شجرة الجميز

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • بهائي راغب شراب
    أديب وكاتب
    • 19-10-2008
    • 1368

    شجرة الجميز

    [frame="3 98"]

    شجـرة الجـمـــيز


    شجرة الجميز وحدها باقية ، توافقني تدعوني لها ، تأخذني بين أذرعها بحنان ورقة ، الوحيدة التي أدركت بؤسي و شقائي … أدركت آلامي و هروبي أمام أولئك الفصيلة البشرية
    - لولاك يا شجرة الجميز لأصابني الإحباط … لانتحرت من أمد طويل ، لكن اتحادنا و حبنا الذي أدى إليه ردني عن مقصدي السيئ … و ها أنا قف قدامك عاشقا أبدياً و مبشراً بالخلاص الآتي
    - .........................
    - نعم .. نعم .. أسمعك جيداً .. أنتِ مسرورة .. مسرورة جداً لأجلي .. أنا أيضا مسرور لأجـــــــــــلك
    - .........................
    - صدقيني ، لن أتخلى عنك ، سأحارب ، سأناضل ، لن أسمح لأحد أن يصل إليك بسمومه ، لن أسمح لأحد أن تخترقك نظراته الكريهة .
    - .........................
    - و أنت أيضا ستصدين عني الرياح المتوحشة ، وتحتويني بأحضانك … لكم هي دافئة أنفاسك … إني لأستسلم لك بسلام و هدوء إذ أكون مطوقا بين ثناياك المملوءة عمرا و حكمة … و غناء .
    - لكن أخبريني ، أنت حتما عاصرت الكثيرين قبلي ، ولعلك عاصرت جدي و أبي ، أيكون هذا سبب تحاببنا وارتباطنا .
    - .........................
    - ماذا تقولين … الحياة … ، هي التي جمعتنا ليؤنس كل منا صاحبه ، لنقتل و نحن معا الوحدة المقبرة ، ونقف بقوة أمام اغتيال اللحظات المنسية بين هوامش الأيام … وهوامش الصرخات … و هوامش الضحكات .
    - .........................
    - معك حق أفكارنا متوافقة نحب الغناء و العصافير والأزهار ، نحب العيش بسلام و أمان ، بعيدا عن الفوضى ، بعيدا عن الزحام
    - .........................
    - مادمت تقولين بالتوافق الذي بيننا ، فلابد أنك تصدقيني إذ أقول لك أن الشمس أشرقت اليوم من المغرب .. لا .. لا أعتقد أنك ستصدقينني .. بل ستقولين ما يقوله الآخرون .. و أني مجنون .. ستهزئين بي وتضحكين لبلهي … وغبائي اللامعقول .. أليس كذلك .. تكلمي .. قولي لي رأيك بصدق .. أنا مصغ إليك .
    - .........................
    - ما … ما … ماذا تقولين أحقا تصدقين .. كيف … غير معقول … إن أحداً لم يُرِدْ حتى الاستماع لي … فما بالك بأن يصدقني مثلك .. ثم تأتين أنت و تصدقيني بمجرد أن قلت لك أني رأيت الشمس تشرق من مغربها ..
    - .........................
    - ماذا … أنت أيضا رأيتها اليوم تشرق من المغرب … يا سبحان الله … ما هذا التوافق الأكيد بيننا … يبدو أن التصاقنا معا أقوى من تصورنا الخامل … ومن انفعالاتنا القلبية .
    - .........................
    - حقا … تماما … تماما … لكن أخبريني بربك كيف رأيتها … كيف تسنى لك ذلك و قد كنت أعتقد أنني الوحيد القادر على الرؤية … أخبريني …. أخبريني .
    - .........................
    - ماذا تقولين … أحكي لك أنا أولا كيف تسنى لي رؤية الشمس ساعة إشراقها من غير موضعها اليومي … حسنا … سأقول … لكن على وعد بأن تحكي أنت أيضا خبرك كاملا .
    - .........................
    - إذن … سأحكي لك … من أين أبدأ الكلام ، إنه أمر صعب … و قاس … مقزز … لكن سأتحمل لأجلك … كانت ليلة طويلة … طويلة بطول الدهر … لم تنقض أبداً عني ، و كان مطلوبا مني فيها أن أصمد وأن أواصل النوم … و إذا استيقظت .. أن أتقبل بروح رياضية ما يجري أمامي من الأحداث الدرامية العريقة في الفجيعة والضياع … أتتصورين أرادوا أن أقف مشلولا و هم يغتصبون مني زهرتي الوحيدة الأثيرة … اليانعة … أحببت الزهور جميعا … لكن زهرتي حفرت مكانها الخاص في قلبي … غذيتها بدمي … و عشقي … وأَرَقي … و خوفي … غذيتها باسمي وعنفواني و قوتي … لم أستطع العيش بدون عبيرها بعيدا عن لونها … غائبا عن ابتسامتها وميلها وضوئها … لا أستطيع العيش دون أن تدمي شفتاي أشواكها دون أن أحتضنها في الصباح .. أقبلها .. و أرتشف الرحيق من ثغرها المتفتح الرطب كالجنين الذي لم يعرف طعم الهروب و الجفاء .
    اختاروها من دون الزهرات جميعا .. وقفوا عندها طويلا ، طأطأت رؤوسُهم أمامها .. حاولوا مد أياديهم نحوها ، و لكنها انتصبت وأنشبت أشواكها في أعماق نفوسهم … ملأت قلوبهم رعباً فانهزموا عائدين .. انهزموا أمامها ليدبروا أمراً آخر عندما يحضر ليلهم الأسود المتطاول على الضياء المبهرة ، كرهوا قداستها ، وحنقوا عليها ، لم ينسوا نظراتها وهي ترنوا إلى السماء .. كانت تدينهم .. خذلتهم ساقاها المتجذرتان إلى أعماق الأرض .. بحثوا حولها حتى اكتشفوا سرّها .. لم يُرْضِهم السلام الذي أَضْفَتْهُ على حياتي ، لم يسعدهم أن تسعدني أنا دونهم ، حاولوا مرةً أخرى استمالتها إليهم ، رفضت بإصرار وتحد … هي زهرتي انا ولن تكون لغيري ، حاولوا رشوتها بوعودهم الخاوية بأنهم سيُنَصِبونَها ملكة على الزهور جميعاً ، امتنعت عليهم بقوة الإيمان والصدق والوفاء .. ، وهي معي تشعر أنها ملكة .. وهي معي تملك الدنيا بكل ما فيها جميعا .. ليست بحاجة الى لقب أجوف تحمله ، قد يكون من أسباب ترديها وموتها ، الأمر لن يخلوا من حاقدة أو حاسدة تدبر مؤامرة لتغتالها في ليلة مظلمة
    حاولوا معها شتى الوسائل والسبل ، مارسوا ما حفظوه من طقوس وسحر أسود ، قرأوا ما تسنى لهم من تعاويذهم المحرمة الآبقة … لم يجدوا إليها سبيلاً .. واتخذوا في نفوسهم المريضة أمراً .. وقرروا الإسراع فيه ..
    ***
    وكان ليلاً طويلاً .. طويلاً .. بطول الدهر كله .. عندما استيقظت لم أجد حبيبتي معي .. لم أجد زهرتي الجميلة .. ولم أجد نفسي .. لم تترك وراءها رسالة .. كل ما تركته بقايا من دمائها ظلت علامات تشير إلى الطريق الذي سلكوه بها .. كانت تدل عليهم .. إنهم قتلة .. إنهم قتلة .. يعبدون المزهريات الحمراء .. يشربون بها الدم الأحمر المتخذ خمراً ورذيلة .. ، حينها لم أر الشمس أبداً في مكانها .. كانت من هناك آتية .. حيث كان يجب أن تغيب ..
    - .........................
    - آه دموعي تقلقك .. أعرف ذلك .. سأمسحها الآن .. لكن .. لقد حان دورك لتقصي عليّ حكايتك وكيف بدأت وكيف كانت النهاية ..
    - .........................
    - النهاية لم تأت بعد .. إذن أخبريني البداية .
    - .........................
    - ماذا تقولين .. الوقت لن يسعفك بالكلام .. لماذا .. أخبريني
    - أنظر خلفي ..!
    - يا الله ما هذا .. إنها جرافة ضخمة .. ما الذي أتى بها إلى هنا .. ماذا تفعل .. إنها تقتلع الأشجار في طريقها .. إنها في طريقها إلينا .. ماذا يعني ذلك .. ما.. ماذا .. إنهم يريدونك ..؟ يريدون اقتلاعك بعد طول حياتك بالسنين .. يريدون اغتيالك كما اغتالوا حبيبتي …. زهرتي …
    لا.. لا .. لن أسمح لهم .. لن يعملوا سكاكينهم وآلاتهم لتمزيقك يكفي ما فعلوه بزهرتي سأقاومهم .. أنا في كامل وعيي وإدراكي ومستيقظ لكل ما يجري أمامي … سأنتقم لك .. سأنتقم لزهرتي .. سأتشبث بك .. لن يستطيعوا زحزحتي بعيداً عنك .. مجرمون .. مجرمون .. ماذا تفعلون .. ارجعوا أيها القتلة .. عودوا إلى مخابئكم وحاناتكم .. اذهبوا بعيداً عن هنا ، عُبّوا خمركم الدنسة بمفردكم .. لا تشركونا معكم .. لا نريد شراكتكم ..
    ماذا يجري .. ماذا يحدث ..أذرعها شجرتي العزيزة تتساقط .. لا .. لن أدعكم تفعلون .. لن أدعكم تقتلون .. لن أدعكم .. لن .. لـ …
    ...
    - من هذا المجنون .. صوته يرتفع كثيراً فوق صوت آلتنا .. انتبهوا جيداً .. لا يجب أن يعلو صوت آخر فوق صوت آلاتنا .. هديرنا فقط هو ما يجب أن يبقى وأن يعلو ويعلو إلى أن تسكت الأصوات جميعاً
    - أبعدوه من هنا .. وجوده يعطلنا ..
    - يجب أن نزيل الشجرة من الوجود .. طريقنا يمر من هنا ..
    - ماذا أرى .. ألا تقدرون عليه .. أحيطوا به من جميع الجهات .. اضربوه بعصيكم الحمراء ..
    - هيا تحركوا .. تحركوا
    - هيا واصلوا .. واصلوا قطع الأشجار ..


    نشرت في صحيفة الاتحاد الإماراتية في 13/7/ 1989
    [/frame]
    أطمع يارب أن يشملني رضاك فألقاك شهيدا ألتحف الدماء

    لن أغيرنفسي لأكون غيري ، سأظل نفسي أنا أنا

    تويتـــــــر : https://twitter.com/halmosacat
  • عائده محمد نادر
    عضو الملتقى
    • 18-10-2008
    • 12843

    #2
    الزميل القدير
    بهائي راغب شراب
    هذا نص سبق أوانه بسنوات طويلة
    كم حميميا ان تتوحد الروح لتتآلف من زهرة وشجرة
    وجدت نفسي هنا وعشقي لنباتاتي خاصة الغاردينيا وفعلا أكلمها وأحكي لها كل ما يؤرقني أو يكدر خاطري والعجيب أني أجدها تزهر كثيرا كلما ازددت تواصلا معها
    لن أستطيع القول احذف هنا وقلل من هذه الكلمة أو لا تكرر لأن النص نشر ورقيا ولايجوز التغيير مطلقا
    لكني تمنيت لو أنك لم تسألها ( ماذا تقولين ) وتركت السر تلقائي
    نص جميل وفيه شجن واستحضار للحاضر
    بودي أن تشارك الزميلات والزملاء رؤيتك حول نصوصهم زميل راغب وأعرفك صاحب رؤية ولك قول
    ودي ومحبتي لك
    الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

    تعليق

    • عبد الحميد عبد البصير أحمد
      أديب وكاتب
      • 09-04-2011
      • 768

      #3
      نص هايل بصراحة ..طويل بجد
      شكرا لك أستاذي
      تقبل مروري
      الحمد لله كما ينبغي








      تعليق

      • مصطفى الصالح
        لمسة شفق
        • 08-12-2009
        • 6443

        #4
        نص عميق الفكرة نبيل المقصد

        صيغ بأسلوب حواري سلس مبسط

        اقتربت أكثر من الخاطرة والحوارية

        لكن عمق الفكرة يشفع

        شجرة الجميز من الأشجار المعمرة والتي يحيا معها الإنسان سنوات طويلة، وهي بهذا تتغلغل إلى عمق المشاعر بمكانها ومكانتها وحجمها وشكلها وثمرها

        عندما تقتلع من مكانها كأنهم يقتلعون البشر

        سأقاومهم .. سأنتقم لك .. سأنتقم لزهرتي .. سأتشبث بك

        يوجد هنا تناقض فالمقاومة تكون قبل انتهاء الفعل بينما الانتقام يكون بعد الانتهاء منه.. فهو هنا ربما يتنبأ بانتصارهم عليه

        دمت مبدعا مترجما لمآسي شعبنا الحر البطل

        تحيتي وتقديري
        [align=center] اللهم صل على محمد أفضل الخلق وعلى آله وصحبه أجمعين

        ستون عاماً ومابكم خجــلٌ**الموت فينا وفيكم الفزعُ
        لستم بأكفائنا لنكرهكم **وفي عَداء الوضيع مايضعُ

        رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ

        حديث الشمس
        مصطفى الصالح[/align]

        تعليق

        • أحمد عيسى
          أديب وكاتب
          • 30-05-2008
          • 1359

          #5
          نصٌ جميل أستاذ بهائي ، كان طويلاً بعض الشيء والفكرة لا تتحمل كل هذا الطول
          لو كان أقصر لكان أشد بهاءاً
          الشجر يولد الشجر ، والأشجار شامخة دائماً رغم محاولات التجريف والاجتثاث
          كما الشهيد يخلفه شهداء ، والبطل يتبعه أبطال

          لكل شهيد وشجرة زيتون نبتا في فلسطين
          كل التحية
          ” ينبغي للإنسان ألاّ يكتب إلاّ إذا تـرك بضعة من لحمه في الدّواة كلّما غمس فيها القلم” تولستوي
          [align=center]أمــــوتُ .. أقـــــاومْ [/align]

          تعليق

          • سمية البوغافرية
            أديب وكاتب
            • 26-12-2007
            • 652

            #6
            لأستاذ بهائي راغب
            تحية أدبية عطرة
            سعدت بالوقوف في متصفحك وقراءة نصك الشيق والممتع.
            هو زمن الإسمنت والقضاء على الخضرة
            ما يداهم زماننا وبقوة أكبر مما نتوقع.
            وأضيف:
            ليست شجرتك وحدها من تستصرخ سيدي بل الأرض والسماء والبيئة..
            فسدنا كل شيء حولنا.. فعفا الله عنا
            نص جيد وجميل بلغة معبرة وأسلوب يشد الانتباه رغم طول القصة.
            وأراك بهذا التصوير والاستنطاق الجميل للأشياء، قادر على كتابة روائع للأطفال، وتمرير لهم دروس جميلة وممتعة..
            فهل فعلت يوما؟؟؟
            تقديري

            تعليق

            • رزيقة حزير
              عضو الملتقى
              • 24-07-2009
              • 225

              #7
              السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
              سيدي...
              كانت الشجرة على وعي بهموم الانسان .... شفافة في تعاطيها مع دقات صراخاته وتدفق آلامه.
              استمتعت بالقراءة
              كل الود والاحترام
              [COLOR=#8b0000][SIZE=3][B][COLOR=darkorchid][FONT=Arial][align=center]
              [COLOR=#8b0000][SIZE=3][B][COLOR=darkorchid][FONT=Arial]ليس حسن الجوار كف الأذى ... [/FONT][/COLOR][/B][B][FONT=Arial][COLOR=darkorchid]بل الصبر على الأذى[/COLOR][/FONT][/B][/SIZE]
              [B][COLOR=darkorchid] [FONT=Arial][SIZE=3]علي بن أبي طالب [/SIZE][/FONT][/COLOR][/B]
              [/COLOR][/align][/FONT][/COLOR][/B][/SIZE]
              [/COLOR]

              تعليق

              • ريما ريماوي
                عضو الملتقى
                • 07-05-2011
                • 8501

                #8
                انا أعجبتني جدا وقرأت كل حرف فيها ولم أحس بطولها أبدا,
                هم اغتصبوا زهرته وقتلوها, ولقد طالوا الشجرة أيضا,
                وهكذا الشهداء يتساقطون, أمام جبروت المعتدين,
                ولا يحق لأحد التصدي لهم والدفاع عن الأرض
                الخيّرة المعطاء, ومن يتصدى يتهمونه بالجنون.

                مودّتي...


                همسة: ترنوا = ترنو لان الواو من أصل الفعل وليست الف واو الجماعة


                أنين ناي
                يبث الحنين لأصله
                غصن مورّق صغير.

                تعليق

                • وسام دبليز
                  همس الياسمين
                  • 03-07-2010
                  • 687

                  #9
                  المشاركة الأصلية بواسطة بهائي راغب شراب مشاهدة المشاركة
                  [frame="3 98"]

                  شجـرة الجـمـــيز


                  شجرة الجميز وحدها باقية ، توافقني تدعوني لها ، تأخذني بين أذرعها بحنان ورقة ، الوحيدة التي أدركت بؤسي و شقائي … أدركت آلامي و هروبي أمام أولئك الفصيلة البشرية
                  - لولاك يا شجرة الجميز لأصابني الإحباط … لانتحرت من أمد طويل ، لكن اتحادنا و حبنا الذي أدى إليه ردني عن مقصدي السيئ … و ها أنا قف قدامك عاشقا أبدياً و مبشراً بالخلاص الآتي
                  - .........................
                  - نعم .. نعم .. أسمعك جيداً .. أنتِ مسرورة .. مسرورة جداً لأجلي .. أنا أيضا مسرور لأجـــــــــــلك
                  - .........................
                  - صدقيني ، لن أتخلى عنك ، سأحارب ، سأناضل ، لن أسمح لأحد أن يصل إليك بسمومه ، لن أسمح لأحد أن تخترقك نظراته الكريهة .
                  - .........................
                  - و أنت أيضا ستصدين عني الرياح المتوحشة ، وتحتويني بأحضانك … لكم هي دافئة أنفاسك … إني لأستسلم لك بسلام و هدوء إذ أكون مطوقا بين ثناياك المملوءة عمرا و حكمة … و غناء .
                  - لكن أخبريني ، أنت حتما عاصرت الكثيرين قبلي ، ولعلك عاصرت جدي و أبي ، أيكون هذا سبب تحاببنا وارتباطنا .
                  - .........................
                  - ماذا تقولين … الحياة … ، هي التي جمعتنا ليؤنس كل منا صاحبه ، لنقتل و نحن معا الوحدة المقبرة ، ونقف بقوة أمام اغتيال اللحظات المنسية بين هوامش الأيام … وهوامش الصرخات … و هوامش الضحكات .
                  - .........................
                  - معك حق أفكارنا متوافقة نحب الغناء و العصافير والأزهار ، نحب العيش بسلام و أمان ، بعيدا عن الفوضى ، بعيدا عن الزحام
                  - .........................
                  - مادمت تقولين بالتوافق الذي بيننا ، فلابد أنك تصدقيني إذ أقول لك أن الشمس أشرقت اليوم من المغرب .. لا .. لا أعتقد أنك ستصدقينني .. بل ستقولين ما يقوله الآخرون .. و أني مجنون .. ستهزئين بي وتضحكين لبلهي … وغبائي اللامعقول .. أليس كذلك .. تكلمي .. قولي لي رأيك بصدق .. أنا مصغ إليك .
                  - .........................
                  - ما … ما … ماذا تقولين أحقا تصدقين .. كيف … غير معقول … إن أحداً لم يُرِدْ حتى الاستماع لي … فما بالك بأن يصدقني مثلك .. ثم تأتين أنت و تصدقيني بمجرد أن قلت لك أني رأيت الشمس تشرق من مغربها ..
                  - .........................
                  - ماذا … أنت أيضا رأيتها اليوم تشرق من المغرب … يا سبحان الله … ما هذا التوافق الأكيد بيننا … يبدو أن التصاقنا معا أقوى من تصورنا الخامل … ومن انفعالاتنا القلبية .
                  - .........................
                  - حقا … تماما … تماما … لكن أخبريني بربك كيف رأيتها … كيف تسنى لك ذلك و قد كنت أعتقد أنني الوحيد القادر على الرؤية … أخبريني …. أخبريني .
                  - .........................
                  - ماذا تقولين … أحكي لك أنا أولا كيف تسنى لي رؤية الشمس ساعة إشراقها من غير موضعها اليومي … حسنا … سأقول … لكن على وعد بأن تحكي أنت أيضا خبرك كاملا .
                  - .........................
                  - إذن … سأحكي لك … من أين أبدأ الكلام ، إنه أمر صعب … و قاس … مقزز … لكن سأتحمل لأجلك … كانت ليلة طويلة … طويلة بطول الدهر … لم تنقض أبداً عني ، و كان مطلوبا مني فيها أن أصمد وأن أواصل النوم … و إذا استيقظت .. أن أتقبل بروح رياضية ما يجري أمامي من الأحداث الدرامية العريقة في الفجيعة والضياع … أتتصورين أرادوا أن أقف مشلولا و هم يغتصبون مني زهرتي الوحيدة الأثيرة … اليانعة … أحببت الزهور جميعا … لكن زهرتي حفرت مكانها الخاص في قلبي … غذيتها بدمي … و عشقي … وأَرَقي … و خوفي … غذيتها باسمي وعنفواني و قوتي … لم أستطع العيش بدون عبيرها بعيدا عن لونها … غائبا عن ابتسامتها وميلها وضوئها … لا أستطيع العيش دون أن تدمي شفتاي أشواكها دون أن أحتضنها في الصباح .. أقبلها .. و أرتشف الرحيق من ثغرها المتفتح الرطب كالجنين الذي لم يعرف طعم الهروب و الجفاء .
                  اختاروها من دون الزهرات جميعا .. وقفوا عندها طويلا ، طأطأت رؤوسُهم أمامها .. حاولوا مد أياديهم نحوها ، و لكنها انتصبت وأنشبت أشواكها في أعماق نفوسهم … ملأت قلوبهم رعباً فانهزموا عائدين .. انهزموا أمامها ليدبروا أمراً آخر عندما يحضر ليلهم الأسود المتطاول على الضياء المبهرة ، كرهوا قداستها ، وحنقوا عليها ، لم ينسوا نظراتها وهي ترنوا إلى السماء .. كانت تدينهم .. خذلتهم ساقاها المتجذرتان إلى أعماق الأرض .. بحثوا حولها حتى اكتشفوا سرّها .. لم يُرْضِهم السلام الذي أَضْفَتْهُ على حياتي ، لم يسعدهم أن تسعدني أنا دونهم ، حاولوا مرةً أخرى استمالتها إليهم ، رفضت بإصرار وتحد … هي زهرتي انا ولن تكون لغيري ، حاولوا رشوتها بوعودهم الخاوية بأنهم سيُنَصِبونَها ملكة على الزهور جميعاً ، امتنعت عليهم بقوة الإيمان والصدق والوفاء .. ، وهي معي تشعر أنها ملكة .. وهي معي تملك الدنيا بكل ما فيها جميعا .. ليست بحاجة الى لقب أجوف تحمله ، قد يكون من أسباب ترديها وموتها ، الأمر لن يخلوا من حاقدة أو حاسدة تدبر مؤامرة لتغتالها في ليلة مظلمة
                  حاولوا معها شتى الوسائل والسبل ، مارسوا ما حفظوه من طقوس وسحر أسود ، قرأوا ما تسنى لهم من تعاويذهم المحرمة الآبقة … لم يجدوا إليها سبيلاً .. واتخذوا في نفوسهم المريضة أمراً .. وقرروا الإسراع فيه ..
                  ***
                  وكان ليلاً طويلاً .. طويلاً .. بطول الدهر كله .. عندما استيقظت لم أجد حبيبتي معي .. لم أجد زهرتي الجميلة .. ولم أجد نفسي .. لم تترك وراءها رسالة .. كل ما تركته بقايا من دمائها ظلت علامات تشير إلى الطريق الذي سلكوه بها .. كانت تدل عليهم .. إنهم قتلة .. إنهم قتلة .. يعبدون المزهريات الحمراء .. يشربون بها الدم الأحمر المتخذ خمراً ورذيلة .. ، حينها لم أر الشمس أبداً في مكانها .. كانت من هناك آتية .. حيث كان يجب أن تغيب ..
                  - .........................
                  - آه دموعي تقلقك .. أعرف ذلك .. سأمسحها الآن .. لكن .. لقد حان دورك لتقصي عليّ حكايتك وكيف بدأت وكيف كانت النهاية ..
                  - .........................
                  - النهاية لم تأت بعد .. إذن أخبريني البداية .
                  - .........................
                  - ماذا تقولين .. الوقت لن يسعفك بالكلام .. لماذا .. أخبريني
                  - أنظر خلفي ..!
                  - يا الله ما هذا .. إنها جرافة ضخمة .. ما الذي أتى بها إلى هنا .. ماذا تفعل .. إنها تقتلع الأشجار في طريقها .. إنها في طريقها إلينا .. ماذا يعني ذلك .. ما.. ماذا .. إنهم يريدونك ..؟ يريدون اقتلاعك بعد طول حياتك بالسنين .. يريدون اغتيالك كما اغتالوا حبيبتي …. زهرتي …
                  لا.. لا .. لن أسمح لهم .. لن يعملوا سكاكينهم وآلاتهم لتمزيقك يكفي ما فعلوه بزهرتي سأقاومهم .. أنا في كامل وعيي وإدراكي ومستيقظ لكل ما يجري أمامي … سأنتقم لك .. سأنتقم لزهرتي .. سأتشبث بك .. لن يستطيعوا زحزحتي بعيداً عنك .. مجرمون .. مجرمون .. ماذا تفعلون .. ارجعوا أيها القتلة .. عودوا إلى مخابئكم وحاناتكم .. اذهبوا بعيداً عن هنا ، عُبّوا خمركم الدنسة بمفردكم .. لا تشركونا معكم .. لا نريد شراكتكم ..
                  ماذا يجري .. ماذا يحدث ..أذرعها شجرتي العزيزة تتساقط .. لا .. لن أدعكم تفعلون .. لن أدعكم تقتلون .. لن أدعكم .. لن .. لـ …
                  ...
                  - من هذا المجنون .. صوته يرتفع كثيراً فوق صوت آلتنا .. انتبهوا جيداً .. لا يجب أن يعلو صوت آخر فوق صوت آلاتنا .. هديرنا فقط هو ما يجب أن يبقى وأن يعلو ويعلو إلى أن تسكت الأصوات جميعاً
                  - أبعدوه من هنا .. وجوده يعطلنا ..
                  - يجب أن نزيل الشجرة من الوجود .. طريقنا يمر من هنا ..
                  - ماذا أرى .. ألا تقدرون عليه .. أحيطوا به من جميع الجهات .. اضربوه بعصيكم الحمراء ..
                  - هيا تحركوا .. تحركوا
                  - هيا واصلوا .. واصلوا قطع الأشجار ..


                  نشرت في صحيفة الاتحاد الإماراتية في 13/7/ 1989
                  [/frame]
                  تبقى يد
                  الظلمة سوداء لا تعشق إلا القتل والدمار والخراب ،تطال كل شيء
                  طات شجرة الجميز القوية فكيف لا تسقط زهرة والعين كما يقال لا تقاوم المخرز
                  طالت القصة لكن البحث وراء الفكرة أو النهاية شدنا دون ملل
                  مودتي

                  تعليق

                  • آسيا رحاحليه
                    أديب وكاتب
                    • 08-09-2009
                    • 7182

                    #10
                    أعجبني النص جدا..
                    فكرة و كتابةً .

                    أولئك الفصيلة البشرية أم تلك الفصيلة البشرية ؟
                    ترنوا...ترنو
                    الأمر لن يخلوا...يخلو
                    تحيّة و تقدير .
                    يظن الناس بي خيرا و إنّي
                    لشرّ الناس إن لم تعف عنّي

                    تعليق

                    يعمل...
                    X