الفصل الأول
فجأة استيقظ “ماهر” من غفوته ونهض من فوق الدكة الخشبية - التي توجد في محطة " طهطا " بمحافظة سوهاج - على صوت القطار ,وجلبة الأقدام التي كانت تهرول بجانبه ، وسيدة كانت تنادي عائلها أن ينتظر قليلا فهي لا تستطيع الجري ، وأطفال تبكي فزعا من تلك الحالة المفاجأة من الهرج التي سادت المكان بعد الهدوء والانتظار الطويل ، قام “ماهر”ممسكا بحقيبته بشكل لا إرادي ونظر نظرة عادية على القطار ، الذي اختفي نصفه الأسفل وتبدل إلى جلابيب بيضاء وسوداء وأرجل وأقدام البشر التي تكدست وتزاحمت للركوب وقام ومشى بشكل عادي في اتجاه القطار ، فهو يعرف مقدما أنه لن يجد مكانا للجلوس في هذا القطار القادم من مدينة الأقصر متجها الى مدينة الإسكندرية والذي يحمل أطنانا من البشر وإن وجد مكانا تحت أحد الكراسي أو فوق أحد الأرفف الخاصة بالحقائب - والتي يستخدمها ركاب قطار الصعيد في استخدامات أخرى آخرها الحفاظ على أمتعتهم - سيشكر ربه على ذلك النعيم وإن لم يجد فلن يحزن كثير فلطالما سافر تلك المسافة واقفا على قدميه لا يستطيع التحرك في أي اتجاه من كثرة من أحاطوا به من الركاب أو مانحا جنبه أي باب أو شباك أو حتى بيت الأدب طوال الطريق ، نظر الى القطار فوجد مشهدا عاديا بالنسبة له ، ركاب يلقون بحقائبهم من شباك القطار إلى ذويهم وأصحابهم داخل القطار ، وينادي أحدهم على صاحبه أن يحجز له مكانا وأن يتلقف منه حقائبه يرد عليه صاحبه بالإيجاب ويؤكد له أن مكانه موجود وهو قد وضع عليه حقائبهم لحجزه له فعلا .
وسيدة تهرول وخلفها قطار آخر من الأطفال ذوي أطوال مختلفة وهي تصيح :
- يواد متسبشي جلبيتي
- وزوجها يزجرها
- خلصي لحسن القطر يفوتنا
وآخرون يصعدون الى سطح القطار ويسحبون رفقائهم كي يجاوروهم في رحلة الخطر هذه ، وهؤلاء عادة إما أن يكونوا من اللصوص معتاد الإجرام أو الفقراء اللذين لا يستطيعون مواجهة أحد بفقرهم خاصة الكمساري الذي سيجبرهم على النزول من القطار وتنداح أمام الناس مياه وجوههم لذا فضلوا هذا الخطر على ذلك الإحراج ، انتظر ماهر قليلا حتى هدأ ذلك الضجيج عندما بدأ القطار في الحركة فأمسك حقيبته بإحدى يديه وأمسك بيده الأخرى العامود الحديدي القائم بجوار الباب ووجد يدا تمتد إليه تساعده على الصعود ، نظر الى صاحب اليد الذي لا يعرفه شاكرا له صنيعه وقفز في القطار ونظر على تلك الظهور والبطون والأيادي التي تبحث عن أي شئ صلب تمسك به خوفا من اهتزاز القطار فجأة فتختلط تلك البطون والظهور أكثر مما هي عليه الآن ،
(بعد ذلك قام اثنين من الكمسارية من خارج العربة بدفع أجساد البشر المتراكمة عند الباب وكبسها الى داخل العربة كي يتمكنوا من غلق الباب ، وكأنهم يتعاملون مع قطيع من الماعز ) فكر “ماهر”في الصعيد والعادات والتقاليد والعيب التي تربى عليها ، من يستطيع عدم الاحتكاك في هذه الحالة ! ومن يستطيع التحكم في سرعة الدورة الدموية لتجعل كامل الجسد في حالة انتصاب ، حتى ذلك الكائن الذي يدعى الفقر والذي بات وأصبح لدى هؤلاء الناس لم يستطع أن يبعد الأفكار الساخنة عن عقولهم .
وبعد الهدوء النسبي للقطار وغلق الأبواب بواسطة هؤلاء الكمسارية الذين بذلوا الكثير من الجهد لفعل ذلك حانت من رفيق الطريق - وصاحب اليد الذي ساعدته على الصعود -التفاتة الى ماهر وسأله إن كان مسافرا الى الإسكندرية فأجاب ماهر بالنفي - بعد أن فغر فاه فجأة - وقال له أنه مسافر الى القاهرة واستفهم منه عن سبب سؤاله فقال له لأنه هو مسافر الى الإسكندرية فقال له ماهر وهل هذا يعني أن كل هؤلاء سيسافرون إليها لأنك أنت ذاهب الى هناك فضحك الرفيق كثيرا من ماهر ، وسأله أيضا عن أسمه فأخبره أن أسمه ماهر ورغم تلك الخواطر التي كانت تجول في رأسه
فقد أفاق “ماهر”من تلك الخواطر التي كانت في رأسه ونظر إلى رفيق السفر الملتصق به فوجده – ما شاء الله – ذو طول فارع ومنكبين عريضين وحواجب كثة كادت أن تغطي عينيه وشال أحكمت لفاته الثلاث على رأس صاحبنا وجلباب أصبحت فتحته العالية مثل رقم سبعة ليظهر منها شعر صدره الكث شديد السواد والتي اخترقت شعيراته فتحات الصديري القديم الذي يرتديه أسفل جلبابه ،
- وانت اسمك ايه ؟
- محمد
- صلى الله عليه وسلم
- انت بتتعنطز عليا
- ليه يا أخي طبعا صلى الله على سيدنا محمد وانت رايح فين ياسي محمد
- رايح اسكند ..... يا ست اقعدي في مكان على جنب
انفجر الواقفون في ضحكات عالية متباينة فمنهم من فتح فاه عن آخره وخرج منه صوت هع هع هع هع هع ومنهم من ضحك ومنهم من ضحك ممممممممم وقال أحدهم
- فين الجنب ده ياخينا واللا تقصد جنبي اللى في جنبي اللي فيه ضلوعي
كانت إحدى السيدات قد ارتطمت بظهر "محمد" على حين غفلة بعد أن ألقى بها موج البشر وهو في حالة الفوضى هذه .
كان “ماهر”يعرف أن تلك الفوضى ستنتظم بعد حين عندما تصل الى منتهاها ويعرف كل واحد من هؤلاء مكان له أي إن كان ذلك المكان سواء على الأرض أو خلف الأبواب أو تحت الكراسي أو في الحمام أو حتى واقفا أو فوق الأرفف ، و“ماهر” يعرف جيدا أن هذه الحالة لابد لها أن تنتهي وذلك الضجيج سينتهي أيضا عندما يأخذ القطار سرعته .
نظر الى السيدة التي ارتطمت بصاحبه فوجدها تلملم خرقتها البالية التي تسميها ( الشقة ) وتجلس خلف أحد الكراسي ناظرة إلى الأقدام والجلابيب التي أحاطت بها من كل جانب .
" ترى في عيون الجنوبيين ما لا يمكن أن تراه في عيون أخرى ، شجن غير مبرر ، على الأقل من جانب من لا يعرف الجنوبيين ، ولا تعرف على وجه الدقة من أين تستمد تلك العيون ذلك الشجن ، هل من البيئة الحارة ، هل من الفقر ، هل هناك جينات خاصة في الجينيوم الخاص بهم مسئولة عن ذلك الشجن ، أنهم دائما يذهبون تاركين تلك البيئة الجنوبية لكن لا يمكن هي أن تتركهم ترى الجنوبي في أي مكان في العالم فتعرفه بمجرد النظر ، بل النظرة الأولى كفيلة أن تؤكد لك أن هذه الشخصية من الجنوب ، حتى وإن تخلى عن سراويله وجلبابه ، والصديري الخاص به ، مهما تفرنج ، لا يمكن أن يبرح عينيه ذلك الشجن المتوطن في العيون والقلوب "
تذكر “ماهر”أمه وهي تحاول أن تثني إرادته عن السفر في تلك المرة حملق في تلك السيدة الجالسة في الأرض مانحة رأسها خشب الكرسي وظهرها الفراغ :
- يابني ليه هتسافر ؟
- يامه الحال ضاق قوي بقينا مش لقيين حتى اللقمة انتى سارحة طول الليل بتبيعي شوية اللبن، اللى بتلميهم من الوحش والكويس وأبوية تعب من اللف في الأسواق علشان يلاقي خمسة جنيه من واسطة البهايم ، يمه لو حد فينا تعب مش هنلاقي حق الدوا ولو مات مش هنلاقي حق الكفن ، سبيني يمكن ربنا يرزقنا
- يبني ما إنت سافرت قبل كده ، كان إيه اللى حصل يعني ؟
- خليها على الله يمه بس انتي ادعيلي
- يا ابني أنا دعيالك ، قلبي وربي راضيين عليك ، انت مش عارف يا “ماهر”غلاوتك عندي يا ابني ، دانت اللى شفت معايا الحلوة والمرة من مصغرك من دون اخواتك
- خلاص سبيني يمه
- سبيني هسافر اشتغل أي حاجة ، إنتي شايفة .. هنا حاولت أشتغل مفيش شغل ، حتى ورشة البلاط اللى كنت بشتغل فيها صاحبها قفلها من الفقر والمرار وحظي الوحش
- على عيني يا ولدي قلبي مش مطاوعني ، ظلمناك حتى العلام سيبته بعد ما كنت أشطر العيال
- يمه علام إيه اللى انت فاكراه دلوق
- انت مبحلق ليه في الولية كده يا “ماهر”
- هه
- إيه يا عم انت مسافر واللا جاي تسرح في القطر
- لأ .. لأ إحنا فين دلوقتي
- إحنا داخلين على أسيوط
- خلاص بعد ما يتحرك القطر من أسيوط هنشوف نكمل المشوار ازاى
- يا عم يكمل المشوار زي ما يكمل
من ينظر في عيني “ماهر”لا بد له أن يتوه في عالم غامض ملئ بالشجن والحزن حتى إنك لا تستطيع معرفة لون عينيه ، لم يكن “ماهر”طويلا لكنه بين الطول والقصر وكانت بشرته تميل إلى السمرة وعينيه محفورتين تحت جبهته التي لم تكن عريضة وشعرة كث شديد السواد يكاد أن يغطي جبهته وفوق عينيه ، حاجبان عريضان جدا ، كان شابا نحيلا ورغم كل ذلك فإن لديه جاذبية غريبة تحبه خاصة إذا جلست إليه وسمعت حديثه الذي تشعر معه أنه عاش ألف سنة رغم أن عمره لم يتجاوز الثلاثين يأخذك عندما يتحدث إليك فقد ترك التعليم بعد مرحلة الإعدادية لكنه قرأ كتب بعدد أيام منتصف عمره وكانت سلواه الوحيدة هي القراءة عرف طريق المكتبات لكن واقعه كان أليما جدا حيث كان أبوه يعمل بالوساطة في بيع المواشي وكانت أمه تعمل في بيع اللبن تجمع اللبن من هؤلاء اللذين يملكون حيوانات تدره لهم وكانوا يحبونها كثيرا لأنها كانت سيدة خدوم تحب الناس ولا تحقد على أحد رغم أنها كانت فقيرة ، وكان أبوه رجلا قويا لا يرضى بالظلم ، يسحب "شمروخه" لنصرة الفقير أي إن كان ذلك الفقير سواء من عشيرته أو غريبا عليه سواء من ديانته أو من ديانة أخرى كان يفعل ذلك فقط لأن ذلك المظلوم فقير ولم يكن يدري على وجه الدقة ماهي الدوافع التي تجعله يفعل ذلك أهو الفقر الذي يجمع الكثيرين تحت عباءته فيجعلهم عشيرة واحدة ذو ديانة واحدة ، أم أنه يفعل ذلك زودا عن نفسه وبدافع أنه هو الذي وقع عليه الظلم ، ورغم أن جيرانه يخافون منه لشدته ويتجنبونه خوفا من "شمروخه" الذي كان لا يفارق يده إلا أنهم عندما يتناولونه في أحاديثهم كان يذكرونه بالخير والعدل ويتذكرون المواقف الكثيرة له التي ناصر فيها الفقير ونصره . فعندما ضرب ابن "ثابت" العسكري في المركز ، ابن رمضان بائع الحلاوة العسلية افتعل أبو ماهر مع هذا العسكري "خناقة" وأوسعه ضربا بشمروخه وألقى به في الأرض وكان "ثابت" يصرخ كالنساء والناس تشاهد هذا المشهد من بعيد لم يجرؤ أي من الواقفين عن الذود عن " ثابت " ، حتى أن الجيران عندما يذكرون هذه الواقعة لزوجة "ثابت" تقول إحداهن لها
- ياختي مقدرشي حد يحوش عن جوزك ولا حتى إخواته التلاتة اللى كانوا واقفين بعيد بيتفرجوا على أخوهم
- فترد عليهم زوجة "ثابت"
- يعني انت مش عارفة أبو ماهر ياختي بيبقى عامل زي الغول وهو بيتشابط وعنيه بتحمر ومحدش بيقدر عليه
- ونظرت الى زوجة رمضان وقالت لها : -
- كل ده بسبب رمضان جوزك وابنك
- لكن جوزي برضه مسبش حقه خلى المركز جه لغاية هنا وخلى الظابط خد له حقه وضربه
- وانتي شايفه دي المرجلة يا منجوسة ! علشان كده أوعي تقعدي معانا تاني يامرات الدلدول ..... ياوسخة
- وكان ماهر يحب أبيه وأمه حبا شديدا وكانا هما يعشقانه
- خلاص ياعم فيه مكان زين أهه بينادينا
- مكان !
- ياعم أدور على حد غيرك يساليني في المشوار ده واللا إيه !!
- ليه بس ؟
- انت على طول كده سرحان
- ياسيدي الدنيا كلها هموم
- خلاص سيبها لهمومها وتعالى نطلع على الرف اللى هناك ده
- ياللا بينا
تخطى ماهر ورفيقه رقاب الجالسين في طرقات القطار ومشى وراءه صاحبه حتى وصلا الى أحد الكراسي قفز ماهر على مسند الكرسي الخشبي الخاص بالقطار وأمسك بإحدى عرضات أحد الأرفف ووقف تماما على مسند الكرسي ثم قفز مسندا كلتا يديه على عرضة الرف وأثناء قفزته منح مؤخرته للرف فاستقر جالسا عليه ،ثم زحف وأخلا مكانه ليفعل رفيقه مثلما فعل بعد أن أمسك ماهر بيده فاستقر الآخر جالسا بجوار ماهر ،،،،
- قلي انت بتسرح كتير ليه ؟
- الدنيا وهمومها
- طيب انت قلتلي دي قبل كدة
- طيب أنت مسافر مصر ليه
- بصراحة مسافر أشتغل
- انت بتشتغل إيه؟
- أي حاجة
- يعني انت معكش صنعة ؟
- كنت شغال في ورشة بلاط
- خلاص لما توصل بالسلامة اشتغل في ورشة بلاط
- يا مسهل يارب ، وانت بقى شغال إيه؟
- أنا يا سيدي رايح لعمتي في اسكندرية
- جوز عمتي شغال في المينا ، رايح أشتغل معاه هناك .. وبصراحة كده هتجوز بنته
- يعني شغل وجواز !
- انت شايف البلد وحالها .. صح هو ليه الصعيد بيطرد ناسه وليه الصعايدة مليين الأرض في الشرق والغرب ، انت تعرف أنا عمي مسافر العراق بقاله ييجي خمستاشر سنة ، وأعرف ناس كتير من البلد مسافرين بقالهم سنين ، والقطر زي مانت شايف مليان ناس كلهم مسافرين
- لكن بيحنوا برضه للصعيد علشان كده تلاقي القطر اللى جاي الصعيد فيه ناس أكتر من دول
ودندن ماهر : وأزحف خلف عواء القطار لعلي أشم هواء الصعيد
- بتقول إيه ؟
- بفتكر بيت شعر لشاعر صعيدي سافر برضه وحن تاني
- ياعم حرام عليك الواحد لو يعرف أي حته بعيد عن البلد دي هيغور فيها بعيد عن الفقر والمر اللى إحنا فيه ده
- ونسيب أهالينا لمين
- ياعم ناخدهم معانا
- يعني بلاد الناس الغريبة هتشيلنا أكتر من بلدنا
- أيوة هتشيلنا
- أنا عارف واحد صاحبي سافر البلد اللى إسمها إيطاليا والناس بتحكي وتتحاكى عليه
- وأبوه وأمه فين ؟
- في البلد
- يعني مرحوش معاه
- بيقولوا هو بيرستق حاله وهيبعتلهم
- بقاله كام سنة
- ييجي عشر سنين
- ومرستقش حاله !؟
- يا عم كل اللى أعرفه أنه هو تمام
- أنا عن نفسي بحب البلد دي
- الصعيد ؟
- مصر كلها ..... ومش هسسيبها
- يعني بتحب الأملة يا خي
- لأ بحب مصر
- اللى يقول كده يقول إنك شفت الدنيا كلها واخترت البلد دي
- أيوة شفت الدنيا كلها وحبيت قوي البلد دي
- خلاص يا عم أنا هنام ولما نوصل مصر صحيني أسلم عليك
- وهتنام فين !
- على رجلك طبعا
- طيب نام
- نظر ماهر الى أسفل فوجد القطار ملئ عن آخره وحدثته نفسه
- يا تري الناس دي كلها رايحة فين
لماذا أصبح العالم مخيف الى هذه الدرجة ، ولماذا نفتقد الأمان دائما ، أصبحت جميع الأصوات تخيفنا ، صوت التليفون ، جرس الباب عندما يدق ، حينما ينادي إليك أحد ما وانت تسير في الشارع ، حتى أحلامنا أصبحت مخيفة تأخذك الى عوالم يسيطر عليها الرعب ، والغريب أن هذا الرعب لا ينتهي ولا مبرر له ، من يمكننا أن نسأله أن يوقف هذا الرعب ، تنهد ماهر لمنظر هؤلاء الجالسين في الطرقات وخلف الكراسي والمتكئين هنا وهناك ثم أطلق تنهيدة عميقة ونظر الى صاحبه الذي راح في ثبات عميق وأسند رأسه على رأس صاحبه ونام هو الآخر وفي رأسه أفكار تدور حول رحلته هذه الى القاهرة ، وصل القطار الى القاهرة وسلم ماهر على رفيق الرحلة ونزل الى المحطة وجلس على أحد الكراسي التي توجد في المحطة يفكر أين سيذهب ومن أين ستبدأ رحلته وفجأة وجد يدا تربت فوق كتفه فنظر الى صاحب اليد فوجد رجلا تبدو على وجهه علامات التقوى
- مالك يابني
- مفيش يا حاج
- الحزن باين قوي عليك ، هو فيه حاجة مديقاك
- الحمد لله على أي حال يا حاج
- انت جاي تدور على شغل ... صح ؟
- فغر ماهر فاه عن آخرها وسأل
- عرفت إزاي يا بوية ؟
- حالك باين عليه يا بني
- على أي حال أنا عندي طلبك .. قوم معايا
وقام ماهر مع الرجل الذي اعتبره نجدة من السماء وذهب معه الى مكان ما في القاهرة ، القاهرة الجميلة التي تخيلها في عقله ورسم لها صورة من خياله ومن الأفلام التي كانت تعرض في التلفزيون كان الرجل يشبه الى حد كبير الممثل " عبد الوارث عسر "ذهب ماهر معه الى دكان العطارة الذي كان يمتلكه الرجل وقال له ستعمل معي في هذا المحل وسأعطيك عشرين جنيها في اليوم الواحد ، ثم دس الرجل يده في جيبه وأعطى ماهر لفة نقود أخبره أن هذه النقود لكي يظبط حاله ، لم يعرف ماهر عددها بالضبط لكنه أول فكرة خطرت له أن يرسل لأمه هذه الأموال ويرسل لها خطابا يطمئنها عليه ويقول لها أن الحظ قرر أن يبتسم له ووجد العمل الذي يحلم به ووجد الشخص الذي سيخلصه من المتاعب والآلام وبينما هو واقف في المحل إذ بيد قوية تمسكه من كتفه
- قوم ......
- فزع ماهر من غفوته وقام أيضا صاحبه
- مين .. فيه إيه ؟
- بطاقتك انت وهو .... مباحث
دس ماهر يده في جيبه وأخرج محفظته وأخرج منها بطاقته وقدمها لهذا الشخص اللزج الذي لا يحترم غفوة ماهر أو صاحبه ولم يتعامل بشكل آدمي في طريقة طلبه لإثبات شخصيته وأمرهما أن ينزلا رغم أنهما قدما له ما يريد ورغم أنهما شخصان عاديان لا تبدو عليهما ملامح الإجرام لكن الملامح التي تبدو عليهما هي ملامح الفقر والعوز ، إلا أن رجل الشرطة أمسكه من كتفه بقوة وجره من على الرف الذي كان يجلس عليه لدرجة أنه تعثر ووقع على أحد الجالسين في الأرض واعتذر ماهر للرجل رغم أن ما حدث بسبب تلك الطريقة البشعة التي تعامل بها رجل الشرطة ، هو يكره رجال الشرطة في مصر لأنهم يتعاملون مع البشر وكأنهم جمادات على الأقل في هذه اللحظة التي قطع عليه الحلم الجميل الذي كان يحلمه ، رجال الشرطة استكثروا عليه أن يحلم
وتذكر تلك الليلة التي كان ينام فيها بين أهله وفجأة هبط عليهم في البيت رجال الشرطة يبحثون عن سلاح في بيت أبيه لقد كان أبوه يمتلك "فردا" مثل كثير من فقراء الصعيد يستخدمه في الأفراح أو عندما ينجح ماهر ، يجرى أبوه على الفرد ويخرجه من مكانه ويضرب عيارين في الهواء فرحا بذلك الولد الذي دائما ما يرفع رأسه بين جيرانه ثم يعيده مرة أخرى حيث كان ، في تلك الليلة أصر ضابط المباحث أن يأخذ الفرد وأصر أبو ماهر أن بيته خال من أي أسلحة وقال لهم ابحثوا في البيت ، هو أمامكم وإن وجدتم أي أسلحة خذوها وخذوني وفعلا قام مساعدو الضابط وعاثوا في البيت فسادا ، قطعوا المراتب بمطاويهم وقلبوا الأشياء كلها حتى أن أحد المساعدين ضرب أحد الأواني بقدمه فسكب ما فيها من " طبيخ " هو لا يعرف أن هذا هو الأكل الوحيد في البيت
- يا خوية ومالها بس الحلة يعني إحنا هندس السلاح فيها
- نظر إليها الشاويش شذرا وقال لها أبو ماهر
- خليهم يدوروا زي ما همه عايزين
انتهى المساعدون من البحث بطريقتهم عندما قالوا للضابط أنهم لم يجدوا شيئا ذهب الضابط إلى أبو ماهر ولطمه على وجهه لطمة قوية ،
- فين السلاح
جز أبو ماهر – على أثر اللطمة – على أسنانه كسرت إحدى سنانه ، هو يستطيع أن يفتك به وهو قادر أيضا أن يضرب كل هؤلاء ويكسر لهم أيديهم وأرجلهم بشمروخه لكنه هو أيضا يعرف سطوة الشرطة في الصعيد ويعرف أن ذلك الضابط قادر على استصدار أمر إعتقال له بدون أي سبب ، وتسربت دمعه صغيرة من عينيه ، أخفاها بسرعة بيديه ، نظر إليه الضابط وقال
- مش هسيبك
ثم أمر رجاله بالانسحاب وذهبوا بحث أبو ماهر عن سجائره وأخذ واحدة ثم جلس على الأرض وأشعل سيجارته والنار تغلي في أحشاءه مما حدث لم يستطع النوم في هذه الليلة كان ماهر في هذه اللحظة يجلس خائفا وأمه تربت عليه
- متخفش ياحبيبي متخفشي يا ماهر
رغم أنها كانت ترتعش من الخوف كيف يمكنها أن تبعث فيه الطمأنينة وهي ترتعد هكذا
- يابيه في إيه نزلتونا ليه ؟
- جذب محمد ماهر من ذراعه
- يا عم ماهر أسكت خلينا نخلص
- رايحيين فين
- مسافرين زي كل الناس دي
- طيب مترد كويس يا ...... أمك لخليك تلحس تراب القطر
- طيب ليه الغلط ده حضرتك
- شكلك مش ناوي تجيبها البر يا ابن ........
- قلي رايحين فين ؟
- أنا رايح مصر
- وأنا رايح إسكندرية
- ليه
- نشتغل
- طيب اركنوا على جنب دلوقتي
وقف ماهر وصاحبه وهو ينظر الى رجال المباحث وهم يقلقون النائم ويخيفون المستيقظ بطريقتهم الفظة هذه
هل الحكومة تفكر أن هذه الطريقة هي الطريقة الملائمة للسيطرة على هؤلاء الفقراء أم أن الحكومة تخافهم فتهجم عليهم بهذه الطريقة البشعة وتستخدم رجال الداخلية باعتبارهم العصا التي تخيفهم بها
هل هذا الرجل الذي شتمه وأهانه له مصلحة في إهانته بهذه الطريقة هو يعرف أنه مجرد أداة لسياسة.
هذا الرجل ذاته لا يفهم منها شيئا لكنه بالضرورة يستمتع بذلك العمل لأنه يخرج كبته لأنه مكبوت هو أيضا يتعرض في كل يوم إلى إهانات رؤساءه في العمل وإهانات زوجته في البيت والتي تخبره أن البيت ينقصه كذا وكذا ورغم هيبته التي بين الناس إلا أنه لا يستطيع توفير كل احتياجات بيته
عاد رجل المباحث الى ماهر وصاحبه وأعطاهما بطاقتيهما وأخبر ماهر ناظرا اليه أن يكون له أسلوب أفضل من ذلك مع رجال الشرطة وهم ماهر أن يسأله ماذا فعل لكل هذا التوبيخ فشده صاحبه وأشار إليه أن يسكت وأخذ بطاقتيهما وعادا الى مكانهما كأن شيئا لم يحدث عاد محمد الى سابق نومته وعاد ماهر مستندا على صاحبه لكنه لم يستطع النوم أحس بانكسار هز أعماقه من الداخل بعدما فعل رجل المباحث فعلته وأهانه أحس في تلك اللحظة إحساس والده بعد أن لطمه ضابط الشرطة قال لنفسه محدثا كنت أستطيع أن أرد عليه وأزيد لكنني كنت سأنزل وسيتم ترحيلي ولا أستطيع أن أفعل شيئا لا لأبي ولا لأمي بكى ماهر بحرقة لم يستطع أن يمنع عينيه ولا أن يمنع دموعه من الانهمار لدرجة أنها بللت خد صاحبه الذي استيقظ مذعورا سأل محمد ماهر عما يبكيه فأجابه ماهر : الإهانة ، وهل غيرها يمكن أن تجعل مثله يبكي فضحك محمد كثيرا وسأله وهل ما نحن فيه الآن ليس إهانه وهل كل هؤلاء الذين يحيطون بك والبرد الداخل من شبابيك القطار يكاد يقتلهم ليست إهانة ثم ضحك وقال وعلى أي يا سيدي إهانة الحكومة في بلادنا ليست كذلك ولكنها نوع من التربية لا يغضب أحدا ، فنظر ماهر الى صاحبه وتعجب أن يأخذ هذا الفتى كل الأشياء بهذه البساطة وبهذه الطريقة من اللهو فقال له لماذا لا أفعل وأنا ذاهب الى المجهول بعينيه فتاة لا أعرفها ذاهب للزواج منها وعمل لا أعلم شيئا عنه ذاهب لأمارسه هل هناك أكثر من ذلك إهانة ، إن العالم يا صديقي كله قد تآمر علينا لأهانتنا ، فلماذا تغضب وتبكي هكذا وأثناء حديثهما رأيا الكمساري قادما نحوهما فأخرج كل منهما قيمة تذكرته بشكل لا إرادي وأعطيا الكمساري النقود فقال ماهر له أن يعطيه واحدة القاهرة وقال ماهر أعطني واحد الإسكندرية
( سبحان الله ماذا فعلت بنا الأيام في زمن خلى كان الناس يتسابقون على الكرم فتراهم على المقاهي وفي المواصلات وما شابهها يقسمون بأغلظ الأيمان على الدفع ويمسك أحدهم يد أخيه أو صاحبه التي تحاول أن تدلف الى مكان النقود ليوقفها ويدفع هو ثم جاء زمان بعده كان الناس يحاولون أن يفتعلوا هذه الحالة بدون تشديد فيدفع ذلك الذي تسرع في البداية ولكن الآن كل واحد يدفع لنفسه ولا تخرج نقوده سوى
لحاجته أنا لا أنكر ذلك الفعل أو هذه الثقافة ولكن أتساءل لماذا تتغير عاداتنا بدون مقدمات لقد تغربنا عن أنفسنا الى هذه الدرجة ..)
أخذا التذاكر وعادا الى سابق نومتهما وفي هذه المرة استطاع ماهر ان يغمض عينيه وينام حتى وصل القطار الى القاهرة قال ماهر لصديقه : حان يا صديقي وقت الفراق الآن فهل تأمرني بشئ ، فشكره محمد وتمنى له التوفيق في مشواره وتمنى أن يطمئنه ولكن هو لا يعرف طريق للتواصل معه فلا تليفونات ولا عناوين ولكن ربما نلتقي مرة أخرى فكما رتب القدر تلك المقابلة فمن السهولة عليه ان يكررها مرة أخرى .
فجأة استيقظ “ماهر” من غفوته ونهض من فوق الدكة الخشبية - التي توجد في محطة " طهطا " بمحافظة سوهاج - على صوت القطار ,وجلبة الأقدام التي كانت تهرول بجانبه ، وسيدة كانت تنادي عائلها أن ينتظر قليلا فهي لا تستطيع الجري ، وأطفال تبكي فزعا من تلك الحالة المفاجأة من الهرج التي سادت المكان بعد الهدوء والانتظار الطويل ، قام “ماهر”ممسكا بحقيبته بشكل لا إرادي ونظر نظرة عادية على القطار ، الذي اختفي نصفه الأسفل وتبدل إلى جلابيب بيضاء وسوداء وأرجل وأقدام البشر التي تكدست وتزاحمت للركوب وقام ومشى بشكل عادي في اتجاه القطار ، فهو يعرف مقدما أنه لن يجد مكانا للجلوس في هذا القطار القادم من مدينة الأقصر متجها الى مدينة الإسكندرية والذي يحمل أطنانا من البشر وإن وجد مكانا تحت أحد الكراسي أو فوق أحد الأرفف الخاصة بالحقائب - والتي يستخدمها ركاب قطار الصعيد في استخدامات أخرى آخرها الحفاظ على أمتعتهم - سيشكر ربه على ذلك النعيم وإن لم يجد فلن يحزن كثير فلطالما سافر تلك المسافة واقفا على قدميه لا يستطيع التحرك في أي اتجاه من كثرة من أحاطوا به من الركاب أو مانحا جنبه أي باب أو شباك أو حتى بيت الأدب طوال الطريق ، نظر الى القطار فوجد مشهدا عاديا بالنسبة له ، ركاب يلقون بحقائبهم من شباك القطار إلى ذويهم وأصحابهم داخل القطار ، وينادي أحدهم على صاحبه أن يحجز له مكانا وأن يتلقف منه حقائبه يرد عليه صاحبه بالإيجاب ويؤكد له أن مكانه موجود وهو قد وضع عليه حقائبهم لحجزه له فعلا .
وسيدة تهرول وخلفها قطار آخر من الأطفال ذوي أطوال مختلفة وهي تصيح :
- يواد متسبشي جلبيتي
- وزوجها يزجرها
- خلصي لحسن القطر يفوتنا
وآخرون يصعدون الى سطح القطار ويسحبون رفقائهم كي يجاوروهم في رحلة الخطر هذه ، وهؤلاء عادة إما أن يكونوا من اللصوص معتاد الإجرام أو الفقراء اللذين لا يستطيعون مواجهة أحد بفقرهم خاصة الكمساري الذي سيجبرهم على النزول من القطار وتنداح أمام الناس مياه وجوههم لذا فضلوا هذا الخطر على ذلك الإحراج ، انتظر ماهر قليلا حتى هدأ ذلك الضجيج عندما بدأ القطار في الحركة فأمسك حقيبته بإحدى يديه وأمسك بيده الأخرى العامود الحديدي القائم بجوار الباب ووجد يدا تمتد إليه تساعده على الصعود ، نظر الى صاحب اليد الذي لا يعرفه شاكرا له صنيعه وقفز في القطار ونظر على تلك الظهور والبطون والأيادي التي تبحث عن أي شئ صلب تمسك به خوفا من اهتزاز القطار فجأة فتختلط تلك البطون والظهور أكثر مما هي عليه الآن ،
(بعد ذلك قام اثنين من الكمسارية من خارج العربة بدفع أجساد البشر المتراكمة عند الباب وكبسها الى داخل العربة كي يتمكنوا من غلق الباب ، وكأنهم يتعاملون مع قطيع من الماعز ) فكر “ماهر”في الصعيد والعادات والتقاليد والعيب التي تربى عليها ، من يستطيع عدم الاحتكاك في هذه الحالة ! ومن يستطيع التحكم في سرعة الدورة الدموية لتجعل كامل الجسد في حالة انتصاب ، حتى ذلك الكائن الذي يدعى الفقر والذي بات وأصبح لدى هؤلاء الناس لم يستطع أن يبعد الأفكار الساخنة عن عقولهم .
وبعد الهدوء النسبي للقطار وغلق الأبواب بواسطة هؤلاء الكمسارية الذين بذلوا الكثير من الجهد لفعل ذلك حانت من رفيق الطريق - وصاحب اليد الذي ساعدته على الصعود -التفاتة الى ماهر وسأله إن كان مسافرا الى الإسكندرية فأجاب ماهر بالنفي - بعد أن فغر فاه فجأة - وقال له أنه مسافر الى القاهرة واستفهم منه عن سبب سؤاله فقال له لأنه هو مسافر الى الإسكندرية فقال له ماهر وهل هذا يعني أن كل هؤلاء سيسافرون إليها لأنك أنت ذاهب الى هناك فضحك الرفيق كثيرا من ماهر ، وسأله أيضا عن أسمه فأخبره أن أسمه ماهر ورغم تلك الخواطر التي كانت تجول في رأسه
فقد أفاق “ماهر”من تلك الخواطر التي كانت في رأسه ونظر إلى رفيق السفر الملتصق به فوجده – ما شاء الله – ذو طول فارع ومنكبين عريضين وحواجب كثة كادت أن تغطي عينيه وشال أحكمت لفاته الثلاث على رأس صاحبنا وجلباب أصبحت فتحته العالية مثل رقم سبعة ليظهر منها شعر صدره الكث شديد السواد والتي اخترقت شعيراته فتحات الصديري القديم الذي يرتديه أسفل جلبابه ،
- وانت اسمك ايه ؟
- محمد
- صلى الله عليه وسلم
- انت بتتعنطز عليا
- ليه يا أخي طبعا صلى الله على سيدنا محمد وانت رايح فين ياسي محمد
- رايح اسكند ..... يا ست اقعدي في مكان على جنب
انفجر الواقفون في ضحكات عالية متباينة فمنهم من فتح فاه عن آخره وخرج منه صوت هع هع هع هع هع ومنهم من ضحك ومنهم من ضحك ممممممممم وقال أحدهم
- فين الجنب ده ياخينا واللا تقصد جنبي اللى في جنبي اللي فيه ضلوعي
كانت إحدى السيدات قد ارتطمت بظهر "محمد" على حين غفلة بعد أن ألقى بها موج البشر وهو في حالة الفوضى هذه .
كان “ماهر”يعرف أن تلك الفوضى ستنتظم بعد حين عندما تصل الى منتهاها ويعرف كل واحد من هؤلاء مكان له أي إن كان ذلك المكان سواء على الأرض أو خلف الأبواب أو تحت الكراسي أو في الحمام أو حتى واقفا أو فوق الأرفف ، و“ماهر” يعرف جيدا أن هذه الحالة لابد لها أن تنتهي وذلك الضجيج سينتهي أيضا عندما يأخذ القطار سرعته .
نظر الى السيدة التي ارتطمت بصاحبه فوجدها تلملم خرقتها البالية التي تسميها ( الشقة ) وتجلس خلف أحد الكراسي ناظرة إلى الأقدام والجلابيب التي أحاطت بها من كل جانب .
" ترى في عيون الجنوبيين ما لا يمكن أن تراه في عيون أخرى ، شجن غير مبرر ، على الأقل من جانب من لا يعرف الجنوبيين ، ولا تعرف على وجه الدقة من أين تستمد تلك العيون ذلك الشجن ، هل من البيئة الحارة ، هل من الفقر ، هل هناك جينات خاصة في الجينيوم الخاص بهم مسئولة عن ذلك الشجن ، أنهم دائما يذهبون تاركين تلك البيئة الجنوبية لكن لا يمكن هي أن تتركهم ترى الجنوبي في أي مكان في العالم فتعرفه بمجرد النظر ، بل النظرة الأولى كفيلة أن تؤكد لك أن هذه الشخصية من الجنوب ، حتى وإن تخلى عن سراويله وجلبابه ، والصديري الخاص به ، مهما تفرنج ، لا يمكن أن يبرح عينيه ذلك الشجن المتوطن في العيون والقلوب "
تذكر “ماهر”أمه وهي تحاول أن تثني إرادته عن السفر في تلك المرة حملق في تلك السيدة الجالسة في الأرض مانحة رأسها خشب الكرسي وظهرها الفراغ :
- يابني ليه هتسافر ؟
- يامه الحال ضاق قوي بقينا مش لقيين حتى اللقمة انتى سارحة طول الليل بتبيعي شوية اللبن، اللى بتلميهم من الوحش والكويس وأبوية تعب من اللف في الأسواق علشان يلاقي خمسة جنيه من واسطة البهايم ، يمه لو حد فينا تعب مش هنلاقي حق الدوا ولو مات مش هنلاقي حق الكفن ، سبيني يمكن ربنا يرزقنا
- يبني ما إنت سافرت قبل كده ، كان إيه اللى حصل يعني ؟
- خليها على الله يمه بس انتي ادعيلي
- يا ابني أنا دعيالك ، قلبي وربي راضيين عليك ، انت مش عارف يا “ماهر”غلاوتك عندي يا ابني ، دانت اللى شفت معايا الحلوة والمرة من مصغرك من دون اخواتك
- خلاص سبيني يمه
- سبيني هسافر اشتغل أي حاجة ، إنتي شايفة .. هنا حاولت أشتغل مفيش شغل ، حتى ورشة البلاط اللى كنت بشتغل فيها صاحبها قفلها من الفقر والمرار وحظي الوحش
- على عيني يا ولدي قلبي مش مطاوعني ، ظلمناك حتى العلام سيبته بعد ما كنت أشطر العيال
- يمه علام إيه اللى انت فاكراه دلوق
- انت مبحلق ليه في الولية كده يا “ماهر”
- هه
- إيه يا عم انت مسافر واللا جاي تسرح في القطر
- لأ .. لأ إحنا فين دلوقتي
- إحنا داخلين على أسيوط
- خلاص بعد ما يتحرك القطر من أسيوط هنشوف نكمل المشوار ازاى
- يا عم يكمل المشوار زي ما يكمل
من ينظر في عيني “ماهر”لا بد له أن يتوه في عالم غامض ملئ بالشجن والحزن حتى إنك لا تستطيع معرفة لون عينيه ، لم يكن “ماهر”طويلا لكنه بين الطول والقصر وكانت بشرته تميل إلى السمرة وعينيه محفورتين تحت جبهته التي لم تكن عريضة وشعرة كث شديد السواد يكاد أن يغطي جبهته وفوق عينيه ، حاجبان عريضان جدا ، كان شابا نحيلا ورغم كل ذلك فإن لديه جاذبية غريبة تحبه خاصة إذا جلست إليه وسمعت حديثه الذي تشعر معه أنه عاش ألف سنة رغم أن عمره لم يتجاوز الثلاثين يأخذك عندما يتحدث إليك فقد ترك التعليم بعد مرحلة الإعدادية لكنه قرأ كتب بعدد أيام منتصف عمره وكانت سلواه الوحيدة هي القراءة عرف طريق المكتبات لكن واقعه كان أليما جدا حيث كان أبوه يعمل بالوساطة في بيع المواشي وكانت أمه تعمل في بيع اللبن تجمع اللبن من هؤلاء اللذين يملكون حيوانات تدره لهم وكانوا يحبونها كثيرا لأنها كانت سيدة خدوم تحب الناس ولا تحقد على أحد رغم أنها كانت فقيرة ، وكان أبوه رجلا قويا لا يرضى بالظلم ، يسحب "شمروخه" لنصرة الفقير أي إن كان ذلك الفقير سواء من عشيرته أو غريبا عليه سواء من ديانته أو من ديانة أخرى كان يفعل ذلك فقط لأن ذلك المظلوم فقير ولم يكن يدري على وجه الدقة ماهي الدوافع التي تجعله يفعل ذلك أهو الفقر الذي يجمع الكثيرين تحت عباءته فيجعلهم عشيرة واحدة ذو ديانة واحدة ، أم أنه يفعل ذلك زودا عن نفسه وبدافع أنه هو الذي وقع عليه الظلم ، ورغم أن جيرانه يخافون منه لشدته ويتجنبونه خوفا من "شمروخه" الذي كان لا يفارق يده إلا أنهم عندما يتناولونه في أحاديثهم كان يذكرونه بالخير والعدل ويتذكرون المواقف الكثيرة له التي ناصر فيها الفقير ونصره . فعندما ضرب ابن "ثابت" العسكري في المركز ، ابن رمضان بائع الحلاوة العسلية افتعل أبو ماهر مع هذا العسكري "خناقة" وأوسعه ضربا بشمروخه وألقى به في الأرض وكان "ثابت" يصرخ كالنساء والناس تشاهد هذا المشهد من بعيد لم يجرؤ أي من الواقفين عن الذود عن " ثابت " ، حتى أن الجيران عندما يذكرون هذه الواقعة لزوجة "ثابت" تقول إحداهن لها
- ياختي مقدرشي حد يحوش عن جوزك ولا حتى إخواته التلاتة اللى كانوا واقفين بعيد بيتفرجوا على أخوهم
- فترد عليهم زوجة "ثابت"
- يعني انت مش عارفة أبو ماهر ياختي بيبقى عامل زي الغول وهو بيتشابط وعنيه بتحمر ومحدش بيقدر عليه
- ونظرت الى زوجة رمضان وقالت لها : -
- كل ده بسبب رمضان جوزك وابنك
- لكن جوزي برضه مسبش حقه خلى المركز جه لغاية هنا وخلى الظابط خد له حقه وضربه
- وانتي شايفه دي المرجلة يا منجوسة ! علشان كده أوعي تقعدي معانا تاني يامرات الدلدول ..... ياوسخة
- وكان ماهر يحب أبيه وأمه حبا شديدا وكانا هما يعشقانه
- خلاص ياعم فيه مكان زين أهه بينادينا
- مكان !
- ياعم أدور على حد غيرك يساليني في المشوار ده واللا إيه !!
- ليه بس ؟
- انت على طول كده سرحان
- ياسيدي الدنيا كلها هموم
- خلاص سيبها لهمومها وتعالى نطلع على الرف اللى هناك ده
- ياللا بينا
تخطى ماهر ورفيقه رقاب الجالسين في طرقات القطار ومشى وراءه صاحبه حتى وصلا الى أحد الكراسي قفز ماهر على مسند الكرسي الخشبي الخاص بالقطار وأمسك بإحدى عرضات أحد الأرفف ووقف تماما على مسند الكرسي ثم قفز مسندا كلتا يديه على عرضة الرف وأثناء قفزته منح مؤخرته للرف فاستقر جالسا عليه ،ثم زحف وأخلا مكانه ليفعل رفيقه مثلما فعل بعد أن أمسك ماهر بيده فاستقر الآخر جالسا بجوار ماهر ،،،،
- قلي انت بتسرح كتير ليه ؟
- الدنيا وهمومها
- طيب انت قلتلي دي قبل كدة
- طيب أنت مسافر مصر ليه
- بصراحة مسافر أشتغل
- انت بتشتغل إيه؟
- أي حاجة
- يعني انت معكش صنعة ؟
- كنت شغال في ورشة بلاط
- خلاص لما توصل بالسلامة اشتغل في ورشة بلاط
- يا مسهل يارب ، وانت بقى شغال إيه؟
- أنا يا سيدي رايح لعمتي في اسكندرية
- جوز عمتي شغال في المينا ، رايح أشتغل معاه هناك .. وبصراحة كده هتجوز بنته
- يعني شغل وجواز !
- انت شايف البلد وحالها .. صح هو ليه الصعيد بيطرد ناسه وليه الصعايدة مليين الأرض في الشرق والغرب ، انت تعرف أنا عمي مسافر العراق بقاله ييجي خمستاشر سنة ، وأعرف ناس كتير من البلد مسافرين بقالهم سنين ، والقطر زي مانت شايف مليان ناس كلهم مسافرين
- لكن بيحنوا برضه للصعيد علشان كده تلاقي القطر اللى جاي الصعيد فيه ناس أكتر من دول
ودندن ماهر : وأزحف خلف عواء القطار لعلي أشم هواء الصعيد
- بتقول إيه ؟
- بفتكر بيت شعر لشاعر صعيدي سافر برضه وحن تاني
- ياعم حرام عليك الواحد لو يعرف أي حته بعيد عن البلد دي هيغور فيها بعيد عن الفقر والمر اللى إحنا فيه ده
- ونسيب أهالينا لمين
- ياعم ناخدهم معانا
- يعني بلاد الناس الغريبة هتشيلنا أكتر من بلدنا
- أيوة هتشيلنا
- أنا عارف واحد صاحبي سافر البلد اللى إسمها إيطاليا والناس بتحكي وتتحاكى عليه
- وأبوه وأمه فين ؟
- في البلد
- يعني مرحوش معاه
- بيقولوا هو بيرستق حاله وهيبعتلهم
- بقاله كام سنة
- ييجي عشر سنين
- ومرستقش حاله !؟
- يا عم كل اللى أعرفه أنه هو تمام
- أنا عن نفسي بحب البلد دي
- الصعيد ؟
- مصر كلها ..... ومش هسسيبها
- يعني بتحب الأملة يا خي
- لأ بحب مصر
- اللى يقول كده يقول إنك شفت الدنيا كلها واخترت البلد دي
- أيوة شفت الدنيا كلها وحبيت قوي البلد دي
- خلاص يا عم أنا هنام ولما نوصل مصر صحيني أسلم عليك
- وهتنام فين !
- على رجلك طبعا
- طيب نام
- نظر ماهر الى أسفل فوجد القطار ملئ عن آخره وحدثته نفسه
- يا تري الناس دي كلها رايحة فين
لماذا أصبح العالم مخيف الى هذه الدرجة ، ولماذا نفتقد الأمان دائما ، أصبحت جميع الأصوات تخيفنا ، صوت التليفون ، جرس الباب عندما يدق ، حينما ينادي إليك أحد ما وانت تسير في الشارع ، حتى أحلامنا أصبحت مخيفة تأخذك الى عوالم يسيطر عليها الرعب ، والغريب أن هذا الرعب لا ينتهي ولا مبرر له ، من يمكننا أن نسأله أن يوقف هذا الرعب ، تنهد ماهر لمنظر هؤلاء الجالسين في الطرقات وخلف الكراسي والمتكئين هنا وهناك ثم أطلق تنهيدة عميقة ونظر الى صاحبه الذي راح في ثبات عميق وأسند رأسه على رأس صاحبه ونام هو الآخر وفي رأسه أفكار تدور حول رحلته هذه الى القاهرة ، وصل القطار الى القاهرة وسلم ماهر على رفيق الرحلة ونزل الى المحطة وجلس على أحد الكراسي التي توجد في المحطة يفكر أين سيذهب ومن أين ستبدأ رحلته وفجأة وجد يدا تربت فوق كتفه فنظر الى صاحب اليد فوجد رجلا تبدو على وجهه علامات التقوى
- مالك يابني
- مفيش يا حاج
- الحزن باين قوي عليك ، هو فيه حاجة مديقاك
- الحمد لله على أي حال يا حاج
- انت جاي تدور على شغل ... صح ؟
- فغر ماهر فاه عن آخرها وسأل
- عرفت إزاي يا بوية ؟
- حالك باين عليه يا بني
- على أي حال أنا عندي طلبك .. قوم معايا
وقام ماهر مع الرجل الذي اعتبره نجدة من السماء وذهب معه الى مكان ما في القاهرة ، القاهرة الجميلة التي تخيلها في عقله ورسم لها صورة من خياله ومن الأفلام التي كانت تعرض في التلفزيون كان الرجل يشبه الى حد كبير الممثل " عبد الوارث عسر "ذهب ماهر معه الى دكان العطارة الذي كان يمتلكه الرجل وقال له ستعمل معي في هذا المحل وسأعطيك عشرين جنيها في اليوم الواحد ، ثم دس الرجل يده في جيبه وأعطى ماهر لفة نقود أخبره أن هذه النقود لكي يظبط حاله ، لم يعرف ماهر عددها بالضبط لكنه أول فكرة خطرت له أن يرسل لأمه هذه الأموال ويرسل لها خطابا يطمئنها عليه ويقول لها أن الحظ قرر أن يبتسم له ووجد العمل الذي يحلم به ووجد الشخص الذي سيخلصه من المتاعب والآلام وبينما هو واقف في المحل إذ بيد قوية تمسكه من كتفه
- قوم ......
- فزع ماهر من غفوته وقام أيضا صاحبه
- مين .. فيه إيه ؟
- بطاقتك انت وهو .... مباحث
دس ماهر يده في جيبه وأخرج محفظته وأخرج منها بطاقته وقدمها لهذا الشخص اللزج الذي لا يحترم غفوة ماهر أو صاحبه ولم يتعامل بشكل آدمي في طريقة طلبه لإثبات شخصيته وأمرهما أن ينزلا رغم أنهما قدما له ما يريد ورغم أنهما شخصان عاديان لا تبدو عليهما ملامح الإجرام لكن الملامح التي تبدو عليهما هي ملامح الفقر والعوز ، إلا أن رجل الشرطة أمسكه من كتفه بقوة وجره من على الرف الذي كان يجلس عليه لدرجة أنه تعثر ووقع على أحد الجالسين في الأرض واعتذر ماهر للرجل رغم أن ما حدث بسبب تلك الطريقة البشعة التي تعامل بها رجل الشرطة ، هو يكره رجال الشرطة في مصر لأنهم يتعاملون مع البشر وكأنهم جمادات على الأقل في هذه اللحظة التي قطع عليه الحلم الجميل الذي كان يحلمه ، رجال الشرطة استكثروا عليه أن يحلم
وتذكر تلك الليلة التي كان ينام فيها بين أهله وفجأة هبط عليهم في البيت رجال الشرطة يبحثون عن سلاح في بيت أبيه لقد كان أبوه يمتلك "فردا" مثل كثير من فقراء الصعيد يستخدمه في الأفراح أو عندما ينجح ماهر ، يجرى أبوه على الفرد ويخرجه من مكانه ويضرب عيارين في الهواء فرحا بذلك الولد الذي دائما ما يرفع رأسه بين جيرانه ثم يعيده مرة أخرى حيث كان ، في تلك الليلة أصر ضابط المباحث أن يأخذ الفرد وأصر أبو ماهر أن بيته خال من أي أسلحة وقال لهم ابحثوا في البيت ، هو أمامكم وإن وجدتم أي أسلحة خذوها وخذوني وفعلا قام مساعدو الضابط وعاثوا في البيت فسادا ، قطعوا المراتب بمطاويهم وقلبوا الأشياء كلها حتى أن أحد المساعدين ضرب أحد الأواني بقدمه فسكب ما فيها من " طبيخ " هو لا يعرف أن هذا هو الأكل الوحيد في البيت
- يا خوية ومالها بس الحلة يعني إحنا هندس السلاح فيها
- نظر إليها الشاويش شذرا وقال لها أبو ماهر
- خليهم يدوروا زي ما همه عايزين
انتهى المساعدون من البحث بطريقتهم عندما قالوا للضابط أنهم لم يجدوا شيئا ذهب الضابط إلى أبو ماهر ولطمه على وجهه لطمة قوية ،
- فين السلاح
جز أبو ماهر – على أثر اللطمة – على أسنانه كسرت إحدى سنانه ، هو يستطيع أن يفتك به وهو قادر أيضا أن يضرب كل هؤلاء ويكسر لهم أيديهم وأرجلهم بشمروخه لكنه هو أيضا يعرف سطوة الشرطة في الصعيد ويعرف أن ذلك الضابط قادر على استصدار أمر إعتقال له بدون أي سبب ، وتسربت دمعه صغيرة من عينيه ، أخفاها بسرعة بيديه ، نظر إليه الضابط وقال
- مش هسيبك
ثم أمر رجاله بالانسحاب وذهبوا بحث أبو ماهر عن سجائره وأخذ واحدة ثم جلس على الأرض وأشعل سيجارته والنار تغلي في أحشاءه مما حدث لم يستطع النوم في هذه الليلة كان ماهر في هذه اللحظة يجلس خائفا وأمه تربت عليه
- متخفش ياحبيبي متخفشي يا ماهر
رغم أنها كانت ترتعش من الخوف كيف يمكنها أن تبعث فيه الطمأنينة وهي ترتعد هكذا
- يابيه في إيه نزلتونا ليه ؟
- جذب محمد ماهر من ذراعه
- يا عم ماهر أسكت خلينا نخلص
- رايحيين فين
- مسافرين زي كل الناس دي
- طيب مترد كويس يا ...... أمك لخليك تلحس تراب القطر
- طيب ليه الغلط ده حضرتك
- شكلك مش ناوي تجيبها البر يا ابن ........
- قلي رايحين فين ؟
- أنا رايح مصر
- وأنا رايح إسكندرية
- ليه
- نشتغل
- طيب اركنوا على جنب دلوقتي
وقف ماهر وصاحبه وهو ينظر الى رجال المباحث وهم يقلقون النائم ويخيفون المستيقظ بطريقتهم الفظة هذه
هل الحكومة تفكر أن هذه الطريقة هي الطريقة الملائمة للسيطرة على هؤلاء الفقراء أم أن الحكومة تخافهم فتهجم عليهم بهذه الطريقة البشعة وتستخدم رجال الداخلية باعتبارهم العصا التي تخيفهم بها
هل هذا الرجل الذي شتمه وأهانه له مصلحة في إهانته بهذه الطريقة هو يعرف أنه مجرد أداة لسياسة.
هذا الرجل ذاته لا يفهم منها شيئا لكنه بالضرورة يستمتع بذلك العمل لأنه يخرج كبته لأنه مكبوت هو أيضا يتعرض في كل يوم إلى إهانات رؤساءه في العمل وإهانات زوجته في البيت والتي تخبره أن البيت ينقصه كذا وكذا ورغم هيبته التي بين الناس إلا أنه لا يستطيع توفير كل احتياجات بيته
عاد رجل المباحث الى ماهر وصاحبه وأعطاهما بطاقتيهما وأخبر ماهر ناظرا اليه أن يكون له أسلوب أفضل من ذلك مع رجال الشرطة وهم ماهر أن يسأله ماذا فعل لكل هذا التوبيخ فشده صاحبه وأشار إليه أن يسكت وأخذ بطاقتيهما وعادا الى مكانهما كأن شيئا لم يحدث عاد محمد الى سابق نومته وعاد ماهر مستندا على صاحبه لكنه لم يستطع النوم أحس بانكسار هز أعماقه من الداخل بعدما فعل رجل المباحث فعلته وأهانه أحس في تلك اللحظة إحساس والده بعد أن لطمه ضابط الشرطة قال لنفسه محدثا كنت أستطيع أن أرد عليه وأزيد لكنني كنت سأنزل وسيتم ترحيلي ولا أستطيع أن أفعل شيئا لا لأبي ولا لأمي بكى ماهر بحرقة لم يستطع أن يمنع عينيه ولا أن يمنع دموعه من الانهمار لدرجة أنها بللت خد صاحبه الذي استيقظ مذعورا سأل محمد ماهر عما يبكيه فأجابه ماهر : الإهانة ، وهل غيرها يمكن أن تجعل مثله يبكي فضحك محمد كثيرا وسأله وهل ما نحن فيه الآن ليس إهانه وهل كل هؤلاء الذين يحيطون بك والبرد الداخل من شبابيك القطار يكاد يقتلهم ليست إهانة ثم ضحك وقال وعلى أي يا سيدي إهانة الحكومة في بلادنا ليست كذلك ولكنها نوع من التربية لا يغضب أحدا ، فنظر ماهر الى صاحبه وتعجب أن يأخذ هذا الفتى كل الأشياء بهذه البساطة وبهذه الطريقة من اللهو فقال له لماذا لا أفعل وأنا ذاهب الى المجهول بعينيه فتاة لا أعرفها ذاهب للزواج منها وعمل لا أعلم شيئا عنه ذاهب لأمارسه هل هناك أكثر من ذلك إهانة ، إن العالم يا صديقي كله قد تآمر علينا لأهانتنا ، فلماذا تغضب وتبكي هكذا وأثناء حديثهما رأيا الكمساري قادما نحوهما فأخرج كل منهما قيمة تذكرته بشكل لا إرادي وأعطيا الكمساري النقود فقال ماهر له أن يعطيه واحدة القاهرة وقال ماهر أعطني واحد الإسكندرية
( سبحان الله ماذا فعلت بنا الأيام في زمن خلى كان الناس يتسابقون على الكرم فتراهم على المقاهي وفي المواصلات وما شابهها يقسمون بأغلظ الأيمان على الدفع ويمسك أحدهم يد أخيه أو صاحبه التي تحاول أن تدلف الى مكان النقود ليوقفها ويدفع هو ثم جاء زمان بعده كان الناس يحاولون أن يفتعلوا هذه الحالة بدون تشديد فيدفع ذلك الذي تسرع في البداية ولكن الآن كل واحد يدفع لنفسه ولا تخرج نقوده سوى
لحاجته أنا لا أنكر ذلك الفعل أو هذه الثقافة ولكن أتساءل لماذا تتغير عاداتنا بدون مقدمات لقد تغربنا عن أنفسنا الى هذه الدرجة ..)
أخذا التذاكر وعادا الى سابق نومتهما وفي هذه المرة استطاع ماهر ان يغمض عينيه وينام حتى وصل القطار الى القاهرة قال ماهر لصديقه : حان يا صديقي وقت الفراق الآن فهل تأمرني بشئ ، فشكره محمد وتمنى له التوفيق في مشواره وتمنى أن يطمئنه ولكن هو لا يعرف طريق للتواصل معه فلا تليفونات ولا عناوين ولكن ربما نلتقي مرة أخرى فكما رتب القدر تلك المقابلة فمن السهولة عليه ان يكررها مرة أخرى .
تعليق