الهاجس المشترك في الكتابات الراهنة
أو
فصول التذمر و الوجع في :
امرأة النرجس/ وشوشات قلم أحمر / زحف الهاوية سيرة الألم .
وجدتني أمام إشكالية عنونة هذا المقال و كنت في البدء عمدت إلى هذه الأعمال لتتبع الهواجس المشتركة في الكتابة العربية الراهنة ، فهل يكون الهاجس المشترك في الكتابات العربية الراهنة ؟ أم تراه قراءة سريعة في أعمال أدبية مختلفة ؟ أم يكون : صدر حديثا ، لكون الأعمال المقصودة وليدة السنة الجارية من حيث الطبع ؟، و ما كان الانتقاء عفويا مطلقا بل تعد العينات الثلاثة المأخوذة تشمل أجناسا أدبية مختلفة و هي :
-وشوشات قلم أحمر مجموعة قصصية لـ رائدة زقوت من الأردن كعمل أبداعي في بيئة عربية مشرقية بلغة عربية
-امرأة النرجس مجموعة شعرية لمنى بسباس السلامي من تونس كعمل أبداعي في بيئة مغربية بلغة أجنبية /لغة النص الاصل فرنسية/.
-زحف الهاوية سيرة الألم رواية لـ عز الدين جوهري كعمل أبداعي في بيئة المشرق و المغرب معا بلغة عربية .
وكان القصد التعريف بتواجد هذه الاعمال على الساحة الثقافية أولا و تتبع الهاجس مجانبة للأحكام الجاهزة لكن رصدا لنقاط الالتقاء في كنف حال وحدته وسائل الإتصال الحديثة زيادة على الوشائج الروحية و العرقية و التطلع المشترك أو كما أوردها عز الدين جوهري :
في أي شيء نتشابه؟
في العطش نتشابه
نتشابه في الجوع محي البشرية من تخمتها..
كلانا نتشبث بالتفاؤل و الأمل .
يأتينا /وشوشات قلم أحمر/ بـ 28 قصة قصيرة نقرأ فيها :
مسافة سفر : الحياة نفسها مسافة سفر لكن حين تتوزعنا الخيارات ترانا نتشظى ، فهل تراه الماضي و الحاضر المعاش المألوف من ينتصر أم الذي يتوزعنا من بعيد كحلم جميل قد لا تكون الفصول مواتية لحدوثه ، ليتم الانتصار للوفاء.
رأس العصفورة:بين الغوص في الواقعية و مسحة الخيال العلمي ، هل يكون من السهل التخلص من أفكار و طروحات للإنغماس في شخصية أخرى غير تلك العنيدة في مواقفها المنتصرة
لفكرتها ، لا لسبب الا لكون الثانية ما يريده الناس و ما تمليه الانا الجماعية.
الفصل الأخير من رواية لن تكتب/ الرقم المطلوب: نجاح في تتبع عاطفة الانثى و إسالتها على الورق تعابير وافية و النجاح في التهرب من المجتمع المحافظ.
على حافة الحب..في قلب الرواية: محاولة تبرم البطلة على دورها في رواية لرجل شرقي.
تكسر أنثى:تحطم انتظار امرأة لروائي و أديب
ذوبان عاشق متحضر: حاجة الرجل لامرأة تحت الطلب و حاجة المرأة ككينونة مستقلة بذاتها.
فورمات: يقارب أدب الخيال العلمي بلغة سردية توحي بالواقعية في محاولة العودة الى حالة الصنع.
ومن الحب ما قتل: كيف تريد المرأة الرجل ، حين عناد الرجل هل تستطيع المرأة التنازل عن بعض كبريائها ، و يكون الرجل الخائن في الاخير.
براءة: كما اعادة الفرمته بين ادب الخيال و الواقعية.
نعي : ميت يرزق و هي تقارب الخيال العلمي مرة أخرى.
اكتمال موتي : تأتي على الراهن لأمة تتوزع جسدها الآلام و تقطيع الاعداء لأوصالها.
أزيز الرعب:سرد كلاسيكي أفلح في معالجة ظاهرة اجتماعية بغوص عميق أعطى القصة رونقا خاصا و أتى على سلوكات شخوص القصة بروية و حبك جيد و بنفس يليق بالرواية.
الباحثات عن: طقوس زيارة الأضرحة للتبرك و الدعاء و كشف الأمور المستعصية.
اللفافة السوداء: تفرغ الكاتبة قدرة جميلة على السرد و الوصف لحالة انتحار لم تتم لتدخل في تفاصيل غيبوبة البطل بروية و تمكن.
انتصار:حين تتجاوز الامور نصابها تنقلب الى الضد تماما فالخوف المبالغ فيه قد يحيل صاحبه الى التطرف.
زائر منتصف الليل: التهلكة اليومية لإذهاب العقل تكون نهايتها مأساوية.
عاشق في زمن العم قوقل: حالة عشق افتراضي.
أعزب دهر و لا أرمل شهر : حين يحرم الانسان من حقه الطبيعي ظلما من المجتمع / ينتقل حال البطلة الى اشباع الغريزة خفية بين دافع الرغبة و حاجز الممنوع / حالة اجتماعية تحدث سرا و جهارا.
شمس باردة: السقوط في الرذيلة بفعل الاستغباء ، و التعاطف مع البطلة داخل زخم منظمة العهر التي ولجتها لتأتي على وصف مطول لحياة الماخور او تلك البيوت السرية.
ما يأخذه البحر : التخلص من اتعاب الحياة بإبطال عمل العقل / محاولة أخرى للانتحار.
معقد: الذين يقتاتون من تعب الاخرين.
يحكى أن: لماذا يفرض على المرأة التضحية دوما؟
نقوش بتاريخ اللعنة:الشرف سكين جاهزة في يد المنتقم يحز بها من يشاء و قتما يريد / الظلم الذي يقع على المرأة بزعم الشرف.
لاتسافر قبل ما أشوفك : حين يفقد الانسان عزيزا يسترق لحظات للتزود منها لكنها لا تساعده على البرء مطلقا.
ليلة توغل الياسمين : المرأة ضحية المجتمع الشرقي المنهك بالتأثير الأسري في غيرما داع.
أما امرأة النرجس لمنى بسباس السلامي فقد حوى 12 قصيدة بنصها الأصلي الفرنسي و ترجمة الشاعرة نفسها إلى النص العربي :
ذاكرتي و سجادتي الفارسية
Ma mémoire et mon tapis perse.
الاتكاء على الخلفية التاريخية و العودة للماضي:
نفضت ذاكرتي بلطف كما اعتدت أن أفعل مع سجادتي الفارسية العتيقة
هذا الاستحضار الذي يطوي الزمن عن قصد ، هذا الزمن الذي تنكره و تحاول التحرر منه سيما و أن أقرب تجلياته الذبول بعد بريق / الغبار/الفجوات / الرفوف.
فهل التخلص من تبعات الماضي و أتعابه يتيح للأنامل أن ترسم غدها ؟ ذالك هو الامتحان الذي تعانيه الأنا في القصيدة .
مطر غير مألوف
إن الهاجس الذي يثقل الأنا الفردية و /الأنا/ الجماعية ينتظر مفاجأة قد تأتي ، قد تلبس وقع المطر ، قد تأتي بالجديد ، و هو فجر في كل الحالات ، فهذا المطر :
ينقي الأجساد و الأرواح المضطهدة
يمحي داخلها المخاوف و الأحزان
فالأرض عطشى و كل أشيائها في جوع لجديد بهي ، لانتفاضة ترسم ملامحها الأشياء و الكائنات و أنا الإنسان :
ينسكب من سماء غضب نحو أرض جشعة لا تقنع أبدا
أرض تمد يديها في دعاء صامت يائس..
حيث يسيل ماء مجنون أهوج في ثنايا حديقتي العطشى.
مع أننا نجد في النص الفرنسي :
نحو أرض جشعة عطشى التي تمد يديها في دعاء
و لكون الشاعرة نفسها من أنتج النص و النص المعرب فقد جاء إنشاء آخر يتجاوز الترجمة الحرفية إلى بناء المعنى وفق اللغة المنقول اليها.
في : يحرقك خوفك
Ta peur te consume
تراكم الخيبات و تعدد أوجهها بتضاد نأتي عليه لاحقا و هو نفس التضاد في : ميلاد للأماني تولد ميتة
قرطاجتي
Ma Tunisie
هنا نذكر أيضا أن النص الفرنسي لا يتماشى لفظيا مع النص المعرب اذ يأتي مثلا :
Ma Tunisie de toujours
Etoile du grand nord-africain
Petite perle d’amour..
Croyants et incroyants
تونسي /أو قرطاجتي كما ارتأت الشاعرة/دائما
نجمة الشمال الكبير الإفريقي
جوهرة صغيرة للحب
مؤمنون و غير مؤمنون
بينما النص العربي يأتي :
يا نجمة الشمال
يا افريقية الصغيرة
أنت يا لؤلؤة المتوسط المنيرة
مؤمنون و ملحدون
و هي القصيدة التي أفردتها الشاعرة للتغني بالبلد الجميل إيغالا في التاريخ إلى الكاهنة و حنبعل و سيبسيون لتخلص في ختامها إلى تعزيز رابط الحب بالجزم بعدم مغادرتها أبدا.
وحيدة
في مخاطبة لهذا المقرب المبتعد الذي أضحى الآخر تاركا إياها لهواجسها و مخاوفها و أخطائها
فمع من كانت وحيدة، هل الوطن ؟ هل الآخر ؟ أم أن هذا المخاطب هو الوطن و هو الآخر في آن؟
ثورتي
ثورة الشاعرة تأتي من غضب و كره و تعلق و حب ، تأتي ضد القيود ، ضد الأشياء ، ضد التسلط ، ضد الظلم ، ضد اللامبالاة ، حبا في الحرية في الوضوح ، بل إن ثورة الشاعرة هي مبرر وجودها كإنسان.
موسيقى حلم
هنا يأتي الانزياح تاركا للسريالية أن تصنع المشهد من التأثيث اليومي كما لوحة سلفادور دالي :
ساعة حائطية متدلية من ركن كئيب تعكس في مكر
زمننا خارج الزمن منسي مبهم،
ساعة حائطية ميتة أو حية ترزق هي منذ أمد ترقب
في خيفة الكائنات و الأشياء،
تأتي الدلالات أبعد مما توحي به الأشياء التي تميهت و راحت تبحث لها عن تشكلات أخرى أكثر هلامية و انسيابية.
العائدون
هي لوحة اليومية بطقوسها التي تنتشلك و تعيدك فأنت:
لملمس دفترك و طاولتك
ترتعش
تنتقض
تبحث ثم تبحث مجددا
في أعماقك تقطف بعضها
ثم تصلي
لكي تجد بضعة كلمات لتلدها من جديد.
لكن تخلص في الأخير لديمومة المتاهة:
حروف تنسج في الظل مخطوط العشق و الحقد الدفين
بين كلمات و أفكار تعود.
التنبؤ
هاجس كينونة الإنسان إذ:/خضوع و خوف من آلهة /ملأت مقلتاي غموض/ فالغموض في حقيقته غموض الآلهة بينما تواصل النظرة بحثها عن الحقيقة التي أتلفها الضياع ، لكنما النبؤة هي نبؤة الشاعر ، فهو وحده من يقلب السماء و الأرض دون خجل أو وجل.
امرأة النرجس
تأتي الشاعرة لتتشظى هذه الكينونة المرأة ، هذه الكينونة الوطن و السلطة أيضا ، فامرأة النرجس التي تخاطبها بـ/أنت/ ليست حتما رمزا للنقاء ، لكنما تحمل التسلط و الوهن و الادعاء و كبرياء زائفة :
أنت
العاشقة لوجهك المغمور
تحت أوجاع مخبئة في حذق
تحت ماء كدر لدموع مشوبة
تحت انتفاضة شبه احتضار
فيأتي خطاب الشاعرة للتنبيه و اليقظة:
يا امرأة النرجس
كفي عن تصديق ظلال مرآتك الكاذبة
لكنها تخلص في الأخير أن نداءها قد يذهب سدى:
قلبك..
ربما قدمته قربانا تحت قدمي عشقك البائد
ربما جعلته رهنا لحظوة أو لحظة تملق أخرى.
المنفي
تفردها للاغتراب الذي قد يكون المنفى من الوطن مثلما يكون المنفى داخل الوطن ، كما الاغتراب داخل الذات البشرية المتهالكة بأتعاب البحث عن الصفاء عن الأمل عن العشق لابتسامة صادقة:
وجه فريد في غربته أو مغترب في تفرده قد أذهب الغياب و الألم معالمه
ألم المهمل المتسلط في منفاه حيث لم يعد يجد من يكلمه إلا قمصانه السوداء الدائمة الحداد.
لكنما في هذه القصيدة تكون النهاية سعيدة بروية و تمهل كأني بها تقصد منفيا بعينه قد عاد إلى مرتع تعبه الأول:
ها هو ذا يعود و للمرة الأخيرة إلى مثوى أيامه السعيدة
مصمما على استرجاع دور البطولة في مسرح الحياة الضاحك.
و كمسح سريع لزحف الهاوية سيرة الألم لعز الدين جوهري فإن الكاتب يأخذنا في سرد جميل ، بلغة راقية لسيرة ذاتية يكون قد صرح بها في قوله: نص مفتوح على كثير من الخراب ، و هو الذي خبر الشرق خلال تواجده بسوريا و لبنان و عايش الأحداث مثلما رضع الكرامة حليبا بجلال مولدا و إيابا إليها ، فيشبعنا يأسا و حنقا من الواقع منذ الصفحة الثانية :
تعال أبيعك بن باديس ، الطيب العقبي ، امبارك الميلي ، محمد الأمين فاضلي ، و الشيخ الزروق ، و المفكر محمد بن ثابت طايبي ، العربي بن مهيدي ، محمد بوضياف ، رابعة العدوية ، محمد الماغوط، و محمود درويش الذي لا زلت أقبض على صوته متلبسا في بيروت.
فنحن أمة تغتال مفكريها و شعرائها و أساطينها و أعلامها ، بل و توغل في التأكد من موتهم ، و يفرد لذكرى محمود درويش نشيد الروح:
وحدي أراكم الدمع الثخين لفقدك و وحدي إلا من الحروف النضرة أنتظم و ربك في ساحة النداء الأخير ، و النشيد الأخير ، لأتخير اللغة التي تقولك.
ليعود من جديد صارخا على الحال :
كلوا محمود درويش أيها الرعاع كما أكلنا قبله محي الدين بن عربي ...مرة رأيت المتنبي يؤكل من طرف حقير و هو خارج من مخمرة –جدل بيزنطي-ببيروت.
و يصعب تتبع عز الدين جوهري فيما يكيله من نقد للواقع نتفة هنا و أخرى هنالك ليعود للأولى مرة أخرى مستدركا و هو يحس أنه لم يعطها حقها من تباريح.
فتراه يأتي على ما يشاع من أغاني بالنقد اللاذع و إن خاله القارئ توصيف حال:
ألم يقولوا قديما : كي تشبع الكرش الراس يغني
أنا أغني : نحط راسي في الرايا
و هي موجة أغاني الراي التي عرفت انتشارا سريعا و لاقت رواجا رغم خوائها من المعنى ، بل التطرف أحيانا فيأتي بهذا المقطع الذي يقول صاحبه انه سيضع رأسه على خط السكة الحديدية ، أي دعوة للانتحار هذه؟
عز الدين يرى الناس :يفاقمون الكره الى درجات عالية جدا تماما كاليورانيوم المخصب، لأجل النيل من أحدهم أو تمزيق شمل ما ، أو تحطيم علاقة إنسانية نبيلة و صادقة ،
و فصول سرده إن جاز لنا تفصيلها بأسماء لأناس شاركهم الحلم و العيش أو الهم فيأتي على : شرف الدين شكري و يشكو إليه الحال ، و نوارة لحرش معرجا على عبد الرحمان مزيان الذي كان جاره اليهودي يأتيه بالعشاء كل يوم ، بينما يوجه الكاتب الراوي في بلده و في شهر رمضان إلى مطعم الرحمة ، ليعود إلى نوارة لحرش في حوار أحادي يصدر فيه أحكامه على الساحة الثقافية و يبوح بما يجب أن يكون عليه الحال .
و لا يسعنا الإتيان على باقي التفاصيل و التأثيث ، فقراءة زحف الهاوية وحده الكفيل بإيفائها حقها من الإبحار بأعماقها ، لكن المسح السريع يتطلب منا الإشارة إلى المزاوجة بين تتالي الخيبات و التوقف مع بعض الأسماء بين الفينة و الأخرى و العودة للماضي بتفاصيل رتيبة لم تفقدها المتعة و السلاسة و الإنسياب، ليورد عبد الرحمان العشماوي و هذه التي يسميها بتول و الربيع العربي و حرية المرأة في التقنين الجديد ، و ياسين رفاعيه و علي صبح ، و تطليقه الجريدة التي عمل بها و الطائفية و الحرب الأهلية اللبنانية و عمله مع الإذاعة الجزائرية خلال أحداث نهر البارد ، ليخلص في الأخير في حديثه مع مراد بوكرزازة أنه سيصدر هذا العمل يؤرخ فيه للحقرة و الرخس و العذاب و القهر ،
بيد أنه يشرع نافذة للأمل في ختام حواره مع عيسى بن محمود إذ يرى المرأة وطنا حين نفقد الوطن و جهة حين تنعدم في دواخلنا الجهات .
و سنعود لاحقا إلى هذه النافذة في الأعمال الثلاثة تباعا.
و قد اشتركت الأعمال في التذمر الذي يعد دافعا بدوره للكتابة كما قال احمد مطر :
أريد الصمت كي أحيا و لكن الذي ألقاه ينطقني
ففي قصيد ذاكرتي و سجادتي الفارسية نجد الشاعرة تستخدم : نفضت ذاكرتي
J’ai secoué
و النفض للعتيق لما علق به من غبار ، فالذاكرة متعبة من خيبات و إجهاضات الماضي ليس الفردي و لكن أنا الشاعر هي أنا الجماعة التي لا تقتصر على نفر من الناس في زمكنة محددة و لكنها امتداد غير متناهي .
هذه الذاكرة التي تكابر للابتهاج بهزائمها
Elle est provocatrice elle s’obstine ajublier sur sa propre défaite
و نجد عند رائدة زقوت في براءة أن هذه الذاكرة في حاجة إلى إعادة الفرمتة ، و لما استعصى على البطلة النجاح في ذلك عمدت:
و أغمضت مطلقة رصاصة الرحمة على ذلك المتعب/بنصب العين/المتعب/بكسر العين/و تلك الذاكرة القطعة العصية على العودة لحالة المصنع.
و كأني بمنى بسباس في نفس الحال لما تقول في قصيد مطر غير مألوف:
ينقي الأجساد و الأرواح المضطهدة
يمحي داخلها المخاوف و الأحزان
شأن التعري للبحر عند عز الدين جوهري ، فهي ألام دفينة استطالت في ديمومتها فلم يعد التذمر وحده يكفي لكن في انتظار مطر مفاجئ قد يأتي ليغسل أردان البشر.
و الشعور بالخوف سرمدي :
تموت بنار الخوف ثم تبعث من رماده/ضياع سوداوي ميت لزمننا.
و حتى الاتكاء على التاريخ للاستراحة و التزود للوقوف من جديد في قرطاجتي مثلا يأتي مثقلا بأتعاب الماضي و انكساراته:
أرض أجدادي المبعدين
من فردوسهم المفقود
من أندلسنا
فالجراح القديمة لم تندمل ،ترى لما العودة للأندلس تحديدا؟ أتكون نقطة التحول إلى السقوط الذي لا صعود بعده؟
عز الدين جوهري يؤرخ بها لفقد الأمل :
أنا فقدت الأمل منذ سقوط أندلسنا الشريدة و فلسطيننا السليبة ، و منذ تكور الدمع في مآقي جداتنا في الصومال الحبيب.
هل هذا السقوط الذي يبدأ به النهوض كما يرى عز الدين أم السقوط الذي يتطلب ثورة ؟
تقول منى بسباس السلامي:
ثورتي هي ضد كل المتسلطين الأغبياء
المغتصبون لخصوصيات الأبرياء
هذا التسلط ينزع عن الإنسان كينونته ، يحيله إلى مجرد معتاش يجاهد ليقتات ، هو الجرح الذي يؤلم عز الدين و هو الذي يؤمن بأن الإنسان رسالي:
كم هو مؤلم ، و جارح أن يعيش الإنسان ـ لأجل قطعة نقد ، و هو أكبر من ذلك ، كم هو موجع حد العظم ، أن نعمل ليلا نهارا ، لأجل الشوا في اليشير ، لأجل فروج في اليمن السعيد التعيس ، لأجل الملوخية التي أستطيع أن أسقط لأجلها حصونا و قلاعا ، و أخوض بسببها حروب الأنفاس الأخيرة و الرمق الأخير.
هي هواجس التذمر و التعب الذي أثقل كاهل الإنسان ،
تقولها منى بسباس السلامي:
كلمات تتزاحم على حافة شفاه متعبة خاضعة
لتلتقي في عناق عابث بالهمسات وقحة مبحوحة
تطلق العنان لولع جامح
تعب الإنسان و تعب الروح لكثرة كالغثاء و زبد يحسبه الظمآن ماء ، و ما هو بماء و لكنه يوصل إلى قمة التذمر و التبرم ، يقولها جوهري:
أتلو أطنانا من الهراء ، و قوافل من الضحك حد القرف ، متبلا بوجوم الرعد و البرق ، و الأرصفة ، و التوابع و الزوابع ، و البنايات الشاهقة التي خانت الأرض ، ثم أقف عاريا كعادتي ، و ابصق على شكلي في الظل.
فحتى التضاد هنا جاء مرافقا لحال السأم و المقت الشديد للسائد :
أتلو الهراء/ ضحك حد القرف.
و هو ليس التضاد الذي يعني الطباق إنما توليد المعاني من ألفاظ تبدو نافرة من بعضها كما هو الحال في امرأة النرجس :
نشق غبار اللحظات الميتة/ تكابر للابتهاج/ المتباعدة المتقاربة / تخوم سماء واهنة/ابتسامة متعبة.
و لأمر ما يجتمع هاجس الجوع البشري إلى العدالة مع الخوف ، و اجتماع الأمرين شديد ، و قد امتن الله سبحانه و تعالى على قريش بأن أوجد لهم هذه النعمة : فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع و آمنهم من خوف
فهاجس الخوف مما يرى و ما خفي يسبل الضبابية على المستقبل ،تقول منى بسباس:
خضوع و خوف من آلهة
ملأت مقلتاي غموض
تراها الآلهة نفسها التي ذكرها أحمد مطر في قوله :
آلهة تأتينا من الغرب ، لكن بثياب عربية
هل تراه نفس الهاجس أيضا لدى رائدة زقوت :
...في محاولة للتغلب على هواجس الليل ، تلك الهواجس التي تولد مع غروب الشمس و تحول ظل الطفل لوحش كاسر ، سيقوم بقتله لا محالة إن لم يهرب صوب النوم.
هل يكون الإله عندها هذا الـ:
كبيرهم الذي يفقأ عين الحقيقة بطلاسم تزيل وجع الجرح في حينه و تورث البدن موته الأزلي .
إن الهاجس مشترك و إن تعددت التسميات و التفاصيل فحتى الأنا الهوية الأنا الإنسان تعود إلينا متعبة مهما حاولنا أن نميط عنها من غبار و نهيل عليها من هيل ،
أناتي تعود لي
أستردها
قلبي يتنكر لي و لها
/من امرأة النرجس/
هي نفس الأنا في براءة بمجموعة وشوشات قلم أحمر :
و ينتشر على تلك المساحات البيضاء و يحولها للون الرمادي المنقط بالسواد ، عندها أيقنت بأني فشلت في البراءة مني .
و بالعودة إلى نافذة الأمل فإننا نخلص في المجموعة القصصية لدى رائدة زقوت إلى وجوب التحرر لدى الرجل الشرقي من ممارسات تتعارض و متطلبات العصر و حقوق المرأة و الإنسان ، و إحقاق الحق في المجتمع دون غلو و لا تطرف ، و إعادة بناء الإنسان العربي بناء سويا من داخل خلفيته لا مما يملى عليه :
لا أظن أن أي قوة في العالم تدفع أحدا للبراءة من نفسه غير نفسه.
بينما نجد الحل ثوريا لدى منى بسباس السلامي في امرأة النرجس لحاجة الإنسان إلى السلام و الحب ، و هو الحل الذي لا يستثني أحدا ، فهذا المنفي :
مصمما على استرجاع دور البطولة في مسرح الحياة الضاحك الباكي
حيث تتدفق من قلبه و جسده الضئيل كوكبة من نجوم عاشقة للكلمات
نفس الكلمات التي جعلت منه مغتربا ثم مستنقذا من الوهم
من المنفى.
و عند عز الدين جوهري بالاشتغال في مجال الفكر و الثقافة ، فالسقوط عنده مقدمة للنهوض ، و لا سقطة إلا و سبقتها هزيمة في اللغة و الفكر و الدين ، بل و يعيد تشكيل جغرافيا الكون للجميع:
و من فرح المحبة بدين الحب الإلهي ، ينتفي إشكال القطيعة من كوكبنا ، و حيث تمشي المحبة ، تنبلج قناديل الوحدة الإنسانية الكبرى.
ختاما و قد كنت أتجنب القول : أحسن في كذا ، و فاته الأمر في كذا ، أجدني أقر بأن :
عز الدين جوهري قد حلب اللغة من ضرع لم ينتبه إليه غيره في عديد نتفه كما يحلو له تسميتها حين التجزئة.
و قد ولجت رائدة زقوت دواخل المرأة و معاناتها بكفاءة و جدية و تمكن.
و ألبست منى بسباس السلامي الشعر الفكر ، و عهدنا به إلى العاطفة أقرب ، لكنها أفلحت في إتخامه بمعاناة الإنسان.
تعليق