الإبداع... والصيف
جميل داري
يعيدني الصيف إلى طفولتي الأولى.. إلى حبوي على عشب البراءة والذهول... ما زلت أتذكر النجوم التي كانت تملأ نفسي بالضياء والغبطة والدهشة... كان ثمة نجمان عاشقان متقاربان.. لم أعد أراهما الآن... هذا في الليل.. وفي النهار كنت أتامل سنابل القمح الشامخة وهي تتماوج كبحر من الذهب.. فأمشي بينها بخوف وتوجس من ثعبان هرم راقد في ظلها.. أو حشرة حرة ذات مملكة محصنة بالهواء والتراب أو "القازي مازي" الذي انقرض منذ هبوب ريح العولمة..
ومنذ جلوس الحلم المهيض على عرش المنفى الذي أضحى بوصلة الغرباء الذين لا "طوبى لهم" بعد اليوم... وكبر الطفل الذي كنت.. لكنه في الجوهر ظل طفلا طاعنا في الأبجدية.. خازنا ذكريات البيادر والنجوم والسنونو.... والسماء التي أصبحت سقفا لقصيدتي التي "تأتي ولا تأتي"... لن أطيل... فكلما جاء الصيف اندلعت في الروح مشاعر كانت كامنة..... هاجعة إلى عهد قريب.. حيث تستنفر جوارحي وتتأهب لحديث الروح... وزيارة "منازل لها في القلوب منازل"
لست أدري بالضبط سبب تعلقي بالصيف......؟ أهو الخلاص من روتين ورتابة التدريس أم هو استعادة تلكم الصور القديمة المتجددة..؟ تلك التي سجلتها في كل قصيدة من قصائدي التي تضج بموسيقا الصيف وهوامه الشاردة وجنادبه الشادية... وتتوهج بضوء القمر الفضي الذي ما زالت آثاره محفورة في أطلال الروح.. وظلاله الهاربة..
بشكل عام.. العمل الإبداعي ليس له وقت محدد... فقد يباغتك قبل جرح... أو بعد منتصف الحنين أو في عز الألم والأمل.. فهو ضيف مفاجئ - ولا يلام- لهذا كتبت قصائدي في كل الفصول.. لكن أقربها إلى نفسي ما كتبته في صباحات الصيف حيث صمت الطبيعة...... ما عدا صخب وشغب جوقة العصافير التي تملأ مسامات الروح شعرا وصفاء...هذا لا يعني أن الخريف ليس حبيبي وأنا الآن في خريف العمر.. فقبل عشرين عاما كانت لي قصيدة عنوانها "الخريف " تنتهي بما يأتي: "يأتي كعادته الخريف... فأحتمي بالغيم.. والريح الهبوب.. والخطايا..."
لا أخال مبدعا إلا والفصول الأربعة أحباؤه وأولاده... وقد يفضل هذا على ذاك.. قليلا أو كثيرا...لكنها كلها تشكل لحنه العذب وومضه السلسبيل... كما فعل صاحب كلمات أغنية فريد الأطرش" الفصول الأربعة" وبعضهم يسميها "الربيع".... دون وجه حق ..!
لقد ارتبط الصيف بالخمول في الأذهان.. ولا أظن أن هذه التهمة صحيحة.. بالعكس تماما.. ترى الناس جميعا في نشاط كبير... المزارعون.. الرعاة... الشعراء ..العشاق...المجانين..إلخ ..
أما على المستوى الإبداعي فلا أشعر بأي خمول أو فتور فيه.... بل تزداد وشائجي بالكلمة التي تخفف عن الروح هجير الصيف... فأكتب عن تبرمي مني ومن غيري ومن الزمان والمكان ...
في الصيف أشعر قليلا أن الأرض أكثر اتساعا.. والسماء أكثر زرقة كما أشتهي...والمسافة بيني وبيني تنأى وتدنو.. لذلك أضرب في مناكب الزمان والمكان.. ممسكا قلمي وورقتي لأسجل ملاحظات الروح على ما يجري حولي وبداخلي..... وأدخل في حالة اعتكاف هي أقرب إلى التأمل في الذات وفي الآخرين وفي الموت وفي الحياة.... بعيدا عن الهموم الشخصية التافهة التي تقزم الإنسان إلى حد التلاشي...لأن هموم الحياة بما رحبت هي التي تجعل الإنسان إنسانا... والشاعرشاعرا....
.
الصيف يأتي بتؤدة وحياء.. ككآبةعذراء ... ومن الآن أهيئ نفسي للانقضاض على أوقات حبالى بالكتابة والقراءة والسفر في عالم الرؤى والأفكار والمشاعر... وفي الدنو من سر الموت والحياة ....
القراءة والكتابة كلاهما متعة حقيقية لا يشعر بها إلا من احترق في أتونهما ثم ولد من جديد..
جميل داري
يعيدني الصيف إلى طفولتي الأولى.. إلى حبوي على عشب البراءة والذهول... ما زلت أتذكر النجوم التي كانت تملأ نفسي بالضياء والغبطة والدهشة... كان ثمة نجمان عاشقان متقاربان.. لم أعد أراهما الآن... هذا في الليل.. وفي النهار كنت أتامل سنابل القمح الشامخة وهي تتماوج كبحر من الذهب.. فأمشي بينها بخوف وتوجس من ثعبان هرم راقد في ظلها.. أو حشرة حرة ذات مملكة محصنة بالهواء والتراب أو "القازي مازي" الذي انقرض منذ هبوب ريح العولمة..
ومنذ جلوس الحلم المهيض على عرش المنفى الذي أضحى بوصلة الغرباء الذين لا "طوبى لهم" بعد اليوم... وكبر الطفل الذي كنت.. لكنه في الجوهر ظل طفلا طاعنا في الأبجدية.. خازنا ذكريات البيادر والنجوم والسنونو.... والسماء التي أصبحت سقفا لقصيدتي التي "تأتي ولا تأتي"... لن أطيل... فكلما جاء الصيف اندلعت في الروح مشاعر كانت كامنة..... هاجعة إلى عهد قريب.. حيث تستنفر جوارحي وتتأهب لحديث الروح... وزيارة "منازل لها في القلوب منازل"
لست أدري بالضبط سبب تعلقي بالصيف......؟ أهو الخلاص من روتين ورتابة التدريس أم هو استعادة تلكم الصور القديمة المتجددة..؟ تلك التي سجلتها في كل قصيدة من قصائدي التي تضج بموسيقا الصيف وهوامه الشاردة وجنادبه الشادية... وتتوهج بضوء القمر الفضي الذي ما زالت آثاره محفورة في أطلال الروح.. وظلاله الهاربة..
بشكل عام.. العمل الإبداعي ليس له وقت محدد... فقد يباغتك قبل جرح... أو بعد منتصف الحنين أو في عز الألم والأمل.. فهو ضيف مفاجئ - ولا يلام- لهذا كتبت قصائدي في كل الفصول.. لكن أقربها إلى نفسي ما كتبته في صباحات الصيف حيث صمت الطبيعة...... ما عدا صخب وشغب جوقة العصافير التي تملأ مسامات الروح شعرا وصفاء...هذا لا يعني أن الخريف ليس حبيبي وأنا الآن في خريف العمر.. فقبل عشرين عاما كانت لي قصيدة عنوانها "الخريف " تنتهي بما يأتي: "يأتي كعادته الخريف... فأحتمي بالغيم.. والريح الهبوب.. والخطايا..."
لا أخال مبدعا إلا والفصول الأربعة أحباؤه وأولاده... وقد يفضل هذا على ذاك.. قليلا أو كثيرا...لكنها كلها تشكل لحنه العذب وومضه السلسبيل... كما فعل صاحب كلمات أغنية فريد الأطرش" الفصول الأربعة" وبعضهم يسميها "الربيع".... دون وجه حق ..!
لقد ارتبط الصيف بالخمول في الأذهان.. ولا أظن أن هذه التهمة صحيحة.. بالعكس تماما.. ترى الناس جميعا في نشاط كبير... المزارعون.. الرعاة... الشعراء ..العشاق...المجانين..إلخ ..
أما على المستوى الإبداعي فلا أشعر بأي خمول أو فتور فيه.... بل تزداد وشائجي بالكلمة التي تخفف عن الروح هجير الصيف... فأكتب عن تبرمي مني ومن غيري ومن الزمان والمكان ...
في الصيف أشعر قليلا أن الأرض أكثر اتساعا.. والسماء أكثر زرقة كما أشتهي...والمسافة بيني وبيني تنأى وتدنو.. لذلك أضرب في مناكب الزمان والمكان.. ممسكا قلمي وورقتي لأسجل ملاحظات الروح على ما يجري حولي وبداخلي..... وأدخل في حالة اعتكاف هي أقرب إلى التأمل في الذات وفي الآخرين وفي الموت وفي الحياة.... بعيدا عن الهموم الشخصية التافهة التي تقزم الإنسان إلى حد التلاشي...لأن هموم الحياة بما رحبت هي التي تجعل الإنسان إنسانا... والشاعرشاعرا....
.
الصيف يأتي بتؤدة وحياء.. ككآبةعذراء ... ومن الآن أهيئ نفسي للانقضاض على أوقات حبالى بالكتابة والقراءة والسفر في عالم الرؤى والأفكار والمشاعر... وفي الدنو من سر الموت والحياة ....
القراءة والكتابة كلاهما متعة حقيقية لا يشعر بها إلا من احترق في أتونهما ثم ولد من جديد..
تعليق