وقفت بمحطة الحافلة غير بعيدة عن المظلة وهي تتأبط بعض الكتب ودفاتر دون حقيبة .. وقفت تنتظر ( الحافلة ) باتجاه مدرستها الجديدة ..
انبثقت أفكار مشوشة عن الطريق وركاب المركبة وزميلات المدرسة.
تحسست ( ضفائر شعرها ) للتأكد من ثباتها..
ولامست أصابعها مصروفها في جيب زيها المدرسي..
حشرت جسدها النحيل بين الركاب وجلست مبهورة ..
بحلقت من النافذة تراقب بيتهم وهو يبتعد رويداً رويداً ..
دخل مرمى بصرها منظر آخر غير الذي اعتادته في طفولتها.
ها هي الأيام تلوك تروس حياتها الرتيبة وتمضغها بين طياتها لتلفظها في صفحة جديدة من صفحات الحياة ..
تداعى إيقاع حياتها في مخيلتها منذ أن عرفتْ هذا الشارع وقبل أن تقوم المظلة منتصبة في منتصف الشارع لتكون متكئا وملجئا للسابلة...
فقد ظلت طوال أيام طفولتها تقطع الشارع مسرعة وهي تتلفت يمنة ويسرة عملاً بنصيحة أمها..
لم تكن تعلم بأن مظلة ( المحطة ) هذه ستكون جزءاً من حياتها يوماً ..
بل وستشكل إطار أيامها القادمات.
كانت المحطة كبيت عرس كبير .. يجتمع الناس مثرثرين ثم تختفي كل الشخوص، ولا يبقى منها ما يحفّز الذاكرة لاسترجاعها .
يوميا كانت ساقاها وملابسها تتعفر بتراب المارّة والعربات .
مشاويرها بين بيتها وبين ( البقال ) و ( الطاحونة ) و (الفرن ) تجعلها تمر جيئة وذهاباً على الواقفين في انتظار الحافلة، فتصالح لون بشرتها مع لون الشارع وروحها مع نبض الحي بأكمله.
بعد كل مشوار كانت كل حبات الغبار تنزلق تحت مياه (الماسورة ) التي تتوسط الحوض في فناء منزلهم القديم وكأنها تُوُدِع جوف الأرض أسرارها.
تذكر حينما كانت تطأ بقدميها الحافيتين حبات الحصى هنا وهناك غير عابئة، تتقافز وكأنها تلاعب صديقاتها لعبتهن المفضلة، وتذكر تماما كيف كانت تقف كالمتفرجة تشاهد تزاحم الواقفين للصعود على متن ( الحافلة ) المتهالك، وبفضول زائد تتوقف لتعرف من ينزل من الحافلة ومن يصعد إليه .. وتسرد كل شاردة وواردة بالشارع بصوت كالهمهمة :
( الحاجة سعاد .. شايلة السّبَت )
( قريب صديقتي مُنَى جايب معاه كيس فواكه )
( عمة صاحبتي نوسة المجنونة نازلة وبتتكلم مع نفسها )
كانت تراجع أسماء الأطفال في سرها، تلَوِّح لهم غير مبالية عندما توليها الحافلة ظهرها.
نفس الوجوه تمر كل يوم على المحطة..
رأت ( العم سالم ) بحذائه الرخيص يتململ من تسلل موجات الحرارة إلى قدميه من سطح الأرض الملتهبة بأشعة الشمس التي ما فتئتْ ترسل لهيبها منذ بواكير الصباح .. كان يتصبب عرقاً بحيث لا يفلح منديله القطني القصير من جلْب الهواء المعدوم أصلاً، فيظل واقفا وحيداً في انتظار ( الحافلة ) الذي لا تبدو أي بارقة أمل في وصولها، فيستند على حافة المظلة الأسمنتية، تلسعه حرارة الإسمنت فيبتعدعنها ينظر إلى جهة قدوم الحافلة كمن يبحث عن مواساة بالبحلقة بعيداً.
نفس الوجوه تتْرَى على المكان .
الغريب عن المكان يبدو كالوشم في ظاهر اليد.
سقف المظلة كان لا يقي من زخات المطر المتلاحقة، ولاينقذهم سوى قدوم (الحافلة) تطلق صافرة كأنها آتية من جسم آخر، تتمايل وكأنها سترتاح طويلاً في ظل المظلة الذي لا يكفى الواقفين.
أحكمتْ رباط الحزام وتأكدتْ من لمعان الحذاء .
تفرستْ في الوجوه، لا غريب في المكان إلا شاب واحد تعتقد أنه يسترق النظرإليها.
ظلتْ تسمع يوماً بعد يوم صوتاً كانت تتخيله شخصاً يراجع دروسه هنا في العراء، أو كمن يقرأ من ( صحيفة يومية ) .
كانت لا تعير الصوت اهتماما، ولكنه كان كالذي يُلح عليها بأن تلتفتْ لترى المصدر .
ذات يوم وبحذر ألتفتت نحو مصدره.، فوجدته يبتسم لها ويكرر نفس الكلمات ، فتفحصته بسرعة من قمة رأسه إلى أخمص قدميه.
كان متأنقاً رغم ملابسه الرخيصة، يعج شعر رأسه بسائل لامع، ينحدر سائلاً قليلاً على جبهته بفعل الشمس.
فابتسمت وهي تتذكر بقايا زجاجة ( الكريم ) الفارغة التي دلقتْ بداخلها بعض الماء هذاالصباح ليجود عليها ببعض ما تعلق بأركانه التي لعقتها أصابعها يوماً بعد يوم.
تمادى الشاب قليلاً، فرمى لها بورقة جرفتها نسمة هواء مباغته بعيداً، فتبعها بناظريه وهو يتحاشى نظرات الواقفين الممتعضة.
وجدته يوماً جالساً بقربها مبهور الأنفاس في مقعد الحافلة، لا يكاد يجرؤ على النظر في عينيها.
عندما حاول أن يدفع عنها ثمن التذكرة، عاجلتْ ( الكمساري) بالثمن بنظرة احتجاج صامتة، فلامست ذراعها وجهه .
أحستْ بإنتفاضته وتبعثر كيانه، والعرق يتصبب منه ليبلل ياقة القميص، وأزدرد ريقه بصوت مسموع.
نهضتْ، فأفسح لها المكان وهو لا يجرؤ على النظر إليها، إنزلقت هابطة في محطة وُجْهَتها، وهي تكتم ضحكة تعربد بدواخلها.
ظلت المحطة كما هي.، والحافلة تلفظ فوجاً من البشر وتبتلع في جوفها كتلاً أخرى من الركاب.
وقف نفس الشاب الغارق في عشقه وقف في حيرة بسبب غياب الفتاة كل هذه المدة.
لا يدري من يسأل .
تقدم من العجوز وسألها بصوت خفيض : البت اللي كانت بتمشي المدرسة كل يوم .. غايبة ليها كم يوم.. إن شاء الله خير ؟
رمقته العجوز وقالت بامتعاض : روح أسال عليها في بيتها
ورمته بنظرة لها مغزى ..
تراجع إلى الخلف يلوك حيرته وامتعاضه.
جاءت الحافلة تتهادى متمايلة كعادتها، تلفظ وتبتلع في جوفها أكوام البشر، وتسارعت في معيتها بقايا أوراق من الصحف القديمة وأكياس النايلون على أسفلت الشارع المتآكل، ثم وقف بعضها ليرتاح بالقرب من الكتل البشرية المتراصة في لا مبالاة وواصلت البقية ركضها كأنها على موعد في مكان آخر.
مرت ( شاحنة تحمل شحنة رمل ) فهالت على الواقفين زخات من( الرمال المتطايرة ) ..
ومرقت عربة مكشوفة يتكدس بصندوقها عدد من أفراد الشرطة فرمقهم المنتظرون بنظرة خاوية لا معنى لها .
بين مرور عربة وأخرى، كان الصمت يخيم مطبقا على الجو، كلٌّ غارق في دنياه وأمورها..
تهادت سيارة فارهة تسير على مهل وكأنه متعمَّد .
إنفتح زجاج السيارة مع هبة هواء ساخنة من السموم ، ذكرته بالورقة التي رماها لفتاته ..
لمحها على مقعد السيارة، هي بعينها ..
رمته بنظرة سريعة وسرعان ما تحولتْ مبتسمة إلى سائق العربة الفارهة .
أحس بأن سقف مظلة المحطة قد أمتد ليغطي الشارع كله، وأنه هو الوحيد الواقف في المحطة .
تبعها بعينيه بنظرة بلهاء، حتى توارت عن الأنظار ..
إنتابه شعور لا هو بالغضب أو الامتعاض، و دخل في نوبة خواء روحي شامل.
أحس بأن أحداً يتفحصه خلسة .
فألتفت، ليرى العجوز التي سألها عنها تنظر إليه وفي عينيها سؤال يكاد يفصح عن نفسه .
عندما أتت الحافلة، كان أول المندفعين إلى داخله يشق صفوف الزحام.
انبثقت أفكار مشوشة عن الطريق وركاب المركبة وزميلات المدرسة.
تحسست ( ضفائر شعرها ) للتأكد من ثباتها..
ولامست أصابعها مصروفها في جيب زيها المدرسي..
حشرت جسدها النحيل بين الركاب وجلست مبهورة ..
بحلقت من النافذة تراقب بيتهم وهو يبتعد رويداً رويداً ..
دخل مرمى بصرها منظر آخر غير الذي اعتادته في طفولتها.
ها هي الأيام تلوك تروس حياتها الرتيبة وتمضغها بين طياتها لتلفظها في صفحة جديدة من صفحات الحياة ..
تداعى إيقاع حياتها في مخيلتها منذ أن عرفتْ هذا الشارع وقبل أن تقوم المظلة منتصبة في منتصف الشارع لتكون متكئا وملجئا للسابلة...
فقد ظلت طوال أيام طفولتها تقطع الشارع مسرعة وهي تتلفت يمنة ويسرة عملاً بنصيحة أمها..
لم تكن تعلم بأن مظلة ( المحطة ) هذه ستكون جزءاً من حياتها يوماً ..
بل وستشكل إطار أيامها القادمات.
كانت المحطة كبيت عرس كبير .. يجتمع الناس مثرثرين ثم تختفي كل الشخوص، ولا يبقى منها ما يحفّز الذاكرة لاسترجاعها .
يوميا كانت ساقاها وملابسها تتعفر بتراب المارّة والعربات .
مشاويرها بين بيتها وبين ( البقال ) و ( الطاحونة ) و (الفرن ) تجعلها تمر جيئة وذهاباً على الواقفين في انتظار الحافلة، فتصالح لون بشرتها مع لون الشارع وروحها مع نبض الحي بأكمله.
بعد كل مشوار كانت كل حبات الغبار تنزلق تحت مياه (الماسورة ) التي تتوسط الحوض في فناء منزلهم القديم وكأنها تُوُدِع جوف الأرض أسرارها.
تذكر حينما كانت تطأ بقدميها الحافيتين حبات الحصى هنا وهناك غير عابئة، تتقافز وكأنها تلاعب صديقاتها لعبتهن المفضلة، وتذكر تماما كيف كانت تقف كالمتفرجة تشاهد تزاحم الواقفين للصعود على متن ( الحافلة ) المتهالك، وبفضول زائد تتوقف لتعرف من ينزل من الحافلة ومن يصعد إليه .. وتسرد كل شاردة وواردة بالشارع بصوت كالهمهمة :
( الحاجة سعاد .. شايلة السّبَت )
( قريب صديقتي مُنَى جايب معاه كيس فواكه )
( عمة صاحبتي نوسة المجنونة نازلة وبتتكلم مع نفسها )
كانت تراجع أسماء الأطفال في سرها، تلَوِّح لهم غير مبالية عندما توليها الحافلة ظهرها.
نفس الوجوه تمر كل يوم على المحطة..
رأت ( العم سالم ) بحذائه الرخيص يتململ من تسلل موجات الحرارة إلى قدميه من سطح الأرض الملتهبة بأشعة الشمس التي ما فتئتْ ترسل لهيبها منذ بواكير الصباح .. كان يتصبب عرقاً بحيث لا يفلح منديله القطني القصير من جلْب الهواء المعدوم أصلاً، فيظل واقفا وحيداً في انتظار ( الحافلة ) الذي لا تبدو أي بارقة أمل في وصولها، فيستند على حافة المظلة الأسمنتية، تلسعه حرارة الإسمنت فيبتعدعنها ينظر إلى جهة قدوم الحافلة كمن يبحث عن مواساة بالبحلقة بعيداً.
نفس الوجوه تتْرَى على المكان .
الغريب عن المكان يبدو كالوشم في ظاهر اليد.
سقف المظلة كان لا يقي من زخات المطر المتلاحقة، ولاينقذهم سوى قدوم (الحافلة) تطلق صافرة كأنها آتية من جسم آخر، تتمايل وكأنها سترتاح طويلاً في ظل المظلة الذي لا يكفى الواقفين.
أحكمتْ رباط الحزام وتأكدتْ من لمعان الحذاء .
تفرستْ في الوجوه، لا غريب في المكان إلا شاب واحد تعتقد أنه يسترق النظرإليها.
ظلتْ تسمع يوماً بعد يوم صوتاً كانت تتخيله شخصاً يراجع دروسه هنا في العراء، أو كمن يقرأ من ( صحيفة يومية ) .
كانت لا تعير الصوت اهتماما، ولكنه كان كالذي يُلح عليها بأن تلتفتْ لترى المصدر .
ذات يوم وبحذر ألتفتت نحو مصدره.، فوجدته يبتسم لها ويكرر نفس الكلمات ، فتفحصته بسرعة من قمة رأسه إلى أخمص قدميه.
كان متأنقاً رغم ملابسه الرخيصة، يعج شعر رأسه بسائل لامع، ينحدر سائلاً قليلاً على جبهته بفعل الشمس.
فابتسمت وهي تتذكر بقايا زجاجة ( الكريم ) الفارغة التي دلقتْ بداخلها بعض الماء هذاالصباح ليجود عليها ببعض ما تعلق بأركانه التي لعقتها أصابعها يوماً بعد يوم.
تمادى الشاب قليلاً، فرمى لها بورقة جرفتها نسمة هواء مباغته بعيداً، فتبعها بناظريه وهو يتحاشى نظرات الواقفين الممتعضة.
وجدته يوماً جالساً بقربها مبهور الأنفاس في مقعد الحافلة، لا يكاد يجرؤ على النظر في عينيها.
عندما حاول أن يدفع عنها ثمن التذكرة، عاجلتْ ( الكمساري) بالثمن بنظرة احتجاج صامتة، فلامست ذراعها وجهه .
أحستْ بإنتفاضته وتبعثر كيانه، والعرق يتصبب منه ليبلل ياقة القميص، وأزدرد ريقه بصوت مسموع.
نهضتْ، فأفسح لها المكان وهو لا يجرؤ على النظر إليها، إنزلقت هابطة في محطة وُجْهَتها، وهي تكتم ضحكة تعربد بدواخلها.
ظلت المحطة كما هي.، والحافلة تلفظ فوجاً من البشر وتبتلع في جوفها كتلاً أخرى من الركاب.
وقف نفس الشاب الغارق في عشقه وقف في حيرة بسبب غياب الفتاة كل هذه المدة.
لا يدري من يسأل .
تقدم من العجوز وسألها بصوت خفيض : البت اللي كانت بتمشي المدرسة كل يوم .. غايبة ليها كم يوم.. إن شاء الله خير ؟
رمقته العجوز وقالت بامتعاض : روح أسال عليها في بيتها
ورمته بنظرة لها مغزى ..
تراجع إلى الخلف يلوك حيرته وامتعاضه.
جاءت الحافلة تتهادى متمايلة كعادتها، تلفظ وتبتلع في جوفها أكوام البشر، وتسارعت في معيتها بقايا أوراق من الصحف القديمة وأكياس النايلون على أسفلت الشارع المتآكل، ثم وقف بعضها ليرتاح بالقرب من الكتل البشرية المتراصة في لا مبالاة وواصلت البقية ركضها كأنها على موعد في مكان آخر.
مرت ( شاحنة تحمل شحنة رمل ) فهالت على الواقفين زخات من( الرمال المتطايرة ) ..
ومرقت عربة مكشوفة يتكدس بصندوقها عدد من أفراد الشرطة فرمقهم المنتظرون بنظرة خاوية لا معنى لها .
بين مرور عربة وأخرى، كان الصمت يخيم مطبقا على الجو، كلٌّ غارق في دنياه وأمورها..
تهادت سيارة فارهة تسير على مهل وكأنه متعمَّد .
إنفتح زجاج السيارة مع هبة هواء ساخنة من السموم ، ذكرته بالورقة التي رماها لفتاته ..
لمحها على مقعد السيارة، هي بعينها ..
رمته بنظرة سريعة وسرعان ما تحولتْ مبتسمة إلى سائق العربة الفارهة .
أحس بأن سقف مظلة المحطة قد أمتد ليغطي الشارع كله، وأنه هو الوحيد الواقف في المحطة .
تبعها بعينيه بنظرة بلهاء، حتى توارت عن الأنظار ..
إنتابه شعور لا هو بالغضب أو الامتعاض، و دخل في نوبة خواء روحي شامل.
أحس بأن أحداً يتفحصه خلسة .
فألتفت، ليرى العجوز التي سألها عنها تنظر إليه وفي عينيها سؤال يكاد يفصح عن نفسه .
عندما أتت الحافلة، كان أول المندفعين إلى داخله يشق صفوف الزحام.
تعليق