قصة قصيرة...أسود الرأس

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • مختار سعيدي
    أديب وكاتب
    • 15-09-2009
    • 93

    قصة قصيرة...أسود الرأس

    قصة قصيرة

    أسود الرأس

    توقفت الحافلة لأول مرة أمام (دار الكولون) ونزل رجل يتجاوز الستين من العمر ، يجمع سيم الموقح ، بادية عليه علامات الانصهار في آتون المحن ، مفرطح الرأس موخوط ، مسطح الأنف ، مسترخ الجفون ، يضع نظارات يعتليها جبين كتبت عليه سطور الغبن ورسمت على خدوده آثار التعب ، حالق الذقن والشوارب ، يشد بأنيابه شبكا هولنديا ، يرتدي بذلة (شانقاي أزرق) بيده اليمنى عصا ويحمل بالأخرى قبعة مرسيلية ، شد بمظهره الغريب أنظار جميع الركاب ، وأخذ التساؤل بمجامع ظنونهم ، وبدا الاستغراب بكل جرأة في ملامح وجوههم .. انطلقت الحافلة بكل صعوبة بعد أن قطعت حبال الفضول ، كأنها ستار وانزاح عن وجه العجوز ، امتدت اللوحات من قدميه الى الأفق .. عن يساره قرية في حركة بطيئة ، كأنها ملجأ العجزة ، سلبت منها المدينة حيويتها ونشاطها ، جرداء ، ترتدي لباس الاسمنت الذي أكلت عوامل الفصول ألوان طلائه ، بجانبها مقبرة للعتاد الفلاحي الروسي الغموس ، كأنها ورشة للعب الأطفال ، أمامه سهل المسيو(ف) الذي أوقف امتداده جبل أولاد الشيخ (فلان) دار مزرعة الرومي لازالت قائمة يسكنها الرعاة بعد أن هجرها الفلاحون ؛ لم تفقد سوى جمالها ونظافتها ، لا شك أن التجارب هي السبب في هذا الاهمال الفظيع ، فمن التعاونيات الى التسيير الذاتي الى الثورة الزراعية الى المجموعات ، ومن يدري لعل عودة الاقطاع قاب قوسين أو أدنى وتصبح ألف قرية وقرية أسطورة بومدينية عاشها الفلاحون في النوم ، تنسج حولها الحكايات ويحكمها خبر كان يا ما كان ، ألم تكن خرافة قبل وجودها ؟ وقال الفلاحون عن مشروعها " الدولة تعطينا الأرض والجرار والحاصدة والسكن .. والماء والكهرباء وتدفع لنا الأجور دون أي مقابل (هدي في السليما وما لعبتش) لكن لعبت وانتهى الشريط بسرعة وصدق من قال " دوام الحال من المحال " عن يمينه المقبرة ، لا تختلف كثيرا عن مقابر مرسيليا ، السرو وأشياء أخرى ، قبورها مرتبة كأنها حديقة تزخر بمظاهر المدنية المتذوقة لجماليات الهندسة المعمارية ، قبور قديمة استوت مع البسيطة وقبور حديثة مجصصة كأنها عروش ، توقف عند بعضها ، سلم على الدار البيضاء (قبة سيدي) وانصرف .
    هنا كانت خيم بني فلان ، حتى الأطلال طمست ، كانت طريقهم رخاء وكلابهم مكممة ، وجيادهم مسروجة ونارهم جارية فارسية ، وعراصهم مفروشة .. هكذا كانوا واستكانوا ، اندثروا ، كأن ما جمعته القبيلة في قرون شتتته المدنية الكاذبة في عشرية واحدة ، هي وحدها مخلصة ولا تزال ، وعساء واثنة تجود بطيبات دخيلتها وتجزل العطاء مقابل حبيبات ندى الكادحين التي تعتصرها من الجبين الهرم ، تستخرجها أجاجا وتستخلص من خامها حلاوة الكرامة وذهب الشرف والتعفف ، يزينها الوادس الزاهي ويطربها البرقش على ايقاع وكوف بواسق السحاب التي رسمتها لمسات أبريل الأخيرة ، تتخللها بسمات سمائه الصبوح ، يغسل ذلك الغيث بكل لطف تباريج الغناء الممتدة على وثار بدوة الوادي الوسنى الى الضاجع الغضبان .. يا سبحان الله ، تغير كل شيء هنا ، حتى البثوق التي كان يقف عليها البوم الأحمق كل ليلة ، يعكس بعيونه البجاء ضوء القمر ، غطتها الأغصان التي تفرعت وورقت ، والوشل الذي كان يطرب النفوس وكانت جداوله مسقاة لليرقاء والوراشين الأليفة أصبح مشربا للذئاب والخنازير ، تتمتع وحدها بوهيج الربوة الذي كان مرتعا لهواجس الشعر الملحون ، يهيج غرائز القارحة فتظهر عليها بوادر هذيان الحسناء اللطيف في مقامات الوصال ، يغتصب في الخفاء البراعم المتطفلة باسم الحفاظ على الوزن والتوازن في الطبيعة التي لا تريد أن تخالف السنن .
    لما بلغ المنعطف ، امتد أمامه المسلك ثانية ، تحفه من الجانبين أنواع مختلفة من النباتات الطفيلية اليافعة ، تغني على وشوشتها ورقصاتها الأوابد وغردت عليها القواطع ، وعزف العبير الرطب سمفونيته الخالدة على أغصان الصفصاف التي انحنت وتدنت ، تحي الثعالب التي قضت على السناجب ، تعاتب بكل تواضع القادم بعد جفاء وغياب طويل .. الأوراق التي سقطت وتراكمت على الدرب ، عبر السنين الماضية تئن تحت وطأته بخشخشتها الحزينة ، أثارت في نفسه الشجون وهسهاس الحنين الذي حركه من جديد اغتراب الهجرة ووحدة النزوح ، حركته هذه الربوع الخالية التي تشكو العقوق بكل أشكاله ، هضلاء ، ضرعاء ، غناء تعمرها الصراصير في الصيف والثعالب في الشتاء .
    وقف كاليفن وسط البهو ، يجتلي ما حوله ، يجتر بعد تخمة وضيمة التروي الذي وأدته في أعماقه آنذاك الأراجيف ، يستعيد في وجم ذكرى ذلك اليوم العاق الذي هزمته فيه نزعة مدنية الفرانسيس فكفر بأرضه ، بهذه الأرض في وطنه ، وكفر بالسماء في غربته ، فكتب القلم عليه سنوات المهانة المزخرفة برماق العدل والرحمة ، وها هو ذا يعود الى دياره اليوم مدؤوما مدحورا ، يتجول بنظر استورد بصيرته ، كأنه في متحف فلاحي عرضت فيه أدوات فلاحي العقود البعيدة ، جلس على أسكفة الباب ، لمط بلسانه زبد الغيظ الذي تشكل حول تلك الشفاه التي تورمت من تناول المشروبات الروحية ، الآن فقط أحس بمرارة كؤوس الحنظل المتموجة التي كانت تتلألأ على الضفة الأخرى من النهر الأبيض الذي كان يفصل بيننا وبينهم ، وعرف أن الجسر الذي وضعوه آنذاك كان للسلب والنهب ، والنفق الذي حفروه أخيرا لتمرير الأبهرين هو تأكيد لنظرية امتداد أرضهم تحت البحر وتوثيق رابطة التبعية وتمرير أدوات الانسلاخ فوق الماء وتحت الماء وما بين الأرض والسماء ، ولما رفضت الأرض الملقحة بالثوابت والثورات الخالدة ، انصاع الانسان الذي فقد المناعة ،فنزل من الجبل الى أدغال المدن يعيش مع الطفيليين على فضلات الشرق والغرب ، تأود به سبيل المبتغى الحالم وهلكت على قارعته كل الأصول وسقط السطاع ، الكل يعاني اليوم رسيس الفوز الذي بناه النزوح على الرسيلة يحسبه سرمديا ..
    مكظظ ينظر الى نفس مغرورة أهلكتها المتالب وأرهقتها ، وصدق عليه المثل القائل " أراد الغراب أن يمشي مشي الحمامة ففقد مشيته " أخرج من جيبه أوراقا نقدية (من العملة الصعبة) وبدأ يقلبها ، لم يحس هذه المرة بالنشوة والسعادة التي كانت تغمره ، لأن هذه الفرنكات لا تكفي لشراء العدس المستورد ، فشمر على سواعده الهرمة ليتوضأ ويصلي صلاة المتقاعدين على شباب أفناه في خدمة أمة بنت حضارتها ومدنيتها بدم وعرق الشعوب المستضعفة ، وهو يقول في قرارة نفسه " خدعونا مرتين " فاذا لم تكن للنقود رائحة كما يقولون ، فان للدم والعرق في هذه الأرض روائح وألوانا ، يا حسرتي ، وهل يأتي اليوم الذي يتغلب فيه مد البحر على جزرنا فنستعيد الجبال الطارقة ، ونصنع للتاريخ مقام (المسيو فرج) على الضفة الأخرى من البحر ؟ .. هكذا نشهد بالعدل للرب الذي يؤمنون به وبالصدق للابن الذي يقدسونه وبالنزاهة للروح التي يطهرونها . وبدأت دموعه تتساقط لأول مرة كأنها بردادة قلب كساه الحديد ،تصقله جنايات السوابق ويسحقه الندم بين ضرتيه ..

    مختار سعيدي
    \\\\\\\\\\\\\\\

    حريتنا في الحلم بركان ... لا يعرف أحد متى يثور ... هكذا نمارس الكتابة ...



  • ربيع عقب الباب
    مستشار أدبي
    طائر النورس
    • 29-07-2008
    • 25792

    #2
    نحت في مفردات اللغة
    الكثير منها بني على المهمل
    و لكنها تحمل مذاقا خاصا ، له رونقه ، وجماله بلا ريب !

    عودة خاسرة
    و ذاكرة مفخخة بما كان
    تحمله وهنا على وهن ، حيث هنا تغير كل شىء ، تعرت الأرض من جمالها الذي كان
    هنا .. و بعد ضياع الأحلام لم يبق سوى التمني و البكاء على ما كان !

    مررت من هنا
    فرأيتك نائما ، فانسحبت دون أن أحدث ضجة
    فنم بعد طرح قصتك
    و قم بعد انصرافي مباشرة !

    محبتي
    sigpic

    تعليق

    • عائده محمد نادر
      عضو الملتقى
      • 18-10-2008
      • 12843

      #3
      الزميل القدير
      مختار سعيدي
      أتصور أن النص طال منك في الوصف
      رأيته استهلالا لبداية قصة طويلة او رواية قصيرة
      لكني لمست تلك الحرقة بين ضياع العمر ولحظة العودة
      برأيي لا يهم متى نعود المهم أن نعود بأسرع ما نستطيع وأن لا نترك الغربة تجلدنا حد تغيير جلودنا
      لمست غربة ( النفس ) بين سطورك وتلك أقسى أنواع ( التغرب التي يعيشها الإنسان ) هي غربة على أرض الوطن
      أحسست بحنين لأيام خلت ترجمتها الأسطر وأنت ( أي البطل ) ترى أن الأرض أصبحت جدباء وتغير كل شيء حتى الملامحز
      هل كان ( ديناصورا ) يمشي في القرن الواحد والعشرين
      يصفونني بأني ( ديناصورة ) في القرن الواحد والعشرين لأني مازلت أؤمن أن هذه الأرض لن تخرج إلا الخير وأن لا يصح إلا الصحيح
      ودي ومحبتي لك سيدي الكريم وبودي دعوتك لقراءة نصوص الزميلات والزملاء وإبداء الرؤية حولها كي نتبادل الخبرات هكذا نتعامل هنا وكي يستفيد الجميع من الجميع حتى لو برأي صغير
      هلا وغلا بك بيننا
      الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

      تعليق

      • مختار سعيدي
        أديب وكاتب
        • 15-09-2009
        • 93

        #4
        المشاركة الأصلية بواسطة ربيع عقب الباب مشاهدة المشاركة
        نحت في مفردات اللغة
        الكثير منها بني على المهمل
        و لكنها تحمل مذاقا خاصا ، له رونقه ، وجماله بلا ريب !

        عودة خاسرة
        و ذاكرة مفخخة بما كان
        تحمله وهنا على وهن ، حيث هنا تغير كل شىء ، تعرت الأرض من جمالها الذي كان
        هنا .. و بعد ضياع الأحلام لم يبق سوى التمني و البكاء على ما كان !

        مررت من هنا
        فرأيتك نائما ، فانسحبت دون أن أحدث ضجة
        فنم بعد طرح قصتك
        و قم بعد انصرافي مباشرة !

        محبتي
        ..........................................
        أيها الأستاذ الفاضل ربيع عقب الباب
        كالناموس نزلت كلماتك على نفسي ، كالرؤية الصادقة ، كالنسمة اللطيفة ، كقطعة موسيقية طاب على ايقاعها النوم .. هكذا يا سيدي كنت أشعر بك ، و لما استيقظت تحقق حلمي ..هناك مثل فرنسي يقول..il faut se reveiller pour realiser son reve
        أشكرك على هذا الحضور الجميل الذي زين النص و أطرب النفس .
        أفتخر حد الغرور لما يقرأ لي مثلك
        تحياتي و تقديري
        مختار سعيدي


        تعليق

        • مختار سعيدي
          أديب وكاتب
          • 15-09-2009
          • 93

          #5
          المشاركة الأصلية بواسطة عائده محمد نادر مشاهدة المشاركة
          الزميل القدير
          مختار سعيدي
          أتصور أن النص طال منك في الوصف
          رأيته استهلالا لبداية قصة طويلة او رواية قصيرة
          لكني لمست تلك الحرقة بين ضياع العمر ولحظة العودة
          برأيي لا يهم متى نعود المهم أن نعود بأسرع ما نستطيع وأن لا نترك الغربة تجلدنا حد تغيير جلودنا
          لمست غربة ( النفس ) بين سطورك وتلك أقسى أنواع ( التغرب التي يعيشها الإنسان ) هي غربة على أرض الوطن
          أحسست بحنين لأيام خلت ترجمتها الأسطر وأنت ( أي البطل ) ترى أن الأرض أصبحت جدباء وتغير كل شيء حتى الملامحز
          هل كان ( ديناصورا ) يمشي في القرن الواحد والعشرين
          يصفونني بأني ( ديناصورة ) في القرن الواحد والعشرين لأني مازلت أؤمن أن هذه الأرض لن تخرج إلا الخير وأن لا يصح إلا الصحيح
          ودي ومحبتي لك سيدي الكريم وبودي دعوتك لقراءة نصوص الزميلات والزملاء وإبداء الرؤية حولها كي نتبادل الخبرات هكذا نتعامل هنا وكي يستفيد الجميع من الجميع حتى لو برأي صغير
          هلا وغلا بك بيننا
          .....................................

          أيتها القديرة عائده محمد نادر
          لمثلك نكتب ، و بهذه الشهادات نتألق ، لأن أعظم هدية للكاتب عندما يجد من يتفاعل مع نصه ، و يشاركه نفس المشاعر ، و يتقاسم معه الفرحة و الألم ، و يشعره بوجوده .
          لك كل الشكر سيدتي ، تواجدك هذا أثلج الصدر .
          دام هذا التواصل الجميل ، أزهر و أثمر
          تقديري و احتراماتي
          مختار سعيدي

          التعديل الأخير تم بواسطة مختار سعيدي; الساعة 29-11-2011, 19:34.

          تعليق

          يعمل...
          X