قراءة فى ديوان : "وتسميهم أصدقاء"* لسامي الغباشي انشطار الذات والبحث عن صيغة للتفاعل
أحمد لطفى رشوان **
فى ديوانه «وتسميهم أصدقاء» آثر الشاعر سامى الغباشى أن يخوض تحديين كبيرين فى وقت واحد أو فى مجموعة شعرية واحدة، حيث قسم الديوان قسمين أحدهما نثرى والآخر تفعيلى، لأن القصيدة إذ تنحنى إلى سكة شعرية جديدة قاصدة البحث عن مصدر مفارق، ومغاير للشعرية، هادفة إلى تخطى المنازل التى توقف عندها البعض إلى فضاءات أكثر رحابة، ومفاوز أكثر إيغالا فى التمرد وبالتالى أكثر إيلاما. فإن التحدى الحق للشاعر لا يكون فى مجرد القدرة على التعايش مع تجربته الجديدة فحسب وإنما يكمن فى القدرة على أن يشق الشاعر طريقه التى يرتضيها حتى لا تصبح نصوصه مجرد إعادة إنتاج لنصوص أخرى.
هذا عن التحدى الأول، أما التحدى الثانى فيكمن في القدرة على كتابة قصيدة تفعيلية مختلفة عما قدمه جيل الرواد والجيل التالى له، إذ إن الشاعر - حين يكتب قصيدة تفعيلية فى هذه الأيام - مطالب بأن يقدم قصيدة قادرة على استيعاب المنجز التقنى الجديد الذى تقدمه قصيدة النثر مثلا، ليرد على من يرون أن القصيدة التفعيلية استنفدت قدراتها الفنية والإبداعية.
أول ما يلفت النظر فى عنوان الديوان هو أن جملة العنوان - وإن كانت متكاملة الأركان على المستوى النحوى (إذ تتكون من فعل وفاعل ومفعول به أول بل وثان) - لا تقدم لنا دلالة متكاملة مكتفية بذاتها، لسببين، الأول : وجود حرف الواو فى بداية الجملة، ذلك الحرف الذى يستدعى سياقا دلاليا سابقا على العنوان، ولكنه سياق محذوف بالطبع. أما السبب الثانى فهو قيام الضمائر المستترة والظاهرة بدور أساسى فى تشكيل أركان الجملة، فالفاعل ضمير مستتر تقديره (أنت)، وأنا أرجح أنه يعود على الشاعر ذاته، ويعضد هذا الزعم استخدامه المكثف لضمير المخاطب داخل الديوان فى حديثه يشبه مناجاة النفس أو حتى المشاجرة مع الذات كما سيتضح، أما المفعول به فهو الضمير (هم).
ربما كان لأداة التعجب - إن كانت قد وجدت - دور فى حل ذلك اللغز لتتجلى لنا دلالة العنوان دون مراوغة، إذ يشير هذا التعبير - خاصة إذا صبغ الناطق صوته بصبغة تعجبية - إلى نوع من أنواع اللوم على هذا الموقف، وإذا ما اتفقنا على أن المخاطب هنا هو ذات الشاعر فإننا نكتشف أن الشاعر بدأ محاسبته لذاته مبكراً فى عنوان الديوان.
تأتى قصيدة (يكفى أنهم مثلك) لتؤكد هذا المعنى فهى تحمل مبررات ذلك الرفض من الذات الشاعرة لموقف الذات الإنسانية (وكلاهما لسامى الغباشى) من أولئك الذين تسميهم أصدقاء، وهذه المحاولة من الذات الشاعرة تهدف إلى وضع أسس صحيحة للتواصل مع الآخرين، فالإنسان المشار إليه بالضمير (أنت) يتمسك بهؤلاء الأصدقاء الذين يلفقون حكايات تجعله يعتقد أنهم طيبون وغرباء مثله، لكنه (هو ذاته) يبذل مجهودا فى محاولة تصديق هؤلاء الأصدقاء فهو كما يقول عن حكاياتهم :
والتى جاهداً تصدقها
ولاهثا تحاول أن تصالح
بين الحكايا والوجوه
فوجوههم لا تشى بمغامراتهم التى يحكون عنها، والذات الشاعرة تسعى إلى تواصل من نوع خاص، قائم على أسس من الصدق والصراحة بعيد عن الزيف الذى يحيط بها.
وعلى هذا النحو تنتشر فى قصائد الديوان فكرة البحث عن صيغة مثلى للتواصل مع الآخر، ففى قصيدة (عندما نلتقى مرة أخرى) سيحاول الشاعر أن يتعامل معها بالشكل الذى يليق بمثقفة ويسارية قديمة، وفى قصيدة (مواقف) نجد اتفاقا بينهما على بعض الأشياء التى قد تصحح مسار العلاقة، ولكنهما يفشلان فى النهاية، ثم فى القصيدة التى تحمل عنوان الديوان، أو يحمل الديوان عنوانها (وتسميهم أصدقاء)، يتجلى هذا التوتر الشديد فى العلاقة بينه وبين أصدقائه، وهذا التوتر ناتج عن الاختلاف بينه وبينهم، ذلك الاختلاف الذى لا يستيطعون (هم) أن يستوعبوه، مما يجعلهم يلقون به بعيداً، ويبحثون عن أصدقاء يشبهونهم.
والعلاقة فى هذه القصيدة تبدأ بالتواصل بين (أنا) و(الأصدقاء)، ثم يذهب الأصدقاء حيث تنقسم ال (أنا) إلي (أنت) و(هو)، يعبر (هو) عن التجلى الإنسانى الذى يبحث دائماً عن أى شكل من أشكال التواصل إذ إنه سيترك (أنت) ويذهب إليهم، أما (أنت) المعبرة عن الذات الشعرية الباحثة دائماً عن الشكل الأمثل للتواصل - كما سبقت الإشارة - فستبقى وحيدة ثم تعود الـ (أنا) ثانية للظهور، فى الحديث عن (الذين يكرهوننى)، وأخيراً فى نهاية القصيدة تستجمع تلك ال (أنا) شجاعتها لتواجه أولئك الأصدقاء بضمير المخاطب منكرة فتوحاتهم التى يدعونها، مؤكدة أنها لا ترى إلا هزائمهم.
يحتفظ المعجم الشعرى عند سامى الغباشى للكلمة وللجملة العربية بقوتها ورصانتها وجلالها ولكنه فى نفس الوقت لا يستغنى عن الهامشى واليومى والمعيش، وهو بذلك ينجح فى الجمع بين هذه الثنائية - إن صح أنها ثنائية - وهذا دليل على امتلاك الشاعر لناصية اللغة وسيطرته الكاملة على أدواته الشعرية.
يستخدم الشاعر تقنيات الكاميرا السينمائية، ففى بعض الأحيان يصور لنا مشهداً تتسع فيه الصورة لحضور عدة أشخاص من بعيد أحيانا فتكون الصورة عامة لا تحتفى بل تكاد تظهر فيها التفاصيل الصغيرة، وأحيانا ما تقترب الصورة لتضيق من كادر التصوير فتركز على شخص واحد، وهى إذ تقترب منه تخترق شكله وتصرفاته الخارجية لتدلف إلى ما يكمن فى ذاته وما يتلاطم فيها (داخلها) من أمواج وصراعات بين الأفكار والرغبات، وفى بعض الأحيان تكون هذه النقلات سريعة جداً، قد لا يتخطى جملة واحدة أحياناً، وهو فى تصويره بوجه عام لا يهتم - خاصة فى التصوير الخارجى لتصرفات الأشخاص وتجليات الأماكن… - بتقديم سرد مشهدى يكثر فيه الوصف ويغلب للأماكن والأشخاص والأفعال؛ مما يؤدى إلى إيقاف الزمن، بقدر اهتمامه بسيرورة الأحداث وتتالى الحركات والتصرفات، فهو مشغول بفكرة تسمية الأشياء بأسمائها الصحيحة متجاوزاً الأوصاف الخارجية التى كثيراً ما تكذب، لذا فهو يشك فى الصورة التى تقدم الأشياء نفسها إليه (والأشخاص طبعا) بها ولذا فهو يتجاوزها ويتغاضى عن الحديث عنها.
تمثل المقهى بحضورها المكثف فى الديوان خاصة فى القصائد الأولى دالا رئيساً في معجم سامى الغباشى الشعرى (على الأقل فى هذا الديوان)، والمقهى تمثل على المستوى الدلالى خير نموذج للتواصل الزائف بين البشر، فصداقة المقهى تختلف عن الصداقة الحقيقية الحميمة، والحوار الذى يدور فى المقهى الذى يغلب عليه التهريج والنكات والحديث فى أشياء تافهة فى معظم الأحيان يختلف عن حوارات الأصدقاء الحميمة، حتى أنهما فى قصيدة (مواقف) عندما جلسا فى ركن المقهى لم يتمكنا من تنفيذ ما اتفقا عليه بتطوير تواصلهما، حيث سألته عن زميله فى الغرفة وجارته التى لا تفارق السلم… إلخ.
يتكرر دال الأنثى فى قصائد الديوان محملاً بكل معانى الأنوثة بمعناها الجسدى، فهو يستحضر هذا اللفظ أثناء حديثه عن همه الجسدانى إن صح هذا التعبير، وأنا أعتقد أن كلمة أنثى تقدم نموذجاً شاملاً لكل مغريات الأنوثة فى المرأة (التى تجذب الرجل) على المستوى الجسداني المادى وعلى المستوى الروحى، وهو في تعامله مع الإيروتيكا يستخدم ألفاظاً ودوال عامة لا يحددها بذكر عضو من أعضاء الجسم أو التعرض لتفاصيل العلاقة بين الرجل والمرأة، وهو بذلك يقدم نموذجاً مفارقاً مختلفا عن تجارب معاصريه الذين يحاولون الغوص فى تفاصيل تلك العلاقة، وهو بهذا أيضاً يقدم تصوراً عاما لهذه القضية، فهى ليست القضية الوحيدة التى تشغل ذهنه وتؤرقه أثناء الكتابة، وإنما هى تمثل تجلياً واحداً من عدة تجليات لقضيته الكبرى وهى البحث عن التواصل فى شكل سليم يعتمد على أسس صحيحة يبتعد عن التواصل الزائف الذى سبقت الإشارة إليه.
لا نكاد نعثر على تعدد الأصوات فى قصائد الديوان إلا نادراً جداً، فعلى الرغم من أن النصوص تتقافز بين الضمائر فى صيغ المتكلم والمخاطب والغائب لا يعبر هذا التقافز عن أصوات شعرية بقدر ما تسيطر ذات الشاعر التى تنقسم فى بعض الأحيان إلى ذاتين، إذ غالباً ما يكون الحوار بين هاتين الذاتين، وقليلاً ما يظهر الآخر أو تظهر الأخرى في هذا الحوار، وهذا الحوار حتى وإن كان داخلياً (فى ذات المبدع)، فهو يعطى القصائد نفسا درامياً ما، تؤكده روح الصراع فى بعض القصائد، كما تسهم الشخصيات الأخرى التى تجيء وتختفى فى إيجاد هذا النفس الدرامى وإن كان نفساً ضعيفاً.
تسيطر على القسم الثانى من الديوان تفعيلة بحر المتدارك، باستثناء قصيدة (المرايا)، ولكن تفعيلة المتدارك غزت هذه القصيدة أيضا فى بعض أجزائها، وهى إذ تأتى هنا لا تأتى فى صورتها الكاملة (فاعلن)، وإنما تأتى فى صيغتى (فعلن فعلن)، فيما يسمى بالخبب.
وتعد هذه التفعيلة الأكثر استخداما لدى معظم الشعراء خاصة فى أيامنا هذه، وذلك لقدرتها على أن تحمل الإيقاع السريع الملىء بالحركة والنشاط من ناحية، بالإضافة إلى القدرة على التشبع بشحنات إيقاعية هادئة متزنة من ناحية أخرى، وذلك تبعاً لاستخدام الشاعر حروف اللين - (الألف والواو والياء).
أما عن الإيقاع فى قصائد هذا الديوان فهو مكثف، تغلب عليه الحركة السريعة، وهذا يتواءم مع بحث الشاعر الدائب عن التواصل الأمثل الذى سبقت الإشارة إليه.
تغلب على الديوان (فى قسميه) القصائد الخاطفة أو الومضات الشعرية، حتى أن الشاعر يقسم القصيدتين الطويلتين نسبيا فى الديوان إلى مقاطع معنونة بأرقام، وذلك فى محاولة للفصل بين أجزاء القصيدة (حتى ولو على المستوى الظاهرى)، فهو ينثر قصائده (بمعنى يبعثر) أمام القارئ، وأحسب أن هذا المسلك من الشاعر يعبر عن عدم رغبته فى البوح المسترسل للمتلقى أو للآخر شكا منه فى علاقته بهذا الآخر.
نستطيع أن نعثر فى قصائد الديوان على بعض الاستدعاءات التراثية، فهو يتناص مع القرآن الكريم مرة واحدة، ثم يتحاور مع بعض نصوص محمود درويش ومحمد القيسى وإيليا أبى ماضى كما يهدى إحدى القصائد إلى الشاعر وليد منير، وهو إذ يستحضر هذه الشخصيات وبالتالى سياقاتها الثقافية يحاول الاستئناس بما ورث فى مواجهة أولئك الأصدقاء، الذين لا زال يسميهم أصدقاء، فالذات الشاعرة (الرافضة للتواصل الزائف)، تحاول تقديم بدائل أخرى لتعويض الذات الأخرى المتمسكة بأولئك الأصدقاء.
من الممكن أن نجد في العنوانين اللذين وضعهما الشاعر لقسمى هذا الديوان معبرا عن علاقته أو رأيه (حتى ولو كان بشكل لا إرادى) عن قصيدة النثر التى تكونت منها نصوص القسم الأول، وفى قصيدة التفعيلة التى تتكون منها قصائد القسم الثانى، فالشوارع (بمجانيتها) - إن صح هذا التعبير - وباحتفائها بالهامشى، وباتساعها كما يصرح فى القصيدة الموسومة بنفس الاسم : (لا أليق باتساع الشوارع)، أما عن الدائرة فهى تعبر عن رأى الشاعر فى الشكل التفعيلى الذى يمثل بالفعل دائرة تمثل علاقة الشاعر بها فى محاولة أن يمتلكها ويسخرها وألا تمتلكه وتسخره تحديا وتوتراً فى القصيدة يسهم فى إنتاج شعريتها.
حين تظهر كلمة البنت فى الديوان - خاصة إذا وازاها دال الولد - فإننا نجد أن القدرة على التواصل أكثر سهولة ويسراً، فالعلاقة دائما بين البنت والولد لا تشوبها شائبة ولا يعكر صفوها معكر، حتى فى علاقة البنت بالشاعر، فعلى الرغم من أنها (أرهقتنى)، إلا أنها (اصطفتنى) وهذا دليل على قبول الشاعر وتعاطفه مع التواصل فى صورته البريئة التى تستحضرها (البنت والولد).
ينشب صراع آخر داخل القصائد متمثل فى علاقة ذاكرة الشاعر وما تمتلئ به بوقته الحاضر وبعلاقته بزمنه ومعطيات معيشته الراهنة، فالبنت ضحكت بصوت عال عندما حدثها عن حفظه للقرآن وعن رغبته فى زيارة القبلة الأولى والشيخ الذى يجثم على كتفيه، وكذلك فى قصيدة (هاوية الرمل) أول قصائد القسم الثانى، إذ يظهر لنا الرمل فى العنوان مستحضرا سياقه الخاص بالصحراء، ومن ثم بشبه الجزيرة العربية أى بالثقافة العربية فى صورتها الخام قبل أن تتماس وتتفاعل مع الحضارات الأخرى بشكل مباشر (حتى لا يقال إن الجاهليين كانوا يتعاملون مع الحضارات الأخرى)، وتبدأ القصيدة بقوله :
ذاكرتى المنسوخة بالرمل
المشاءة فى الربع الخالى
المعنية بالفرق الضالة
لا تصلح للوقت الرواغ
فهو يستدعى الرمل بسياقه الذى أشرت إليه، ثم يحدد المكان أكثر بذكر الربع الخالى فى شبه الجزيرة العربية، ثم يستدعى الفرق الضالة، وهذا استدعاء جميل قدم لنا سمتين من سمات الحضارة العربية، الأولى : هى تعدد الفرق والمذاهب والاتجاهات الفكرية والعقدية . وهذا واحد من أهم أسباب ثراء الثقافة العربية وعظمتها، أما السمة الثانية أو الخاصية الثانية : فهى ما أوحت به كلمة (الضالة)، وهى تعبر عن مأساة ثقافتنا الكبرى، والتى لا زلنا نعانى منها حتى يومنا هذا، وهى نفى الآخر أو عدم قبول الاختلاف في الرأى، ثم يفاجئنا الشاعر بأن كل هذا السياق الذى استدعاه من ذاكرته (لا يصلح للوقت الرواغ)، وأعتقد أن هذا من أهم ما يصيب علاقة الشاعر بذلك الوقت الرواغ بالتوتر، ولكنه يحاول جاهداً أن ينفض عن ذاكرته بعض الأشياء التى تعكرها، ثم تنتهى القصيدة بقوله : (لنبدأ)، فلقد حاول أن يجهز نفسه ليبدأ فى تواصل معها ولكن بعد أن جاهد ليكون تواصلهما راسخا، مؤسسا بشكل يرضيه.
يغلب على قصيدة «المرايا» - ولا تقتصر هذه الملاحظة على تلك القصيدة وحدها - الخطاب إلى ضمير المخاطب بصيغتى الأمر والاستفهام، وفى هذه القصيدة بالذات يتجلى حديث الشاعر لذاته أو انقسام ذاته إلى ذاتين فى أصدق صورة، فالمرايا لا تكذب أبدا وبالتالى فهو يحاول مواجهة ذاته بحقيقتها وبما يجب أن تفعل.
فى نهاية المقطع رقم (9) يبدو جليا أن ذلك المنادى الذى ظل يشير إليه بضمير المخاطب هو ذات الشاعر : (يا بدائى الملامح يا أنا)، وبعد ذلك تظهر ال (أنا) فى المقطع رقم (10)، وفى المقاطع التالية يعود ضمير المخاطب للظهور مع بعض التعريج والتركيز أحياناً على ضمائر الغائب التى تعود على الولد والبنت مستحضرة سياق البراءة التى سبقت الإشارة إليها.
وفى المقطع رقم (17) تعود ال (أنا) متسائلة :
لماذا يتقينى
لماذا كلما قابلته
يتثاءب الأسفلت بيننا
وفى المقطع رقم (19) تظهر علاقة ما مع أخرى ينهيها بقوله : (أين المفر) كدليل على المحصلة النهائية لكل هذا المجهود والصراع مع النفس ومع الآخرين :
فى قصيدة (هذيان) نجد أن العلاقة بالآخر تصل إلى ذروتها، حيث إنها مكثفة جدا، فهى مهداة إلى (وليد منير)، يتحدث فيها عن الصباح، أى أنه يقصد صباحا أو زماناً محدداً، كما نجد البيت (وهو مكان محدد أيضا)، ثم البنت، وهكذا فإن ملامح الأشياء بدأت تتحدد، حيث نجح الشاعر فى (تسمية الأشياء بأسمائها)، وفى هذه القصيدة يعود ضمير المخاطب على شخص آخر (وليد منير)، فلقد خرجت الذات الشعرية من انغلاقها على نفسها إلى التحاور مع العالم من خلال أشخاص آخرين ولكنه هنا أيضا لا يزال متوجسا إذ يسأل : (هل تسمعنى؟)، ولكن لا بأس فهى خطوة على طريق التواصل.
تعبر آخر قصائد الديوان (الدائرة) فيما أعتقد عن دائرة البحث الدائم والدائب عن امرأة ومن ثم البحث عن صيغة مثلى للتواصل، فهو منذ عشرين سنة يحاول أن يصل إلى هذه المرأة التى ترمز إلى العالم المحيط بالشاعر، كما أن نهاية القصيدة بالتساؤل :
……… يا الله
أيوم محزون آخر
يفتح النص فى نهايته على فضاءات متسعة، ولكن كلمة الدائرة التى تمثل عنوان هذه القصيدة تعود بنا إلى بداية الديوان ثانية لنبحث عن إجابة لهذا السؤال، بحيث يشكل الديوان نفسه تلك الدائرة التى يسلم آخرها إلى أولها مرة أخرى.
(وتسميهم أصدقاء )الهيئةالمصرية العامة للكتاب
*ناقد مصرى
أحمد لطفى رشوان **
فى ديوانه «وتسميهم أصدقاء» آثر الشاعر سامى الغباشى أن يخوض تحديين كبيرين فى وقت واحد أو فى مجموعة شعرية واحدة، حيث قسم الديوان قسمين أحدهما نثرى والآخر تفعيلى، لأن القصيدة إذ تنحنى إلى سكة شعرية جديدة قاصدة البحث عن مصدر مفارق، ومغاير للشعرية، هادفة إلى تخطى المنازل التى توقف عندها البعض إلى فضاءات أكثر رحابة، ومفاوز أكثر إيغالا فى التمرد وبالتالى أكثر إيلاما. فإن التحدى الحق للشاعر لا يكون فى مجرد القدرة على التعايش مع تجربته الجديدة فحسب وإنما يكمن فى القدرة على أن يشق الشاعر طريقه التى يرتضيها حتى لا تصبح نصوصه مجرد إعادة إنتاج لنصوص أخرى.
هذا عن التحدى الأول، أما التحدى الثانى فيكمن في القدرة على كتابة قصيدة تفعيلية مختلفة عما قدمه جيل الرواد والجيل التالى له، إذ إن الشاعر - حين يكتب قصيدة تفعيلية فى هذه الأيام - مطالب بأن يقدم قصيدة قادرة على استيعاب المنجز التقنى الجديد الذى تقدمه قصيدة النثر مثلا، ليرد على من يرون أن القصيدة التفعيلية استنفدت قدراتها الفنية والإبداعية.
أول ما يلفت النظر فى عنوان الديوان هو أن جملة العنوان - وإن كانت متكاملة الأركان على المستوى النحوى (إذ تتكون من فعل وفاعل ومفعول به أول بل وثان) - لا تقدم لنا دلالة متكاملة مكتفية بذاتها، لسببين، الأول : وجود حرف الواو فى بداية الجملة، ذلك الحرف الذى يستدعى سياقا دلاليا سابقا على العنوان، ولكنه سياق محذوف بالطبع. أما السبب الثانى فهو قيام الضمائر المستترة والظاهرة بدور أساسى فى تشكيل أركان الجملة، فالفاعل ضمير مستتر تقديره (أنت)، وأنا أرجح أنه يعود على الشاعر ذاته، ويعضد هذا الزعم استخدامه المكثف لضمير المخاطب داخل الديوان فى حديثه يشبه مناجاة النفس أو حتى المشاجرة مع الذات كما سيتضح، أما المفعول به فهو الضمير (هم).
ربما كان لأداة التعجب - إن كانت قد وجدت - دور فى حل ذلك اللغز لتتجلى لنا دلالة العنوان دون مراوغة، إذ يشير هذا التعبير - خاصة إذا صبغ الناطق صوته بصبغة تعجبية - إلى نوع من أنواع اللوم على هذا الموقف، وإذا ما اتفقنا على أن المخاطب هنا هو ذات الشاعر فإننا نكتشف أن الشاعر بدأ محاسبته لذاته مبكراً فى عنوان الديوان.
تأتى قصيدة (يكفى أنهم مثلك) لتؤكد هذا المعنى فهى تحمل مبررات ذلك الرفض من الذات الشاعرة لموقف الذات الإنسانية (وكلاهما لسامى الغباشى) من أولئك الذين تسميهم أصدقاء، وهذه المحاولة من الذات الشاعرة تهدف إلى وضع أسس صحيحة للتواصل مع الآخرين، فالإنسان المشار إليه بالضمير (أنت) يتمسك بهؤلاء الأصدقاء الذين يلفقون حكايات تجعله يعتقد أنهم طيبون وغرباء مثله، لكنه (هو ذاته) يبذل مجهودا فى محاولة تصديق هؤلاء الأصدقاء فهو كما يقول عن حكاياتهم :
والتى جاهداً تصدقها
ولاهثا تحاول أن تصالح
بين الحكايا والوجوه
فوجوههم لا تشى بمغامراتهم التى يحكون عنها، والذات الشاعرة تسعى إلى تواصل من نوع خاص، قائم على أسس من الصدق والصراحة بعيد عن الزيف الذى يحيط بها.
وعلى هذا النحو تنتشر فى قصائد الديوان فكرة البحث عن صيغة مثلى للتواصل مع الآخر، ففى قصيدة (عندما نلتقى مرة أخرى) سيحاول الشاعر أن يتعامل معها بالشكل الذى يليق بمثقفة ويسارية قديمة، وفى قصيدة (مواقف) نجد اتفاقا بينهما على بعض الأشياء التى قد تصحح مسار العلاقة، ولكنهما يفشلان فى النهاية، ثم فى القصيدة التى تحمل عنوان الديوان، أو يحمل الديوان عنوانها (وتسميهم أصدقاء)، يتجلى هذا التوتر الشديد فى العلاقة بينه وبين أصدقائه، وهذا التوتر ناتج عن الاختلاف بينه وبينهم، ذلك الاختلاف الذى لا يستيطعون (هم) أن يستوعبوه، مما يجعلهم يلقون به بعيداً، ويبحثون عن أصدقاء يشبهونهم.
والعلاقة فى هذه القصيدة تبدأ بالتواصل بين (أنا) و(الأصدقاء)، ثم يذهب الأصدقاء حيث تنقسم ال (أنا) إلي (أنت) و(هو)، يعبر (هو) عن التجلى الإنسانى الذى يبحث دائماً عن أى شكل من أشكال التواصل إذ إنه سيترك (أنت) ويذهب إليهم، أما (أنت) المعبرة عن الذات الشعرية الباحثة دائماً عن الشكل الأمثل للتواصل - كما سبقت الإشارة - فستبقى وحيدة ثم تعود الـ (أنا) ثانية للظهور، فى الحديث عن (الذين يكرهوننى)، وأخيراً فى نهاية القصيدة تستجمع تلك ال (أنا) شجاعتها لتواجه أولئك الأصدقاء بضمير المخاطب منكرة فتوحاتهم التى يدعونها، مؤكدة أنها لا ترى إلا هزائمهم.
يحتفظ المعجم الشعرى عند سامى الغباشى للكلمة وللجملة العربية بقوتها ورصانتها وجلالها ولكنه فى نفس الوقت لا يستغنى عن الهامشى واليومى والمعيش، وهو بذلك ينجح فى الجمع بين هذه الثنائية - إن صح أنها ثنائية - وهذا دليل على امتلاك الشاعر لناصية اللغة وسيطرته الكاملة على أدواته الشعرية.
يستخدم الشاعر تقنيات الكاميرا السينمائية، ففى بعض الأحيان يصور لنا مشهداً تتسع فيه الصورة لحضور عدة أشخاص من بعيد أحيانا فتكون الصورة عامة لا تحتفى بل تكاد تظهر فيها التفاصيل الصغيرة، وأحيانا ما تقترب الصورة لتضيق من كادر التصوير فتركز على شخص واحد، وهى إذ تقترب منه تخترق شكله وتصرفاته الخارجية لتدلف إلى ما يكمن فى ذاته وما يتلاطم فيها (داخلها) من أمواج وصراعات بين الأفكار والرغبات، وفى بعض الأحيان تكون هذه النقلات سريعة جداً، قد لا يتخطى جملة واحدة أحياناً، وهو فى تصويره بوجه عام لا يهتم - خاصة فى التصوير الخارجى لتصرفات الأشخاص وتجليات الأماكن… - بتقديم سرد مشهدى يكثر فيه الوصف ويغلب للأماكن والأشخاص والأفعال؛ مما يؤدى إلى إيقاف الزمن، بقدر اهتمامه بسيرورة الأحداث وتتالى الحركات والتصرفات، فهو مشغول بفكرة تسمية الأشياء بأسمائها الصحيحة متجاوزاً الأوصاف الخارجية التى كثيراً ما تكذب، لذا فهو يشك فى الصورة التى تقدم الأشياء نفسها إليه (والأشخاص طبعا) بها ولذا فهو يتجاوزها ويتغاضى عن الحديث عنها.
تمثل المقهى بحضورها المكثف فى الديوان خاصة فى القصائد الأولى دالا رئيساً في معجم سامى الغباشى الشعرى (على الأقل فى هذا الديوان)، والمقهى تمثل على المستوى الدلالى خير نموذج للتواصل الزائف بين البشر، فصداقة المقهى تختلف عن الصداقة الحقيقية الحميمة، والحوار الذى يدور فى المقهى الذى يغلب عليه التهريج والنكات والحديث فى أشياء تافهة فى معظم الأحيان يختلف عن حوارات الأصدقاء الحميمة، حتى أنهما فى قصيدة (مواقف) عندما جلسا فى ركن المقهى لم يتمكنا من تنفيذ ما اتفقا عليه بتطوير تواصلهما، حيث سألته عن زميله فى الغرفة وجارته التى لا تفارق السلم… إلخ.
يتكرر دال الأنثى فى قصائد الديوان محملاً بكل معانى الأنوثة بمعناها الجسدى، فهو يستحضر هذا اللفظ أثناء حديثه عن همه الجسدانى إن صح هذا التعبير، وأنا أعتقد أن كلمة أنثى تقدم نموذجاً شاملاً لكل مغريات الأنوثة فى المرأة (التى تجذب الرجل) على المستوى الجسداني المادى وعلى المستوى الروحى، وهو في تعامله مع الإيروتيكا يستخدم ألفاظاً ودوال عامة لا يحددها بذكر عضو من أعضاء الجسم أو التعرض لتفاصيل العلاقة بين الرجل والمرأة، وهو بذلك يقدم نموذجاً مفارقاً مختلفا عن تجارب معاصريه الذين يحاولون الغوص فى تفاصيل تلك العلاقة، وهو بهذا أيضاً يقدم تصوراً عاما لهذه القضية، فهى ليست القضية الوحيدة التى تشغل ذهنه وتؤرقه أثناء الكتابة، وإنما هى تمثل تجلياً واحداً من عدة تجليات لقضيته الكبرى وهى البحث عن التواصل فى شكل سليم يعتمد على أسس صحيحة يبتعد عن التواصل الزائف الذى سبقت الإشارة إليه.
لا نكاد نعثر على تعدد الأصوات فى قصائد الديوان إلا نادراً جداً، فعلى الرغم من أن النصوص تتقافز بين الضمائر فى صيغ المتكلم والمخاطب والغائب لا يعبر هذا التقافز عن أصوات شعرية بقدر ما تسيطر ذات الشاعر التى تنقسم فى بعض الأحيان إلى ذاتين، إذ غالباً ما يكون الحوار بين هاتين الذاتين، وقليلاً ما يظهر الآخر أو تظهر الأخرى في هذا الحوار، وهذا الحوار حتى وإن كان داخلياً (فى ذات المبدع)، فهو يعطى القصائد نفسا درامياً ما، تؤكده روح الصراع فى بعض القصائد، كما تسهم الشخصيات الأخرى التى تجيء وتختفى فى إيجاد هذا النفس الدرامى وإن كان نفساً ضعيفاً.
تسيطر على القسم الثانى من الديوان تفعيلة بحر المتدارك، باستثناء قصيدة (المرايا)، ولكن تفعيلة المتدارك غزت هذه القصيدة أيضا فى بعض أجزائها، وهى إذ تأتى هنا لا تأتى فى صورتها الكاملة (فاعلن)، وإنما تأتى فى صيغتى (فعلن فعلن)، فيما يسمى بالخبب.
وتعد هذه التفعيلة الأكثر استخداما لدى معظم الشعراء خاصة فى أيامنا هذه، وذلك لقدرتها على أن تحمل الإيقاع السريع الملىء بالحركة والنشاط من ناحية، بالإضافة إلى القدرة على التشبع بشحنات إيقاعية هادئة متزنة من ناحية أخرى، وذلك تبعاً لاستخدام الشاعر حروف اللين - (الألف والواو والياء).
أما عن الإيقاع فى قصائد هذا الديوان فهو مكثف، تغلب عليه الحركة السريعة، وهذا يتواءم مع بحث الشاعر الدائب عن التواصل الأمثل الذى سبقت الإشارة إليه.
تغلب على الديوان (فى قسميه) القصائد الخاطفة أو الومضات الشعرية، حتى أن الشاعر يقسم القصيدتين الطويلتين نسبيا فى الديوان إلى مقاطع معنونة بأرقام، وذلك فى محاولة للفصل بين أجزاء القصيدة (حتى ولو على المستوى الظاهرى)، فهو ينثر قصائده (بمعنى يبعثر) أمام القارئ، وأحسب أن هذا المسلك من الشاعر يعبر عن عدم رغبته فى البوح المسترسل للمتلقى أو للآخر شكا منه فى علاقته بهذا الآخر.
نستطيع أن نعثر فى قصائد الديوان على بعض الاستدعاءات التراثية، فهو يتناص مع القرآن الكريم مرة واحدة، ثم يتحاور مع بعض نصوص محمود درويش ومحمد القيسى وإيليا أبى ماضى كما يهدى إحدى القصائد إلى الشاعر وليد منير، وهو إذ يستحضر هذه الشخصيات وبالتالى سياقاتها الثقافية يحاول الاستئناس بما ورث فى مواجهة أولئك الأصدقاء، الذين لا زال يسميهم أصدقاء، فالذات الشاعرة (الرافضة للتواصل الزائف)، تحاول تقديم بدائل أخرى لتعويض الذات الأخرى المتمسكة بأولئك الأصدقاء.
من الممكن أن نجد في العنوانين اللذين وضعهما الشاعر لقسمى هذا الديوان معبرا عن علاقته أو رأيه (حتى ولو كان بشكل لا إرادى) عن قصيدة النثر التى تكونت منها نصوص القسم الأول، وفى قصيدة التفعيلة التى تتكون منها قصائد القسم الثانى، فالشوارع (بمجانيتها) - إن صح هذا التعبير - وباحتفائها بالهامشى، وباتساعها كما يصرح فى القصيدة الموسومة بنفس الاسم : (لا أليق باتساع الشوارع)، أما عن الدائرة فهى تعبر عن رأى الشاعر فى الشكل التفعيلى الذى يمثل بالفعل دائرة تمثل علاقة الشاعر بها فى محاولة أن يمتلكها ويسخرها وألا تمتلكه وتسخره تحديا وتوتراً فى القصيدة يسهم فى إنتاج شعريتها.
حين تظهر كلمة البنت فى الديوان - خاصة إذا وازاها دال الولد - فإننا نجد أن القدرة على التواصل أكثر سهولة ويسراً، فالعلاقة دائما بين البنت والولد لا تشوبها شائبة ولا يعكر صفوها معكر، حتى فى علاقة البنت بالشاعر، فعلى الرغم من أنها (أرهقتنى)، إلا أنها (اصطفتنى) وهذا دليل على قبول الشاعر وتعاطفه مع التواصل فى صورته البريئة التى تستحضرها (البنت والولد).
ينشب صراع آخر داخل القصائد متمثل فى علاقة ذاكرة الشاعر وما تمتلئ به بوقته الحاضر وبعلاقته بزمنه ومعطيات معيشته الراهنة، فالبنت ضحكت بصوت عال عندما حدثها عن حفظه للقرآن وعن رغبته فى زيارة القبلة الأولى والشيخ الذى يجثم على كتفيه، وكذلك فى قصيدة (هاوية الرمل) أول قصائد القسم الثانى، إذ يظهر لنا الرمل فى العنوان مستحضرا سياقه الخاص بالصحراء، ومن ثم بشبه الجزيرة العربية أى بالثقافة العربية فى صورتها الخام قبل أن تتماس وتتفاعل مع الحضارات الأخرى بشكل مباشر (حتى لا يقال إن الجاهليين كانوا يتعاملون مع الحضارات الأخرى)، وتبدأ القصيدة بقوله :
ذاكرتى المنسوخة بالرمل
المشاءة فى الربع الخالى
المعنية بالفرق الضالة
لا تصلح للوقت الرواغ
فهو يستدعى الرمل بسياقه الذى أشرت إليه، ثم يحدد المكان أكثر بذكر الربع الخالى فى شبه الجزيرة العربية، ثم يستدعى الفرق الضالة، وهذا استدعاء جميل قدم لنا سمتين من سمات الحضارة العربية، الأولى : هى تعدد الفرق والمذاهب والاتجاهات الفكرية والعقدية . وهذا واحد من أهم أسباب ثراء الثقافة العربية وعظمتها، أما السمة الثانية أو الخاصية الثانية : فهى ما أوحت به كلمة (الضالة)، وهى تعبر عن مأساة ثقافتنا الكبرى، والتى لا زلنا نعانى منها حتى يومنا هذا، وهى نفى الآخر أو عدم قبول الاختلاف في الرأى، ثم يفاجئنا الشاعر بأن كل هذا السياق الذى استدعاه من ذاكرته (لا يصلح للوقت الرواغ)، وأعتقد أن هذا من أهم ما يصيب علاقة الشاعر بذلك الوقت الرواغ بالتوتر، ولكنه يحاول جاهداً أن ينفض عن ذاكرته بعض الأشياء التى تعكرها، ثم تنتهى القصيدة بقوله : (لنبدأ)، فلقد حاول أن يجهز نفسه ليبدأ فى تواصل معها ولكن بعد أن جاهد ليكون تواصلهما راسخا، مؤسسا بشكل يرضيه.
يغلب على قصيدة «المرايا» - ولا تقتصر هذه الملاحظة على تلك القصيدة وحدها - الخطاب إلى ضمير المخاطب بصيغتى الأمر والاستفهام، وفى هذه القصيدة بالذات يتجلى حديث الشاعر لذاته أو انقسام ذاته إلى ذاتين فى أصدق صورة، فالمرايا لا تكذب أبدا وبالتالى فهو يحاول مواجهة ذاته بحقيقتها وبما يجب أن تفعل.
فى نهاية المقطع رقم (9) يبدو جليا أن ذلك المنادى الذى ظل يشير إليه بضمير المخاطب هو ذات الشاعر : (يا بدائى الملامح يا أنا)، وبعد ذلك تظهر ال (أنا) فى المقطع رقم (10)، وفى المقاطع التالية يعود ضمير المخاطب للظهور مع بعض التعريج والتركيز أحياناً على ضمائر الغائب التى تعود على الولد والبنت مستحضرة سياق البراءة التى سبقت الإشارة إليها.
وفى المقطع رقم (17) تعود ال (أنا) متسائلة :
لماذا يتقينى
لماذا كلما قابلته
يتثاءب الأسفلت بيننا
وفى المقطع رقم (19) تظهر علاقة ما مع أخرى ينهيها بقوله : (أين المفر) كدليل على المحصلة النهائية لكل هذا المجهود والصراع مع النفس ومع الآخرين :
فى قصيدة (هذيان) نجد أن العلاقة بالآخر تصل إلى ذروتها، حيث إنها مكثفة جدا، فهى مهداة إلى (وليد منير)، يتحدث فيها عن الصباح، أى أنه يقصد صباحا أو زماناً محدداً، كما نجد البيت (وهو مكان محدد أيضا)، ثم البنت، وهكذا فإن ملامح الأشياء بدأت تتحدد، حيث نجح الشاعر فى (تسمية الأشياء بأسمائها)، وفى هذه القصيدة يعود ضمير المخاطب على شخص آخر (وليد منير)، فلقد خرجت الذات الشعرية من انغلاقها على نفسها إلى التحاور مع العالم من خلال أشخاص آخرين ولكنه هنا أيضا لا يزال متوجسا إذ يسأل : (هل تسمعنى؟)، ولكن لا بأس فهى خطوة على طريق التواصل.
تعبر آخر قصائد الديوان (الدائرة) فيما أعتقد عن دائرة البحث الدائم والدائب عن امرأة ومن ثم البحث عن صيغة مثلى للتواصل، فهو منذ عشرين سنة يحاول أن يصل إلى هذه المرأة التى ترمز إلى العالم المحيط بالشاعر، كما أن نهاية القصيدة بالتساؤل :
……… يا الله
أيوم محزون آخر
يفتح النص فى نهايته على فضاءات متسعة، ولكن كلمة الدائرة التى تمثل عنوان هذه القصيدة تعود بنا إلى بداية الديوان ثانية لنبحث عن إجابة لهذا السؤال، بحيث يشكل الديوان نفسه تلك الدائرة التى يسلم آخرها إلى أولها مرة أخرى.
(وتسميهم أصدقاء )الهيئةالمصرية العامة للكتاب
*ناقد مصرى
تعليق