جرأت الشمس على التلصص إلى عيون الظلام مخترقة ألسنة الجو الرطب داخل الزنزانة في سجن "تلموند" التي فـُتـِح بابها في تلك الساعة المواربة ما بين فجر و ضحى و صوت الحذاء العسكري يدب جيئة و ذهابا ً خلف الباب بعد أن لقن الأسيرات وجبة العذاب اليومية بالرش بالماء البارد، اشتعل الجو تماما ً بصراخها و الحركة الدؤوب لرفيقاتها و خطوات الطبيب تسعل فوق الأرضية المتهالكة، اختنق الجو أكثر حتى قرر الطبيب ضرورة نقلها فورا ًإلى المستشفى، سحبها المسعفون مكبلة اليدين و القدمين إلى مستشفى "أسان هروفيه" و المخاض ينازعها بأمل بارد و ألم يتأجج جسدا ً و روحا ً،و لأول مرة بعد قدوم "سلمى" من معتقل_مسلخ_ المسكوبية الذي أمضت فيه عشرين يوما ًمكبلة اليدين و القدمين مقيدة إلى الكرسي تبيت ليلتها في زنزانة عرضها ثمانين مترا و ارتفاعها أربع أمتار و مصباح مضاء طوال الليل ترى الشارع عبر النافذة الزجاجية لسيارة الإسعاف التي اخترقت رطل المجنزرات المنتشرة عبر الطريق، شق صوت الأذان حاملا ً بين كفيه صراخ الصغير قلب السماء التي بات في ليلتها هلال رمضان، لم تتمكن "سلمى" من ضم وليدها إليها إلا بعد أن فككت لها الممرضة الوثاق المربوط حول كفيها لتعقده حول القدمين،في الليل تـَقـّرر عودتها إلى زنزانتها في سجن "تلموند"الكئيب الذي شق عبابه صراخ الصغير مصافحا عالمه المسجون، كانت النسوة تتسابق في اختيار الاسم المناسب لصغير سيخطو أولى خطواته داخل زنزانة، بدأ الاسم يتسرب من بين شفتيها "شمس..إني سميته شمس" بدأت تتعرف إلى ملامحه أكثر و هو يتناول رضعته الأولى و رسالة لم ترسلها إلى والده الأسير بعد رفض إدارة السجن، غفا قرير العين بين أحضانها وقد سرقتها غفوة قصيرة لم يقطعها سوى الوجبة اليومية من ضحكات الجنود الإسرائيليين و هم يرشونها و زميلاتها الأسيرات بالغاز، احتضنت طفلها أكثر حتى كاد يعود إلى مكمنه الأول في رحمها في مشهد يتكرر بشكل يومي، بدأ "شمس"يخطو خطواته الأولى بهزال واضح و ضيق تنفس مزمن و بكاء لا ينقطع إلا نادرا و آثار لدغ الحشرات منتشرة فوق جسده وعالم لا يعرفه من زرقة سمائه سوى ما يراه عبر سقف ساعة الفسحة اليومية بدون شهادة ميلاد بعدما أنهكت الإجراءات كاهل "سلمى" و ذبحت صبرها دون فائدة،إن عامه الثاني يداهمه و طبقا للقانون الإسرائيلي سوف يغادرها إلى كنف العائلة التي لم يتبق منها سوى والدة زوجها الأسير، اقتربت أقدام الجنود من باب الزنزانة قرؤوا قرار إدارة السجن الذي يقضى بانتهاء فترة حضانة"سلمى" لوليدها و أخبروها بما هو أسوأ _موت الجدة_ العائل الوحيد للصغير مما سيقتضي ضرورة وضع الطفل بدار رعاية خاصة بالأيتام، لم يعبأ الجنود ببكائها و صراخها و أخذوا "شمس" إلى مصيره المجهول ، انقضت الأعوام الخمسة المتبقية _خمسة أعوام دون سطوع "شمس" في سمائها مع آذان المغرب الأول في كل رمضان تبكي تتذكر تنصت إلى صوت قادم من داخلها صورة تتراقص في مقلتيها لطفل وحيد يدعى "شمس"_خرجت "سلمى" إلى الحياة من جديد وحيدة تبحث عن شمسها التي ضيعوها في سماء الحزن زارت كل دور الأيتام بحثا ًعن طفل له نكهة الوحشة و طعم الغياب، بين آلاف الشموس الوحيدة كانت تمضي "سلمى" يومها كاملا ً بحثا ً عن خيط من خيوط الأمل يشير ببنانه إلى شمسها الذي ضيعته الأيام.....
تحياتى ..... شيرين
تحياتى ..... شيرين
تعليق