عصفــور المطـــر
..في ذات ليلةٍ من ليالي الشتاء , يقطع صمت الليل عواء , تتردد بعده أصداء ؛ كأنات ألوف البشر , و عذابات كل المعذبين . تتوالى داخل الحجرة دقاتٌ تحصي أيام السنين , و الضوء باهتٌ حزين . الأفكار تتداعى في وهنٍ , و القلم يعبث بالأوراق , يملؤها بخطوطٍ و نقاط سود , بصعودٍ و سقوطٍ و عثرات , بعقبات ٍ و صراعات لا تنتهي . السطور لا تلتقي أبداً , و الطريق لن ينحني , و العيون دامعة , و القلب عليلٌ سجين .
لكن الوقت يمر , و العمر يمضي , و الصبح سينبلج , و الليل سيولى الأدبار , و يُولد بعده نهار .
فجأة ينبعث من بين كل ذاك العبث ؛ عصفور ٌ يخفق بجناحيه , يحلق عبر سماءٍ بيضاء - لا تشوبها غيوماً أو مطر- يعلو .. و يعلو خارج حدود الصفحة , لكن أقدامه مكبلةً بخيطٍ من رصاص , يلهو به طفلٌ ملوثةٌ بالطين يداه . صار العصفور حبيس قفصٍ من عظام . جدران القفص تضيق حتى أصبح أضيق من الحجرة . الهواء يتضاءل لدرجة أني شعرت بالاختناق . لازال العصفور يرفرف بجناحيه , و المطر ينهمر على زجاج النافذة , و الليلة لم يولد لها قمر , و لم تؤنس وحشتها نجومٌ ؛ بسبب كل تلك الغيوم ..!!
الحجرة ماضيةٌ في الانكماش حتى أصبحت الحركة فيها مؤلمة . الصدر يعلو , و يهبط في سرعةٍو مشقة . الورقة تهتز , و تتطاير , العصفور يتلوى , و الكلاب تعوي بصوتٍ كئيب , يبدد هيبة ذاك السكون , و يشتت الذهن في تلك اللحظات الحرجة , و يقطع شريط الذكريات المتداعي في ومضات .
.. يعلو صوتٌ كالذئاب , ينبش زجاج النافذة في دقاتٍ متوالية , العصفور يضرب بجناحيه في قوة , يريد أن ينطلق حراً بلا قيود . قوايّ قد خارت , لم أعد أستطع التشبث به , و ذاك الصراخ يستفزني , و تلك الثوان تفتت عزمي , و تبدد صمودي .
..لابد أن أفعل شيئاً.. !! أن أضع حداً لتلك المهزلة , لن أقف هكذا مكتوف الأيدي , أخاف من المواجهة , أحتمي ببيت من زجاج , لن أهاب الموت . سأفتح النافذة , و أطرد تلك الأشباح . صرخت فيهم ؛ لكن صوتي جاء خافتاً , و ذهب ندائي أدراج الرياح , فاستجمعت قوتي , و طويت ورقتي , ثم ألقيتها في وجوههم . فإذا بها تختفي ,و العصفور يطير , و الفجر يبزغ , و الليل ينجلي , و الضباب ينقشع . و إذ بالعصفور يلتفت إليّ من بين السحاب , ينظر إلى جسدي دامعاً , تختلط دموعه بالمطر , و تتساقط على الأرض قطرات .
تعليق