قراءة في قصة ( أمنية من ورق ) ---- أ / إيمان الدرع
البنية الـسردية في (أمنية من ورق )
مقدمة حول ظروف كتابة القصة :
لمعرفة خلفية النص الأدبي العديد من الفوائد ، إذ أنها تفتح الكثير من المغاليق ؛ فتعرّف المتلقي على الجو الذي كتب فيه النص والتجربة الشعورية التي تعرضت لها الذات المبدعة فأدت لخروج النص بهذا الشكل .
وقصة ( أمنية من ورق ) هي آخر نص للأديبة السورية أ / إيمان الدرع ، وحول ظروف كتابته تقول في إحدى مشاركتها على المتصفح الخاص بالقصة :
" قرأت في العدد الأخير من المجلّة السورية: " السالب والموجب" ..: موت طفل صغير متجمّداً من البرد، بعد أن أجبرته زوج أبيه على تناول الطعام في حديقة المنزل ،في دعوة على العشاء،أقامتها لأهلها .. سكنتني روح هذا الطفل ..عشت لحظات مصرعه..رسمتُ مشهداً آخر على لسان طفلة في يوم العيد والأماني ( التوقيت أوحى لي بذلك)وتخيلت اللقاء بأمه الراحلة قبله، في عالم الروح ..تشكو لها قسوة البشر،ووقع سياط الحياة على جسدها الفتيّ..وارتياحهاأخيراًبين أحضانها.
في الواقع صورٌ أقسى ، فزورق الطفلة هنا قد حقّق حلمها، وكم من زوارق في العمر خيّبت الرجاء!"
فــ ( أمنية من ورق ) هي قصة حقيقية إلا أن الكاتبة قامت بتغيير عنصرين هامين : الشخصية الرئيسة ( من طفل إلى طفلة ) ليكون أكثر تأثيرا لما تنطوي عليه علاقة الابنة بأمها خاصة وإن كانت متوفاة – وعنصر الزمان ( من الغير معروف إلى ليلة رأس السنة ) ليناسب العنوان والتوقيت الذي نشر فيه النص ..
فكان لتغيير هذين العنصرين وغيرهما من الآليات الأخرى دور كبير في تحويل مجرد خبر في مجلة إلى عمل أدبي ، فالعمل الأدبي ليس مجرد نظر في المرآة وانعكاس لصورة وإنما هو استخدام آليات معينة بفنية عالية من أجل تخليق عمل أدبي .
بنية الــ ( أمنية من ورق ) :
تتميز هذه السردية بسمات خاصة في بنيتها من حيث : الحدث القصصي – تقنيات النص الزمنية - المستوى الحكائي - السرد والحوار..
وهذا ما سيتم معالجته في هذا المقال .
1-الحدث القصصي :
لقد شهدت القصة الكثير من التطورات في الآونة الأخيرة من حيث المسار السردي ؛ فقد اعتمدت النصوص الكلاسيكية على عمودية السرد حيث تسير الأحداث في اتجاه واحد ، فــ ( أصل السرد في اللغة العربية هو التتابع الماضي على سيرة واحدة وسرد الحديث) [1] ، ويؤدي إلى نهاية متوقعة للقارئ ليست بعيدة عنه، وكان هذا يؤدي لانغلاق النص فلا يقبل تأويلات ولا قراءات مختلفة . أما القصة الحديثة فقد سلك الكتّاب فيها مسارب جديدة ، فلا يسير الحدث القصصي في اتجاه واحد، بل يسير في مسارات عدة ،ولا يلتزم بالترتيب الزمني وإنما يتركه للقارئ ليصل في نهاية النص بعد جهد وإعمال فكر إلى تأويلات مختلفة تختلف من قارئ لآخر، مما يعطي انفتاحا للنص وهنا يكمن الإبداع .
والقصة التي بين أيدينا ( أمنية من ورق ) لا تعتمد الكاتبة فيها الأسلوب التقليدي للحكاية. فالقصة تعتمد على حدثين أساسيين تنطلق منهما السردية :
الحدث الأول ( متكأ السردية ): وهو الحدث الرئيس ، ويتمثل في وصول طفلة صغيرة إلى أمها بعد طول سفر في دروب طويلة وحدها حيث الجو العاصف والثلج الغزير وهذا الحدث يشبه السياج الذي يؤطر القصة ، لكن لا يفصح هذا الحدث عن نفسه إلا في نهاية السردية
الحدث الثاني ( عجلة السردية ): وهو الحدث الذي يدفع بالسردية للتحرك ، من خلال استرجاع الرحلة الطويلة التي قامت بها الطفلة بمغافلة أهلها بعدما نسوها في الحديقة وانشغالهم بحفل رأس السنة ، ثم طلبها أمنية من زورق الأماني وهي أن تذهب إلى أمها ..
ليرجع السرد إلى الحدث الأول بتحقيق تلك الأمنية ، وما أن تأتي النهاية حتى تكشف الحقيقة أن الطفلة كانت تحادث أمها المتوفاة في خيالها بينما هي ممسكة بالزورق قد تجمدت في الحديقة قبل أن يصل زورقها إلى الماء !
2- تقنيات النص الزمنية :
تعتمد القصة على الزمن إذ أنها سرد للأحداث بالدرجة الأولى ، ولكن لا يلتزم الراوي في القصّ بالترتيب الزمني ، وإنما يترك الترتيب للقارئ يقوم به في مخيلته بناء على فهمه للأحداث وربطه لها، وتعتبر هذه التقنية الأكثر ارتباطا بالواقعية إذ أن ذاكرة الإنسان لا تسير على نحو مطرد متسلسل وإنما تتذبذب بين الأحداث الزمنية.
و( أمنية من ورق ) لا تعتمد على الترتيب الزمني كما أسلفت بتوضيح الحدث القصصي . فقد اعتمدت الكاتبة على تقنية الاسترجاع في سرد الأحداث بالدرجة الأولى إذ يمثل الاسترجاع هنا العجلة المحركة للسرد ، والاسترجاع ( Flash back) هو ترك مستوى القص في الزمن الحاضر ( متكأ السردية ) للارتداد إلى الماضي واستحضار أحداثا قديمة هامة لها علاقة وطيدة بالزمن الحاضر هنا . وقد تم الاسترجاع في ( أمنية من ورق ) على لسان الشخصية الرئيسة بالقصة – الطفلة " غافلتهم أمي، كان أبي كعادته، قد أطفأ ضوء مخدعه ، وأسدل الستائر متعباً،دون أن يدري بأنّي سوف ألاصق يديّ برجليّ ، أتكوّر كجنينٍ.." ، وكان لهذا دور في إعطاء ملامح إنسانية واقعية للشخصية الرئيسة
إلا أنّ التفاصيل الكثيرة التي ذكرتها الطفلة وتعقيبها عليها قد جاء مخالفا للواقع القائل بقصور نظر الطفل وضعف ذاكرته في تذكر دقائق التفاصيل وفهمها على النحو الصحيح ، وهذا ما سيتم تناوله عند حديثي عن موقع الراوي من السرد.
3- المستوى الحكائي :
إن تنوع مستويات الحكاية أو القص يعد من أهم ما يميز القصة الحديثة فضلا عن أثره في تشويق وجذب المتلقي وإضفاء فنية عالية على النص الأدبي . وفي هذا النص ، اعتمدت الكاتبة أكثر من مستوى للقص :
فتبدأ القصة بالخطاب من الأم المتوفاة في خيال الطفلة إلى الطفلة نفسها : " ريما ..يا صغيرتي الحلوة ...هل وصلتِ ...طيري إليّ حبيبتي ..جدّفي الموج،اطوي المسافة الفاصلة ما بيننا بأمان ، أغمضي عينيك برفقٍ ، واقطعي الحديقةبسلامٍ ، وإيّاك أن تتعثّري بالسياج، أنا بانتظارك .
لتتحول القصة بعد ذلك على لسان الطفلة الصغيرة فتقوم هي بسردها باستخدام ضمير المتكلم :" رأيت في طريقي إليك الكثير من الأطفال بثيابهم الجديدة ،يغنون، يرقصون ،يشعلون شموع العيد ،يتزلّجون فوق ثلج الروابي، ويزيّنون الأشجار بأضواءأحلامهم، رأيت الكثير من علب الهدايا ، الملفوفة بأشرطة ملوّنةٍ ..".
ويتداخل مع صوت الطفلة صوت الأم الوهمي لتوجه الحوار من خلال أسئلتها الوهمية في خيال الطفلة :" أخبريني كيف أتيتِ إليّ والدرب طويل ؟؟" ...
"كيف غادرتِ البيتحبيبتي؟؟؟أما خشيتِ الطريقَ الخاوي من البشر في هذه الليلة العاصفة؟"
وفي دواخل هذا الحوار يظهر صوت الراوي العليم الذي يقصّ بضمير الغائب ويوجه الأحداث من خلال إشارات بسيطة : " ترفع عنها الغطاء،لم تعد تحتاجه، تعانق جيدها، ذراعاها موقد حنان، تخترقأناملها فيض النور، تفرك عينيها، تطلب أن تغوص في قارب التوحّد، ألاّ .تبعدها عنها بعد اليوم.." ليختم بعد ذلك السردية في النهاية " وساد سكونٌ مطلقٌ ..وتبعثرتْ حقائب السفر ..تنثر ما عبّأته من هدايا اللقاء .. وعند الصباح ..استفاق الضوء على أصوات مذعورةٍ ، تتبادل بجنونٍ: الاتهامات ، واللعنات."
4- السرد والحوار وموقعهما في النص :
( الحوار وموقعه من السرد – الراوي وموقعه – لغة الراوي)
** الحوار وموقعه :
يعرف السرد بتعريفات عدة طرأ عليها التطور كثيرا حتى تحول إلى معنى إصطلاحي فهو (الطريقة التي يختارها الراوي أو القاص، أو حتى المبدع الشعبي ليقدم بها الحدث إلى المتلقي، فكان السرد إذن نسيج الكلام، ولكن في صورة حكي )[2] ، على لسان راوٍ ، إلا أن القصة التي بين أيدينا يغلب عليها الحوار الذي يشبه الحوار المسرحي إلى حد كبير ، وهذا ما يسمى بالعرض ( وهو طريقة تسود المسرحية فتنقل الأحداث مباشرة من خلال الحوار المباشر)[3] ، ولكن أحيانا تظهر هذه التقنية في القصّ مثل هذه السردية ، ولهذه الآلية – العرض - دور كبير في إظهار الجوانب النفسية للشخصيات " وها أنا أعبّ من حنانك ما يعوّضني وأكثر،ضمّيني ..السموماستوطنت جسدي النحيل ، أنشد السكينة والسلام بين يديك."
( فيبتعد الراوي قليلا ليتيح الساحة للشخصيات أن تتحرك بعيدا عنه)[4] ولا يكون له دور سوى التعليق ونقل الأحداث فقط من خلال الأسلوب المباشر ([ الذي ] يقوم ..على تقديم الراوي للشخصيات أثناءالحوار فيصف المتكلم وطريقة كلامه )[5]
".. أرختْ عينيها الناعستين، كبحّار يشتهي النوم بعد أن تاه في مدن البحار،وصدى أغنيتها القديمة يداعب جوارحها...
--- ياللا تنام ريما..
التفتتْ إليها..
---أمي طالتْ غيبتك ..لمَ تركتني وحدي؟
ـ-- ليت الأمر بيدي يا حبيبتي ..سهم حارق فرقني عنك ، لم أستطع صدّه..!"
ويكون للراوي أيضا في هذه الحالة دور حمل خبر جديد من خلال السرد مثل المشهد الأخير لموت الطفلة" أصواتٌ تتباكى على جسد طفلة ، ما عاد يعنيها ما تسمع، تنظر إلى السماءبعينين بريئتين، على وجهها طيف ابتسامة نورانيّة ، ويدٍ تقبض على زورقٍورقيّ، حقّق الأمنيات، قبل أن يلامس الماء."
فيكون الراوي هنا أقرب لـــ(شخصية حيادية تمثل دور الجوقة في المسرح عندما يقوم بالتعليق على حدث وقع أو يوطئ لحدث سيحدث) [6]
** موقع الراوي :
إن موقع الراوي من أهم عناصر البنية السردية للقصة وأكثرها اتصالا بعملية القص ؛ ذلك لأن موقع الراوي يترتب عليه النظرة للشخصيات والأحداث وترتيبها . وقد يتعدد الرواة لسرد حدث واحد فقط داخل العمل الأدبي الواحد ، وقد تتعدد الأحداث ولا يكون سوى راوٍ واحد فقط ؛ إذن فالفيصل في هذه القضية هو العمل الأدبي نفسه ومقتضاه .
وفي ( أمنية من ورق ) هناك نوعان من الرواة يقومان بالسرد :
** الراوي العليم الخارجي الذي يقصّ بضمير الغائب ، وهو يشبه الكاميرا التي تلتقط التفاصيل الخارجية والخلجات النفسية وما يدور بخلدها وكأنما يشق الصدور ويخرج البواطن
"شدّتها إلى صدرها ، أدخلتها في أضلاعها في ممرّ سرّي لاتصل إليه يد تنزعهامن جديد، مسحتْ عن جبينها القطرات الفضيّة الباردة، أدفأت نبضها المتسارعكعصفور دوريّ مضطرب ... أرختْ عينيها الناعستين، كبحّار يشتهي النوم بعد أن تاه في مدن البحار "
وكما أسلفت فإن دور الراوي العليم في هذه القصة بالتحديد محدود للغاية ؛ ( وقد اتجه الروائيون مؤخرا لتقليل مساحة تواجد الراوي وصار من العيوب الفنية التي يمكن أن توجه للرواية أن تعلو النبرة الفلسفية على حساب حركة الشخصيات )[7] ، فيشبه هنا الملقن المسرحي الذي ينقل البسيط من الأحداث أو يوجه دفتها من وقت لآخر ، وتتضح لغة الراوي العليم هنا أنها تغلب عليها الشاعرية واللغة الراقية والتصاوير المتوالدة " شدّتها إلى صدرها ، أدخلتها في أضلاعها في ممرّ سرّي لاتصل إليه يد تنزعهامن جديد"
** الراوي بضمير المتكلم حيث يقوم البطل في القصة بسرد الأحداث على لسانه هو ومن وجهة نظره هو إلا أنه قليل في القصة بالمقارنة بالسرد بضمير الغائب ، وفي ( أمنية من ورق ) يتضح أن من يقوم بالسرد في أغلب النص هي الطفلة الصغيرة والتي تمثل مركز الأحداث من خلال استرجاع ما حدث لها قبل المجيء الوهمي إلى أمها. وهذا النوع من القص يضفي نوعا من المصداقية إذ أنها تتحدث عن خواطرها الذاتية ، وقد يكون مطلوبا للغاية من أجل جذب تعاطف القارئ معها كما هو ظاهر من النص " آاااه ما أصعب الوصول! كمدفعتُ عن كاهلي المطر الغزير، المختلط بندف الثلج ! كم أرعبتني شقوقالسماء، والأرض ، حتى كادت تبتلعني! ولم تهدأ الريح إلاّ بعد أن صرت فيمملكتك..ضميني إليك ، متعبة أنا..يا لطول رحلتي إليك.!!!
إلا أن اللغة المستخدمة قد جاءت أكبر من سن الطفلة رغم أن الكاتبة لم تحدده "علا الضجيج في أرجاء المنزل،وشقّت الضحكات سكونالليل، كنت أسمع ارتطام الأطباق، والأكواب، ممتزجةً بالموسيقا والأغاني،والرقص الصّاخب، وألمح الشرائط المكويّة في جدائل أختي الجميلة، كدميةٍتتخاطفها الأيدي، من وراء الشبّاك شاهدتهم." ، لكن مستوى التعبيرات والوصف والإحاطة بمجريات الأحداث ليست واقعية بالمقارنة بنظرة الطفل التي تكون قاصرة إلى حد كبير .
وقد لجأ عدد من الكتّاب إلى ضمير الغائب في هذه الحالة للخروج من هذا المأزق ؛ فمثلا عميد الأدب العربي د/ طه حسين في رائعته " الأيام "استخدم ضمير الغائب في السرد ( وما قام به المؤلف يمنحه القدرة على التحرر من نظرة الصبي الضيقة للعالم وللشخصيات )[8] ، وإتاحة الفرصة للراوي العليم بالتدخل في الوصف وسرد الأحداث بالشكل المتكامل المعروف عنه .
وما تم في ( أمنية من ورق ) يعد مخالفا للواقعية من حيث استخدام اللغة العالية والخيال والصور الشعرية الموحية الغير متناسبة مع الطفلة الراوية خاصة وأنّ للقصة بعدا اجتماعيا ؛ لأنّ ( الواقع عندما يفرض سلطته كمتكأ خطابي إنما يكون بعده الاجتماعي هو صاحب لهذه السلطة لأن الأدب يمثل الحياة والحياة في أوسع مقاييسها حقيقة اجتماعية )[9]
فكان بإمكان الكاتبة في هذه الحالة إما النزول إلى مستوى الطفلة في حديثها ؛ ولكن هذا لن يغني عن استخدام الراوي العليم لأن الطفلة لن تستطيع تحمل الرواية بأكملها وإلا صارت قصة من أدب الطفل .
الخاتمة :
كانت هذه قراءة في البنية السردية لقصة ( أمنية من ورق ) للكاتبة أ / إيمان الدرع ، والنص به الكثير من العناصر والآليات التي تستحق عمل دراسات عدة عليها . وكانت الكاتبة موفقة إلى حد كبير في هذا العمل الأدبي باستثناء موقع الراوي الرئيس – الطفلة – من السرد .
المصادر :
1- (مكونات السرد في النص القصصي الجزائري الجديد) ص 56 ، تأليف : عبد القادر بن سالم ، اتحاد الكتاب العرب 2001
2- المصدر ذاته ص 56
3-(الراوي وتقنيات القصّ الفني) ص 162، تأليف: عزة عبد اللطيف عامر،الهيئة المصرية العامة للكتاب 2010
4- المصدر ذاته ص 163
5- المصدرذاته ص 170
6-(مكونات السرد في النص القصصي الجزائري الجديد) ص 101 ، تأليف : عبد القادر بن سالم ، اتحاد الكتاب العرب 2001
7- (الراوي وتقنيات القصّ الفني) ص 80 ، تأليف: عزة عبد اللطيف عامر،الهيئة المصرية العامة للكتاب 2010
8- المصدر ذاته ص 129
9- (الطريق إلى النّصّ - مقالات في الرّواية العربية ) ص 8 ، تجميع : سليمان حسين ، اتحاد الكتاب العرب 1997
تعليق