قصة قصيرة: خيبة ـ سفانكس / المختار ميمون الغرباني/ المغرب
استهلال سردي اعتراضي:
قال السارد:” في عباب أوراق الدار البيضاء دفنت الذات و الأخر !!”
*****
في ليلة رأس السنة الجديدة…تثاقلت أحزانه،جف قلبه..ودع أحزان شقته..تاه في ربوع المدينة باحثا عن لحظة انتشاء تليق بمقام ليلة رأس السنة الجديدة..شق الشارع الطويل إلى ركن اعتاد أن يقرأ فيه تضاريس العالم وعناوين الروح..حط وحطت معه أحزانه بحانة”سفانكس”..أشعل سيجارة وتجرع بعض كؤوس الويسكي..أخرج عدته من جيوب معطفه الشتوي..قلم الرصاص وقصاصات ورقية أعدت للرسم..رسم خفاشا عملاقا يصيح في جوف خربة غبرة..اخترق سمعه مقطع أغنية شعبية رقصت له رؤوس السكارى..تمايلت..تناغمت..تعرت في حمام الأحلام..
صوت المغني..النغام والقهقهات..الكؤوس والرؤوس..وجه الفنان الحزين..مشاهد تشدني إلى عوالم الأحزان..ربما كان الفنان على صدق عندما أخلص للكأس ربع قرن من عمره الشاب..صوت المغني يرخم الأجواء أكثر..المغني الذي أجهل اسمه يتألق في ذاكرتي..يشق دواخلي..يردد لازمةساخرة(آو..اصحاب الحال..السماوي..يجرح ويداوي…) كبر وقع الأغنية في رأس الفنان..شطب على رسم جاهز بعصبيةحادة..طلب كأسا أخرى،عتقها النادل فتاح بقطعة ثلج..نخلها كالعادة بجرعة القياس من مشروب”شويبس طونيك”..تمايلت رأسه يمينا ويسارا تحت فرط حرقة الويسكي..استعذب الحرقة وراح يتمتم..يغمغم..يسافر في الأحلام..عبثا يتبرأ (مثلي) من آلام وجروح الذاكرة..يتمتم..يغمغم..فأعشق جنونه أكثر..إخلاصه لأحزان “سفانكس”.كان ينعت الحانة جهرا ب”مشرب النوق والبعير”..
هاهو الآن،كعادته،يسوي القلم بين أنامله..هاقد خربش مرة أخرى على الورق..بمهارة فنان محترف رسم عصافير مقصوصة الجناح..أنامل طفل صغير يكور الطين…لمحه النادل فتاح يخربش بقلم الرصاص،فلم يتردد في سؤاله:
ـ هل أنت فنان تشكيلي..؟
ودون تردد أجابه متلعثما:
ـ لا..بالقطع لا..أنا فقط أرسم من حين لأخر بحثا عن البهاء الداخلي..وذلك كلما تثاقلت أحزاني وجف قلبي..
هز النادل كتفه، معبرا عن عدم اهتمامه بالمعنى الغائم..هم مسرعا ناحية طاولة أخرى..أصوات السكارى تتعالى وتصيح ،هل من مزيد..والفنان ينفجر وحده ضاحكا مرة،شاردا مرات..هاهو يمزق أوراق الرسم ويبعثر أشلاءها من حوله..أشعل سيجارة..احمرت عيناه الغائرتان..يتمتم..يغمغم..تهتز أطرافه لاشعوريا.. يزار ضريح اللغة من تحته..حبس ضحكة أوشكت أن تنفلت من بين أسنانه المخززة..تعاوده الضحكة ثانية فلم يقدر على حصارها..ربما رأى معشر السكارى أقزاما تكبر أجسادهم كلما عتقوا الروح بعشق الخمارة..”السكارى أقزام في حجم الكؤوس !! تتشابه الكائنات في مشبر “النوق والبعير..” !
غابر وجهه في عباب الدخان..سارح في تأمل جداريات “سفانكس”..أبو الهول ..كليوبترا..فرسان عراة..خيول جامحة..جواري ذهبية في قصر الفرعون.. ،عاودته النوبة..سوى القلم بين أنامله..بسرعة عفريت رسم على غطاء الطاولة: “كهف يشقه ضوء باهت..لمعان جوهرة ترقد في جوف صخرة…”
تأمل النادل فتاح حاله وكرر سؤال الهوية مرة أخرى:
ـ هل أنت فنان تشكيلي..؟
ـ لا..لا.. وألف مرة لا..ألا تسمع؟
ابتسم النادل وهو يرقب تفاصيل الرسم بانتشاء ،فقال:
ـ يبدو أنك متيقن من ردك..
ـ سابقي على يقيني ما حييت..ثم، ما شأنك أنت باليقين واللايقين..؟
ـ آسف على الازعاج، غير أنك ضيعت فرصة ثمينة ..”دجاجة بكمونها”.. الباطرون قرر أن يستبدل رسوم الجداربات..كأن يستبدل تلك الرأس الكبيرة..”أبو الهول” برسم جديد..مثلا..مثلا: “كهف يشقه ضوء باهت” أو مثلا..مثلا:”لمعان جوهرة ترقد في جوف صخرة”..غير أنه يقيد هذا العرض المنشور بالجرائد الوطنية طبعا بلائحة شروط إلزامية:
أ ـ أن يكون الفنان سكيرا بامتياز كبير..ومن رواد “سفانكس”
ب ـ أ يتعهد بألا يوظف من مواد التشكيل غير قطع الفحم..أو طلاء روث البهائم والدواب..
ج ـ أن يتقاضى أجره مساء..وبأثر رجعي، وبقياس كؤوس الخمر و ليس بالنقد والعد.. !
د ـ أن يوقع بالدفتر الذهبي لحانة”سفانكس”..ثم يعلق بلطف ولباقة على شعار “سفانكس” السري:(إن أجمل الأصوات صوت النوق والبعير !! )
فرك الفنان عينيه اندهاشا..درج النادل بين صفوف السكارى..مال ناحية طاولة(كفى عطشا يافتاح )..تنهد الفنان تصاعدت آهاته تمهد لملحمة الأحزان.. !
انشغلت بتصفح الجريدة إشفاقا عليه…
سقط نظري على خبر غريب جاد، يرقد جنب زاوية مقال “الحداثة المعطوبة” شدني إليه أكثر…عاودت قراءته بتمعن( المطلوب فتاة تتكلم الفرنسية والانجليزية..لرعاية كلب من نوع “كنيش” ..وللمزيد من المعلومات المرجو الاتصال بقسم العلاقات الخارجية ل”فيلا نرجس” بحي الرياض…) أفزعني الإعلان..انشغلت بدلالاته الرمادية ..أيقنت أن السعادة تتشخص في زحمة المفارقات الوجودية..أشعلت سيجارة.. تجرعت ما تبقى من كأسي..رفعت رأسي تحت تأثير حرقة الجرعة..ناديت على النادل فتاح..دفعت حسابي وحساب الفنان..ارتديت معطفي الذي أوشكت أن أنساه على الكرسين في زحمة المفارقات..حييت طاولة(كفى عطشا يافتاح)، وهجرت “سفانكس” هجرة الطيور لأزمنة الجليد…
استهلال سردي اعتراضي:
قال السارد:” في عباب أوراق الدار البيضاء دفنت الذات و الأخر !!”
*****
في ليلة رأس السنة الجديدة…تثاقلت أحزانه،جف قلبه..ودع أحزان شقته..تاه في ربوع المدينة باحثا عن لحظة انتشاء تليق بمقام ليلة رأس السنة الجديدة..شق الشارع الطويل إلى ركن اعتاد أن يقرأ فيه تضاريس العالم وعناوين الروح..حط وحطت معه أحزانه بحانة”سفانكس”..أشعل سيجارة وتجرع بعض كؤوس الويسكي..أخرج عدته من جيوب معطفه الشتوي..قلم الرصاص وقصاصات ورقية أعدت للرسم..رسم خفاشا عملاقا يصيح في جوف خربة غبرة..اخترق سمعه مقطع أغنية شعبية رقصت له رؤوس السكارى..تمايلت..تناغمت..تعرت في حمام الأحلام..
صوت المغني..النغام والقهقهات..الكؤوس والرؤوس..وجه الفنان الحزين..مشاهد تشدني إلى عوالم الأحزان..ربما كان الفنان على صدق عندما أخلص للكأس ربع قرن من عمره الشاب..صوت المغني يرخم الأجواء أكثر..المغني الذي أجهل اسمه يتألق في ذاكرتي..يشق دواخلي..يردد لازمةساخرة(آو..اصحاب الحال..السماوي..يجرح ويداوي…) كبر وقع الأغنية في رأس الفنان..شطب على رسم جاهز بعصبيةحادة..طلب كأسا أخرى،عتقها النادل فتاح بقطعة ثلج..نخلها كالعادة بجرعة القياس من مشروب”شويبس طونيك”..تمايلت رأسه يمينا ويسارا تحت فرط حرقة الويسكي..استعذب الحرقة وراح يتمتم..يغمغم..يسافر في الأحلام..عبثا يتبرأ (مثلي) من آلام وجروح الذاكرة..يتمتم..يغمغم..فأعشق جنونه أكثر..إخلاصه لأحزان “سفانكس”.كان ينعت الحانة جهرا ب”مشرب النوق والبعير”..
هاهو الآن،كعادته،يسوي القلم بين أنامله..هاقد خربش مرة أخرى على الورق..بمهارة فنان محترف رسم عصافير مقصوصة الجناح..أنامل طفل صغير يكور الطين…لمحه النادل فتاح يخربش بقلم الرصاص،فلم يتردد في سؤاله:
ـ هل أنت فنان تشكيلي..؟
ودون تردد أجابه متلعثما:
ـ لا..بالقطع لا..أنا فقط أرسم من حين لأخر بحثا عن البهاء الداخلي..وذلك كلما تثاقلت أحزاني وجف قلبي..
هز النادل كتفه، معبرا عن عدم اهتمامه بالمعنى الغائم..هم مسرعا ناحية طاولة أخرى..أصوات السكارى تتعالى وتصيح ،هل من مزيد..والفنان ينفجر وحده ضاحكا مرة،شاردا مرات..هاهو يمزق أوراق الرسم ويبعثر أشلاءها من حوله..أشعل سيجارة..احمرت عيناه الغائرتان..يتمتم..يغمغم..تهتز أطرافه لاشعوريا.. يزار ضريح اللغة من تحته..حبس ضحكة أوشكت أن تنفلت من بين أسنانه المخززة..تعاوده الضحكة ثانية فلم يقدر على حصارها..ربما رأى معشر السكارى أقزاما تكبر أجسادهم كلما عتقوا الروح بعشق الخمارة..”السكارى أقزام في حجم الكؤوس !! تتشابه الكائنات في مشبر “النوق والبعير..” !
غابر وجهه في عباب الدخان..سارح في تأمل جداريات “سفانكس”..أبو الهول ..كليوبترا..فرسان عراة..خيول جامحة..جواري ذهبية في قصر الفرعون.. ،عاودته النوبة..سوى القلم بين أنامله..بسرعة عفريت رسم على غطاء الطاولة: “كهف يشقه ضوء باهت..لمعان جوهرة ترقد في جوف صخرة…”
تأمل النادل فتاح حاله وكرر سؤال الهوية مرة أخرى:
ـ هل أنت فنان تشكيلي..؟
ـ لا..لا.. وألف مرة لا..ألا تسمع؟
ابتسم النادل وهو يرقب تفاصيل الرسم بانتشاء ،فقال:
ـ يبدو أنك متيقن من ردك..
ـ سابقي على يقيني ما حييت..ثم، ما شأنك أنت باليقين واللايقين..؟
ـ آسف على الازعاج، غير أنك ضيعت فرصة ثمينة ..”دجاجة بكمونها”.. الباطرون قرر أن يستبدل رسوم الجداربات..كأن يستبدل تلك الرأس الكبيرة..”أبو الهول” برسم جديد..مثلا..مثلا: “كهف يشقه ضوء باهت” أو مثلا..مثلا:”لمعان جوهرة ترقد في جوف صخرة”..غير أنه يقيد هذا العرض المنشور بالجرائد الوطنية طبعا بلائحة شروط إلزامية:
أ ـ أن يكون الفنان سكيرا بامتياز كبير..ومن رواد “سفانكس”
ب ـ أ يتعهد بألا يوظف من مواد التشكيل غير قطع الفحم..أو طلاء روث البهائم والدواب..
ج ـ أن يتقاضى أجره مساء..وبأثر رجعي، وبقياس كؤوس الخمر و ليس بالنقد والعد.. !
د ـ أن يوقع بالدفتر الذهبي لحانة”سفانكس”..ثم يعلق بلطف ولباقة على شعار “سفانكس” السري:(إن أجمل الأصوات صوت النوق والبعير !! )
فرك الفنان عينيه اندهاشا..درج النادل بين صفوف السكارى..مال ناحية طاولة(كفى عطشا يافتاح )..تنهد الفنان تصاعدت آهاته تمهد لملحمة الأحزان.. !
انشغلت بتصفح الجريدة إشفاقا عليه…
سقط نظري على خبر غريب جاد، يرقد جنب زاوية مقال “الحداثة المعطوبة” شدني إليه أكثر…عاودت قراءته بتمعن( المطلوب فتاة تتكلم الفرنسية والانجليزية..لرعاية كلب من نوع “كنيش” ..وللمزيد من المعلومات المرجو الاتصال بقسم العلاقات الخارجية ل”فيلا نرجس” بحي الرياض…) أفزعني الإعلان..انشغلت بدلالاته الرمادية ..أيقنت أن السعادة تتشخص في زحمة المفارقات الوجودية..أشعلت سيجارة.. تجرعت ما تبقى من كأسي..رفعت رأسي تحت تأثير حرقة الجرعة..ناديت على النادل فتاح..دفعت حسابي وحساب الفنان..ارتديت معطفي الذي أوشكت أن أنساه على الكرسين في زحمة المفارقات..حييت طاولة(كفى عطشا يافتاح)، وهجرت “سفانكس” هجرة الطيور لأزمنة الجليد…

تعليق