

أثر عباسمحمود العقاد في سيد قطب ومنهجه
شاءت الأقدار أن يلتقي سيد قطب بعباس محمود العقاد في مجالسهالعلمية والثقافية ، وكان لهذا اللقاء أثر بارز على ثقافته وفكره وأدبه.
ولم يكن اللقاء الشخصي بينهما هو الجامع الوحيد ، فهما تشابهافي أشياء عدة صدفة ، من مثل نشأتهما في البيئة المصرية ، فالعقاد من أسوان ، وسيدمن قرية موشة في أسيوط ، وهما أديبان وشاعران وناقدان ، وكلاهما كان عضوا في حزب الوفد ثم تركه ، وكل منهما لم يوفق فيحياته الاجتماعية والعاطفية ، فهما أمضيا حياتيهما دون زواج ، رغم محاولة سيدالخِطبة إلا إن محاولته باءت بالفشل ومن يقرأ روايته "أشواك" يستبين هذا.
أما صلة سيد قطب الشخصية بالعقاد فقد بدأت منذ مشارف حياتهحينما قدم إلى القاهرة ، وزار مكتبته والتقى فيه ، وثمة أسباب مساعدة على هذااللقاء منها إقامته أثناء دراسته الثانوية في بيت خاله " أحمد حسينعثمان" في القاهرة ، الذي كان على معرفة وصلة بالعقاد ، إضافة إلى قرب مكان سكنه منه ، وسحر شخصيةالعقاد ، ومكتبته الضخمة ومجالسه التي وجَد فيها سيد قطب بعض ضالته.
ولايخفى على أحد أن العقاد كان علما بارزًا في الثقافة والأدب،, وأنه أسس مدرسة وشاركه فيها بعض الأدباء لفترة من الزمن مثل عبد القادر المازني، وعبد الرحمن شكري، وتتلمذ عليه في هذهالمدرسة عدد من التلاميذ أظهرهم سيد قطب.
وقدجاهر سيد بتتلمذه على العقاد ، ومن دلائل وفائه لهذه التلمذة أنه قرأ جل ما كتب العقاد من كتب ومقالات وشعر وأبحاثودراسات ، ثم حرص على عرض ما قرأ في الصحف والمجلات ، فهو تحدث عن العبقريات وعنالصديقة بنت الصديق وعن عرائس وشياطين وعن شاعر الغزل وعن هذه الشجرة في مقالاتنقدية اتشحت بسمة التقدير لقيمة ما خط أستاذه.
وكثيرًا ما سعى لإبانة معالم مدرسته فقال: " هي مدرسة فيالأدب ، كما أنها مدرسة في الحياة ، يلتقي فيها تلاميذها على سنن واضح ، ونهج صريح، ويجدون فيها تفسيرًا معينا للحياة والفنون ، يشتمل نوع الإحساس ، ولون التفكير ، وطريقة التعبير، بل يشتملفوق ذلك قواعد المنطق والسلوك ، وتقويم الأشياء والأشخاص ، وتقدير الحوادثوالأعمال . وهي مدرسة متبلورة ، واضحة السمات ، لا يجد الناقد مشقة ولا عسرا فياختيار عنوان لها ، يمثل ويلخص أكبر ما تستطيع العنوانات تمثيله وتلخيصه : هيمدرسة المنطق الحيوي . والنسبة هنا إلى الحياة وإلى الحيوية جميعًا..إلى الحياة :لأن مرد الحكم على كل قول وكل عمل ، هو ما تقوله الحياة ، وما تصنعه . وإلىالحيوية : لأن مرد الحكم على كل قول وكل عمل ، هو باعثه ، ومدى الحيوية في هذاالباعث.أستاذ هذه المدرسة الأعظم ، هو الحياة ذاتها "(1) .
وجهِدسيد في استبانة جوانب من شخصية العقاد وحدثنا عن بعض هذا الجهد فقال:" ولقدرقيت إلى محاولة استيعاب العقاد _وأفلحت إلى مدى_ على درجٍ من دراسات شخصية جمة .ليست دراسة الأدب العربي ولا اللغة العربية إلا أولى خطواتها . دراسات تشمل كل مانقل إلى اللغة العربية _ على وجه التقريب _ من الآداب الإفرنجية : قصة وروايةوشعرًا .ومن المباحث النفسية الحديثة : نظريات العقل الباطن ، والتحليل النفسيوالمسلكية . ومن المباحث الاجتماعية والمذاهب القديمة والحديثة , ومن مباحث علمالأحياء _ بقدر ما استطعت _ وما نشر عن داروين ونظريته ، ومن مباحث الضوء فيالطبيعة والتجارب الكيماوية ، وما استطعت أن أفهمه عن أينشتاين والنسبية ، وتحليلالذرة وعلاقته بالإشعاع " (2).
وشدت شخصية العقاد نفس سيد قطب له، ودفعته في أحيان كثيرة إلى التعصب ، والغيرةالعلمية عليه ، وقال مصرحا بهذا : " أنا لا أنكر أنني شديد الغيرة على هذاالرجل ، شديد التعصب له ؛ وذلك نتيجة فهم صحيح لأدبه ، واقتناع عميق بفطرته ، لايؤثر فيه أن تجف العلاقات الشخصية بيني وبينه في بعض الأحيان " (3).
وفيهذا القول غلو وإفراط يخرج حكم سيد على العقاد من الموضوعية . فمثلًا بعد وفاة"أحمد شوقي" أراد طه حسين أن يطري على العقاد فأطلق عليه لقب "أميرالشعراء" . فاعترض عليه سيد قطب قائلًا : " ورأيي أن هذا اللقب غير لائقبالعقاد ! لأن المسافة بينه وبين شعراء العربية في هذا العصر أوسع من المسافة بينالسوقة والأمراء... قد يكون هناك كُتَّاب يتقاربون مع العقاد .ولكن ليس هناك شعراءفي لغة العرب ، يتقاربون مع العقاد.ولقد كنت هممت بإصدار بحث عن الشعراء المعاصرين، ونظرت في أدب جميع الشعراء الأحياء _ وأنا بينهم _ ولكن عاقني عن إصدراه أنني لمأجد نقاط اتصال بين العقاد الذي سأكتب عنه أولًا ، وبين جميع الآخرين من الشعراء.الفرق هائل جدًا ، وأكبر مما يتصوره الأكثرون ، بين طاقة هذا الشاعر ، والطاقاتالأخرى. وسيغضب لقولتي هذه كثير من أصدقائي الشعراء المعاصرين ، ولكنهم ليسوا أكرمعليّ من نفسي ، وأنا حسن الظن بشعري _ وليعذرني أنصار مبدأ التواضع _ولكنني حينأضعه أمام شعر العقاد يتلاشى ، وتحتبس نفسي عن التعبير ، حتى يسكن صدى شعر العقادفي نفسي " (4) .
ودفعهغلوه إلى عد العقاد شاعر العالم أجمع ، إذ قال : "نحن لا ننصفه حين نتحدث عناللغة العربية وحدها ، ولكننا نقول ذلك مؤقتا ، لأنها اللغة التي نستطيع الحكم علىآدابها ، حكمًا نملك أدلته كلها ، ونجزم فيها بالصواب . وإلا فبين يدي معرباتكثيرة ، لشعراء من الغرب مشهورين معروفين ، مثل بيرون وشيلي وألفريد دي موسيهوفكتور هوجو لا أرى فيها من تعدد الجوانب الصادقة الأصيلة ، ما أراه في غزل العقادوشعره عامة" (5).
ونتجعن غلوه في تقدير العقاد ، وجود خصوم له من الأدباء الذين هاجموه بشدة ، واتهموه بأنهمقلد له في كل ما ذهب إليه من فِكَر .ومن بين خصومه "صلاح ذهني" الذيدارت بينه وبين سيد قطب معركة أدبية . وقدقال سيد عن اتهام صلاح ذهني له ، وردّه عليه " وثالثة الشتائم في القائمة :أنني ظِل العقاد في الظهيرة ! فلأكرر هنا ما قلته من قبل للدكتور مندور : إننيأفهم المسائل على نحو غير الذي يفهمه بعض " شبان" الجيل . إنني لا أحاولإنكار تلمذتي للعقاد ، لأن لدي ما أقوله وما أبدعه وراء ذلك ، فلست أخشى على وجوديحين أعترف بهذه الأستاذية ، وهي حق ، فلا يسمح لي خلقي أن أنكرها أشد الإنكار ،وأن أبرأ منها كل البراءة ، كما كان الأستاذ صلاح يصنع ويتشنج حين يقال : إنه منتلاميذ تيمور" (6).
وكانتأعنف المعارك الأدبية ، التي هاجمه فيها خصومه بشدة ، تلك التي دارت على صفحاتمجلة الرسالة ، حول أدب العقاد والرافعي ، وقد بدأها سيد قطب بكلام له عن أدبالرافعي، فرد عليه تلاميذ الرافعي ، منهم: محمد سعيد العريان ، ومحمود شاكر، وعلي الطنطاوي، ومحمد أحمد الغمراوي .
ودافع سيد قطب عن العقاد بكل كتبه وندواته ، و أفاد من هذا الدفاع عندما كان العقادفي توافق مع حزب الوفد ، الذي كان له وزنه في ذلك الوقت ، فاشتهر سيد وشاع ذكرهبالنبوغ ، حيث قدمه العقاد إلى مجلات الوفد وصحفه ورجاله ، فشارك في ذلك بفاعلية .ولكن العقاد انفض عن حزب الوفد وهاجمه ، فحاربه رجال الحزب وتلاميذه ، وتحولالكتاب عن مدح العقاد ، والكتابة عنه في الصحف والمجلات . أما سيد قطب فقد ظلوفيًا لأستاذه ولم يتوانى في الدفاع عنه ومهاجمة خصومه ، وكان من الطبيعي أن يتحملأعباء هذا الدفاع " أما الدفاع عن العقاد فيكلفني التعرض لغضب الكثيرين منذوي النفوذ في هذه الوزارة _ وفي كل وزارة _ ومن بينهم كثير من رؤسائي، في وزارةالمعارف نفسها ، لأن العقاد رجل لم تبق له قولة الحق صديقًا من السياسيين ، وكثيرممن يظهرون صداقته يكنون له غير ذلك ، لأنهم ينْفُسون عليه شموخه واعتداده بنفسه ،وتعاليه على الضرورات .ويكلفني خصومة الأدباء من المدرسة القديمة والحديثة علىالسواء .فأما أولئك ، فسبب سخطهم معروف ، وأما هؤلاء ، فلأنهم ينفسون على العقادأن يعطيَه ناقد بعض ما يستحق من تقدير . ومن لا يعرف هذه الحقيقة ، فأنا _ وقدأتاحت لي الظروف الاطلاع على داخلية كثير من الصحف والأدباء _ أعرف ذلك، وأعرف أن الكلمات التييقدَّر فيها العقاد لا تجد طريقها سهلًا للظهور في الصحف ، على اختلاف أهوائهاونزعاتها السياسية ، واختلاف المشرفين عليها من الأدباء وغير الأدباء.ويكلفُنيخصومة كثير من ناقصي الرجولة __وهم أعداء العقاد الطبيعيون __ وكثير من ناقصيالثقافة ، الذين لا يفهمون العقاد ، فيحمِّلونه تبعة عدم فهمه ، ولا يكلِّفونأنفسهم عناء الدرس والثقافة !وكثير من مغلقي الطِّباع ، الذين يستغلقون أمام كلأدب حي .وكثير وكثير ممن يؤلِّفون أكثرية القراء في هذا البلد المنكوب ..وقد يفهمهؤلاء النفعيون ، أن للعقاد الآن نفوذًا ننتفع به ، فلهؤلاء أقول: إن للعقادنفوذًا نعم ، ولكنه لا يستخدمه في قضاء المصالح ، وتنفيذ الأغراض...وذلك بغض النظرعن طبيعتي الخاصة ، في الانتفاع بنفوذ الأصدقاء ، ذلك الانتفاع الذي يبدو غيرمفهوم ، حينما كنت أناصر العقاد وهو خصم الوزارات القائمة ، وأوقِّع على ما أكتبه بإمضائيالصريح ، في أحرج الأوقات ..." (7) .
ولكنلا بد من إنصاف سيد قطب لأن غلوه هذا لم يستمر ، ، إذ تحول لتقويم فكر العقادوأدبه . فانتقد ديوان " هدية الكروان" مع ديوانين آخرين ، هما ديوانصالح جودت والينبوع لأحمد زكي أبو شادي ، وكان ذلك في مقاله النقدي في "الأهرام " الأدبية عام 1933م .
قال سيد قطب عن ذلك المقال ، وعنالمأخذ الذي أخذه على العقاد في ديوانه وغيره ، وعن أثر ذلك النقد على العقاد ،وعن رده عليه: " فأما هدية الكروان فقلن عنها : إنها منتهى النضوج الفنيللعقاد، وإنها سلمت من بعض أشياء ، كانت تغض من الجمال الفني الكامل ، لبعض شعرالعقاد ، وهي ما أسميته قسوة القالب ، وعنيت به أن يَحْتَجنَ الشعورُ الطليق في ثوبٍ أضيقَ وأقسى مما يلائم هذا الشعور الطليق "(8).
...فأما العقاد ، فهوساخط حانق،ساخط لأني جمعت بينه وبين أبي شادي في مقال . وحانق لأن أقول شيئا عن قسوة القالبفي بعض شعر العقاد ، وأقابلُه فيعلن هذا السخط ، وهذا التبرم .إنه لا يسلم بقسوةالقالب في بعض شعره ، ولا يبيح لي أن أوجه هذا النقد له.لأن منشأه هو قصوري عن فهمشعره ، وإن على الناقد أن يرتفع لمستوى الشاعر ، وليس على الشاعر أن يهبط لمستواه. وكان العقاد مهتاجًا ، ولكنني كنت هادئ الأعصاب...وذكرت له أن الناقد الذي يكتبمحاضرته عن ديوان وحي الأربعين للعقاد ، فيفهم دقائقه فهمًا يرضى عنه العقاد ، لا يقصرعن فهم هدية الكروان وهي أسهل من وحيالأربعين . وافترقنا ، وفي نفس العقاد شيء أحسه ، ولكنني آسف له ، وإن كنت لا أنويالتأثر به " (9) .
وقدحدث سيد قطب أحمد فؤاد الأهواني عن طبيعةصلته بالعقاد ، ، وعن مخالفته لبعض آرائه في الشعر والأدب فقال: " وحتىالعقاد ، وصلتي بشخصه معروفة ، وصلتي بأدبه أوثق مرات من صلتي بشخصه _ ولو فهمالكثيرون غير هذا_ كتبت عنه في كل مرة بالعقيدة الفنية التي أعتقدها . وقد يبدوفيما كتبته أخيرًا عن العقاد الشاعر في كتب وشخصيات أنني أختلف معه في بعض الأحيان، على تعريف الشعر وتذوقه ، وعلى النظرة إلى العاطفة وأطوارها .ولكنه اختلاف الرأيوالإحساس ، الذي لا بدّ أن يقع بين شخصية وشخصية، متى تبلورت الشخصيتان ، وظهرتمعالمهما واضحة ، ولو كانتا شخصيتي التلميذ والأستاذ "(10) .
وانتقدسيد قطب فهم العقاد للشعر والأدب في ثلاث مقالات موجزة ، جعلها بعد ذلك في كتابه "كتب وشخصيات" .و خصص مقالة أخرى مطولةخاصة لنقد شعر العقاد ، جعلها فصلًا من الكتاب ، هي " العقاد الشاعر وأعاصيرمغرب" (11) .
قال فيها " في وضح النهاريعيش العقاد قمته حين تبلغ الحيوية تدفقها ، فتجرف المنطق الواعي ، وتغطي عليه...فأما حين يضعف هذا التدفق ، فيتجرد الشعر من اللحم والدم ، ويخيّل إليك أنمكانه ليس هنا في الديوان ، ولكنه هناك في كتبه بين التأملات الفكرية والقضاياالمنطقية "(12).
وبدأسيد قطب ينفك تدريجيًا عن مدرسة العقاد ،إلى أن أعلن تخليه عنها ، وكان ذلك في عام1948 ، حيث نشر مقالًا في مجلة الكتاب ، في نقد ديوان لزوميات مخيمر للشاعر أحمدمخيمر أحد تلاميذ العقاد ، قال فيه :" لقد آن لنا أن نفهم الشعر ، لا علىطريقة مدرسة شوقي وحافظ والمنفلوطي ، ولا على طريقة مدرسة العقاد وشكري والمازني...فكلتاهمامرحلتان من مراحل التطور ، قامتا بدوريهما في النهضة ، وآن أن يخلفهما فهم للشعرجديد .لقد قامت أولاهما ، على أساس أن الشعر جزالة تعبير ، وجلجلة إيقاع ، وابتداعأخيلة ، وبراعة تناول، ومقدرة وأداء...وعلى الإجمال مهارة صناعة تعبيرية وتخييلية، ولا شيء وراء ذلك ، مما له علاقة بصميم النفوس ، وحقائق الشعور ..وقامت أخراهماعلى أساس أن الشعر صور حياة ، وخلجات نفوس ، وسمات شخصيات ، وحقائق شعور ...وهذاكله صحيح . ولكن هذه المدرسة عند التطبيق العملي لفهمها للشعر ، كانت طاقتهاالشعرية أقل من تصورها للشعر ، فجاء نتاجها الشعري_في عمومه_ ناقص الحرارة ، غيرمكتمل الشاعرية . وظلت _إلا قليلاً _تمتح من تصورها الواعي للشعر ، قبل أن تفيض منشعورها الكامن في الضمير..لم تفرق هذه المدرسة في نتاجها بين الفكرة الشعريةوالإحساس الشعري..." (13) .
أماإعلانه الخروج على المدرسة العقادية ، ففي قوله: " ولست أنكر فتنتي فترةطويلة من العمر بهذه المدرسة كفكرة ، وفتنتي بنتاجها الأدبي كشعر ، وتأثري بها ،إلى الحد الذي أنفقت فيه شطرًا من عمري ، وأنا أقول الشعر ، لا أفرق فيه بينالفكرة الجميلة الشعرية ، أعتنقها مذهبا ، والإحساس الجميل الشعري ، ينبض به شعوري، ويعيش انفعالًا غامضًا في ضميري..ولم أجد نفسي إلا منذ عامين اثنين ، أنتبه إلىالفارق الأصيل بين الفكرة الجميلة ، والشعور الجميل .وأجد للشعر مذاقًا آخر ـ غيررما سبق لي أن أحسسته ، في نحو خمسة عشر عامًا أو تزيد "(14).
وأبرزالأسباب التي دعت سيد قطب إلى مجاوزة مدرسة العقاد ضعف الناحية الروحية في منهجالعقاد ، وهذا ما صرح به لأبي الحسن الندوي عندما التقى به في القاهرة سنة 1951:" إن نفسي لم تزل متطلعة إلى الروح وما يتصل بها ، وكنت في صغري مشغوفًابقراءة أخبار الصالحين وكراماتهم ، ولم تزل هذه العاطفة تنمو في نفسي معالأيام.والأستاذ العقاد رجل فكري محض ، لا ينظر إلى مسألة ، ولا يبحث فيها إلا عنطريق الفكر والعقل . فذهبت أروي نفسي من مناهل أخرى، هي أقرب إلى الروح . ومن ثم عنيت بدراسة أشعارالشرقيين ، كطاغور وغيره "(15) .
ومنالأسباب الأخرى استجابة العقاد لبعض الضغوطات السياسية بعدما امتد به العمر ، قالسيد قطب للندوي :" إني كنت أعتقد أن مثل العقاد في عقله الكبير ، وشخصيتهالعظيمة ، لا يخضع للضرورات والملابسات ، كالحكومة والسلطة ، ولكنه سالَمَها"(16).
وبادلالعقاد تلميذه الجفاء بسبب اتجاهه الجديد ، وميله إلى العمل الحركي الإسلاميالمتمثل في حركة الإخوان المسلمين ، وقد كتب عام 1946م مقالًا في مجلة الرسالةبعنوان "إرادة الغفلة" ، كان يعني فيه سيد قطب ، ويعده صاحب الغفلة الذياختار طريق السذاجة وجانب إعمال عقله وفكره وذهنه " (17) .
وكتبسيد قطب في مقالة بعض العبارات الكاشفة عن صلته القديمة بالعقاد ، وعن موقفه منهبعد ذلك: " ودعوني الآن أصارحكم بتجربتي الخاصة ، التي تركت في نفسي ذات يوممرارة . ومن أجل هذه المرارة لم أكتب عنها من قبل ، حتى صفت روحي منها ، وذهبت عنيمرارتها ، وأصبحت مجرد ذكرى ، قد تنفع وتعظ ...لقد كنت مريدًا بكل معنى كلمةالمريد ، لرجل من جيلكم ، تعرفونه عن يقين . ولقد كنت صديقًا أو ودودًا مع الآخرينمن جيلكم كذلك .لقد كتبت عنكم جميعًا بلا استثناء .شرحت آراءكم ، وعرضت كتبكم ،وحللت أعمالكم ، بقدر ما كنت أستطيع .ثم جاء دوري...جاء دوري في أن أنشر كتبًا...لقد جاء دوري...متأخرًا كثيرًا ؛لأنني آثرت ألا أطلع المئذنة من غير سلَّم ،وأن أتريث في نشر كتب مسجلة ، حتى أحس شيئًا من النضج الحقيقي ، يسمح لي أن أظهرفي أسواق الناشرين ...وأنا اليوم أحمد الله ، على أنني خططت طريقي بنفسي مستقلًا ،وبجهدي خالصًا ...لم يأخذ بيدي عظيم ، ولم يقدمني إلى الناس أستاذ"(18).
وبقيسيد يبتعد عن العقاد ، ويزداد ابتعاده عنه ، كلما زاد اقترابه من القرآن والعمل معالإخوان المسلمين ،وصار يتميز بفهم خاص للقرآن ، وكان في تفسيره"الظلال" يصوب بعض أفكار العقاد الخاطئة ، من مثل مناقشته له وهو يفسرسورة هود ويعقب على قصة نوح .إذ اتخذ هذه الفرصة ليصحح بعض ما أورده العقاد فيكتابه " الله" (19).
والحديثعن تصويباته يطول ، لذلك أكتفي بالإشارة إلى نية سيد قطب تأليف كتاب "تصويباتفي الفكر الإسلامي المعاصر" يخصصه للأخطاء الفكرية المعاصرة التي يقع فيهاالمفكرون في كتابتهم عن الإسلام ، وعلى رأسهم العقاد.
إذا يمكن تلخيص لقاء سيد قطب بالعقاد وما ترتبعليه من آثار وتطورات في منهجه الفكري والأدبي والسياسي بالآتي : لقد بدأ سيد قطبتلميذَا للعقاد ثم أعجب بأستاذه وأحبه حبًا جما، ثم ترجم حبه بطريقة صوفية فأصبح مريدًا، وآل به الحال لاعتناق مذهب أستاذهفتبنى منهجه و جميع أفكاره ودافع عنها، وهذا التعمق في المذهب أضاء في نفسه شرارةالخشية من الفناء الكامل في أستاذه ، فحاول الانفكاك ما استطاع إلى ذلك سبيلًا ،وأصبح له فهمه الخاص في كثير من المسائل الأدبية والفكرية والسياسية ، فخالف مذهبالعقاد وصوّب أخطاءه وأبان عن وجه الحق الذي يرتضيه في بعض المسائل الدينيةوالعقائدية ، وكانت هذه المخالفة سببا في جفوة العقاد له ، وعدم اعترافه بقَدْرِهفي أغلب ما خاض من مجالات ، ولم يحمل سيد قطب في نفسه سوى المرارة والإصرار علىاستكمال مشواره مؤمنًا بأن الحق يعلو على كل شيء وأن الحقيقة والمعرفة لا تنحصر فيمذاهب ولا أشخاص.كانيقول رحمه الله :"إن كل كلمة عاشت قد اقتاتت قلب إنسان ، أما الكلمات التيولدت في الأفواه ، وقذفت بها الألسنة ، ولم تتصل بذلك النبع الإلهي ، فقد ولدتميتة ، ولم تدفع بالبشرية شبراً واحداً إلى الأمام. إن أصحاب الأقلام يستطيعون أنيصنعوا شيئاً كثيراً ، ولكن بشرط واحد : أن يموتوا لتعيش أفكارهم ، وأن يطعمواأفكارهم من لحومهم ودمائهم ، وأن يقولوا ما يعتقدون أنه حق،ويقدموا دماءهم فداءلكلمة الحق . إن أفكارنا وكلماتنا تظل جثثاً هامدة ، حتى إذا متنا في سبيلها أوغذيناها بالدماء انتفضت حية وعاشت بين الأحياء ..".
هوامش المقالة :
(1) مجلة الرسالة ، السنة الثانية عشرة ، مج2، ع551،1944، ص91 .
(2) المصدر نفسه ، السنة السادسة ، مج1 ، ع257 ، 1938، ص937.
(3) نفسه ، السنة السادسة ، مج1 ،ع251، 1938، ص692.
(4) نفسه، ص694.
(5) نفسه ، السنة السادسة، مج2 ، ع268، 1938، ص1380_1381.
(6) نفسه ، السنة الثانية ، مج2 ، ع594 ، 1944، ص1035.
(7) نفسه، السنة السادسة ، مج2 ، ع280، 1938، ص1866.
(8) مجلة الأسبوع ، مج3، ع35، 25/7/1934م ، ص22.
(9) نفسه ، ص22_23.
(10) مجلة الرسالة ، السنة الرابعة عشرة ، مج2 ، ع683، 1946،ص874.
(11) كتب وشخصيات ، سيد قطب ، دار الشروق ، بيروت ، ط3، 1983، ص84،102.
(12) نفسه، ص84.
(13) مجلة الكتاب، مج5، ج2، 1948، ص248.
(14) نفسه ، ص249.
(15) مذكرات سائح في الشرق العربي ، أبو الحسن علي الحسني الندوي، مؤسسة الرسالة ، بيروت، ط2، 1975 ص96.
(16) نفسه ، ص96.
(17)انظر: مجلة الرسالة ، السنة الرابعة عشرة ، مج1، ع663،1946، ص289_291.
(18) مجلة الثقافة ، السنة الثالثة عشرة ، ع663، 1951، ص8.
(19) انظر: في ظلال القرآن، سيد قطب ، دار الشروق ، بيروت، ط17 ،مج4، ص1882_1885.