ليس كذلك؟؟ عجوز شريرة.. خدعتني.. وباغتتني بركلة.. أسقطت فكي، سأخبرك بالقصة..كانت معي وديعة ،وكنت في طريقي لصاحبتها ...وبعد أن إنتهى ماردري ..قالت ألكس
- نعم إنه مأزق ياصديقي.. ولكن يُحتم عليك أن تذهب إليها.. وتطلب منها أن تُسامحك.. وأظن أنها ستراعي الأمر.. وستشكرك لإهتمامك
- هل ترين ذلك؟
- أجل
- لكني أشعر بالخوف والقلق
-حسناً.. لكل فعل رد فعل .. ولكل فعل سبب.. لتبحث عن السبب ليكون دافعك
- تذكرت..المنحة الدراسية.. سأعده أختباراً حقيقياً.. شكراً لك "ألكس."
إستقلَّ ماردري الحافلة مفعم بالثقة، يردد على طريقة "جوني ديب": سأتخطى ذلك المأزق لامحالة، ترجل من الحافلة قرب متنزه"بانفيلوف"
كما حوى العنوان، وفي طريقه أخذ يرتب حواراً للقاء لافروف : معذرة سيدة لافروف.. لقد أضعت قلادتك ..لالا؟.. سيدة لافروف, سأدفع لك ثمن قلادتك القديمة..لا لا؟
:سيدة لافروف.. لقد أضعت قلادتك الرخيصة..!وسأدفع ثمنها ..حالما أحظى بالمنحة الدراسية..اللعنة ..بئس الأمر ..ستنهرنى لامحالة..لابأس .
وصل ماردري إلى المنزل بعدما تعثر في طريقه بفتى يلهو بالمزلاج.
راودته الهواجس وإنتوى الرحيل خشية الموقف، سار بضع خطوات وهو يرمق بوجل النوافذ والشرفات، إتكأ برهة على السياج الخشبي الذي يكور المنزل، ثم مضى في طريقه يلحظ إلى حديقة ذات عشب أخضر رقيق، قد تكاثرت الأشجار الصغيرة على حوافها ، واكتست براعمها بزهور بيضاء ندية :ياللجمال إنها
أزهار الآضاليا ، تومض كالنجوم لاسيما عند حلول المساء ، وفي نهاية الحديقة ،انبثقت شجرة كمثري،رفيعة في أوج إزدهارها وقفت ساكنة وكأنما زرقة السماء المشوبة بالإخضرار قد أضفت عليها هذا السكون : هذه السيدة تعتني بحديقتها جيداً.
طرق الباب برقة وأخذ ينادي بصوت مرتعش: سيدة لافروف الرقيقة...
حدث نفسه بالرحيل بعدما جلله الخوف ولفه بالوساوس والقلق. رجع القهقري استدار
وهم بالرحيل.
في الوقت ذاته إنتابت ألكسندرا أزمة شديدة، تقطع صوتها وهي تستجدي المساعدة زاحفة على الأرض، نما إلى مسامعه صوت ينشد إستغاثة
طرق الباب بقوة وصرخ :سيده لافروف..سيده لافروف، إلتف حول المنزل، تسور النافذة
حطم الزجاج بقبضته فنشبت الشظايا في معصمه سالت الدماء بكثرة، حملها بين ذراعيه سارع بطلب النجدة،عند وصوله
المشفى، الممرضة تضمد جرحه وهو يرمق إلى "ألكساندرا" والأطباء
يلتفون حولها يتهامسون, فيما بينهم ،خرج أحدهم:
- هل أنت قريبها
- لما؟
- لديها قصور شديدة في وظائف الكلى.. تكيس في الأمعاء لقد إنتهى عملهما منذ شهور
نحتاج إلى متبرع .. في خلال يومين لا أكثر
غادر ماردري المشفى مذهولاً، عاد إلى حجرته، تمدد على الفراش،ظلت تراوده تلك الأحداث تباعاً، منذ مقايضة لوكاييف وبريق القلاده الذي يجتاح خواطره حتى قول الطبيب: نحتاج لمتبرع.. أدار الحاسوب ، فتح الماسنجر
وجد صديقته ألكس أوف لاين، ظل يقظاً حتى الصباح وهو يردد: لعل أقربائها
سيتولون رعايتها، ومن ثما أنتظر حتى تستعيد عافيتها .. وأذهب إليها أقدم إعتذاري..
خالج -ماردري- شعور غريب، يدفعه لتفقد أحوال تلك المرأة، فذهب إلى منزلها
سأل جيرانها، وكانت صدمته، إنها تعيش وحيدة بعدما فقدت أسرتها على أثر حادث مروع، إنقضى اليوم الأول، وماردري ممدد على فراشه يُحملق إلى السقف ..وصوت الطبيب يتردد صداه بين جدران الغرفة البالية
:تحتاج إلى متبرع.. في يومين لا أكثر
- يا إلهي .. ماذا أفعل؟.. المرأة المسكينة .. تنتظر الموت.. الغريب إنها وحيدة مثلي ..!! ليس لها أحد سواي.. تربطني بها القلادة. حاول أن يتحدث إلى ألكس لكن دون جدوى، ليست موجودة,هناك شيءُ يدفعني للإهتمام بها..شيءُ بعيد الفهم عصي الإدراك, في اليوم الثاني والأخير.
عزم ماردري على القيام بأمر ما، ذهب إلى المشفى، وقع على صحيفة تبرعة بكليته ، إلى السيدة لافروف, تمدد بجوارها على سرير العمليات ، وأخذ يلحظ إليها والمخدر يسري في عروقه ، حتى دخل في نوم عميق ..وتراءت له صور ومشاهد عديدة ، المكتبة ، شبح السيدة ، القلادة ..ثنائية الحياة والموت في مشهد درامي معقد ..
بعد إنتهاء العملية، تم فصل كلاً منهما عن الأخر في غرفة خاصة،
أفاق ماردري، وهو يشعر بفراغ حي داخله، دخل الطبيب يهنئهُ بنجاح العملية
وناشد الطبيب أن يصدرله أمرأ كتابياً ليغادرالمشفى.
أفاقت السيدة -" لافروف"- من غفوتها الجراحية، وتماثلت للشفاء ،وبعد أيام استعادت عافيتها، حاولت أن تعرف من المتبرع لتجزيه عظيم الشكر لصنيعه النبيل، لكن ماردري لم يترك أثراً...
دأبت ألكساندرا العمل على الإنتهاء من روايتها،وحاولت مراسلة ماردري..ولم يدور بخلدها أن الصدفة جعلت صديقها الذي لم تراهُ يُنقذ حياتها دون أن يراها ..حاولت مراسلة ماردري
ليشاركها فرحتها لكن دون جدوى، فقد ساءت حالته الصحية وتدهورت ،ولم يستطع جسده الهزيل الصمود بكلية واحدة ، تغيرت ملامحه وتبدلت ..فصار جسده مصفراً ،شاحباً ،واهن الشفتين...
مكث ماردري شهوراً يسعلُ بشدة ويتقيأ الدماء والمخاط ..كأن رياح الأقدار ،وأعاصير الموت قد إصطلحت على إفنائه ..
تولت إحدى بائعات الهوى رعايته بعدما رق لها ما آل إليه..وشغفت به ،بعدما علمت قصته ،فظلت معه ترعاه وتعتني به وتحوطه بصدرها المترع بالحنان كالأم التي تحنو على رضيعها..
لكن ماردري كان ينازع الموت،واستيئس الأطباء من حالته فرمق إلى الحائط ، وجال ببصره هنا وهناك، وتذكر "إلكساندرا" صديقتهُ التى لم يراها فكان يُردد :أتمنى أن تكونى بخير .. لفظ ببضع كلمات اختلطت بسعال شديد مُخضب بالدماء القانية الثخينة .
طفحت الدماء على شفتيه الذابلتين.. وغاصت عينيه في فضاء الغرفة .. وتسائل في وجل مشبوب بابتسامة باهته :
- تُرى هل ستسامحني السيدة "لافروف" ،التي أضعت قلادتها.. إبتسم ماردري مرة أُخرى :
- أجل ،إنها مقايضة عادلة..فليغفر لي رب السماء ، ثم تحجرت عيناه، وصعدت روحه إلى بارئها ،ونكست الفتاة رأسها حزناً وألماً.
فرغت ألكساندرا من روايتها، ونصبت عنوانها"شخصُ يرعاني" وكتبت في مقدمتها إهداء إلى صديقي الصغير ماردري، وإلى الشخص النبيل الذي وهبني الحياة، لن أنساكما.
بعدمرور أيام، ذهبت ألكساندرا إلى مقابر المدينة ،في زيارة أسرتها ،تحمل إليهم باقة كبيرة من الزهور، لفت نظرها مقبرة صغيرة متواضعة ،مرتسمة على شاهدها ، صورة فتىً وسيم تتدلى منه جدائل ذهبية، دنت منها فقرأت السيدة ماردري ماردرين (2010-1985) عاش فقيراً، وهاهو ينام وحيداً في مقابر الفقراء .. انسابت دمعة حارة في إجفال من طرفيها ، دمعة ثقيلة تشكلت معالمها ،من همسات وذكريات عابرة ، تراها هبت دون معنى ،فغشي جبينها سحابة من الحزن ، مسحتها بحركة أليمة، وهمست إلكساندرا :
- كان لي يوماً ما.. صديق يُدعى ماردري.. كان يعتني بي يوماً من الأيام..كن بخير أينما كنت
تناولت زهرة حمراء، ثم وضعتها جوار القبر :
- نم هادئاً أيها الصغير..ثم توارت السيدة وغابت مثل ضباب الصباح
قبل أن يؤذن الشفق بالرحيل، نُدف كبيرة من الثلج تتطاير ببطء فوق أسطُح البنايات المجاورة لمكتبة سان بطرسبرج القديمة،
وتكسو بطبقة رقيقة، أعمدةُ الإنارة التي أضاءت للتو.وعلى إمتداد الطريق قرب حانة "ماريشكا" توقف
صوت حافلة قريبة ، وقد انطفىء مُحركها بجوار أحد البنايات، وترجل منها سيدة بيضاء سمينة ، في منتصف العقد الرابع ،تجترُ معطفها الثقيل الذي اكتسى بطبقة رقيقة من الجليد, وهي تُثابر مجتهدة في الوصول إلى سُلم المكتبة.
خلعت معطفها الثقيل ، وانتزعت قبعتها الجلدية،ودست نظارتها في فتحة قميصها الأرجوانى، ففتر وجهها عن كائن ملائكي ذو عينين زرقاوين متقدتين كالفيروز، دلفت السيدة إلى المكتبة، وألقت التحية بإيماءة صغيرة :
عمت مساءًا .. سيد (لوكاييف).
- مرحباً.. سيده لافروف
- تأخرت اليوم.. كدنا أن نغلق
-الجليد يغمر الطريق ياعزيزي.. وهناك الكثير من السيارات العالقة
-لاعليك.. سننتظر قليلاً
- شكراً لك
- هل إنتهيت من روايتك؟
- ليس بعد.. تنقصني بعض الإضافات..ها !.. لديكم مجموعة نادرة من الكتب!
- حظاً سعيداً.
أمين المكتبة يدعى "لوكاييف "، رجل في منتصف العقد الخامس, أصلع، هجرته زوجته وهربت مع مهرج يعمل في السيرك يدعى "لانسكي ".
لايدري " لوكاييف "هل هجرته زوجته من أجل صلعته؟، أم أن المهرج-لانسكي- قادر على إضحاكها، كما أخبرته في رسالتها الأخيرة ..
توغلت لافروف إلى عمق المكتبة ، جال بصرها بين أرفف الكتب وسقوفها المطرزة برسومات هندسية .. افترشت مجموعة من الكتب انتقت بعضها من فوق الأرفف القريبة وجلست تتفقد صفحاتها .. شعرت بوهنٍ يتسرب إلى جسدها الذي استحال كتلة باردة , إعتورها دوار شديد، شعرت بالأعياء ، حاولت أن تتناول أقراصها لتفادي الأزمة .. إرتجفت أناملها، فقدت توازنها، أطاحت بالحقيبة عند سقوطها،فانقطع صوتها وتحشرج ..
ظلت السيدة تزحف فاقدة الشعور ، وقد تيبس جسدها مثل كتلة صخرية ، وعيناها لا تفتأُ تلحظ إلى أقراصها المتناثرة وقد انتحت في زوايا الغرفة ،والزبد يطفح من شفتيها..طوحت بذراعيها .. والرؤية تستعصى على الأبصار ..
ظفرت بحبتين ،تناولتهما، وعندها شعرت بإرتياح شديد، ومن ثما هدأت نفسها ،وغادرت المكتبة.
قبل أن تخلد للفراش، تذكرت أن تُدير بريدها الإلكتروني، أدارت الحاسوب، وجدت صديقها (ماردوك) أوف لاين، أرسلت له.
صديقي الصغير- الذي لم أره- ماردوك عمت مساءًا.. اليوم عاودتني الأزمة..
أعلم أن أيامي معدودة في الحياة.. أنت الوحيد الذي أسر له بمكنون مايجيش به صدري،وما يعتريه من تقلُبات ..
لأنك وحيد مثلي.. آسفة أني أثقل عليك بقصصي التافهة..أنا أنانية حقاً!.. لا تنسى ياعزيزي أن تناول كوب اللبن قبل أن تخلُد لفراشك..أحاول أن أعتني بك .. مثلما تعتني بي.. كن بخير ياصديقي.
في اليوم التالي..
دلف إلى المكتبة شاب وسيم، قد أرسل جدائله الشقراء المعقودة خلف رأسه وألقى بتحية الصباح :
-صباح الخير..سيد لوكاييف. سيد لوكاييف متأوهاً
-صديقي مارد.. أين كنت طيلة تلك المدة؟
- تعلم سيد لوكاييف..المنحة الدراسية.. أُكابد ألا تفوتني
- هل من جديد؟
- لاتقلق صديقي.. روايتك المفضلة"ماكبث" ستصلُنا قريبا.
- هل لي بمعروف؟
- كما تحب
أخرج (لوكاييف) من حقيبته قلادة.
- هذه القلادة.. وجدها الحارس صباح اليوم ،وهو يتفقد زوايا المكتبة.. وأغلب الظن أنها للسيدة( لافروف).. التي زارتنا أمس.. سأذكر لك عنوانها.
ماردي مازحاً
- إنها مقايضة إذاً.
تناول ماردري القلادة مازحاً:إنني أمزح
- ثق أنها وصلت الآن.غادر ماردري المكتبة، وحاول بتطفل تفقد ملامح الصورة التي تتوسط القلادة، لفت إنتباهه إستغاثة عجوز تستجدي المساعدة، وثب لنجدتها ،باغتته بركلة قوية ثم انتزعت حقيبته والقلادة، وبرشاقة قفزت إلى دراجة بخارية لتلوذ بالفرار مع صديقها بعدما ألقت شعرها المستعار.
حاول ماردري اللحاق بهما متألماً من شدة الضربة التى ألمت به:
- أنتما .. توقفا .. يا إلهي!
خذا الحقيبة بربكما .. ودعا القلادة.. يا إلهي.. ماذا سأخبر صاحبتها؟.. ماذا سأفعل؟
عاد ماردري إلى حجرته الضيقة، في فندق "براغ" المتواضع،الذي يأوى حشداً كبيراً من الخارجين عن القانون، وثلة من بائعات الهوى، وما ارتاده ماردري إلا لتواضع كلفته المادية.
ألقى بثقله إلى الفراش ، فرك وجهه بكلتي يديه، نهض والغضب يقدح شرراً من عينيه ، أخذ يركل الحائط
ويكيل السباب لتلك العجوز..ياإلهي !!..
-أنا أحمق.. هل أتجاهل الأمر.. وماذا سأخبر سيد لوكاييف.. هل ستواتيني الشجاعة لأكذب.. وماذنب السيدة المسكينة ؟
تساؤلات كثيرة خلقت فضاء من علامات الإستفهام، دلف إلى الشرفة بوجه مكفهرا:ملأ رئتيه بالهواء
- تنفس بعمق ..وتحدث إلى نفسه .. إهدأ لكي نجد حلاً للخروج من ذلك المأزق، تذكر صديقته (ألكس).
فتح الماسنجر، ضغط مراراً على أيقونة التنبيه ،أرسل إليها :
- ألكس.. ألكس.. بربك أين أنت.. أحتاجك
إنفرجت أساريره عندما أُضيئت الأيقونه الخضراء راسلته :
- مرحباً صديقي الصغير.. أين كنت؟
- رفع وجهه: شكراً أيها القدير:
-أحتاجك بشدة
- ما الخبر؟
- مأزق
تضحك ألكسندرا:
- هل كانت صفعة قوية؟
ماردري مندهشاً
- كيف علمت؟
- الفتاة
- لا ليس كذلك؟؟ عجوز شريرة.. خدعتني.. وباغتتني بركلة.. أسقطت فكي، سأخبرك بالقصة..كانت معي وديعة ،وكنت في طريقي لصاحبتها ...وبعد أن إنتهى ماردري ..قالت ألكس
- نعم إنه مأزق ياصديقي.. ولكن يُحتم عليك أن تذهب إليها.. وتطلب منها أن تُسامحك.. وأظن أنها ستراعي الأمر.. وستشكرك لإهتمامك
- هل ترين ذلك؟
- أجل
- لكني أشعر بالخوف والقلق
-حسناً.. لكل فعل رد فعل .. ولكل فعل سبب.. لتبحث عن السبب ليكون دافعك
- تذكرت..المنحة الدراسية.. سأعده أختباراً حقيقياً.. شكراً لك "ألكس."
إستقلَّ ماردري الحافلة مفعم بالثقة، يردد على طريقة "جوني ديب": سأتخطى ذلك المأزق لامحالة، ترجل من الحافلة قرب متنزه"بانفيلوف"
كما حوى العنوان، وفي طريقه أخذ يرتب حواراً للقاء لافروف : معذرة سيدة لافروف.. لقد أضعت قلادتك ..لالا؟.. سيدة لافروف, سأدفع لك ثمن قلادتك القديمة..لا لا؟
:سيدة لافروف.. لقد أضعت قلادتك الرخيصة..!وسأدفع ثمنها ..حالما أحظى بالمنحة الدراسية..اللعنة ..بئس الأمر ..ستنهرنى لامحالة..لابأس .
وصل ماردري إلى المنزل بعدما تعثر في طريقه بفتى يلهو بالمزلاج.
راودته الهواجس وإنتوى الرحيل خشية الموقف، سار بضع خطوات وهو يرمق بوجل النوافذ والشرفات، إتكأ برهة على السياج الخشبي الذي يكور المنزل، ثم مضى في طريقه يلحظ إلى حديقة ذات عشب أخضر رقيق، قد تكاثرت الأشجار الصغيرة على حوافها ، واكتست براعمها بزهور بيضاء ندية :ياللجمال إنها
أزهار الآضاليا ، تومض كالنجوم لاسيما عند حلول المساء ، وفي نهاية الحديقة ،انبثقت شجرة كمثري،رفيعة في أوج إزدهارها وقفت ساكنة وكأنما زرقة السماء المشوبة بالإخضرار قد أضفت عليها هذا السكون : هذه السيدة تعتني بحديقتها جيداً.
طرق الباب برقة وأخذ ينادي بصوت مرتعش: سيدة لافروف الرقيقة...
حدث نفسه بالرحيل بعدما جلله الخوف ولفه بالوساوس والقلق. رجع القهقري استدار
وهم بالرحيل.
في الوقت ذاته إنتابت ألكسندرا أزمة شديدة، تقطع صوتها وهي تستجدي المساعدة زاحفة على الأرض، نما إلى مسامعه صوت ينشد إستغاثة
طرق الباب بقوة وصرخ :سيده لافروف..سيده لافروف، إلتف حول المنزل، تسور النافذة
حطم الزجاج بقبضته فنشبت الشظايا في معصمه سالت الدماء بكثرة، حملها بين ذراعيه سارع بطلب النجدة،عند وصوله
المشفى، الممرضة تضمد جرحه وهو يرمق إلى "ألكساندرا" والأطباء
يلتفون حولها يتهامسون, فيما بينهم ،خرج أحدهم:
- هل أنت قريبها
- لما؟
- لديها قصور شديدة في وظائف الكلى.. تكيس في الأمعاء لقد إنتهى عملهما منذ شهور
نحتاج إلى متبرع .. في خلال يومين لا أكثر
غادر ماردري المشفى مذهولاً، عاد إلى حجرته، تمدد على الفراش،ظلت تراوده تلك الأحداث تباعاً، منذ مقايضة لوكاييف وبريق القلاده الذي يجتاح خواطره حتى قول الطبيب: نحتاج لمتبرع.. أدار الحاسوب ، فتح الماسنجر
وجد صديقته ألكس أوف لاين، ظل يقظاً حتى الصباح وهو يردد: لعل أقربائها
سيتولون رعايتها، ومن ثما أنتظر حتى تستعيد عافيتها .. وأذهب إليها أقدم إعتذاري..
خالج -ماردري- شعور غريب، يدفعه لتفقد أحوال تلك المرأة، فذهب إلى منزلها
سأل جيرانها، وكانت صدمته، إنها تعيش وحيدة بعدما فقدت أسرتها على أثر حادث مروع، إنقضى اليوم الأول، وماردري ممدد على فراشه يُحملق إلى السقف ..وصوت الطبيب يتردد صداه بين جدران الغرفة البالية
:تحتاج إلى متبرع.. في يومين لا أكثر
- يا إلهي .. ماذا أفعل؟.. المرأة المسكينة .. تنتظر الموت.. الغريب إنها وحيدة مثلي ..!! ليس لها أحد سواي.. تربطني بها القلادة. حاول أن يتحدث إلى ألكس لكن دون جدوى، ليست موجودة,هناك شيءُ يدفعني للإهتمام بها..شيءُ بعيد الفهم عصي الإدراك, في اليوم الثاني والأخير.
عزم ماردري على القيام بأمر ما، ذهب إلى المشفى، وقع على صحيفة تبرعة بكليته ، إلى السيدة لافروف, تمدد بجوارها على سرير العمليات ، وأخذ يلحظ إليها والمخدر يسري في عروقه ، حتى دخل في نوم عميق ..وتراءت له صور ومشاهد عديدة ، المكتبة ، شبح السيدة ، القلادة ..ثنائية الحياة والموت في مشهد درامي معقد ..
بعد إنتهاء العملية، تم فصل كلاً منهما عن الأخر في غرفة خاصة،
أفاق ماردري، وهو يشعر بفراغ حي داخله، دخل الطبيب يهنئهُ بنجاح العملية
وناشد الطبيب أن يصدرله أمرأ كتابياً ليغادرالمشفى.
أفاقت السيدة -" لافروف"- من غفوتها الجراحية، وتماثلت للشفاء ،وبعد أيام استعادت عافيتها، حاولت أن تعرف من المتبرع لتجزيه عظيم الشكر لصنيعه النبيل، لكن ماردري لم يترك أثراً...
دأبت ألكساندرا العمل على الإنتهاء من روايتها،وحاولت مراسلة ماردري..ولم يدور بخلدها أن الصدفة جعلت صديقها الذي لم تراهُ يُنقذ حياتها دون أن يراها ..حاولت مراسلة ماردري
ليشاركها فرحتها لكن دون جدوى، فقد ساءت حالته الصحية وتدهورت ،ولم يستطع جسده الهزيل الصمود بكلية واحدة ، تغيرت ملامحه وتبدلت ..فصار جسده مصفراً ،شاحباً ،واهن الشفتين...
مكث ماردري شهوراً يسعلُ بشدة ويتقيأ الدماء والمخاط ..كأن رياح الأقدار ،وأعاصير الموت قد إصطلحت على إفنائه ..
تولت إحدى بائعات الهوى رعايته بعدما رق لها ما آل إليه..وشغفت به ،بعدما علمت قصته ،فظلت معه ترعاه وتعتني به وتحوطه بصدرها المترع بالحنان كالأم التي تحنو على رضيعها..
لكن ماردري كان ينازع الموت،واستيئس الأطباء من حالته فرمق إلى الحائط ، وجال ببصره هنا وهناك، وتذكر "إلكساندرا" صديقتهُ التى لم يراها فكان يُردد :أتمنى أن تكونى بخير .. لفظ ببضع كلمات اختلطت بسعال شديد مُخضب بالدماء القانية الثخينة .
طفحت الدماء على شفتيه الذابلتين.. وغاصت عينيه في فضاء الغرفة .. وتسائل في وجل مشبوب بابتسامة باهته :
- تُرى هل ستسامحني السيدة "لافروف" ،التي أضعت قلادتها.. إبتسم ماردري مرة أُخرى :
- أجل ،إنها مقايضة عادلة..فليغفر لي رب السماء ، ثم تحجرت عيناه، وصعدت روحه إلى بارئها ،ونكست الفتاة رأسها حزناً وألماً.
فرغت ألكساندرا من روايتها، ونصبت عنوانها"شخصُ يرعاني" وكتبت في مقدمتها إهداء إلى صديقي الصغير ماردري، وإلى الشخص النبيل الذي وهبني الحياة، لن أنساكما.
بعدمرور أيام، ذهبت ألكساندرا إلى مقابر المدينة ،في زيارة أسرتها ،تحمل إليهم باقة كبيرة من الزهور، لفت نظرها مقبرة صغيرة متواضعة ،مرتسمة على شاهدها ، صورة فتىً وسيم تتدلى منه جدائل ذهبية، دنت منها فقرأت السيدة ماردري ماردرين (2010-1985) عاش فقيراً، وهاهو ينام وحيداً في مقابر الفقراء .. انسابت دمعة حارة في إجفال من طرفيها ، دمعة ثقيلة تشكلت معالمها ،من همسات وذكريات عابرة ، تراها هبت دون معنى ،فغشي جبينها سحابة من الحزن ، مسحتها بحركة أليمة، وهمست إلكساندرا :
- كان لي يوماً ما.. صديق يُدعى ماردري.. كان يعتني بي يوماً من الأيام..كن بخير أينما كنت
تناولت زهرة حمراء، ثم وضعتها جوار القبر :
- نم هادئاً أيها الصغير..ثم توارت السيدة وغابت مثل ضباب الصباح
تعليق