السهر منتصف النهار

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • جلال داود
    نائب ملتقى فنون النثر
    • 06-02-2011
    • 3893

    السهر منتصف النهار

    صديقتي العزيزة منيرة
    لك حبي الصادق وشوقي الذي لا يحده حدود .
    وصلتُ أرض الوطن بخير والحمد لله والكل بخير.
    وإلى أن أقابلك دعيني أسرد لك ما حدث بالتفصيل الممل حتى لا تسمعي قصتي من طرف آخر بزيادة أو نقصان.
    سأحاول أن ألملم بقايا نفسي ثم أجد طريقة لأحضر بطرفكم بالأمارات، فربما حالفني الحظ وأجد عملاً يناسبني.
    عزيزتي..
    لا ألوم إلا نفسي على تفريطي بهذا الغباء في زوجي الذي أحبني من كل قلبه، وشملني بحبه ببذخ وسخاء. لم أقابل من هو أكرم منه.
    (أنا لا أستحقه) بكل ما تحمل هذه الجملة من معنى.
    كل من عرفه حسدني عليه، وأنت تعرفين اللائي كن يتمنينه زوجاً قبل ارتباطي به.
    لقد عشت بعد زواجي منه وانتقالي بالغربة معه، بنفس تلك الروح التي سادتني وأنا طالبة في المرحلتين الثانوية والجامعية، والغرور الذي كان يتملكني كون أنني من أجمل بنات الدفعة.
    كلمات الإطراء والغزل المبطن والمكشوف كانت ترضي غروري حتى بعد زواجي.
    تعلمين أنني كنت وقتها ســعيدة بهذا العالم من حولي يضج بالمعجبين من زملاء الجامعة ومن خارج.
    آخذ باليمين وباليسار، ولا أعطي إلا بقدر معلوم.
    الكل كان يظن أنني له وحده. نظراتي وإجاباتي كانت توحي لكل منهم بأنني أتجاوب مع غزله ومع ولهه وحبه.
    الشخص الوحيد الذي جعل قلبي يضطرب ويخفق بقوة بين أضلعي هو ( توفيق ).
    والغريب أنه لم ( يندلق ) كالباقين.
    كان حديثه دافئاً، متأنقاً في كل شيء.
    كان أنيقا في ملبسه وتعطره وحديثه، حتى في غضبه كان أنيقاً.
    كل هذه التفاصيل تعرفينها تماما.
    عندما وافـقت على الزواج مـنه، عرفت وقتها مقدار حـبه، فقد ضاع اتزانه بعـض الشـيء، و طفحتْ تعابير وجهه بالفرح الكامن داخله، فصار كالطفل لا تسعه الدنيا من السرور والفرح.
    وأرضَى هذا غروري كثيراً.
    وأنت تعرفين بقية التفاصيل، تعرفين كيف تزوجنا، وذلك الحفل الخرافي الذي أقامه.
    هل تذكرين كيف رقص طوال الحفل ؟ عندما تعبتُ وجلستُ ، ظل يراقص كل من تطالها يداه.
    جاب الحفل كله يوزع فرحته.
    كنت سعيدة بسعادته، وكنت سعيدة لأن حتى الذين كانوا يظنون أنني سأكون من نصيبهم، حضروا الحفل مهنئين ومباركين.
    أيضاً هذا زاد من زهوي بنفسي و سكب في روحي حِزَماً من الغرور.
    ثم ماذا عزيزتي ؟
    سافرت معه للغربة. وما أدراك ما الغربة.
    كان يخرج لعمله عند الصباح الباكر، ويعود بعد الساعة العاشرة ليلاً مجهداً يبحث عن وسادة ليضع رأسه عليها ويغط في نوم عميق.
    أحادثه فيجيبني وكأنه ثمِلٌ بفعل الإرهاق، وأحياناً يرد على أسئلتي بشأن من شئون عمله وهو ما بين النوم واليقظة.
    لا نجلس سوياً إلا أيام الجمعة.
    أقضي النهار كله في مشاهدة التلفزيون وأفلام الفيديو والاستماع للأغاني.
    مللت كل هذا. أصابني فراغ كبير.
    زاد من أتساع رقعة الملل انقطاع كلمات الإطـراء والإعـجاب والتودد وانقطاع المعجبين من حولي.
    تاقت نفسي لسماع كلمة غزل أو نظرة إعجاب.
    بنايتنا تعج بجنسيات مختلفة.
    ثم إنكسرتْ الرتابة بعض الشيء حيث سكنتْ إحدى بنات جلدتي في شقة مقابلة.
    تعرفت عليها بسرعة حتى أخرج من الدوامة التي أعيشها.
    ولكن سرعان ما خاب أملي.
    حياتها عكس حياتي تماما.
    فهي تعمل، أما زوجها فهو ( مَحرم ) لها ، أتى مجرد مرافق، في جواز سفره ختم بحجم كف اليد ( لا يسمح له بالعمل بأجر أو بدون أجر ).
    فكان يعمل شهراً وهو متوجس ويتوقف لشهرين، يقضي يومه مثلي نائماً أو وهو يعنى بشئون أطفاله وشئون البيت.
    لم تتح ظروف عمل زوجي لكى يتعرف بشكل وثيق بزوجها. لم يتقابلا إلا بضع مرات عند السلم طلوعاً أو نزولاً.
    طرق الباب ذات نهار، فتحت له الباب، طلب مسكناً للصداع، فناولته ما طلب.
    ظل ينظر إلي طويلاً وهو يصطنع ابتسامة على طرف فمه.
    إشتقت لمثل هذا الإطراء المبطن ونظرات الإعجاب.
    عاد لي مرضي القديم كومضة برق.
    طلبت من زوجي أن يبحث لي عن عمل، أي عمل .
    غضب غضبا شديدا وطلب مني عدم معاودة هذا الطلب فراتبه يكفينا ويزيد.
    حاولت بطلبي أن أهرب من مللي.
    تاقت نفسي لأن يطرق جاري الباب متعللاً بأي سبب، المهم أن أرمق نظرة إعجاب أو أسمع كلمة إطراء، أي شيء يرضي هذا الإدمان وهذا الداء المستوطن بين حناياي.
    الشيطان عادة ما يبدأ بطرق نافذة الرغبة بنقرات خافتة، وسرعان ما تتحول نقراته إلى فرقعة كطرق المعاول والفؤوس، فيضج بها الـرأس فتتهاوى كل الدفـاعات التي تبنيها الكرامة والشرف وعزة النفس وكل القيم.
    بعض الناس يقولون أن الشيطان شاطر، ولكنه من وجهة نظري هو مخلوق يعمل بإحترافية يسبر بها أغوار أي شخص تبدأ عنده نقطة ضعف حيال شهوة ما، فيبدأ بها، ويعزف عليها عزفاً متواصلاً حتى ترتخي أوتارها فيحدث ما يحدث.
    ويبدو أن جارنا قد إكتشف نقاط ضعفي (الملل والفراغ وحبي للإطراءففرح به إبليس أيما فرح، فأناخ راحلته هو وعشيره وجنده منذئذ عنده، وبدأ هجوما رتيباً، سرعان ما بدأ يأخذ طابعاً سريع الإيقاع.
    فقد تكررت زياراته النهارية بحجة طلب أشياء أنا واثقة أنها كانت لا تنقصه في شقته.
    ثم تغير تكتيكه، فبدأ يأتي بطفليه بحجة أنهما يحبان الجلوس معي، فيتركهما ويمضي، ثم يطل علينا بين فترة وأخرى متسائلا إن كانا قد سببا لي أي مضايقة.
    ثم بدأ يأتي بهما ويجلس ويتجاذب أطراف الحديث ولسان حاله يقول ( الحال من بعضه ).
    لا زوجي يعلم عن زياراته، ولا زوجته تدري عن تردده على شقتنا.
    ثم بدأ حديثه يأخذ منحى الغزل المبطن، فأعادني إلى خانة أيام الجامعة.
    فعادت إلى نفسي الأمارة بالغرور مشاعر تلك الأيام الخوالي.
    فبدأتُ أطرب لكلماته، وترضيني نظراته النهمة التي تكاد تلتهمني التهاما.
    إلى هنا تكفيني لو أطلقتِ علي يا عزيزتي (منيرة) كل النعوت، تكفيني لو أطلقتِ علي كلمة خائنة.
    ولكنني تماديتُ أكثر من هذا.
    فأقرئي رسالتي ثم أطلقي علي من النعوت ما تشائين فلا يهمني شيء بعد هذا، فالغريق لا يخاف الأمواج وتلاطمها ولا يخشى إن كان البحر عميقاً لا قرار له.
    أحياناً يا عزيزتي، عندما يتمادى الإنسان في خطيئة ما، وتتجاذبه نزعتان، نزعة الرجوع عن الخطأ ونزعة الإستمرار في اللذة المحرمة، فإن نزعة الإستمرار في الخطيئة تفوز وتطغى عندما يعرف الإنسان هذا أن أسباب سقوطه في الهاوية ستستمر. والخطأ الكبير الذي إرتكبته هو أنني لم أعمل على ردم الهوة التي ظننتها أنها هي التي تدفعني للسقوط، في حين أنني كان يمكن تفادي ما قمت به لو أنني تخليت عن ذلك الغرور الذي أحاط بحياتي وجعلني أتوهم بأن الهالة التي كانت تحيط بي لا بد من إستمراريتها دون لجمها أو كبحها.
    أعترف بأنه قِصَرٌ في الرؤية وضيق في التفكير.
    عزيزتي ...
    لا تظني أنني قد إرتكبت فاحشة كبيرة أو تماديت مع جارنا لدرجة بعيدة، ولكنني سمحت له بأشياء كثيرة كان يفعلها في خلوتنا، ولكنها تدخل في باب الخيانة والخطيئة. أعترف لك بها تماما.
    كنت أعض على أصابع الندم كل ليلة عندما أجد زوجي يغط في نومه بسبب الإرهاق جراء عمله .
    زوجي كان يقول أنه يشقى ليل نهار ليختزل سنوات الغربة ونعود لأحضان الوطن.
    وبالفعل كان قد أشترى شقة كبيرة في حي راقٍ.
    كان يجلس كل يوم جمعة ويطلعني على آخر تطورات تجهيزها والتكلفة وطلبات المقاول التي لا تنتهي.
    ولكن ما أن يخرج للعمل، تتهيأ كل حواسي في إنتظار أن يطرق جارنا الباب.
    أتلكأ قليلاً أراجع نفسي، ولكن ما أن أبدأ في التردد، والباب يطرق بإلحاح، أجد نفسي أفتح الباب ويبدأ نفس الموشح اليومي.
    يفوز فريق شيطاني وإبليسه على كل رغبة في الإحجام.

    هل تظنين أنني غير نادمة ؟

    بالطبع نادمة على فقدان زوج كهذا، ولكنني سعيدة في قرارة نفسي بأنه إكتشف خيانتي وطلقني.
    نعم يا عزيزتي، فهو رجل يستحق امرأة أطهر قلباً وأنقى سريرة وخالية من حزم الغرور.
    زوجة جارنا كانت القشة التي قصمت ظهر بعير سفالتنا وصفاقتنا وخيانتنا.
    رجعت يومها من العمل دون سابق إنذار، لم تجد زوجها وطفليها في البيت، فخرجت لتسألني إن كنت أعرف شيئاً بعفوية وحسن نية، و في ذات اللحظة، خرج زوجها من عندي وهو في حالة تلبُّس، نشوان يترنح من سكرة اللقاء.
    صعِقَتْ زوجته، ثم تهاوت، لم تتمالك نفسها، فكانت الفضيحة.
    صراخها ملأ أركان البناية.
    رجوتها أن تدخل وتفعل ما تشاء.
    ولكنها كانت في حالة هستيريا، فبالرغم من ضآلة حجمها لم يستطع زوجها أن يدخلها إلى داخل الشقة. إنقلبتْ إلى وحش كاسر .
    رجوتها بكل عزيز وغالٍ أن تسترني، ولكنها كأي أنثى مجروحة، أقسمتْ بأن تكون فضيحتي على رؤوس الأشهاد وعلى كل لسان.
    أرتفع صوتها أكثر، فتركتها على سجيتها، فقد كانت على حق.
    واستسلمتُ لقدري.
    الطفلان لا يفهمان ما يحدث تماماً، فأختلط نحيبهما بصراخ أمهما المجروحة.
    هددها زوجها بالطلاق.
    فقالت له : وهل تظن أنك ستظل زوجي بعد الآن ؟
    تهاوى كل شيء أمامي، ووقفت أنتظر قدري المحتوم.
    وعندما أتى زوجي في المساء، فتحتْ جارتنا الباب على وقْع أرجله على السلم قبل أن يدلف إلى شقتنا، وأطلقتْ زخاتها المحمومة وزوجها يحاول جاهداً أن يسكتها أو يسحبها للداخل.
    لن أنس منظر زوجي في تلك اللحظة، لن أنى ما حييت.
    جثا على ركبتيه واضعاً يديه على الأرض كمن يقاوم انهيارا كاملاً في جسده وخواراً في قواه.
    لم أجرؤ على مساعدته لكى يقف ولم أجرؤ على الاقتراب منه.
    حزنت لمنظره، وتضاءلتْ نفسي و إحتقرتها.
    للحظة تخيلت أنه سيقف ويهرع إلى المطبخ ويأتي بسكين ويكيل لي ما شاء له من الطعنات.
    أو أنه سيقف ويخنقني حتى الموت.
    ليته فعل، ليته فعل.
    جلس هناك جاثياً جاحظ العينين ينظر إلى لا شيء، وصوت الزوجة التي صارت كالمجنونة يلعلع، والجيران يطلون من بين فرجات الأبواب.
    جلس هناك لفترة خلتها دهراً.
    ثم نزل درجات السلم مترنحاً ولا أدري إلى أين ذهب، تلاحقه صرخات الزوجة المطعونة.
    أنسحب وهو يجرجر أذيال كرامته.
    ألم أقل لك أنه حتى في غضبه أنيق ؟
    لم ينزل لمستوى التشويه الذي رميتُ به أعز ما يملك.
    حاولت أن أبكي، فعاندتني دموعي واستعصت. كأنها تقول أنني لا أستحق بأن أخفف عن نفسي بها. كأنها تقول الدموع للشرفاء فقط.
    حاولت أصرخ، فخيل إلي بأنني أصبتُ بالخرس.
    نظرت إلى وجهي في المرآة، لم أجد أي مسحة من ذلك الجمال الذي ملأني غروراً أجوفاً.
    وجدت وجهاً بلون أغبر وكالح، وعينين زائغتين.
    إنتابني خوف عظيم. إلى أين ذهب ؟هل سيرجع ويقتلني ؟
    رفعت سماعة الهاتف، وقررت أن أتصل بأحد أقربائي، جاءني صوت زوجته، خيل إلي أنها تلعنني وتقول : أتريدين الإيقاع بزوجي أيضا ؟
    أقفلتُ السماعة، ولعنات جارتنا كأنها تنطلق من كل شيء في الشقة، من الثلاجة، من التلفزيون، من غرفة نومي، من المطبخ.
    سمعت طرقاً بالباب .
    وجدت نفراً من أهله، بوجوه متجهمة، يكاد الإشمئزاز ينطق و يتحدث عنهم وهم صامتون لا يطيقون النظر إلى وجهي.
    ليتهم إنهالوا علي بالضرب.
    طلبوا مني أن آخذ ما شئت من البيت لأنهم سيوصلونني لبيت أحد أقاربي.
    وبالفعل عزيزتي منيرة، تم الطلاق بهدوء.
    لم يودعني أحد في المطار غير أحد أقربائي الذي كان يستعجل إجراءات سفري كأنه يفِر من مجذومة أو مصابة بالطاعون. أظنه تنفس الصعداء عندما لمحني أمرق من نقطة التفتيش الأخيرة نحو الطائرة.
    ألقيت نظرة أخيرة من نافذة الطائرة وإعتصرني حزن عميق.
    لم أر زوجي منذ تلك الليلة.
    فليغفر لي الله زلَّتي، و ليملأ قلبك شفقة عليْ.
    لك محبتي الدائمة...
    صديقتك
يعمل...
X