في أقبية الداخلية ( آخر قصة قصيرة كتبت )
permalink
permalink
"الداخلية " هي وزارة الداخلية التونسية زمن الرئيس المخلوع
رنَّ جرس الهاتف ، فأصابه بغتة إِحساس بالفزع . نهض متعثِّرا ليرد . فجاء صوته ممزوجا بالخوف والارتعاش ، لا يكاد يسمعه هو نفسه :
- ألو .. ألو ...
ردَّ مخاطبه بصوت أجش في نبراته حدَّة و خشونة :
- أحمد .. أحمد .. الزم بيتك لا تغادره .. أفهمت ؟ الأمر خطير..سأتصل بك لاحقا ...
وانقطع الخط .. أحسَّ بالهلع من هذا الصوت القادم عبر الهاتف ، زرع في نفسه الرُّعب والخوف.. لم يترك له فرصة استيضاح الأمر ولعله في تلعثمه، ظلَّ يبتلع ريقه.. فلم تخرج الكلمات .. و لا سمعها مخاطبه.
ظل يدور في الغرفة كالمجنون .. يحاول أن يستعيد هدوءه كي يستوعب ما سمع .. يحاول أن يفهم لماذا طلب منه زميله في العمل أن يلزم بيته لا يغادره .. هل حياته في خطر ؟ هل خرجت الأمور عن السيطرة ؟ أشعل سيجارة وأخذ يدخن بنهم غير عادي.. ولم يجد في السِّيجارة تلك النكهة التي يجدها عادة المدخنون .. إذن الأمر خطير. وعليه أن يلزم البيت ، فالاحتجاجات والمظاهرات هذه الأيام في كل مكان.. جلس على حافة سريره و هو يريد أن يبدو هادئا .. و لكن الحيرة بدأت تتآكله ، تقذف به في غياهب المجهول والظلمة.
... الظلمة.. آه من الظلمة القاتلة ، في ليالي الشتاء البارد ، في هذه الأقبية و الزنازين التي تشبه القبور. إن "ورديته" الليلة لا تنذر بخير أنواء و رعود و برق .. والبرد قارس هذه الليلة، قارس جدا .. جدا .. انتبه من شروده على صوت زميله يسأله
- هل جاء " الشاف" ؟ ... رد بلا مبالاة :
- ما أدراني . لا أعرف .. أظنه .. لا..لا لم يأت.
ما أطول ليل الشتاء القارس .. وما أقساه .. ما آلمه. وما أطوله خصوصا على أولئك الذين هم في الداخل.. في تلك الأقبية الموحشة .. في تلك الزنازين التي تنبعث منها رائحة العفونة و الموت والدم المتخثر على الحيطان و الممرات.. إن المرء عليه أن ينسى الحياة في الخارج و نعيمها حين تطأ قدماه هذه الزنازين .. إِنها بصراحة ذلك الخيط الفاصل بين الحياة و الموت.
إن المساجين هنا ليس لهم من يومهم و ليلهم سوى التعذيب، يدمنونه حتى لكأنه أفيونا ، يعتادون عليه حتى لا يعود له تأثير عليهم يذكر. إِن أجسادهم قد تصلبت، تكلست بحيث لم تعد تشعر بشيء و لا تحس بألم . هؤلاء صاروا أشباحا . هم أشبه بالموتى. بل هم موتى مع تأجيل التنفيذ
لم يخطروا بباله مرة .. لم يفكر فيهم أبدا بالرغم من أنه معهم بالليل و النهار. فلماذا تراه يذكرهم الآن ؟ .. ألأن الطقس بارد الليلة برودة غير عادية ؟! .. لا .. لا أظن .. فهم في الزنازين متعودون على البرد و في جلسات الاستنطاق والتعذيب يحسون من البرد ما لا تحتمله الأجساد إذن لماذا ؟ لا يدري .. لا يدري ، و كفى ... و ليذهبوا إلى الجحيم. هم الذين جلبوا لأنفسهم كل هذا الهوان والعذاب .. هم المسؤولون عن هذا المصير البائس الذي وضعوا فيه أنفسهم .. ومن أجل من ؟ و من أجل ماذا ؟ كله هراء ... كله هراء .. و إذا كان الأمر لا طائل من ورائه، فليس لهم الا احتمال التعذيب و التنكيل و الألم . لن نكون أرأف بهم من أنفسهم .
جردوها من ملابسها و مددوها على الطاولة .. و ظلت عيونهم الوقحة تنهش جسدها الغض الطَّري وتحملق في تفاصيل هذا الجسد الممدَّد العاري .. تبدو الوليمة تغري .. كانت أنفاس الدُّخان المتصاعد من أعقاب سجائرهم كريهة نتنة. وضحكاتهم السَّاخرة التي تجاوب أرجاء المكان تثير القرف و الشعور بالغبن .. ظل يتفرس في وجوههم الكالحة و هم يبدون مثل ذئاب جائعة متحفزة للانقضاض على الفريسة .. كيف أمكنهم أن يكونوا بهذه السَّاديَّة .. بهذه العنجهية .. بهذا الصلف ؟..
تناوبوا عليها الواحد تلو الآخر. في مشهد هو أقرب إلى الحيوانية منه الى الآدمية . كانت ممددة بلا حراك.. جسدا بلا روح .. والعجيب أنها لم تصرخ و لم تستعطف . ولكنه كان قادرا على أن يرى في عينيها كلَّ ذلك التحدي والشموخ .. لم يحتمل المشهد فأشاح بوجهه عنهم . كان يجد رغبة في أن يتقيأ.. أن يلفظ هذه السُّموم من أحشائه .. ما أمرَّ هذه النظرات التي ظلت ترمقه بها. هو لم يشارك في الوليمة .. و لكنه أحسَّ في نظراتها إِدانة و أي إِدانة. إِحساس مؤلم موجع اعتراه .. فلكأنَّها تحمله مسؤولية ما تتعرض إِليه و هو شاهد زور بامتياز. و لكن ماذا له أن يفعل لهذه الوحوش الآدمية التي اجتمعت حول وليمة و أي وليمة ؟ ...
و بعد هذا المشهد الدرامي المثير للقرف أجلسوها على كرسي خشبي.. لم تكن تقدر أن ترفع رأسها أو تصلب قامتها.. كانت تبدو كخرقة بالية كقشة يحملها التراب في يوم عاصف . سألها كبيرهم :
- ما اسمك ؟
فردت بصوت تكاد تتبين في نبراته حدة القهر والخذلان :
- سعيدة
انتفض و هو يسمع الإسم .. "سعيدة" .. و تجاوب في أعماقه ألم يكاد يقفز من بين ضلوعه.. وظل الإِسم يتردد على مسمعه "سعيدة" .. "سعيدة" .. "سعيدة" …آه كم يشتاقها .. منذ أربعة شهور لم يرها.. منذ أربعة شهور لم يعد إلى قريته البعيدة .. منذ أن انطلقت المظاهرات في البلاد منعوا عنهم الإِجازات .. لم ير سعيدة و أمَّه .. ما حال والده ؟ لقد أقعده المرض ولم يعد يقدر على مغادرة الفراش .. صار يثير الشفقة .. آه لقد فقد المظلة التي كان يستظل بها .. ثقل عليه الحمل حتى لم يعد قادرا على إِحتماله .. كيف له أن يقوم بأود عائلة ربُّها مقعد ، و أم عجوز و خمسة أفواه مفتوحة لرغيف صار أمرَّ من المرارة .. و هل ما يتقاضاه من عمله يقوم بأود هذه العائلة البائسة ؟ .. آه كم يشتاق "سعيدة" .. يظل يذكرها في ليالي الوحدة و الشتاء الباردة ، و حين لا يجد فرصة للعودة الى قريته في ريفه البعيد .. إِنَّه يحبها ، فهي بالنسبة اليه سلواه وبصيص النور الذي لا زال يرى به الحياة في صفوها.. مازال يذكر حين كانا طفلين يدرجان الى مدرسة قريته البعيدة .. يقطعان الطريق الطويل سويًّا .. كانت "سعيدة" تبدو دائما مفعمة بالمرح و الزَّهو، وكانت ضحكاتها البريئة تملأ الأرجاء .. تراها تنطُّ أو تجري أو تعابث أخاها .. يعجبه ضفيرتيها المتدليتين المتراقصتين وقرطيها الفضيَّيْن اللامعيْن .. و كانت إِذا أضناها السير جلست على الأرض متهالكة .. ولم يكن له من حل سوى حملها على ظهره حتى باب المدرسة ..
لقد كانت تجد في الأمر متعة. فكنت تسمع قهقهاتها و ترى ابتساماتها الجميلة على شفتيها الصغيرتين .. إنه يحب أن يشعر بأنه مسؤول عنها وعن حمايتها .. عن كل شيء يخصُّها .. يحس أنها أقرب إخوته إليه .. لو اجتمع في قلبه حب جميع النَّاس ما عادل حبه لأخته "سعيدة" .. لم يكن يتصور يوما أن يبتعد عنها .. يرى أنها في غيابه لا يمكن أن تكون شيئا .. يشعر بواجب تجاهها أقوى من كل شيء .. و الرابطة التي تربطه بها أقوى من أي رابطة .. هو حاميها و راعيها و المدافع والمسؤول عنها .. فلِمَ لمْ تأخذه النخوة ؟ لِمَ لمْ يدافع عن "سعيدة" التي اغتصبوها للتوِّ أمامه ؟ لِم لمْ يدافع عن "سعيدة" هذه ؟ لم لمْ يمنعهم ؟ أليست في منزلة أخته ؟ لا شك أنها في مثل سنها .. أحسَّ بالخجل من نفسه.. أراد أن يهرب من كل شيء .. من هذا القرف الذي يحيط به .. من هؤلاء الأوغاد .. من نظرات الإِدانة في عيني هذه البائسة الممدَّدة على اللَّوح الخشبي عارية ترتعش من البرد و هول الصدمة .. أن يهرب من أفكاره.. من ذكرياته .. و حتى من نفسه .. و لعلَّ الرجولة هي التي خذلته.. لم يصدق أنه وقف يتفرج على مشهد هؤلاء الذئاب تفترس جسد هذه المسكينة . أين الإِباء ؟ .. أين نخوة ابن الريف المحافظ الذي يموت دفاعا عن شرفه ؟..
ادعى أنه يريد الذهاب إلى بيت الراحة.. لكن المشهد كان ثقيلا عليه .. لم يحتمله . لم يحتمل أن يراهم يطفئون أعقاب سجائرهم في كل شبر من هذا الجسد الغضِّ الطريِّ .
إِنه لا يزال في غرفته مسمَّرا في مكانه .. لا يزال رنين جرس الهاتف يقرع دماغه قرعا .. ضاقت عليه الحجرة بما رحبت . أحسَّ باختناق .. و شعر بحاجة للخروج من هذا الوضع النَّفسي الضاغط البائس .. أشعل جهاز التلفزيون .. لقد صار يتسقط الأخبار من الفضائيات ، ومن الجزيرة خصوصا ، رغم احترازه عليها و على تغطيتها للأحداث الدائرة هذه الأيام .. زملاؤه يقولون أنها قناة غير محايدة بل يذهبون الى حد تحميلها مسؤولية ما يحصل في البلد إنها تذكي نار الفتنة و تحرض الشعب على حكومته .. هكذا يقولون .. أما هو فيحب أن يرى في الإعلانات "الشيخ أحمد - هرمنا" .. يتمنى أن تتاح له فرصة أن يقبل هذه الرأس .. أن يلثم هذه الشيبة .. لم يفهم تماما ما قاله و لكن أحسَّ في صوته حكمة بالغة "هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية" يظل يرددها كأغنية .. و لكن أين هو من الشيخ أحمد ؟ .. يسبُّ نفسه في سره، هو أحمد أما أنت فلا حُمِّدَ لك عمل ولا صيت .. و ينكفيء على نفسه أضنته الهواجس و أخذ منه الخوف و التعب .. يفتح نافذة الحجرة، فيطالعه في آخر الشارع شبَّانا يحملون عِصيًّا و هراوات و قد لفعوا رؤوسهم و تدثَّروا بملابس ثقيلة تقيهم برد ليالي الشتاء القارس .. لقد أقاموا متاريس و نقاط تفتيش في مدخل كل شارع و نهج و حارة .. يبدو على و جوههم تصميم غريب وإصرار على حماية أحيائهم و عائلاتهم و ممتلكاتهم من اللصوص والناهبين ومن القتلة الذين يريدون في ظل هذا الانخرام الأمني الاعتداء على المواطنين و بث الرُّعب و الخوف بينهم ..
إن هذه الشرذمة تريد افشال الثورة و تحريض الناس على قتل بعضهم البعض .. يريدون أن يكونوا هم أو بعدهم العدم .. و لكن هيهات .. ويظل هؤلاء الشبان يقضون الليل بطوله يتسامرون و يتحدثون حديث الثورة .. يتندرون و يضحكون أو يقهقهون و يشربون الشَّاي إلى الصباح ...
في تلك الليلة بدا كل شيء مختلفا .. و بدا" الشاف "على عادته في تمام أناقته و عنفوانه .. و تبدأ السهرة .. ليل طويل بارد و قاس .. و ليس عليك الا أن تطيع الأوامر .. أُجلس الشابُّ على كرسي فيه هوة . قال له " الشاف" :
- على هذا الكرسي خصينا بضع رفاق لك .. فاعترف الآن .. اعترف الأن .
قال الشاب و هو يحاول أن يستجمع قواه :
- وبماذا سأعترف ؟
قال الشاف الذي يحاول أن يبدو هادئا :
-هذه الورقة عليك أن توقِّعها .. ليس الا أن توقع ثم تذهب في حال سبيلك.. سنطلق سراحك الأمر سهل و في غاية البساطة ..مجرد توقيع ليس الا .
ثم أشعل للشاب سيجارة . فاخذ منها نفسا عميقا .. ثم نظر في الورقة .. قرأها بتمعُّن . ثم انتفض كالملدوغ و ألقى بها ...التقطها الشاف بعصبية و هو يحاول أن يكضم غيضه و سأله :
- لماذا ألقيت بها .. لقد قلت لك إِنها لا تحملك أي إِدانة.. فقط اعتراف وتوقيع ينتهي بعده كل شيء . ألا تحب أن تعود إِلى بيتك ؟ ألا تريد أن ترى أمك وعائلتك ؟ ... ردَّ الشاب مشمئزا :
- في هذه الورقة تهمة تحملني الى ما وراء الشمس . تطلب مني أن أوقع على شيء لم أفعله ؟ على جرم لم أرتكبه ؟
- كل ما في الأمر هو أن تقرَّ بأنَّه قد غرر بك من قبل هذه الجماعة .. و أنك لم تكن تعلم بنوايا هذا التنظيم السِّريِّ الذي يسعى إِلى قلب نظام الحكم . أنت لست سوى ضحية لهؤلاء الأوغاد .. أنت لا زلت شابًّا .. فكر في مستقبلك .. فكر في أمك المسكينة التي ليس لها في الدنيا غيرك . وقِّع و أعدك بشرفي أنه لن يقع تتبعك .
- لا لن أوقع .
حينها استشاط" الشَّاف "غضبا و لطمه على وجهه لطمة سقط على إِثرها من الكرسي و ارتطم رأسه بالأرض فأخذ يدوسه بقدمه بوحشية لا تصدق و هو يزمجر و يردد :
- ستوقع غصبا عنك .. و سنرى أيُّنا سيصمد الى النهاية .
مسح الشاب الدَّم الذي سال من فمه و قال في نوع من التحدي النادر :
- افعل ما بدا لك .. لكن تأكد أنك لن تنتزع مني أي اعتراف . عنوة أو باللِّين. وسترى ان ثورتنا الأبية ستكنسكم الى مزبلة التاريخ . فاتكم القطار .. فاتكم القطار.
و ما أن أتم كلامه حتى اندفع نحوه "الشَّاف" يلطمه و يركله و يدوسه حتى أنه كان يمكن سماع تكسر عظام الشاب تحت قدميْه . و صاح فينا :
- القط .. القط ..القط ...
و أدرك الحرَّاس أن "الشَّاف" غاضب جدا .. و أنه في فورة غضبه لا يتورع أن يطيح بمسدسه بأيِّ رأس. و جيء بالقط الأسود .. و جُرِّد الشاب من ثيابه تجريدا. ووضع فوق الطاولة و هو يصرخ" : أنجاس.. أنجاس ..أنجاس".
ودُسَّ رأسه في كيس من البلاستك و لُفَّ جسده بخرقة ثم رُبط القط في أسفل قدمه و ضُرب ، فكنت تراه فوق جسد الشاب النحيل يكشط اللحم كشطا بأضافره الحادة . و الشاب يصرخ من الألم صراخا لا تحتمله أذن . وبعد فترة أُطلق القط و عُرِّي الجسد المسجَّى فكان عبارة عن كومة من اللُّحم المتناثر غطَّاها الدَّم النَّازف من كل جهة. يقول ملف الضحية إنَّ الشاب في سنِّ الثلاثين متحصل على الإِجازة في الحقوق و هو يعاني من البطلة القسْرية منذ خمس سنوات مثله مثل الغالبية العظمى من أصحاب الشهادات العليا العاطلين . خرج كغيره من الشَّبان يطالب بالكرامة و الخبز. فقبض عليه و زج به في زنازين الداخلية يعاني كغيره من الشباب الثائر صنوف التعذيب التي يبرع فيها هؤلاء الأوغاد.
يظل يسترق السَّمع .. ينظر من تحت الباب أو من الكوة .. فلعهم قادمون اليه .. يكاد يسمع وقع اقدامهم على السلالم .. يتخيلهم يكسرون الباب .. يحطمون الأقفال .. يندفعون نحوه بكل ما في قلوبهم من غيض و تشفّ ورغبة في الإِنتقام .. يضع يديه على وجهه و يغمض عينيه كي لا يراهم. فتعاوده كوابيس القط الأسود. تقول أمه "القطوس تابعة يا بني ... الله يجيرنا" ...
لم يعد يقدر على النَّوم .. بل لم يعد راغبا فيه أصلا .. صار يرى أن حياته تفر منه .. ما عاد قادرا على أن يحياها محاطا بهذه الكوابيس. قال الشَّاف :
- سنخرج اليوم في مهمة دعم . الاحتجاجات و المظاهرات لم تتوقف منذ أسبوعين و المسؤولون قلقون .. الأمور تكاد تخرج عن السيطرة . لذا يجب التصدِّي للمخربين و مثيري الشغب .. هؤلاء الشِّرذمة من الفاسدين والحاقدين و اللُّصوص .. لقد وجدوا في الإِنفلات الأمنيِّ فرصة للسَّلب والنهب و السرقة .. علينا أن نضرب بكل حزم .. بكل حزم . لا تتورعوا في استعمال كل الوسائل المتاحة لردعهم . لا يجب أن تتزعزع أركان النظام وإِلاَّ عمَّت الفوضى و عمَّ الخراب ...
سمع زميله يخاطب مرؤوسيه و في نبراته خوف غير عادي :
- سيدي إِنَّهم يحاصروننا من كل جانب .. يهجمون علينا .. نحن محاصرون و نفتقد للدَّعم .
جاءه عبر الخلوي صوت حازم ، قوي يصرخ فيه :
- كرطوش .. كرطوش ... نظر اليه زميله و قد رأى على وجهه علامات الخوف و التردد و قال له :
- هل سبق أن استعملت سلاحا ؟
- ليس إِلاَّ في التدريبات .
- اذن أمسكْ زناد المسدس جيِّدا. دعْ يدك ممدودة الى الأمام ، في مستوى رأسك .. حاذر أن ترتخي ذراعك كي لا ترتد عليك الرصاصة .. حاول ألاَّ تخطيء الرأس أو الرقبة .
و سمع أحد زملائه يصيح مفزوعا :
- هناك .. هناك .. إِنه يحمل سلاحا .. ذاك الجاثم على ركبتيه .. انه يصوب نحونا ..
لم يدر كيف خرجت الرَّصاصة من مسدسه .. و لم تخطيء الرجل الذي لم يكن يفصله عنهم سوى أمتار قليلة.. و تفرق بقية المتظاهرين في الأزقة و الانهج .. كان الرَّصاص يلعلع والصراخ يتعالى و الفوضى في كل مكان ، و رائحة الموت تنتشر في كل الارجاء .. انه ليوم عصيب .. تقدم في حذر ليلقي نظرة على الرجل الذي أصابه بطلقة من مسدسه..فوجده لا يزال يتخبط في دمائه .. حدَّق فيه مليًّا .. ما كان ليخطئه ..أحسَّ بشعور متداخل .. حتما لم يكن يريد أن يطلق عليه النار.. لكنه كان يحمل سلاحا .. حرَّكه بقدمه يفحص الجسد المضرَّج بالدماء .. ما عاد فيه رمق من حياة .. مات.. مات .. لكن أين السلاح الذي كان يحمله ؟ .. لم يكن في يد الرجل الا خبزة أشهرها في وجوهنا نحن القتلة ...
لم يصدق ما يرى .. ثم أخذ يجري في كل اتجاه كالمعتوه وهو يصرخ إِنها مجرد خبزة .. انها مجرد خبزة .. لم تكن أبدا سلاحا . و ظلَّ يجري و يجري و يجري حتى وصل أمام باب غرفته .. دفعه بقوة و دخل ارتمى على سريره وأجهش بالبكاء .. بكى كما لم يبك أبدا ...
في الصَّباح .. دخل مقر عمله. أحسَّ بأن هناك أمرا غير عادي سيقع .. ما هو ؟ لا يدري .. رأسه يكاد ينفجر من الألم .. لم يعد يجد الطريق إِلى النوم .. يظل طول اللَّيل ملقى على فراشه يحملق في السَّقف ، شارد الذهن ، لا ينام أبدا . و حين يطلع النهار يلبس ثيابه و يقصد مقرَّ عمله . كانت مكاتب الموظفين لا تزال مغلقة.. كم الساعة الآن ..؟ لا يدري .. أتراه بكَّر الى المكتب على غير العادة أم وصل متأخرا ؟ فتح مكتبه و ترك المفاتيح تسقط على الطاولة .. و كان رأسه لا يزال يؤلمه .. صداع رهيب غير محتمل . همَّ بالخروج ليطلب قهوة الصَّباح لعل العم سالم قد وصل . تناهت إِلى مسمعيه أصوات ظلت تتعالى ثم تقترب شيئا فشيئا .. لكنه لم يكن قادرا على تبيُّنها إِن رأسه يؤلمه كثيرا و الأصوات تتعالى . إِنها في الخارج .. أتراهم وصلوا الى هنا ؟ .. مستحيل و من يجرؤ ليقترب من هذا الحصن المنيع .. لا .. لا ... لا بد أنه يتخيل ثم إِن هذا الصداع يكاد يقتله .. و الأصوات تزداد قربا حتى لكأنَّها تحاصره .. تضيِّق عليه الخناق .. لقد صارت الآن أكثر وضوحا و قربا .. أصوات الحشود و الجماهير لا يخطئها أبدا .. لقد خبرها في ملاعب الكرة ..إِنها كالموج الهادر .. كالطوفان الجارف .. كالاعصار.
صعد إِلى الطابق العلوي يستطلع أمرا ظل مريبا .. فتح النافذة و نظر إِلى الشارع الكبير الممتد.. يا للهول ما هذه الجموع .. ما هذه الحشود البشرية .. من أين طلعوا ؟ .. من أين جاءوا ؟ .. و كيف وصلوا إِلى هنا . لطالما اعتقد ألا قوة في العالم قادرة على الوصول إِلى هنا ..الناس ينتشرون على مرمى البصر يأتون من كل حدب و صوب كبار و صغار نساء ورجال شيوخ وأطفال . .رؤوس مرفوعة ، و هامات منصوبة ، و قامات مديدة .شعارات ، و هتافات ، و صفير، وصراخ ، و نداءات ... يا إِلهي إِنه لا يكاد يصدق ما يرى.. يكاد الشارع يغصُّ بهم رغم اتساعه و كبره .. لم يشهد شارع الحبيب بورقيبة جموعا كهذه .. ناس على كل طيف و لون .. ترى في وجوههم إِصرارا و عنادا و تحديا و كبرياء إِنها هبة شعب .. فعليه ألا يقف في وجه التيار. هؤلاء لا تنفع معهم ماتراك و لا حتى كرطوش .. كان يدرك أنهم جاءوا ليقتصوا منه .. ليأخذوا بثأرهم ممن باع نفسه لجلاديه .. و قف ضد الشعب، و ضد إِرادة الجماهير .. إِنهم يحاصرونه .. يطاردونه يمسكون به .. يطرحوه أرضا .. يستلون عصيهم و خناجرهم .. إِنه يهرب .. في أروقة المبنى يظل يجري .. و يجري .. و يجري تلاحقه كلمة ظل صداها يتردد في أرجاء هذا الشارع الفسيح ديقاج .. ديقاج .. ديقاج ...
لم يتوقف عن الجري .. ظل يجري .. ويجري .. و يجري حتى أدرك غرفته. دفع الباب بعنف شديد .. و أغلقه خلفه بكل عناية .. كان وجهه مصفرا شاحبا وكانت عيناها غائرتيْن .. أحس مجددا بألم في رأسه يكاد يقتلع عينيه من جذورها .. أخذته رعشة و شعر بالبرد ينفذ عبر مسامه .. وظلت أصوات الحشود تتجاوب إِلى سمعه .. تحاصره الظنون من جانب .. و تكاد الهواجس تقتله و الخوف يقضي عليه ... طُرِق الباب بشدَّة و جاء صوت قوي خشن :
- أحمد .. أحمد افتح الباب .. بسرعة .. بسرعة .
ولمَّا لم يجبْه أحدٌ .. نظر من كُوَّة الباب فرأى ساقيْن تتدليان لِجسد معلَّق في السَّقْف.
رنَّ جرس الهاتف ، فأصابه بغتة إِحساس بالفزع . نهض متعثِّرا ليرد . فجاء صوته ممزوجا بالخوف والارتعاش ، لا يكاد يسمعه هو نفسه :
- ألو .. ألو ...
ردَّ مخاطبه بصوت أجش في نبراته حدَّة و خشونة :
- أحمد .. أحمد .. الزم بيتك لا تغادره .. أفهمت ؟ الأمر خطير..سأتصل بك لاحقا ...
وانقطع الخط .. أحسَّ بالهلع من هذا الصوت القادم عبر الهاتف ، زرع في نفسه الرُّعب والخوف.. لم يترك له فرصة استيضاح الأمر ولعله في تلعثمه، ظلَّ يبتلع ريقه.. فلم تخرج الكلمات .. و لا سمعها مخاطبه.
ظل يدور في الغرفة كالمجنون .. يحاول أن يستعيد هدوءه كي يستوعب ما سمع .. يحاول أن يفهم لماذا طلب منه زميله في العمل أن يلزم بيته لا يغادره .. هل حياته في خطر ؟ هل خرجت الأمور عن السيطرة ؟ أشعل سيجارة وأخذ يدخن بنهم غير عادي.. ولم يجد في السِّيجارة تلك النكهة التي يجدها عادة المدخنون .. إذن الأمر خطير. وعليه أن يلزم البيت ، فالاحتجاجات والمظاهرات هذه الأيام في كل مكان.. جلس على حافة سريره و هو يريد أن يبدو هادئا .. و لكن الحيرة بدأت تتآكله ، تقذف به في غياهب المجهول والظلمة.
... الظلمة.. آه من الظلمة القاتلة ، في ليالي الشتاء البارد ، في هذه الأقبية و الزنازين التي تشبه القبور. إن "ورديته" الليلة لا تنذر بخير أنواء و رعود و برق .. والبرد قارس هذه الليلة، قارس جدا .. جدا .. انتبه من شروده على صوت زميله يسأله
- هل جاء " الشاف" ؟ ... رد بلا مبالاة :
- ما أدراني . لا أعرف .. أظنه .. لا..لا لم يأت.
ما أطول ليل الشتاء القارس .. وما أقساه .. ما آلمه. وما أطوله خصوصا على أولئك الذين هم في الداخل.. في تلك الأقبية الموحشة .. في تلك الزنازين التي تنبعث منها رائحة العفونة و الموت والدم المتخثر على الحيطان و الممرات.. إن المرء عليه أن ينسى الحياة في الخارج و نعيمها حين تطأ قدماه هذه الزنازين .. إِنها بصراحة ذلك الخيط الفاصل بين الحياة و الموت.
إن المساجين هنا ليس لهم من يومهم و ليلهم سوى التعذيب، يدمنونه حتى لكأنه أفيونا ، يعتادون عليه حتى لا يعود له تأثير عليهم يذكر. إِن أجسادهم قد تصلبت، تكلست بحيث لم تعد تشعر بشيء و لا تحس بألم . هؤلاء صاروا أشباحا . هم أشبه بالموتى. بل هم موتى مع تأجيل التنفيذ
لم يخطروا بباله مرة .. لم يفكر فيهم أبدا بالرغم من أنه معهم بالليل و النهار. فلماذا تراه يذكرهم الآن ؟ .. ألأن الطقس بارد الليلة برودة غير عادية ؟! .. لا .. لا أظن .. فهم في الزنازين متعودون على البرد و في جلسات الاستنطاق والتعذيب يحسون من البرد ما لا تحتمله الأجساد إذن لماذا ؟ لا يدري .. لا يدري ، و كفى ... و ليذهبوا إلى الجحيم. هم الذين جلبوا لأنفسهم كل هذا الهوان والعذاب .. هم المسؤولون عن هذا المصير البائس الذي وضعوا فيه أنفسهم .. ومن أجل من ؟ و من أجل ماذا ؟ كله هراء ... كله هراء .. و إذا كان الأمر لا طائل من ورائه، فليس لهم الا احتمال التعذيب و التنكيل و الألم . لن نكون أرأف بهم من أنفسهم .
جردوها من ملابسها و مددوها على الطاولة .. و ظلت عيونهم الوقحة تنهش جسدها الغض الطَّري وتحملق في تفاصيل هذا الجسد الممدَّد العاري .. تبدو الوليمة تغري .. كانت أنفاس الدُّخان المتصاعد من أعقاب سجائرهم كريهة نتنة. وضحكاتهم السَّاخرة التي تجاوب أرجاء المكان تثير القرف و الشعور بالغبن .. ظل يتفرس في وجوههم الكالحة و هم يبدون مثل ذئاب جائعة متحفزة للانقضاض على الفريسة .. كيف أمكنهم أن يكونوا بهذه السَّاديَّة .. بهذه العنجهية .. بهذا الصلف ؟..
تناوبوا عليها الواحد تلو الآخر. في مشهد هو أقرب إلى الحيوانية منه الى الآدمية . كانت ممددة بلا حراك.. جسدا بلا روح .. والعجيب أنها لم تصرخ و لم تستعطف . ولكنه كان قادرا على أن يرى في عينيها كلَّ ذلك التحدي والشموخ .. لم يحتمل المشهد فأشاح بوجهه عنهم . كان يجد رغبة في أن يتقيأ.. أن يلفظ هذه السُّموم من أحشائه .. ما أمرَّ هذه النظرات التي ظلت ترمقه بها. هو لم يشارك في الوليمة .. و لكنه أحسَّ في نظراتها إِدانة و أي إِدانة. إِحساس مؤلم موجع اعتراه .. فلكأنَّها تحمله مسؤولية ما تتعرض إِليه و هو شاهد زور بامتياز. و لكن ماذا له أن يفعل لهذه الوحوش الآدمية التي اجتمعت حول وليمة و أي وليمة ؟ ...
و بعد هذا المشهد الدرامي المثير للقرف أجلسوها على كرسي خشبي.. لم تكن تقدر أن ترفع رأسها أو تصلب قامتها.. كانت تبدو كخرقة بالية كقشة يحملها التراب في يوم عاصف . سألها كبيرهم :
- ما اسمك ؟
فردت بصوت تكاد تتبين في نبراته حدة القهر والخذلان :
- سعيدة
انتفض و هو يسمع الإسم .. "سعيدة" .. و تجاوب في أعماقه ألم يكاد يقفز من بين ضلوعه.. وظل الإِسم يتردد على مسمعه "سعيدة" .. "سعيدة" .. "سعيدة" …آه كم يشتاقها .. منذ أربعة شهور لم يرها.. منذ أربعة شهور لم يعد إلى قريته البعيدة .. منذ أن انطلقت المظاهرات في البلاد منعوا عنهم الإِجازات .. لم ير سعيدة و أمَّه .. ما حال والده ؟ لقد أقعده المرض ولم يعد يقدر على مغادرة الفراش .. صار يثير الشفقة .. آه لقد فقد المظلة التي كان يستظل بها .. ثقل عليه الحمل حتى لم يعد قادرا على إِحتماله .. كيف له أن يقوم بأود عائلة ربُّها مقعد ، و أم عجوز و خمسة أفواه مفتوحة لرغيف صار أمرَّ من المرارة .. و هل ما يتقاضاه من عمله يقوم بأود هذه العائلة البائسة ؟ .. آه كم يشتاق "سعيدة" .. يظل يذكرها في ليالي الوحدة و الشتاء الباردة ، و حين لا يجد فرصة للعودة الى قريته في ريفه البعيد .. إِنَّه يحبها ، فهي بالنسبة اليه سلواه وبصيص النور الذي لا زال يرى به الحياة في صفوها.. مازال يذكر حين كانا طفلين يدرجان الى مدرسة قريته البعيدة .. يقطعان الطريق الطويل سويًّا .. كانت "سعيدة" تبدو دائما مفعمة بالمرح و الزَّهو، وكانت ضحكاتها البريئة تملأ الأرجاء .. تراها تنطُّ أو تجري أو تعابث أخاها .. يعجبه ضفيرتيها المتدليتين المتراقصتين وقرطيها الفضيَّيْن اللامعيْن .. و كانت إِذا أضناها السير جلست على الأرض متهالكة .. ولم يكن له من حل سوى حملها على ظهره حتى باب المدرسة ..
لقد كانت تجد في الأمر متعة. فكنت تسمع قهقهاتها و ترى ابتساماتها الجميلة على شفتيها الصغيرتين .. إنه يحب أن يشعر بأنه مسؤول عنها وعن حمايتها .. عن كل شيء يخصُّها .. يحس أنها أقرب إخوته إليه .. لو اجتمع في قلبه حب جميع النَّاس ما عادل حبه لأخته "سعيدة" .. لم يكن يتصور يوما أن يبتعد عنها .. يرى أنها في غيابه لا يمكن أن تكون شيئا .. يشعر بواجب تجاهها أقوى من كل شيء .. و الرابطة التي تربطه بها أقوى من أي رابطة .. هو حاميها و راعيها و المدافع والمسؤول عنها .. فلِمَ لمْ تأخذه النخوة ؟ لِمَ لمْ يدافع عن "سعيدة" التي اغتصبوها للتوِّ أمامه ؟ لِم لمْ يدافع عن "سعيدة" هذه ؟ لم لمْ يمنعهم ؟ أليست في منزلة أخته ؟ لا شك أنها في مثل سنها .. أحسَّ بالخجل من نفسه.. أراد أن يهرب من كل شيء .. من هذا القرف الذي يحيط به .. من هؤلاء الأوغاد .. من نظرات الإِدانة في عيني هذه البائسة الممدَّدة على اللَّوح الخشبي عارية ترتعش من البرد و هول الصدمة .. أن يهرب من أفكاره.. من ذكرياته .. و حتى من نفسه .. و لعلَّ الرجولة هي التي خذلته.. لم يصدق أنه وقف يتفرج على مشهد هؤلاء الذئاب تفترس جسد هذه المسكينة . أين الإِباء ؟ .. أين نخوة ابن الريف المحافظ الذي يموت دفاعا عن شرفه ؟..
ادعى أنه يريد الذهاب إلى بيت الراحة.. لكن المشهد كان ثقيلا عليه .. لم يحتمله . لم يحتمل أن يراهم يطفئون أعقاب سجائرهم في كل شبر من هذا الجسد الغضِّ الطريِّ .
إِنه لا يزال في غرفته مسمَّرا في مكانه .. لا يزال رنين جرس الهاتف يقرع دماغه قرعا .. ضاقت عليه الحجرة بما رحبت . أحسَّ باختناق .. و شعر بحاجة للخروج من هذا الوضع النَّفسي الضاغط البائس .. أشعل جهاز التلفزيون .. لقد صار يتسقط الأخبار من الفضائيات ، ومن الجزيرة خصوصا ، رغم احترازه عليها و على تغطيتها للأحداث الدائرة هذه الأيام .. زملاؤه يقولون أنها قناة غير محايدة بل يذهبون الى حد تحميلها مسؤولية ما يحصل في البلد إنها تذكي نار الفتنة و تحرض الشعب على حكومته .. هكذا يقولون .. أما هو فيحب أن يرى في الإعلانات "الشيخ أحمد - هرمنا" .. يتمنى أن تتاح له فرصة أن يقبل هذه الرأس .. أن يلثم هذه الشيبة .. لم يفهم تماما ما قاله و لكن أحسَّ في صوته حكمة بالغة "هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية" يظل يرددها كأغنية .. و لكن أين هو من الشيخ أحمد ؟ .. يسبُّ نفسه في سره، هو أحمد أما أنت فلا حُمِّدَ لك عمل ولا صيت .. و ينكفيء على نفسه أضنته الهواجس و أخذ منه الخوف و التعب .. يفتح نافذة الحجرة، فيطالعه في آخر الشارع شبَّانا يحملون عِصيًّا و هراوات و قد لفعوا رؤوسهم و تدثَّروا بملابس ثقيلة تقيهم برد ليالي الشتاء القارس .. لقد أقاموا متاريس و نقاط تفتيش في مدخل كل شارع و نهج و حارة .. يبدو على و جوههم تصميم غريب وإصرار على حماية أحيائهم و عائلاتهم و ممتلكاتهم من اللصوص والناهبين ومن القتلة الذين يريدون في ظل هذا الانخرام الأمني الاعتداء على المواطنين و بث الرُّعب و الخوف بينهم ..
إن هذه الشرذمة تريد افشال الثورة و تحريض الناس على قتل بعضهم البعض .. يريدون أن يكونوا هم أو بعدهم العدم .. و لكن هيهات .. ويظل هؤلاء الشبان يقضون الليل بطوله يتسامرون و يتحدثون حديث الثورة .. يتندرون و يضحكون أو يقهقهون و يشربون الشَّاي إلى الصباح ...
في تلك الليلة بدا كل شيء مختلفا .. و بدا" الشاف "على عادته في تمام أناقته و عنفوانه .. و تبدأ السهرة .. ليل طويل بارد و قاس .. و ليس عليك الا أن تطيع الأوامر .. أُجلس الشابُّ على كرسي فيه هوة . قال له " الشاف" :
- على هذا الكرسي خصينا بضع رفاق لك .. فاعترف الآن .. اعترف الأن .
قال الشاب و هو يحاول أن يستجمع قواه :
- وبماذا سأعترف ؟
قال الشاف الذي يحاول أن يبدو هادئا :
-هذه الورقة عليك أن توقِّعها .. ليس الا أن توقع ثم تذهب في حال سبيلك.. سنطلق سراحك الأمر سهل و في غاية البساطة ..مجرد توقيع ليس الا .
ثم أشعل للشاب سيجارة . فاخذ منها نفسا عميقا .. ثم نظر في الورقة .. قرأها بتمعُّن . ثم انتفض كالملدوغ و ألقى بها ...التقطها الشاف بعصبية و هو يحاول أن يكضم غيضه و سأله :
- لماذا ألقيت بها .. لقد قلت لك إِنها لا تحملك أي إِدانة.. فقط اعتراف وتوقيع ينتهي بعده كل شيء . ألا تحب أن تعود إِلى بيتك ؟ ألا تريد أن ترى أمك وعائلتك ؟ ... ردَّ الشاب مشمئزا :
- في هذه الورقة تهمة تحملني الى ما وراء الشمس . تطلب مني أن أوقع على شيء لم أفعله ؟ على جرم لم أرتكبه ؟
- كل ما في الأمر هو أن تقرَّ بأنَّه قد غرر بك من قبل هذه الجماعة .. و أنك لم تكن تعلم بنوايا هذا التنظيم السِّريِّ الذي يسعى إِلى قلب نظام الحكم . أنت لست سوى ضحية لهؤلاء الأوغاد .. أنت لا زلت شابًّا .. فكر في مستقبلك .. فكر في أمك المسكينة التي ليس لها في الدنيا غيرك . وقِّع و أعدك بشرفي أنه لن يقع تتبعك .
- لا لن أوقع .
حينها استشاط" الشَّاف "غضبا و لطمه على وجهه لطمة سقط على إِثرها من الكرسي و ارتطم رأسه بالأرض فأخذ يدوسه بقدمه بوحشية لا تصدق و هو يزمجر و يردد :
- ستوقع غصبا عنك .. و سنرى أيُّنا سيصمد الى النهاية .
مسح الشاب الدَّم الذي سال من فمه و قال في نوع من التحدي النادر :
- افعل ما بدا لك .. لكن تأكد أنك لن تنتزع مني أي اعتراف . عنوة أو باللِّين. وسترى ان ثورتنا الأبية ستكنسكم الى مزبلة التاريخ . فاتكم القطار .. فاتكم القطار.
و ما أن أتم كلامه حتى اندفع نحوه "الشَّاف" يلطمه و يركله و يدوسه حتى أنه كان يمكن سماع تكسر عظام الشاب تحت قدميْه . و صاح فينا :
- القط .. القط ..القط ...
و أدرك الحرَّاس أن "الشَّاف" غاضب جدا .. و أنه في فورة غضبه لا يتورع أن يطيح بمسدسه بأيِّ رأس. و جيء بالقط الأسود .. و جُرِّد الشاب من ثيابه تجريدا. ووضع فوق الطاولة و هو يصرخ" : أنجاس.. أنجاس ..أنجاس".
ودُسَّ رأسه في كيس من البلاستك و لُفَّ جسده بخرقة ثم رُبط القط في أسفل قدمه و ضُرب ، فكنت تراه فوق جسد الشاب النحيل يكشط اللحم كشطا بأضافره الحادة . و الشاب يصرخ من الألم صراخا لا تحتمله أذن . وبعد فترة أُطلق القط و عُرِّي الجسد المسجَّى فكان عبارة عن كومة من اللُّحم المتناثر غطَّاها الدَّم النَّازف من كل جهة. يقول ملف الضحية إنَّ الشاب في سنِّ الثلاثين متحصل على الإِجازة في الحقوق و هو يعاني من البطلة القسْرية منذ خمس سنوات مثله مثل الغالبية العظمى من أصحاب الشهادات العليا العاطلين . خرج كغيره من الشَّبان يطالب بالكرامة و الخبز. فقبض عليه و زج به في زنازين الداخلية يعاني كغيره من الشباب الثائر صنوف التعذيب التي يبرع فيها هؤلاء الأوغاد.
يظل يسترق السَّمع .. ينظر من تحت الباب أو من الكوة .. فلعهم قادمون اليه .. يكاد يسمع وقع اقدامهم على السلالم .. يتخيلهم يكسرون الباب .. يحطمون الأقفال .. يندفعون نحوه بكل ما في قلوبهم من غيض و تشفّ ورغبة في الإِنتقام .. يضع يديه على وجهه و يغمض عينيه كي لا يراهم. فتعاوده كوابيس القط الأسود. تقول أمه "القطوس تابعة يا بني ... الله يجيرنا" ...
لم يعد يقدر على النَّوم .. بل لم يعد راغبا فيه أصلا .. صار يرى أن حياته تفر منه .. ما عاد قادرا على أن يحياها محاطا بهذه الكوابيس. قال الشَّاف :
- سنخرج اليوم في مهمة دعم . الاحتجاجات و المظاهرات لم تتوقف منذ أسبوعين و المسؤولون قلقون .. الأمور تكاد تخرج عن السيطرة . لذا يجب التصدِّي للمخربين و مثيري الشغب .. هؤلاء الشِّرذمة من الفاسدين والحاقدين و اللُّصوص .. لقد وجدوا في الإِنفلات الأمنيِّ فرصة للسَّلب والنهب و السرقة .. علينا أن نضرب بكل حزم .. بكل حزم . لا تتورعوا في استعمال كل الوسائل المتاحة لردعهم . لا يجب أن تتزعزع أركان النظام وإِلاَّ عمَّت الفوضى و عمَّ الخراب ...
سمع زميله يخاطب مرؤوسيه و في نبراته خوف غير عادي :
- سيدي إِنَّهم يحاصروننا من كل جانب .. يهجمون علينا .. نحن محاصرون و نفتقد للدَّعم .
جاءه عبر الخلوي صوت حازم ، قوي يصرخ فيه :
- كرطوش .. كرطوش ... نظر اليه زميله و قد رأى على وجهه علامات الخوف و التردد و قال له :
- هل سبق أن استعملت سلاحا ؟
- ليس إِلاَّ في التدريبات .
- اذن أمسكْ زناد المسدس جيِّدا. دعْ يدك ممدودة الى الأمام ، في مستوى رأسك .. حاذر أن ترتخي ذراعك كي لا ترتد عليك الرصاصة .. حاول ألاَّ تخطيء الرأس أو الرقبة .
و سمع أحد زملائه يصيح مفزوعا :
- هناك .. هناك .. إِنه يحمل سلاحا .. ذاك الجاثم على ركبتيه .. انه يصوب نحونا ..
لم يدر كيف خرجت الرَّصاصة من مسدسه .. و لم تخطيء الرجل الذي لم يكن يفصله عنهم سوى أمتار قليلة.. و تفرق بقية المتظاهرين في الأزقة و الانهج .. كان الرَّصاص يلعلع والصراخ يتعالى و الفوضى في كل مكان ، و رائحة الموت تنتشر في كل الارجاء .. انه ليوم عصيب .. تقدم في حذر ليلقي نظرة على الرجل الذي أصابه بطلقة من مسدسه..فوجده لا يزال يتخبط في دمائه .. حدَّق فيه مليًّا .. ما كان ليخطئه ..أحسَّ بشعور متداخل .. حتما لم يكن يريد أن يطلق عليه النار.. لكنه كان يحمل سلاحا .. حرَّكه بقدمه يفحص الجسد المضرَّج بالدماء .. ما عاد فيه رمق من حياة .. مات.. مات .. لكن أين السلاح الذي كان يحمله ؟ .. لم يكن في يد الرجل الا خبزة أشهرها في وجوهنا نحن القتلة ...
لم يصدق ما يرى .. ثم أخذ يجري في كل اتجاه كالمعتوه وهو يصرخ إِنها مجرد خبزة .. انها مجرد خبزة .. لم تكن أبدا سلاحا . و ظلَّ يجري و يجري و يجري حتى وصل أمام باب غرفته .. دفعه بقوة و دخل ارتمى على سريره وأجهش بالبكاء .. بكى كما لم يبك أبدا ...
في الصَّباح .. دخل مقر عمله. أحسَّ بأن هناك أمرا غير عادي سيقع .. ما هو ؟ لا يدري .. رأسه يكاد ينفجر من الألم .. لم يعد يجد الطريق إِلى النوم .. يظل طول اللَّيل ملقى على فراشه يحملق في السَّقف ، شارد الذهن ، لا ينام أبدا . و حين يطلع النهار يلبس ثيابه و يقصد مقرَّ عمله . كانت مكاتب الموظفين لا تزال مغلقة.. كم الساعة الآن ..؟ لا يدري .. أتراه بكَّر الى المكتب على غير العادة أم وصل متأخرا ؟ فتح مكتبه و ترك المفاتيح تسقط على الطاولة .. و كان رأسه لا يزال يؤلمه .. صداع رهيب غير محتمل . همَّ بالخروج ليطلب قهوة الصَّباح لعل العم سالم قد وصل . تناهت إِلى مسمعيه أصوات ظلت تتعالى ثم تقترب شيئا فشيئا .. لكنه لم يكن قادرا على تبيُّنها إِن رأسه يؤلمه كثيرا و الأصوات تتعالى . إِنها في الخارج .. أتراهم وصلوا الى هنا ؟ .. مستحيل و من يجرؤ ليقترب من هذا الحصن المنيع .. لا .. لا ... لا بد أنه يتخيل ثم إِن هذا الصداع يكاد يقتله .. و الأصوات تزداد قربا حتى لكأنَّها تحاصره .. تضيِّق عليه الخناق .. لقد صارت الآن أكثر وضوحا و قربا .. أصوات الحشود و الجماهير لا يخطئها أبدا .. لقد خبرها في ملاعب الكرة ..إِنها كالموج الهادر .. كالطوفان الجارف .. كالاعصار.
صعد إِلى الطابق العلوي يستطلع أمرا ظل مريبا .. فتح النافذة و نظر إِلى الشارع الكبير الممتد.. يا للهول ما هذه الجموع .. ما هذه الحشود البشرية .. من أين طلعوا ؟ .. من أين جاءوا ؟ .. و كيف وصلوا إِلى هنا . لطالما اعتقد ألا قوة في العالم قادرة على الوصول إِلى هنا ..الناس ينتشرون على مرمى البصر يأتون من كل حدب و صوب كبار و صغار نساء ورجال شيوخ وأطفال . .رؤوس مرفوعة ، و هامات منصوبة ، و قامات مديدة .شعارات ، و هتافات ، و صفير، وصراخ ، و نداءات ... يا إِلهي إِنه لا يكاد يصدق ما يرى.. يكاد الشارع يغصُّ بهم رغم اتساعه و كبره .. لم يشهد شارع الحبيب بورقيبة جموعا كهذه .. ناس على كل طيف و لون .. ترى في وجوههم إِصرارا و عنادا و تحديا و كبرياء إِنها هبة شعب .. فعليه ألا يقف في وجه التيار. هؤلاء لا تنفع معهم ماتراك و لا حتى كرطوش .. كان يدرك أنهم جاءوا ليقتصوا منه .. ليأخذوا بثأرهم ممن باع نفسه لجلاديه .. و قف ضد الشعب، و ضد إِرادة الجماهير .. إِنهم يحاصرونه .. يطاردونه يمسكون به .. يطرحوه أرضا .. يستلون عصيهم و خناجرهم .. إِنه يهرب .. في أروقة المبنى يظل يجري .. و يجري .. و يجري تلاحقه كلمة ظل صداها يتردد في أرجاء هذا الشارع الفسيح ديقاج .. ديقاج .. ديقاج ...
لم يتوقف عن الجري .. ظل يجري .. ويجري .. و يجري حتى أدرك غرفته. دفع الباب بعنف شديد .. و أغلقه خلفه بكل عناية .. كان وجهه مصفرا شاحبا وكانت عيناها غائرتيْن .. أحس مجددا بألم في رأسه يكاد يقتلع عينيه من جذورها .. أخذته رعشة و شعر بالبرد ينفذ عبر مسامه .. وظلت أصوات الحشود تتجاوب إِلى سمعه .. تحاصره الظنون من جانب .. و تكاد الهواجس تقتله و الخوف يقضي عليه ... طُرِق الباب بشدَّة و جاء صوت قوي خشن :
- أحمد .. أحمد افتح الباب .. بسرعة .. بسرعة .
ولمَّا لم يجبْه أحدٌ .. نظر من كُوَّة الباب فرأى ساقيْن تتدليان لِجسد معلَّق في السَّقْف.
تعليق