في المصعد
الجو مظلم في الخارج،والبرج المكون من أربعين طابقا،يقف شامخا كالطود العظيم في الأرض، عاصفة، لكن رقيقة، بدأت بوادرها تلوح في الأفق، وتؤذن بالهبوب، حبات ندى صغيرة طفقت تنساب بوداعة، متقطعة في تسلسل حيوي بديع، على استحياء غير ممل، وهواء منعش مترب، كان يتقلب كدوامات هادئة محدودة النطاق في الفضاء الواقع بين السماء والأرض.
وحدها مثله، حضرت إلى المكان نفسه في الميعاد الخطأ، طالتهما معا غلطة الموظف الغبي الذي علق على الحائط الإعلان الذي يقول في مقتطف منه:نرحب بكم للحجز والاستفسار في تمام الساعة الحادية عشرةpm..(بدلا منAm كانت هذه هي غلطته)..ومنذ ساعات مضت حدث أن وبخ طبيب نفسي، يدعي أنه متخصص في حل المشاكل الزوجية أحد موظفيه قائلا:
- أيها الغبي:هل تمكنت من تصحيح خطئك الفادح، وتوضيح سوء الفهم لحاملي الإعلان وقارئيه قبل أن ينصرفوا؟
- نعم يا دكتور..آه حقيقة لا أستطيع أن أجزم، ولكنني آمل ذلك..
حملتها قدماها إلى المصعد نفسه بعد دخوله بدقيقة، لم تتمكن من رؤية وجهه، فقد كانت الجريدة التي يمسكها باهتمام تغطيه كله، بدا منهمكا في القراءة، وأن خبرا ما قد جذب انتباهه حتى أنه كان قد نسي أن يغلق الباب أو ربما قصد أن يحمل المصعد آخرين معه. دلفت إليه بخطوات رشيقة، وبارتباك، كانت تبحث عن شيء ما في حقيبة يدها الصغيرة، أخرجته وشرعت تتمم لون شفتيها بمزيد من الفوشيا اللامع، كانت ترتدي فستانا أبيض، قصيرا و مزخرفا بخطوط الفوشيا الطويلة، وإلى الخلف ربطت شعرها الناعم القصير كذيل فرس. سرت إلى أنفه الحساسة للروائح العذبة، رائحتها الحلوة المثيرة، قال في سره: المرأة المتعطرة زانية..زانية حقا..أي نعم!
عزم على اختلاس النظر إلى وجهها فبدأت أصابعه تتلاعب بتردد بأطراف الجريدة، ببطء، أنزل الجريدة إلى نصف وجهه فظهرت أرنبة أنفه والنظارة الصارمة من فوقها، لقد قطع نصف المسافة والآن هم بأن يقطع النصف الآخر ويلتفت إليها، حين حانت منه لحظة الالتفاتة، حدث ما لم يكن بالحسبان:انقطع التيار الكهربائي فجأة، وأصبحا معلقين معا في الهواء، لا يعرفان بين أي طابق و آخر، وسيظل باب المصعد مغلقا عليهما إلى حين ميسرة.
قال الرجل متغزلا بوقار:آه..إنه لحظ عاثر يا سيدتي أن منعني هذا الظرف الطارىء من متعة النظر إلى وجه سعادتك..
- كنت أتمنى لو أنني قد استطعت أن أنظر إلى وجه الرجل الواقف إلى جانبي في المصعد، ولكن كما ترى..لقد انطفأت..( باحثة عن وجهه في الظلام )..
- لقد انطفأت الأنوار بسرعة شديدة نعم..أعترف لكِ بذلك..ونحن الآن معلقان في الهواء، وعموما فهي فرصة عظيمة جدا لندردش ونتعارف..وقال بلهجة مبالغ فيها: إنه لقدر ذو مغزى، ذلك الذي جمعنا معا في هذا المكان وهاته الساعة، شيء له معنى، أنا لا أؤمن بالصدف..
سألته: إلى أين كانت وجهتك؟
- إلى الطابق الثالث والعشرين..وأنتِ؟
- مثلك..لا مفر إذن من أنك تعاني بعض المشكلات مع زوجتك؟
- آآآه ياسيدتي..لو تعرفين ما أنا فيه!..أعيش مع زوجة مملة، أنانية، امرأة ذات عقل فارغ بكل المقاييس، كل ما يهمها من الوجود في هذا العالم هو أن تهتم بألوان بشرتها، ومكونات وجهها، وأناقتها، مع متابعة أحدث صيحات الموضة والتباهي أمام صديقاتها بملابسها ومجوهراتها، تافهة، ثرثارة، لا شيء يضجرني في الحياة قدر أنني أعيش معها في منزل واحد..
- الاهتمام بالأناقة أمر محمود ومطلوب، شرط ألا يتعدى حدوده المعقولة وألا يصل إلى درجة الهوس أو التشبث المرضي، من المؤكد أن زوجتك تبالغ نوعا ما في الاهتمام بزينتها..
- ومن المؤكد يا سيدتي أنكِ امرأة ذات عقل بالغ الرجحان حتى تبدي مثل هذا الرأي السديد في مثل هذه المسألة التي قد بلغت مبلغها الصعب عند كثير من النساء السفيهات..( مجاملا كعادته )..
- أشكرك..( بهدوء )
- وأنتِ..ما هي مشكلتك مع زوجك؟
- أعيش مع رجل بارد، مشغول طوال الوقت، هل تصدق يا سيدي أننا لم نلتق على فراش منذ ما يقرب العامين، نعيش معا تحت سقف واحد نعم، ولكننا نعيش كالأخ والأخت لا كالزوج والزوجة..
تذكر في سره أن هذا الوضع يشبه وضعه مع زوجته، كتم في أعماقه ولم يفصح خشية أن تنفر منه أو تشعر بأنه رجل بارد كزوجها الذي تشكو منه، و كنوع من التطهير سره أن يسمع بحدوث هذا عند آخرين!
وحانت منه محاولة لرؤيتها فأخرج القداحة من جيبة الأيمن، وأخرج علبة سجائره من الجيب الأيسر، وضغط زناد القداحة فأضاءت في الظلمة ضوءا خافتا رفعه إلى الأعلى، وباءت محاولته بالفشل، فلم يتمكن من رؤية وجهها، ولكنه استطاع أن يتبين شفتيها المصبوغتين بالفوشيا، وخجل أن يعيد الكرة فأعاد القداحة إلى مكانها دونما إشعال شيء.
في الخارج، كانت العاصفة اللطيفة قد انقلبت إلى وحش شرير،يومض بالبرق الخاطف، ويزأر بصوت الرعد المخيف، واستحالت حبات الندى البطيئة المهذبة، استحالت إلى خطوط متصلة من المياه الغزيرة، لا تعرف الاستئذان قبل أن تدخل، ولا تدق أبواب أرضيات الشوارع، وأغصان الأشجار، وأسطح المنازل والمباني برفق كما كانت تفعل. فترة من الهدوء سادت بينهما، وكالمطر الذي لا يأخذ الإذن، شعر الرجل بشبح الرغبة يخيم على عقله، امرأة.. وظلام.. وشفتان تلمعان وتغريان بالتقبيل، وبينما هو مستغرق في إحساسه المضطرم، ونيران أشواقه التي أخذت حدتها في الازدياد شيئا فشيئا..قطعت المرأة هدوء الصمت قائلة:
- أيها السيد..أريد أن أعترف لك بسر..أنت رجل غريب وأنا..
- وكأنه يعرف بالضبط ما كانت ستقوله له، لم يسء فهمها، ولكنه قال مكملا لحديثها:لا أعرفك، ولا تعرفني، وهذه هي ميزة الإفضاء بالأسرار إلى أشخاص غرباء ربما لن تراهم أبدا لمرة ثانية..هذا يجعل الإنسان يشعر بالراحة.
- أدهشتها سرعة بديهته وفهمه التام لما أرادت قوله فأضافت قائلة:
نعم بالضبط..هذا ما أردت قوله، حينما تفضي بسرك إلى شخص غريب فهذا يعني أن سرك قد سقط في بئر عميق لن يخرج منه، وإن خرج فلن يصيبك بخروجه الضرر، يمكنك أن تفعل ذلك دونما حتى أن تذكر له اسمك، من المؤكد أن معارفك ليسوا هم معارفه أنفسهم، ومحيطه الاجتماعي ليس هو محيطك، وكل ما يتعين عليك فعله هو أن تفضي له فقط بمكنون صدرك دون أن ينتابك القلق، ولا تخش بعد ذلك من أن يعرف كل أولئك ممن لا تريدهم أن يعرفوا أو بعضهم بهذا السر..
- نعم..صحيح، أين سيلتقي بهم ليخبرهم بهذا؟ بل وأين ستجدينه بعد ذلك؟ لتشعري بخجل المواجهة للمرة الثانية..وبأن لحظة بوحك بسرك الكمين كانت لحظة ضعف..من المؤكد أنه سوف ينصت إليكِ بكل اهتمام، وبتواضع شخص لا يجد حرجا فيما يسمعه، لأنه يضع نفسه مكان صاحبه، ويدرك أنه كان معرضا للوقوع في الخطأ نفسه، لو كان- على سبيل القدر الذي نجهل قوانينه – ليس هو، وكان شخصا آخر! ودون تحيز، أرجو أن تثقي تماما وتتأكدي من أن حكمه سوف يكون موضوعيا.
تشجعت المرأة وقالت:أريد أن أعترف لك..ولا أعرف لماذا؟ أشعر بأنني مدفوعة إلى هذا الاعتراف دفعا! شيء غريب، ولكن، أعترف لك بأنني أ..أخون زوجي منذ فترة..
خلع الرجل نظارته وقال متظاهرا بالحكمة: إن هذا لأمر لا يبعث على دهشتي، ولا ينبغي له أن يبعث على دهشة أي رجل عاقل، فامرأة جميلة مثلك، تعيش مع رجل بارد ومشغول طول الوقت، ماذا سيصبح بوسعها أن تفعل غير ما فعلتِهِ؟
- جميلة، ولكنك لم ترني!
- إني أرى بعين قلبي!..( هامسا بخفوت )
وسكت برهة ثم قال:تعزيزا لهذه اللحظات الجميلة، ورغبة في أن تكون الثقة بيننا متبادلة، أود لو أفضيت لكِ بسر أنا الآخر..
- نعم يا سيدي..بكل سرور واهتمام..تفضل..
- أنا أيضا أخون زوجتي منذ فترة و..
صاحت المرأة بابتهاج طفل صغير:هاهي الأنوار قد عادت من جديد، وستنتهي معاناتنا في هذا المكان الضيق، ولن نستمر معلقين في الهواء..
كانت تتحدث بمرح وجدية، والتفتت تنظر إلى وجهه..
كان واقفا في ذهول، فمه بين المغلق والمفتوح، وعيناه مثبتتان عليها.. فوجئ الرجل، وفوجئت هي أيضا، لقد كانت زوجته، ولكن الرغبة التي كانت تسيطر عليه، جعلته يؤجل تلقيه للصدمة فهوى على وجهها يمطره بالقبلات والدموع تنهمر من عينيها بحرارة وغزارة، كانهمار صنبور مياه ساخن.
.تمت.
مع الشكر للأستاذ محمد فهمي يوسف فقد صحح لي ثلاثة أخطاء نحوية كانت موجودة في القصة.
تعليق