(2)
الراحـة الأبديـة
.. كنا صغاراً , نشاهد جدتي تجلس القرفصاء في مكانها المعتاد خلف باب الدار , ترقب بعينين ذابلتين , و نظرٍ أضحى خافتاً ؛ المارين في طرقات البلدة . كان جسدها النحيل الصغير بعظامه البارزة , قد انحنى بفعل السنين , و امتلأ ذاك الوجه الذي لوحته الشمس بالأخاديد , و تجاعيد أحزان و شجون لا حصر لها . كانت قدماها جافتين كأعواد حطب مزروع في اليابسة , على الرغم من ذلك كنا نجد في هذا الجسد الهزيل حضناً وسيعاً, يمتلئ بالأمان و الدفء . كنا نجد لديها ألاف من القصص و الحكايات التي لا تنتهي . فتحلق فوق رؤوسنا المئات من بالونات الاستفهام و التعجب..؟!
.. حواديتها كانت لا تخلو أبداً من العظات و الحكم , و الكثير من الخرافات والخزعبلات ؛ قصص أبطالها من الجان , و المردة , و بطلاتها من أمثال
(أمنا الغولة) و(أبو رجل مسلوخة). كانت قادرة على أن تجذب انتباهنا , تاركين لعبنا و ركضنا خلف بعضنا البعض. فنكف عن صياحنا الذي يزعج أباءنا في قيلولة ما بعد الظهيرة, و نلتف حولها ننصت إليها بأوجه تملؤها البراءة , و عيون تتملكها الدهشة , و عقول يسكنها الخوف , و عشرات الصور المرعبة.
.. كذلك كنا نجد لديها خزائن حلوى لا تنضب ؛ حتى أننا كنا نتعجب من أين تأتيها كل هذه الحلوى..؟! لكن و لمَ العجب .؟! أليست تعرف كل خبايا الجن و أسرارهم..!! يكفي أن تمد يدها دخل طيات جلبابها حتى نجدها مفرودة أمامنا ملأى بتلك الحلوى المميزة بلونيها الأحمر و الأبيض ؛ على هيئة مختلف الحيوانات , ناهيك عن أطنان الملبس و الحمص..!!
..لا أتذكر أني رأيتها يوماً على غير هيئتها تلك ؛ حتى أنني كنت أحسب أنها ولدت على ذات نفس الشكل. فملامح ووجهها لا تتغير. لا تبرأ أبداً من علاتها و لا من صرخات آلام عظامها الهشة المستمره . لا أذكر أني رأيتها تضحك بحق, أو شاهدت انبساطة أخاديد الألم في الوجه خلف ابتسامة ارتياح . لم أكن أعرف ماهية علّتها بالضبط..؟! لكنني كنت أتمنى لو أجد دواءً سحرياً يشفيها من كل الآلام.
.. حتى عيونها كنت أظنها تحجرت فيها الدموع . فلم أشاهدها تبكي قط ..!! إلى أن رأيتهما تتلألآن ذات يوم من الأيام . عندما سمعت في المذياع صوت (الكحلاوي) وهو ينشد (أنا جسمي عليل و دواه النبي..أديت رسالة الله .. يارسول الله ). و يتكرر سقوط حبات اللؤلؤ , كلما سمعت نفس الأغنية ؛ حتى بت أناديها كلما أذيعت في المذياع أو التلفاز؛ لأسعد بتقلصات ذاك الوجه الذي أحب.
.. ذات يوم أمسكت بي , بينما كنت أركض خلف أقراني نلعب (الست غمايه) – لا أدري لما اختارتني أنا دون سائر أحفادها..؟! – و سألتني:
- إنت بتحبني يا مصطفي..؟!
أجبتها في ضيق المتعجل بالذهاب:
- أيوه يا تيته..!!
استوقفتني ثانية , و سألتني في تأثر بالغ:
- يعني هتزعل عليا لما أموت..؟
أجبتها في استغراب من لم يفهم معنى السؤال :
- أيوه طبعاً..!!
فأردفت قائلة , و هي تحتضنني في شوق , و تقبل رأسي:
- يعني هتبقى تفتكرني .. و تيجي تزورني .. و تقول الله يرحمك يا ست...؟!
سألتها بسذاجة و عفوية الطفولة:
- أزورك فين...؟!
لكنها لم تجب أبداً عن ذاك السؤال , إنما تركتني لأعرف وحدي فيما بعد الجواب..!! ماهي إلا أيام قليلة ؛ حتى رقد ذلك الجسد الصغير المتعب رقدته الأخيرة . قد باتت غير قادره على اختلاق الحواديت , غير قادرة على إداء الصلاة جلوساً كما عودتنا , وعيناها تراقبنا ؛ كثيراً ما كانت تقطع صلاتها لتنهرنا ؛ إذا ما وجدت أحدنا يحاول معرفة ما يوجد خلف عين أخيه , أو يشج رأس أحد أولاد أعمامه أو عماته , و يفجر نهر الدم معلناً عن اكتشاف جديد . ثم تعود لتكمل صلاتها في خشوع تام ..!!
.. رقدت تلفظ آخر الأنفاس . انتابني وقتها شعور غريب مبهم ؛ أنني رأيت ملك الموت , فلم أخف منه..!! - برغم حداثة سني – وقد حُفرَت ملامحه في ذاكرتي منذ ذلك اليوم. خطف روحها بكل سهولة و يسر. و أكاد أقسم أني رأيت نوراً شفيفاً يصعد منها إلى السماء . أخيراً ارتسم على ذلك الوجه الطفولي المتغضن شبح ابتسامة رضا , و انبسطت أساريره في ارتياح و سلام تامين .
.. حواديتها كانت لا تخلو أبداً من العظات و الحكم , و الكثير من الخرافات والخزعبلات ؛ قصص أبطالها من الجان , و المردة , و بطلاتها من أمثال
(أمنا الغولة) و(أبو رجل مسلوخة). كانت قادرة على أن تجذب انتباهنا , تاركين لعبنا و ركضنا خلف بعضنا البعض. فنكف عن صياحنا الذي يزعج أباءنا في قيلولة ما بعد الظهيرة, و نلتف حولها ننصت إليها بأوجه تملؤها البراءة , و عيون تتملكها الدهشة , و عقول يسكنها الخوف , و عشرات الصور المرعبة.
.. كذلك كنا نجد لديها خزائن حلوى لا تنضب ؛ حتى أننا كنا نتعجب من أين تأتيها كل هذه الحلوى..؟! لكن و لمَ العجب .؟! أليست تعرف كل خبايا الجن و أسرارهم..!! يكفي أن تمد يدها دخل طيات جلبابها حتى نجدها مفرودة أمامنا ملأى بتلك الحلوى المميزة بلونيها الأحمر و الأبيض ؛ على هيئة مختلف الحيوانات , ناهيك عن أطنان الملبس و الحمص..!!
..لا أتذكر أني رأيتها يوماً على غير هيئتها تلك ؛ حتى أنني كنت أحسب أنها ولدت على ذات نفس الشكل. فملامح ووجهها لا تتغير. لا تبرأ أبداً من علاتها و لا من صرخات آلام عظامها الهشة المستمره . لا أذكر أني رأيتها تضحك بحق, أو شاهدت انبساطة أخاديد الألم في الوجه خلف ابتسامة ارتياح . لم أكن أعرف ماهية علّتها بالضبط..؟! لكنني كنت أتمنى لو أجد دواءً سحرياً يشفيها من كل الآلام.
.. حتى عيونها كنت أظنها تحجرت فيها الدموع . فلم أشاهدها تبكي قط ..!! إلى أن رأيتهما تتلألآن ذات يوم من الأيام . عندما سمعت في المذياع صوت (الكحلاوي) وهو ينشد (أنا جسمي عليل و دواه النبي..أديت رسالة الله .. يارسول الله ). و يتكرر سقوط حبات اللؤلؤ , كلما سمعت نفس الأغنية ؛ حتى بت أناديها كلما أذيعت في المذياع أو التلفاز؛ لأسعد بتقلصات ذاك الوجه الذي أحب.
.. ذات يوم أمسكت بي , بينما كنت أركض خلف أقراني نلعب (الست غمايه) – لا أدري لما اختارتني أنا دون سائر أحفادها..؟! – و سألتني:
- إنت بتحبني يا مصطفي..؟!
أجبتها في ضيق المتعجل بالذهاب:
- أيوه يا تيته..!!
استوقفتني ثانية , و سألتني في تأثر بالغ:
- يعني هتزعل عليا لما أموت..؟
أجبتها في استغراب من لم يفهم معنى السؤال :
- أيوه طبعاً..!!
فأردفت قائلة , و هي تحتضنني في شوق , و تقبل رأسي:
- يعني هتبقى تفتكرني .. و تيجي تزورني .. و تقول الله يرحمك يا ست...؟!
سألتها بسذاجة و عفوية الطفولة:
- أزورك فين...؟!
لكنها لم تجب أبداً عن ذاك السؤال , إنما تركتني لأعرف وحدي فيما بعد الجواب..!! ماهي إلا أيام قليلة ؛ حتى رقد ذلك الجسد الصغير المتعب رقدته الأخيرة . قد باتت غير قادره على اختلاق الحواديت , غير قادرة على إداء الصلاة جلوساً كما عودتنا , وعيناها تراقبنا ؛ كثيراً ما كانت تقطع صلاتها لتنهرنا ؛ إذا ما وجدت أحدنا يحاول معرفة ما يوجد خلف عين أخيه , أو يشج رأس أحد أولاد أعمامه أو عماته , و يفجر نهر الدم معلناً عن اكتشاف جديد . ثم تعود لتكمل صلاتها في خشوع تام ..!!
.. رقدت تلفظ آخر الأنفاس . انتابني وقتها شعور غريب مبهم ؛ أنني رأيت ملك الموت , فلم أخف منه..!! - برغم حداثة سني – وقد حُفرَت ملامحه في ذاكرتي منذ ذلك اليوم. خطف روحها بكل سهولة و يسر. و أكاد أقسم أني رأيت نوراً شفيفاً يصعد منها إلى السماء . أخيراً ارتسم على ذلك الوجه الطفولي المتغضن شبح ابتسامة رضا , و انبسطت أساريره في ارتياح و سلام تامين .
تعليق