العبور إلى ضفاف الدفء
1
تمرّينفوقي سحابة شفيفة اغتصبتها الرياح بفعل ثقل حيائها ، وتهاجرين إلى صحراء لا تمطرغير خزي القحط وحنظل الذل ، وعيوني معلقة بأهدابكِ ، وسمعي مشرّع لشماتة الرياح ،ولا أملكُ غيرَ البكاء .
أمس مررتِ من هناك ، كنتِمخنوقةً بأنفاسكِ الحبيسة ، وكنتُ طليقاً لا أحملُ غيرَ جناحيْن مفروشيْن كأشرعةالمراكب العاشقة ساعة الغروب ، سمعتُ شهقاتِ روحكِ ، وتلقفتُ دمعكِ المنكسر ،وشممتُ رائحتكِ ، ومع استلامي شفرة وصولك ، أطلقتُ جناحيّ ، مددتُ أطرافهما ، رفستُعلى الجرحِ الفاغر فمه في قاع الروح ، وصرختُ لأخبركَ بقدومي ، إلا أنّ شراسة الريحوحقدها مزقـّت صوتي وأعادتني إلى حظيرة النواح .
2
تتكالبُ ألسنة النيران يغـّذيها سعيرالموت الأسود ، تتراكضُ نحوي مواكبُ الظلام ، تدثرني غيماتٌ قادمة من محيط الخوف ،وأنا أزرعُ في مشيمة أحلامي عطرَ وجهكِ وبهاء طلعتكِ وسمو شأنكِ .
إنهم قادمون أيتها البهجة المقدسة ، أسمعُ صرير حقدهم ، أحترقُ بنيرانمرارتهم ، أيتها الساكنة بين الشريان والشريان ، أنهم يقتربون رايات من دم يقودهاالشيطان ، وجحافل تخلف يرضعُ من ثديها الجهل ، أسمعُ وقعَ حوافرهم وفحيحَ حناجرهموهم يضربون طوقاً حول منابع الفرح القادمة من مشاعل النور .
أختنقُ الآن بفعل نتونة رؤوسهم وقبح النضح السائح من أطراف ألسنتهم ،افتحي لي كوّة من رذاذ الفرح السابح في الأفق الواسع يازهرة الحُلم !!! أعيديصياغتي يانسمة الأمل الوافد من شواطئ الكون الآخر !!! أعينيني ياعينَ البحرواحمليني وتراً في قيثارة الزمن الهارب !!! .
أراهميقتحمون أسوارَ العشق ، أحرقوا الأمل الآتي ، دمرّوا بحوافرهم بهجة الأرض ، ختمواعلى شفاه الصغار ببصاق تاريخهم المزيّف فانتحرت البراءة على شفاه الأطفال ، إنهمقادمون .... أراهم قادمون ... ولا أملكُ غير خيار المقاومة .
3
أتسمعينَ صفيرَ الانحطاط ، أترين مخاطالرؤوس المكتظة بالتخلف ، أتشمينَ نتونة القرف الطافحة من الألسن المتسوسة ، إنهميحاصرونني من كلّ منافذ الضوء ، ترنحت الشمس بين أضلا فهم ، تهاوى القمر عندماخرجوا من ظلام التردي ، أصيبت الحياة بالجنون عندما لامستها الديدان فانتهكتعذريتها ، لا شيء في الأفق سوى الظلام .
طيّرتُ لهمعصفوري المشاغب ، كانت البسمةُ تمتص وجهه وهو يطير ، قلبي يختضُ بين أضلاعي خوفاعليه ، دار دورة .. دورتين ، ارتفعَ وعلى جبينه زقزقة حالمة بالفرح ، حجبه الدخانالأسود الكثيف ، شعرتُ بحشرجة الاختناق تصادرُ فرحه ، تكوّرَ الخوفُ وتكاثف سحباًفي نفسي ، أدّى رقصته رغم ما يعانيه من اختناق ، ثمّ تهاوى بعد ارتداد عنيف وسقطَبينَ أشجار الأمل المورقة ، أسرعتُ إليه ، منحتني الأغصان دفقة العزاء ، رأيتُبقايا الرقصة تتحرك على جبينه ، صرختُ ونزيف الخوف يغرقني : ياربّة العشق سأطالبكِبه يوم يحين وقت الحساب .
4
ياللهول !!!! صليل أضافرهم حجبَ عنـّي سماع هديل حمامتي البيضاء الوقفةعلى غصني المتراخي ، نيرانهم أحرقت ذيلَ الطاووس المختبئ وراء الشفق الباسم ، بدأترماحهم تنوش صدري نزفتُ فجراً حالماً ، تفرعت أغصانُ الصبرِ واحتشدت طيور الضوء ،انتفضت حمامتي البيضاء وطارت نحو سواحل الجزع المر ، وهي تردد نشيد الفجر :
( إنهم يطلبون شريان الفهم لكي تبقى الأرض كهوفاًللظلام ... إنهم يقذفون عيون الوعي برماد الخرافة ... أنهم يعبثون بملامح الفرحالمتدفق من قلوب الصغار ليقيموا عليها محرقة لأحلام الكبار ... الفجر ملكننا ... والضوء ملكننا ... وفرح الصغار حصتنا ... ولا أحد يوقفُ الحياة ...)
بدأتُ أترنحُ من ثقل الخيبة في نفسي ، أسرعتُ إلىعصفوري المشاغب ، اختطفتُ البسمة من جبينه ، عبرتُ حواجز الخوف ، وفي آخر محطاتالغربة رأيتُ حمامتي تغتسل بنور الله ، أسرعتُ إليها ، ركبتُ جناحيها ، وطرنا سوّيةنحو عالم آخر بعيد ، مسكون بالدفء والعدل والأمان .
تعليق