(3)
الوجـوه الخاويـة
..عمله يتطلب طبيعة قاسية. يجب ألا يطرف له جفن أو يختلج وتر من مشاعره , أن يكون متبلد الحس مصمت الوجدان يؤديه في روتينية قاتلة ؛ عليه أن يجلس طوال اليوم يراقب تلك التوابيت البشرية , و يدون تلك الطلاسم الغبية التي باتت هي الأخرى ميتة لا تتغير..!! يرقب تلك الوجوه الخاوية , الخالية من نبضة حياة . زملاؤه يطلقون عليها المقبرة , و بعضهم يداعبه ملقباً إياه بـ (الحانوتي) ؛ فالداخل عنده مفقود , و بالقطع الخارج مولود - فلم يشاهد أحداً أبداً يخرج ؛ اللهم إلا محمولاً على الأعناق..!!-
.. كان يجلس الليال الطوال وسط صقيع الفراغ الموحش والوحدة , بين أمواج الألم و العجز؛ ليقينه أنه لن يستطيع أن يفعل شيئاً لهم . يشعر كما لو أنه يعيش في كابوس مبهم الملامح مع الأحياء الأموات . دائماً ما كان يشعر أنه غريبٌ عن كل العالم العبثي الذي يعيش فيه, لذا حاول التأقلم مع ذاته؛ كي يحيا حياة عادية طبيعية , يحاول أن ينفض عن كاهله غبار الكابوس اليومي الطويل.
.. كثيراً ما كان يتحدث معهم , كأنه يعرفهم , يحاورهم , بل و يشكو لهم همومه و أحزانه, يناديهم بأسمائهم ؛ بل كان يناديهم بكنياتهم..!! فهذا (درش) , و ذاك (أبو خليل) , و هناك (سحس) , وهذه (أم محمد) , و تلك (بطه) . أحياناً كان يسري عن نفسه فيردد بعض الأغاني القديمة ( عشانك ياقمر ..اطلعلك القمر.. وعشان هواك أمر ..أحبك يا قمر..أحبك..) - برغم صوته الأجش الخالي من الطرب , وتلك اللثغة في لسانه عند نطق الراء..!!- فهم رفقة العمر والصحبة الذين يقضي معهم زهرة شبابة , و يمكث معهم الأيام الطوال و الشهور و السنوات- فيما ندر..!!-
..كان يحزن أيما حزن , حين يفقد أحدهم , فتتساقط منه دموع الحسرة و الندم رغماً عنه , يعتصر قلبه بين الحنايا شوق مر لإفتقاده , يشعر كما لو أن خنجراً بارداً يشق صدره ساعة يرى فراشه الخاوي . لقد كان منذ لحظات قليله يجالسه و يحادثه . يؤانسه و يأتنس بوجوده . و فجأة انتزعته يد القدر منه..؟! لكنه سريعاً ما يدرك أن ساقية الحياة ما تفتأ أن تعود إلى بحر اللا نهائية الضيق , فتقشعر الروح أمام تلك الحقيقة الثابته و تتحجر الدموع في الأعين , فلقد علمته الحياة ألا يضحك من القلب ولا يبكي بشده. أن هناك بعداً آخراً للأشياء , لربما كان الموت أكثر راحة من حياة هي أقرب للموت منها للحياة..!!
.. ذات يوم من الأيام . انفتح باب القبوالمعدني ؛ ليأتيه صوت عم (علي) التمرجي , قائلاً له في فرح طفولي ساذج: (ابسط ياعم وافد جديد..إنما إيه آخر حلاوة..!!)
نظر بلهفة المشتاق إلى سبر أغوار الحقيقة , و إزاحة أستار الغيب . وقف مشدوهاً ينظر إلى ذاك الجسد النحيل المسجى في سلام تام , و استسلام. هذا الوجه الملائكي المشع بالنور و الضياء , كزهرة أوركيد بيضاء, تلك البشرة الناعمة ؛ كنعومة الحرير. و الخدين المتوردين بحمرة الحياة - التي لا تملكها الجماجم الأحياء - عيناها الشاخصتان , تنظران إلى اللاشىء . نظرة تجمع ما بين الحزن , و الأمل , و الرجاء ؛ بالرغم من سنواتها التي لا تتجاوز العشرين.
.. أفاق على رذاذ المياه الباردة التي نضحت من جبينه , تحركت داخله مجهولات شتى , و أحاسيس متضاربة , أذابت ثلج مشاعره النائمة منذ زمن, فطفرت من عينيه دمعات حزن مرّة المذاق , و تمتم قائلاً : (سبحان الله) ثم لوى وجهاً يعتصره الألم , ليخفي غمامة الدموع التي أغشت عينيه , و رجت روحه صرخة قائلة : (يــالا الأقــدار..؟!).
.. سريعاً ما وٌضِعت على الأجهزة الإلكترونية , و اتصلت بشبكة الأنابيب اللانهائية , أخذت رقماً من الأرقام المتوالية , ثم أطبق الصمت على المكان. أحس ببرودة القبر, و صقيع الوحشة. فأقشعر جسده . سكن في عقله و وجدانه شجنٌ نابضٌ , و فضولٌ لاذعٌ أن يصافح وجهها من جديد . وجد نفسه يهمس في أذنيها قائلاً: ( أنا هنا معك.. بجانبك..أرعاك و أحرسك..لا تخافي.. سأظل دوماً بجوارك .. أؤنس وحدتك وأشاركك غربتك.. أنا فارسك الذي ظل طويلاً .. يبحث عنك.. كي ينقذك.. لن أتركك تستسلمين.. فأنت حبيبتي التي انتظرتها على مر السنين .. نعم أحس أنني أعرفك منذ زمن بعيد ..ربما من قبل أن تولد الحياة .. أنت توأم نفسي التي بحثت عنها كثيراً .. و لم أصدق وجودها إلا حين رأيتك .. جئتك الآن كي أخلصك.. كي أعيدك للحياة.. هذي يدي ممدودة إليك .. فاقتربي مني.. دعينا نكمل مشوار الحياة معاً.. أنا لم أسع إليك .. بل قدري هو من ساقك إليّ ..هيا بنا دعينا نري نور الشمس .. نمسك بريشات الحلم.. نرسم مستقبلنا .. قمراً مكتمل النور كالبدر.. و نقهر شياطين المستحيل ).
.. انساب صوته دافئاً عميقاً داخل أذنيها ؛ متخللاً خلايا جسدها, أحست بشلال من القوة يغرق عجز الواقع , شعرت بدفء مياه المحياة يجري في العروق , فأرتج الجسد بنشيج من النشوة و الفرح .
تعليق