مقدمة كتاب جمالية الكلمة
إن دراسة جمالية الكلمة بهدف الوصول إلى حقيقتها ومعرفة أطوارها الجمالية والدلالية على مر العصور؛ إنما يعني أن ندرس نشأة الإنسان ذاته؛ فهو كلمة الله الكبرى في الأرض...، وهو صورتها الفكرية والبلاغية.
هذا يعني أن الكلمة مرتبطة بالإنسان والكون والفكر والفن... لتدل على أنسنة الإنسان وتجلي الروح الخالدة في الكون، وتحقق الوجود الحي بالفعل الروحي الثقافي والجمالي... فالكلمة صورة العالم الأكبر، وإن عبرت عن ذات الإنسان في مشاعره وأفكاره وما يجري حوله... وما يتلقى من معارف وآراء...
ويصبح للكلمة وظيفة هامة في كل زاوية من زوايا الذات والوجود... ويغدو لها مغزى خاص في الفن يرتبط بالإمتاع والفائدة... وحين تنحصر دائرتها في فن البلاغة فإنما تتجه بشكل مباشر إلى الجمال... فالبلاغة في عناصرها كلها إنما تبنى على الجمال وتخلق بدائعه، وتتصيد مقاصده، وتحقق في الذات والمجتمع وظائفه...
فليس هناك أحد في الوجود ينفر من الجمال، أو يمج طرائقه وقسماته... بل هناك سعيٌ حثيث منذ الأزل إليه؛ وشغف في النفس إلى آفاقه... وهو يتشكل داخل الإنسان باعتبار المقولة الذائعة الصيت: (كن جميلاً تر الوجود جميلاً). وهو يتشكل في الوسط الموضوعي أيضاً؛ لترتقي ذائقة الجمال من الشكل الحسي إلى العقلي فالروحي؛ فتسمو النفس وتصفو...
وبهذا التصور نرى أن البلاغة حاجة جمالية للإنسان لا غنى له عنها؛ وتتحقق بالكلمة المعبرة المثيرة. لهذا كان بحثنا... الذي سميناه (في جمالية الكلمة البلاغية)... وهي بلاغية لأنها مستندة إلى أبحاث في البلاغة العربية وتهدف إلى إبراز الكلام البديع وتحصيل الإمتاع والفائدة... وقد اختزنت الذاكرة البلاغية العربية ذلك كله بصور فريدة؛ وقواعد توجه العقل والفهم؛ وتؤجج بؤرة الشعور في أمثلة استقيت من ديوان العرب ونثرهم.
وقدَّمت الدراسات اللغوية والأسلوبية والبلاغية القرآنية للدرس البلاغي ما لم تقدمه أي دراسات أخرى. فقد تلقى البلاغيون الكلمة القرآنية بكثير من الانجذاب الروحي والعقلي لأنهم أدركوا ما تختزنه من عجيب التأليف، وبديع التصوير، وعمق التحليل في المستويات كلها؛ كما نراه على سبيل المثال في قول الزمخشري في الكشاف (3/236) عن قوله تعالى: ]ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يَمُدُّه من بعده سبعة أبحر ما نَفِدَت كلمات ربي[ (لقمان 31/27): "فإن قلتَ: لِمَ قيل: من شجرة على التوحيد دون اسم الجنس الذي هو شجر؟ قلت: أريد تفصيل الشجر وتقصيها شجرة شجرة؛ حتى لا تبقى من جنس الشجر ولا واحدة إلا قد بُرِيت أقلاماً".
هذا هو سر بقاء الكلمة حية على عظمة ما لحقها من أهوال؛ لتخلُّف أبنائها في فترات متعاقبة، وهذا ما يجعلها هدفاً للدراسات الجمالية والبلاغية على الدوام دون النظر إلى تأخر أهلها؛ أو تراجعهم تراجعاً مؤقتاً...
ولعل المثال السابق وما يسوقه البحث بين أيدينا يثبت أن البلاغيين العرب حرصوا على الجمال وفتشوا عنه في الجملة اللغوية والنحوية؛ وجعلوا الكلمة أساسه وأصله؛ وهفت نفوسهم إليه عند المتكلم والمخاطب... وأدركوا أن وراءه يكمن معنى وهدف.. لهذا بحثوا في الأثر النحوي، فانتهوا إلى علم المعاني... فسبقوا بذلك الغرب... فالأثر النحوي نتاج بلاغي جرجاني صِرْف سبق به رومان جاكبسون ورولان بارت وجاك دريدا... فعبد القاهر الجرجاني أول من أشار إلى المعاني الأُول والمعاني الثواني المنبثقة من معاني النحو... وهذا عينه ما تقوم عليه الدراسات البنيوية الغربية هذه الأيام... فهو لم يكتف بالحديث عن ذلك ليخترع فقط نظرية (النظم) وإنما استطاع أن يربط بدقة بين الصورة والدلالة في الجملة فاخترع له مصطلح (الهيئة) وتحدث في ذلك عن علم البيان في كتابه (أسرار البلاغة).
لهذا كله فرض علينا المنهج إجراء أشكال تقاطعية بين ما قدمه البلاغيون واللغويون العرب وبين ما نجده لدى علماء الغرب؛ علماً أن منهج المقارنة لم يكن هدفاً لنا، ولا هو سبيل هذه الدراسة... ولكن إذا اقتضت الحاجة إليه في بعض الجوانب البلاغية لم نكن لنهمله. وقد أبرزت بعض الوقفات عنده أن البلاغيين العرب وصلوا إلى نظرات بلاغية وجمالية ولغوية لا تختلف كثيراً عما نراه في الدراسات الحديثة... بل كان بعض منها أساساً لنظريات معاصرة غير قليلة وفي اتجاهات عدة.
والمنهج نفسه فرض علينا عدم تخريج الأشعار من مظانها لأنها تحتاج إلى صفحات وصفحات، ويكفي أن نقول: إنها مستمدة من كتب البلاغة التي عدنا إليها؛ علماً أننا راجعناها في دواوين الشعراء المذكورة أسماؤهم... وكذلك أثبتنا اسم السورة ورقمها ورقم الآية بجانب الآية المختارة؛ لأن الحواشي تضيق عنها هي الأخرى لكثرتها.
وقد يلوح في ذهن سائل ما سؤال: ما الغاية من العزوف عن منهج تخريج الشاهد الشعري؟
ونقول- عزيزي القارئ-: إن المقام يضيق دون ذلك؛ فضلاً عن أنه ليس مقصوداً لذاته... فالهدف دراسة الأسلوب البلاغي... ولما استُمد من كتب البلاغة غالباً دون أن يخرّجه أصحابها؛ للسبب ذاته، فقد تأكدنا من نسبته ومظانه، وأخذناه من الشعر القديم والحديث على السواء... لنتصيَّد منه وجهاً بلاغياً وجمالياً.
أما حجم المادة المدروسة في إطار درس بلاغي جمالي جديد قائم على التنظير والموازنة والتحليل والتوضيح والشرح... فإنه فرض علينا مبدأ الاختيار والاصطفاء والتفضيل.
وحينما كان الهدف من دراستنا إظهار جمالية الكلمة مفردة ومركبة في جملتها لزمنا الانحياز إلى الجوانب البلاغية المتعلقة بالجملة والكلمة... ومن ثم رأينا عظمة ما تقوم عليه الأبحاث البلاغية التي تناولت الجملة والكلمة فاصطفينا منها ما يُبرز روح جمال الكلمة والجملة البلاغية فضلاً عن جمال نمطيتها في ذاتها وسياقها؛ ثم أثبتنا ما تثيره في أنفسنا من اتصال بأحدث الدراسات الجمالية والأسلوبية.
لهذا كله فنحن تحفزنا الرغبة الجادة على صناعة دراسات بلاغية جمالية متوالية؛ مما يفرض علينا أن نضع لها الأساس الذي تبنى عليه باعتبار أصولها ونشأتها وتطور أساليبها... فكانت البداية بالكلمة (فصاحة وبلاغة) وبالجملة بنية وأركاناً وأحوالاً... وبما تتصفان به من مفاهيم وجماليات.
وقد رأينا من القدماء من يردُّ الجمال ( البلاغة) ( الفصاحة) كله إلى الكلمة مفردة؛ ومنهم من يرده إلى نظام التأليف وحده؛ ولم ير القيمة الجمالية والدلالية إلا فيه؛ لا بمعزل عنه؛ كالإمام عبد القاهر الجرجاني الذي أبدع نظريته الموسومة بنظرية (النظم).
وهناك من توسع بمفهوم الكلمة فجعلها للفظ المفرد وللمؤلف، وللبيت الشعري وللقصيدة كما نراه عند ابن سلام والجاحظ وابن قتيبة وابن طباطبا وقدامة بن جعفر وغيرهم... وجاؤوا بنظرات جمالية ونقدية تتوافق وأحدث النظريات النقدية الحديثة في ميادين شتى.
وأياً كان الرأي فقد اخترنا عنوان البحث في ضوء الدراسة الجمالية للكلمة- على التغليب في الدلالة العامة- وقدَّمْنا له بكلمة (في) لأنه لا يتصف بالشمولية من جهة؛ ولأنه قائم على الاختيار في أساليب الكلمة وأحوالها من جهة أخرى.
لهذا عقدناه على مفهومها وموقعها من اللغة عامة والعربية خاصة، مما حدا بنا إلى توضيح مفهوم اللغة؛ وفصاحة الكلمة العربية وبلاغتها كما وردت عند القدماء... ثم عززنا ذلك بتوضيح مفهوم الجملة، في بنيتها وأركانها من جهة الإسناد ثم من جهة بعض أحواله.
ولما كان علم المعاني جزءاً أصيلاً في مفهوم الجملة البلاغية فإن المنهج العلمي يفرض علينا أن نتبع هذه الدراسة بدراسة أخرى في مشروعنا الشمولي تتناول (جمالية الخبر والإنشاء)؛ ومن بعده (أساليب بلاغية وجمالية)...
وفي ضوء ذلك لزمنا أن نقسم دراستنا هذه (في جمالية الكلمة البلاغية) إلى ثلاثة فصول؛ عنوان الأول (مفهوم الكلمة وجمالياتها في الفصاحة والبلاغة) وفيه قسمان؛ الأول توقف عند حدود ومفاهيم، والثاني تناول فصاحة اللفظ وجماليته... والفصل الثاني بعنوان (مفهوم الجملة وجمالياتها) وفيه قسمان؛ الأول عالج مفهوم الجملة الاسمية والفعلية، وأركانها، ومواضع الإسناد فيها؛ ولم يهمل ذكر الفضلة والأداة... بينما وقف الثاني عند بعض أحوال الإسناد في الجملة مما يبرز فيه الجمال والروعة وهو (أسلوب الذكر والحذف) المتعلق بالمسند إليه والمسند والفضلة، وقد عني به القدماء كعبد القاهر الجرجاني.
أما الفصل الثالث فقد بحث في (جمالية التعريف والتنكير) في قسمين انعقد الأول على (التعريف وجمالياته) في المفهوم والأقسام؛ حين عرض لأنواع المعارف السبعة. وهي الضمير والعلم واسم الإشارة والاسم الموصول والمعرف بأل، والمعرف بالإضافة، والمعرف بالنداء...
ثم خص تعريف المسند بالحديث، وبيّن فيه رتبته مع المسند إليه من جهة التقديم والتأخير، وما يكتنـز من جماليات في هذا الشأن كان عبد القاهر الجرجاني قد أسس لها.
أما القسم الثاني فإنه لم يغادر (التنكير وجمالياته البلاغية) لأنه يقف في مقابل قسم (التعريف)... ودرسنا فيه جملة من المفاهيم، وتوقف عند تقديم الاسم النكرة وجمالياته، ثم طفق يوضح المقاصد البلاغية من التنكير وجمالياتها في المسند إليه والمسند والفضلة؛ ليستقر أخيراً عند توضيح مفهوم التنكير والتنوين؛ والصلة بينهما.
وأخيراً كانت خاتمة البحث التي اختزلت العديد من النتائج مرتشفة إياها ارتشافاً، لأن المرء يعتقد بضيق موضعها عن ذكرها كلها...
ومن ثم كان فهرس المصادر والمراجع ثم فهرس المحتوى...
وبعدُ، فإنه لا بد من كلمة في مقدمتنا هذه؛ تفيد بأنه لما أيقنا بجمال الكلمة والجملة في لغتنا العربية البديعة؛ وأساليبها الثرة، وما قدمته من أفكار كبرى للقدماء في الاتجاهات كلها كانت منطلقاً للدراسات الكثيرة... فإنه كان علينا أن ننبه مرة أخرى على أن الكلمة القرآنية ظلت نسيج وحدها جمالاً وأداء ووظيفة وغاية... فاستحقت بذاتها الإعجاز الفني والأدبي واللغوي... بل كانت مصدراً غنياً للدراسات البلاغية قديماً وحديثاً...
ولما كان ذلك كذلك لزمنا ألا نعتسف الطريق على وعورته... فسعينا إلى التمسك بما قاله البلاغيون في كل بحث عالجناه، وعرضناه على المذهب الفني الجمالي للدراسات الحديثة في بعض الأحيان، ونظرنا إليه بروح التذوق والمنطق دون أن نخرجه عن المنهج التحليلي... فانتهينا إلى بيان غرض كل أسلوب وأظهرنا جماله البلاغي والفني واللغوي، واتكأنا في ذلك على جملة غير قليلة من الآيات القرآنية وأقوال المفسرين فيها؛ وعلى عدد من الشواهد الشعرية...
إن الهدف الذي نتطلع إليه هو تقديم صورة جمالية جديدة للكلمة البلاغية، وتحدونا الرغبة إلى بناء منهج جمالي في دراسة أساليب البلاغة يُفيد من فضاءات القديم بكل أطيافه اللغوية والأدبية والبلاغية؛ والدراسات النقدية والقرآنية... وفي الوقت نفسه ينطلق إلى كل ما هو حديث فيفتح عينيه على الدرس البلاغي واللغوي والجمالي الجديد... شرقاً وغرباً... فالدرس البلاغي الجديد الذي نرمي إليه لا ينغلق على الماضي ويرتمي في أحضانه، ويتكبل بنظراته... ولا ينصهر بالجديد انصهاراً يشعرنا بعقدة النقص أو الذنب، والتنكر لما نملك؛ لأنه سيغدو تابعاً أو أسيراً لنظريات لا تتسق في بعض اتجاهاته عما بين أيدينا من أبحاث أدبية وبلاغية...
لهذا كله كنا نتوقف عند آراء القدماء، والمحدثين؛ ونواجه ذلك كله متأملين بدقة في الرؤى والأفكار؛ لنبرز جمالية كل أسلوب وأثره في إطار من الموازنة تارة؛ وفي إطار من بيان خصائصه وأشكاله الجمالية تارة أخرى... وكان الإعجاز البلاغي القرآني يظهر في كل موضع عرضنا لـه على أنه يملك جمالية فريدة وبديعة تدل على النمط الإعجازي فيه.
هكذا حاول منهجنا المستند إلى الاستنباط والتحليل أن يربط بين الماضي والحاضر لإدراك جمالية الكلمة البلاغية... ولإثبات قدرة العربية على توليد أساليب جمالية متنوعة لا تتوقف عند حدود معينة... ومن ثم فإن البلاغة العربية ليست تحفة فنية وضعت في متحف تاريخي يتردد إليه الزوار للتمتع بجماليتها السكونية... وإنما هي مادة جمالية حية فاعلة يتفاعل معها المتلقي فيستبطن دلالتها، ويعتصر وظيفتها، ليستمد خصائصها الجمالية المتجددة؛ والمرتبطة بالكلمة القرآنية المعجزة، وبالكلمة الشعرية الراقية البديعة، والمنفتحة على أحدث الدراسات البلاغية والأسلوبية واللغوية.
ومن هنا فإننا ندعو أصحاب السلائق السليمة؛ وأهل الذوق المرهف؛ والعقول المؤاتية التي تمتلك سعة في المعرفة القديمة والمحدثة، وتحوز وعياً أصيلاً لمناهج القدماء والمحدثين... إلى تحقيق نقلة نوعية في الدراسات البلاغية العربية الجديدة، وأن يكونوا أحفاداً بررة للجاحظ وابن قتيبة ولعبد القاهر وابن سنان، وللزمخشري وحازم القرطاجني، والزركشي والقزويني...
وفي ضوء ما تقدم كله نقول: كل من ملك حضارة الأمس؛ وكانت قامات أجداده فيها شامخة، ثم دارت دورتها وانتقلت إلى غيره يمكنه أن يملكها من جديد إذا صمم على تجاوز التخلف الحضاري الذي يشل تفكيره ويتعب جسده ويصيبه بأزمات نفسية شتى... وعلى كل فرد في أمتنا أن ينطلق من موقعه الذي هو فيه ليصبح الفعل فعلاً جماعياً... ومن ثم ليتجسد هذا الفعل سلوكاً وعملاً؛ بدلاً من أن يظل مأزوماً ومهزوماً من الداخل، وينعى حظه العاثر، وحظ أمته المنكوبة به وبأمثاله...
وكل ما أرجوه من الله العلي القدير أن يكون بحثنا هذا في عداد الأبحاث التي تتطلع إلى مكانتها في الدراسات الجمالية والبلاغية، وأن يسد ثغرة ما في المكتبة العربية، راجياً من الله العون على إكمال ما وعدت به.
وأن ليس للإنسان إلا ما سعى؛
والله ولي التوفيق.
دمشق مساء الجمعة 15/6/2001م
حسين جمعة