الأسلوب السردي في نص دينا نبيل ( الشريطة الحمراء )
يعرف
الميتا سرد» بأنه نوع من الأدب التخيلي ينتمي أساسا لتيار «ما بعد الحداثة» ويتناول بوعي ذاتي متعمد أدوات السرد ليكشف خدع النص الداخلية، كما يفسر النص التخيلي ويطرح أسئلة عن العلاقة بين التخيل والواقع (..البروفسور الفرنسي برنارد كيغيني)
شَـرِيـطَــةٌ حَمْـــرَاءُ
الماء الدافئ يُمطرني ، يتخلل الغوائر من جسدي .. في المغطس أنزل ، وفي الماء أغوص ، حتى أنفي .. أغوص ، البخار يتصاعد ، أبحث عن ثغرة أتنفس منها .. أصابعي تذوب يأكلها الماء ، حثيثًا تفر منها الدماء .. تَبْيضّ عدا أعطاب ، أطرافي تطفو ، تنفصل عن جسدي المتهرئ .. رويدًا ، رويدًا ، يسبح كلّ منها في اتجاه ، تتشبث بجوانب المغطس .. تشهق .. وتصعد !
تناولَتْ المناديل تتتبع بقايا مساحيق التجميل العالقة بوجهها ، تمسح بكفها بخارًا وقطراتِ ماءٍ علتِ المرآة .. المرآة تنتح من جديد ، بدت صورتُها متعرجة ، تشقها مجارٍ رفيعة .. مترددة تتوقف حينًا وتجري أحيانًا ، تسيل وتقطر .. " لم تكن أنت السبب ، أيها الــــ ... عزيــــز !! "
لم يكن أنت حينما حملني الرواق الطويل يتموّج من تحت قدمي .. يتقاذفني جانباه ، وأنا أستنجد بأهل بيتي كي يدركني أحدهم ، ربما جاء طبيبٌ أو أُخذتْ مني عينةٌ إلى معملٍ .. وبعدها ، اكتشفتك بداخلي ، لم أحزن ! .. ربما أنا حزينة لأنك لست أنت وحدك الآن بداخلي .. لم أتوقع أنني أحمل توأمًا لك ؛ بينما تتوغل فيّ أنت وتحتل خلاياي ، كان هو مستكينًا يتأملُني على مهلٍ ؛ كيف منذ ذلك الحين .. واللون الأبيض يلاحقني في كل شيء .. الناس ، الأَسِرّة والحوائط .. حتى الفراغ صار أبيض .. يقهر ألواني وجسدي ، أردتُ استفزازَه بشعرٍ مستعارٍ أسودَ رغم استهجان زوجي لمظهره ، وتحاشيه النظر إليّ عند ارتدائي إياه ، فما تكون إجابتي ساعتها سوى ".. أريد أن أتشبث بما بقي لي من أنثى !"
ربما كانت أنثى ، الآن هي تزحف في أركان مملكتها النائية ، تلملم صورًا متوارية خلف قضبان متآكلة ، لتعارك بها زوايا استبدت بواجهتها الجديدة ، تصرّ أن تحشرها بينها والمرآة .. يُقسّمها الإطارُ نصفين ثانيهما مبتور ، لتفزع إلى الستائر تسدلها ، والنور تطفئه .. إلا أنّ فرعًا منها يشدّها ، فتفتح نوافذها من أجل " زهرة " ذات سنوات تسع لا تملك سواها .. تجلس إلى جوارها تتابعها بعينين غائرتين ، تشتم عبيرها الطفولي ، فتلّون عالمها الأمهق ، وتحيلها عروسًا تنساب مراقصة إياها .
-- " زهــرة .. هل عدتِ ؟ "
تعالَي ! .. كم أودّ لو أعيدكِ إلى بيتكِ الأول ، حينما كنّا شيئًا واحدًا .. خاصًا جدًا !، أتسمّع إلى نبضكِ كي أتيقن أنّ ثمّة حياةٍ بداخلي ، تمصين دمائي ، تهدجين أنفاسي ، وأنتظر لحظة أرى فيها ذلك المخلوق الصغير الذي يسلُبني وأحبّه ! .. وها أنا أُلتَهم مجددًا من كائنٍ ضبابي يغورُ في أوصالي .. ولا أراه إلا حينما أنظرُ في المرآة !
-- " ( ماما ) .. غيّري لي ملابسي ! "
لمَ ؟! .. مُربيتها دومًا تفعل هذا ، فلمَ اليوم تطلب منها ! .. مضطربة هرعت تغسل يديها بالماء الساخن حتى كادت تنفجر منها الدماء ، رائحة المعقم النفاذة أذهبت رائحة الرأس الطفولي . بأطراف أصابعها تحلّ شريطة حمراء معقودة حول ذيل حصان بني حريري .. تتعرق يداها ، فتبادرهما بالمحارم الورقية .
...
ارفعي رأسك قليلا ، دعيني أمشط شعرك .. وأشبك لكِ هذه الزهرة ! .. أين الطرحة ؟! .. لقد تجعّدت ، ستأخذها الخادمة للكي .. قلت لكِ ارفعي رأسكِ ، لم تجفّ زينتُكِ بعد ، أتريدين تلطيخَ فستانكِ الأبيض ! .. خذي ، ضعي شريطكِ الأحمر حول خصركِ ..إنــه لـــه ! .. لا تقلقي زهرتي ، كلُ شيءٍ سيكون على ما يرام .. ستعجبينه !
...
" زهرة " .. لن أتركَكِ ! ، ستعيشين معي ، وبناتي في نفس عمركِ الوردي .. ستذهبين معهن إلى مدرسة جديدة قريبة من بيتكِ الجديد ، سأرعاكِ مثلما كنتُ أفعلُ دومًا .. هيا بنا الآن ! .. ضعي هذه الأزهار على .. قبر ( ماما ) !
-- " ( ماما .. ماما ) .. لا أرى .. أختنق !! "
-- " سيدتي ، ما الأمر ؟! .. دعيها .. أنا سأُلبسها ملابسها وأحضّر لها العشاء .. ! "
ما أعتم انطفاء قمرين صغيرين نُكِّسَا تحت جفون رقيقة ! .. أكتهَلُ من ارتعاشة ذقنكِ الناعم وأنتِ تعضين شفتكِ السفلى لتحبسي دمعةً تأبى إلا الانعتاق .. تزعقُ في خرس ، تمزق كياني ، وتُذريني في سمائي المربدة باحثةً عن بصيص شعاع شتيت .. ما جدوى أن تكوني ابنة لأم تخشى كفكفة دمع صغيرتها ؟! .. أُم تكهّفها الضنى فغدت مرتعًا لشبح يرعى !
الشريطة الحمراء في يدها، تدُسُّها في دُرج ملابسها الداخلية .. تلفّها حول ورقة كجذع شجرة منكمش ..
ونحو السرير توجهت ، وتحت غطائه الوثير تغوص .. كلها تغوص ، تنتشر أطرافها الذاوية وتزحف في الدفء .. لتمتد بعد دقائق يدٌ كثيرًا ما أبعدها جدارُ الصدّ مؤخرًا ، تبحثُ عن أنثاها في ثنايا الفراش ، والآن عزمتْ على تمزيقِ الجدار والنزول على ستره الغريب هتكًا وتقطيعًا ، ليرى ما الذي جَدّ ! .. هو يدري بالأمر .. والكل يدري ، لكن لمَ التمنّع وهي تستطيع ؟! .. حتما هي تعلم أنها تستطيع !
انتفضت مسرعة تسترُ نفسها أمام نظراته المذهولة .. تفتحُ الدرج وتخرج جذع الشجرة ، تحلّ منه شريطة " زهرة " الحمراء ، وتدفع إليه بيدٍ مرتعشة ورقةً تعلوها (شريطة حمراء) ..
-- " أنا عندي الإيدز !! ... ".
الأسلوب الميتا سردي ( في نص دينا نبيل ) الشريطة الحمراء
تحليل النص
ليس بالغريب على ناقدة كبيرة تجتمع لديها موهبة القص والنقد والرؤيا البعيدة والثقافة الواسعة أن تعالج موضوعا بهذه القدرة العالية من الإيحاء وبهذه التقنيات السردية التي جاءت وكأنها تحفر في صخر لتخرج درر الكلام والمعنى المنحوت فيه، فمهمة المتلقي هنا صعبة وتحتاج إلى رؤيا عميقة لاستجلاء المخفي والمستتر من الكلام ؛ لأنها أعدت قصها لنخبة خاصة من القراء أو لمن يريد أن يرتقي بثقافته ورؤيته الفنية لمثل هذا النوع من القص الغير تقليدي، والذي وظفته دينا نبيل ليخرج إلينا بحلة جديدة رائقة ماتعة رغم ما يختفي داخله من اجتراع لغصة .
تمحور النص حول مرض الإيدز بما فيه من مرارة لهواجس وقلق وخوف من المصير المحدق الذي يكتنف من يصاب به
مرض الإيد ز أو ما يسمى بنقص المناعة المكتسب وهو مرض فتاك
خطورته ليس في كونه مرضا قاتلا فحسب بل لما يتمخض عنه من آثار سلبية منها نظرة المجتمع التي تنبذ من يقع فريسة له ، علما بأن هذه النظرة ( تنقصها الدقة العلمية ) فالمرض لا يأتي من الممارسات الشاذة فحسب بل هناك عدة طرق يمكن أينتقل بها المرض وقد أشارت الكاتبة بشكل غير مباشر ضمنا إلى هذه المسببات و هي إصابة الطفلة بهذا المرض بعد أن
انتقلت إليها العدوى من أمها المتوفاة بسببه .
الموت حالة طبيعية وهو امتداد للحياة لكن الموت إن لف بردائه أحد الأطفال يكون في غاية المرارة والقسوة ويشكل نهاية صادمة لا يمكن تصورها وإن وقع الموت يكون فاجعا .
والغريب أن نص الأستاذة إيمان الدرع ( أمنية من ورق ) ونص الأديبة دنيا نبيل موضوع البحث ونص لي موسوم ب (ارتحال )
تم نشرها بتزامن عجيب ووقت واحد وكأن هناك تخاطرا ذهنيا أوصلنا إلى هذا القص الذي يبدو متشابها من حيث الفكرة والمضمون .
النصوص الثلاثة فيها محاكاة لأطفال عادوا إلى الحياة بعد الموت ( أو هكذا أراد الكتاب الثلاثة تصوير المأساة ) والرابط الذي يعيدهم للحياة هو الأم التي هي رمز ا للحياة والقاتل في نص إيمان هو فعل فاعل ( زوجة الأب )وقسوة المناخ اللذان لم يرحما طفولته ، أما في نص الأستاذة دينا فكان الفاعل هو المرض الذي فتك بالأم وابنتها .
أما في ارتحال فالفاعل هو الإرهاب المقيت وأولئك المسوخ الذين قتلوا تلك البراءة.
أن الكاتبة دينا نبيل تتلاعب بالنص وفق
إمكانيتها اللغوية وقابليتها الإبداعية و تقنياتها التصويرية التي أعطت النص عمقا و قوة بنيوية وجمالية متميزة أنضج فكرة الموضوع
القراءة الأولى توحي بأن النص غير متماسك وإن هناك عدم ترابط بالسياق السردي للقصة وألا يوجد أتساق بمجمل الشكل البنائي للنص ...! لذا فأن المتلقي عليه ألا يعطي أي حكم مسبق على النص إلا بعد أن يفكك ويحلل رموزه والمضامين المختبئة بين طياته والحوارات التي ترمي إلى أكثر من معنى دلالي
إن القراءات المتأنية والمدروسة تجعل القارئ منبهرا أمام روعة هذا القص وجماليته وذكاء الكاتبة وحنكتها التي جعلت من أفكارها حالة متداخلة والحوار هو الذي يستشف القارئ منه كل دلالاته الرمزية التي عنتها الكاتبة .
تستهل دينا نبيل قصتها بهذا الحوار الداخلي
(( الماء الدافئ يُمطرني ، يتخلل الغوائر من جسدي .. في المغطس أنزل ، وفي الماء أغوص ، حتى أنفي .. أغوص ، البخار يتصاعد ، أبحث عن ثغرة أتنفس منها .. أصابعي تذوب يأكلها الماء)) ،
تتناول جوانب مبهمة من خطاب ذاتي يحاول فيه السارد الدخول إلى العقدة الأساسية للنص من خلال فضفضة لحديث مضطرب هو نتاج ما يخالج البطلة من مشاعر لا ندرك كنهها ولا نحدد ملامحها الأساسية، لأن جملة ما تطرحه هو تصوير سريالي لأجواء بدت كطقس غرائبي التشكيل ، وهي بهذا التصوير تنطلق للملمة شتات أفكار مبعثرة لتوحي بعظمة المأساة التي تكمن وراء جملة من الأحداث التي ستشكل عقدة النص وثيمته ، يكمن وراء هذا الوصف للمغطس والماء والجسد الطافي وحالة انفصال الأطراف دلالات رمزية توحي بالضياع والانهيار التام وحالة بحث عن بصيص من أمل أو خيط نجاة من خلال التشبث بالمغطس
تم تناول النص بآلية السرد الآني، بلغة الأنا ثم يتحول من الحوار الداخلي إلى السر د الذي يروى عن طريق القاص لأنها استخدمت لغة (الهو) (ضمير الغائب )كبديل (للأنا ) (ضمير المتكلم ) وهذا الانتقال لم يشر إليه في سياق النص بتعمد ليعطيه بعدا نفسيا أكثر تأثيرا ضمن تقنية ربط لمقاطع النصوص ضمن أنماط مختلفة الانتقال من نمط إلى آخر ، جاءت هذه الانتقالة وكأن القاصة تناولت موضوعا آخر ،لكن ربطها للحدث يأتي وفق مقاييس دقيقة ومن غير استخدام لشروحات وتعليلات تثقل النص بشكل تقريري لا يخدمه ، وفق هذه التقنية يتغير النمط السردي الذي يدور في زمان واحد ومكان واحد ؛ حيث تواجدها في الحمام قريبة من المرآة تنظر إلى صورتها التي شوهتها الأبخرة المتجمعة على تلك المرآة لتكون انعكاسا لحالة التداعي والمعاناة التي تمر بها البطلة ((، تمسح بكفها بخارًا وقطراتِ ماءٍ علتِ المرآة .. المرآة تنتح من جديد ، بدت صورتُها متعرجة ، تشقها مجارٍ رفيعة ))أوغل النص في أظهار الجانب التراجيدي بشكل غير مباشر مما أثمر عن حالة شد للقارئ وتشويق لطلب الاٌستبيان عن هذه الضبابية التي تكتنفه والتي جعلت القاصة على قدر تام من الدراية الفنية بتحريك أدواتها ، تتحول بذات التقنية في انتقالاتها الحوارية ، حيث تتكلم عن عزيز يبقى مجهول الهوية .. من هو ذا العزيز الذي لم يك سببا في معاناتها ومأساتها من خلال تساؤلاتها أهو حبيب ..؟ أم جنين تحمله في أحشائها...؟
ولكن بتطور الأحداث و من خلال سياق الحديث يتبين أن ثمة شيء تطفل على خلاياها وتخلل جسدها فأودع تناقضا عجيبا ، ذلك الدخيل المفروض عليها والذي جاء دون سابق إنذار ولم تعرفه إلا من خلال عينات أخذت منها لتعرف أنه صار جزءا منها استوطن جسدها وهو بذات الوقت حمل توأما له في جسد آخر هذا التوأم لم يبدأ فعله بعد لأنه في دورة حضانة وقد كان أروع وأبلغ تصوير لتجمع كل ذاك الشتات من الكلمات وتوظفها بشكل قد يجمع عدد من وظائف السارد بكلمات قليلة مكثفة من خلال هذا الإخبار يبدو جليا : التنسيق ، والإبلاغ ، والتنبيه ، ووظيفة استشهادية ليقرب الصورة التخيلية للمتلقي إذ يفك طلاسم الحزن الذي غزاها فهو حزن يعكس عن حالة إيثار وتضحية ومكابدات لأن هذا الدخيل قد غزى جسد آخر ، جسد آلمها أن يكون لهذا الدخيل مرتعا له فيه ورغم ما تعانيه ،لكن حزنها لأنها أودعت هذا الدخيل في جسد آخر وهذا يعيدنا للاستهلال الابتدائي فحالة الاضطراب والحزن كانت نتيجة له ، لإن الكلمات تصور حدثا بعيد الدلالة هو مضمون النص والمحور الذي تدور حوله الأحداث ..
((ربما أنا حزينة أنك لست أنت وحدك الآن بداخلي .. لم أتوقع أنني أحمل توأمًا لك ؛ بينما تتوغلني أنت وتحتل خلاياي ، كان هو مستكينًا يتأملني علىُ مهل ))
بهذه الكلمات المغرقة بالألم تتحدث القاصة بما يشكل سابقة للأحداث وهي عملية أشارة لحدث سيأتي لاحقا نتابع احتمالية وقوعه في سطور النص ، لازالت الكاتبة حتى هذه اللحظة في حالة تمهيد تجدنا مشدودين إلية منبهرين نسبح في يم من الثراء اللغوي ، وتصوير لأعماق النفس الإنسانية للبطلة الموغلة في اليأس والتي تصبو لبصيص أمل ، خلال فوبيا اللون الأبيض والذي أصبح عقدة ملازمة لها مذ أن أصبح المرض هو هذا الدخيل الذي تفاجئنا به ،وهذا ما توحي به الكاتبة
((واللون الأبيض يلاحقني في كل شيء .. الناس ، الأَسِرّة والحوائط .. حتى الفراغ صار أبيض ))
أذن تقودنا أفكارنا عبر تفكيك وتحليل هذا النص إلى أن ما أصاب هذه المرأة هو مرض ميئوس منه وهو ما عنته
((، أطرافي تطفو ، تنفصل عن جسدي المتهرئ .. رويدًا ، رويدًا ، يسبح كلّ منها في اتجاه ، تتشبث بجوانب المغطس )) النص هنا يبدو مترابطا وإن التقديم والـتأخير لا ينتقص من قيمته الفنية لثرائه بالعلامات الدلالية فمن مجموع التأويلات التي تطالعنا نصل ليقين ثابت إن المضمون النصي أوشك أن يصير بين أيدينا وهي مهمة صعبة على القاص أن يتنقل من الإبهام إلى الوضوح دون إخلال بالشكل البنائي للنص ودون أن يكون هناك فارقا كبيرا في تلك الانتقالات ، وهو المعني بأن يزيل الغموض تدريجيا حتى لا يقع المتلقي بفخ الانتقائية والكيفية في التفسير الذي قد يبعدنا عن المضمون الأصلي.ونرى وبذكاء صورة أخرى لحالة من التشبث بالأمل هي محاولتها قهر اللون الأبيض بأن تلبس شعرا مستعارا لأن كل ما يحيط بها أبيض ، الناس ، الأسرة ، الجدران .. تتصاعد تراجيديا الحدث بشكل تتابعي ، الصراع مع المرض حالة نصر أو خسارة ، رغم أنه يتلبسها لكنها تريد أن توحي بأنها لازالت قوية لازال فيها بقايا من أنوثة ، عبر هذا النص وهذه المشاعر المثقلة بالحزن والأسى والتي تنطلق عبر جرعات من الاندماج بشكل كلي مع البطلة التي أصبحنا نتعاطف معها ونبحر معها في ذات الآلام التي تعاني منها ،
.، الآن هي تزحف في أركان مملكتها النائية ، تلملم صورًا متوارية خلف قضبان متآكلة ، لتعارك بها زوايا استبدت بواجهتها الجديدة ، تصرّ أن تحشرها بينها والمرآة .. يُقسّمها الإطارُ نصفين ثانيهما مبتور ، لتفزع إلى الستائر تغلقها ، والنور تطفؤه ..
لعلنا أمام ملحمة في كلمات وظفت الكاتبة في هذا المشهد صور دلالية وإيحائية لخصت زمنا لا نعرف مقداره بحالة إضمار إيحائي لزمن فاصل بين النور وانطفاء المصباح ، الموت الحياة تتجلى في الصورة المقسومة إلى نصفين الموت النصف المبتور والحياة تبدو بصورة أخرى لازالت تظهر في المرآة وهي توصلنا إلى ما أرادته لا تترك وصفا رمزيا دون أن تعطيه تفسير بدالة رمزية أخرى
(( إلا أنّ فرعًا منها يشدّها ، فتفتح نوافذها من أجل " زهرة " ذات سنوات تسع لا تملك سواها .. تجلس إلى جوارها تتابعها بعينين غائرتين ، تشتم عبيرها الطفولي ، فتلّون عالمها الأمهق ، وتحيلها عروسًا تنساب مراقصة إياها ))
ونعود من جديد لبدايات النص ولنعرف بان هذا الجسد الحامل للتوأم الآخر هي ابنتها زهرة المصابة بنفس المرض والتي ترك دثاره عليها حملت معاناة أمها كبديل ، وهي الفرع الآخر الذي يشدها ، حالة من الإيحاء والاستبدال الوظيفي للأم وابنتها تحاول الكاتبة أن تستغله لانتقاء متقاربات وصفية تجمع مابين ظلمتين الرحم والقبر ، وما بين الجنين والمرض وألام الحمل اللذيدة التي تسفر عن حياة جديدة وبين آلام المرض التي مؤداها الموت ، إن الإجادة والتوظيف المتقن للتصوير الرمزي جعل من النص وثيقة فنية غاية في الأهمية وتستحق أكثر من دراسة لأننا أمام عمل استثنائي الجهد ، ولا أعتقد إن هناك عمل يجاريه من ناحية استخدام الرمز بشكل ليس اعتباطيا بل جاء وفق دراسة قصدية فالنص يفسر نفسه بنفسه بلا إثقال ولا أطناب كل كلمة موظفة بشكل جيد ، لغة رائقة لا يعتريها نقص ولا خلل .
-- " زهــرة .. هل عدتِ ؟ "))
تعالَي ! .. كم أودّ لو أعيدكِ إلى بيتكِ الأول ، حينما كنّا شيئًا واحدًا .. خاصًا جدًا !، أتسمّع نبضكِ كي أتيقن أنّ ثمّة حياةٍ بداخلي ، تمصين دمائي ، تهدجين أنفاسي ، وأنتظر لحظة أرى فيها ذلك المخلوق الصغير الذي يسلُبني وأحبّه ! .. وها أنا أُلتَهم مجددًا من كائنٍ ضبابي يغورُ في أوصالي .. ولا أراه إلا حينما أنظرُ في المرآة))
هنا استخدمت القاصة اللا مكان واللا زمان في تحريك الشخوص في ظروف انعدام الحياة البايلوجية لأناس رحلوا ، وهي بذا تقودنا عبر تضاد بارا سايكلوجي * بين حقيقة الأفعال المصورة واعتبارها حالة عودة الجسد للحياة بعد الموت أو ما يسمى بالزومبي ، أو عودة للأرواح الهائمة تدور في محيط البيت التي كان يضمهما ، يخيل إلينا أن الحدث واقع فعلا وأن الأحداث تسير وفق ترتيبها التتابعي النمطي ، لكننا نفاجئ بما يغاير كل هذه الاعتقاد وتلك
الاستنتاجات التي بنيت ، وأجمل ما في النص هو التعاطف مع البطلة الذي يحاول من خلاله القارئ عدم التصديق بإن الموت واقع فعلا وهذا ما يجعلنا في حالة ازدواجية واضطراب لا يمكننا الإقرار به إلا من خلال اعتراف ضمني من القاصة !
( هيا بنا الآن ! .. ضعي هذه الأزهار على .. قبر ماما ) !
نجترع غصة الألم فلا حيلة لنا بعد في خداع أنفسنا و تبقى الطفلة ذات التسع سنين والتي أوحت القاصة بأن لها من العمر تسع سنين فقط
((
( ( فتفتح نوافذها من أجل " زهرة " ذات سنوات تسع لا تملك سواه.
عبر هذا التصاعد بوتيرة الأحداث نرى الأم مرغمة على أن تجر زهرة إليها من خلال حدثين الأول هو الطلب من أمها أن تلبسها ، والثاني تذمرها من الحال التي آلت أو ستؤول إليه ((
-- " ( ماما .. ماما ) .. لا أرى .. أختنق !! "
-- "سيدتي ، ما الأمر ؟! .. دعيها .. أنا سأُلبسها ملابسها وأنا الذي سأحضر لها العشاء))
وهذا دليل على إن المربية تصارع من أجل بقاء هذه الزهرة (حتى الاسم كان فيه دلالة رمزية بأن الفتاة قصيرة العمر كالورود) زهرة تتوق إلى ان تكون إلى جانب أمها بعد أن ملت المعقمات والأدوية والعيش في عزلة تامة ، (ماما غيري لي ملابسي ) وهذه تتحمل تأويلا
آخرا أنها أرادت أن تنزع منها تلك الثياب البيضاء
المربية كانت تشحذ في داخلها الأمل وتحاول عن تنسيها تلك العذابات التي أوقدت في داخلها شعورا مغايرا لمشاعر الطفولة الحالمة
(( لتحبسي دمعةً تأبى إلا الانعتاق .. تزعقُ في خرس ، تمزق كياني ، وتُذريني في سمائي المربدة باحثةً عن بصيص شعاع شتيت .. ما جدوى أن تكوني ابنة لأم تخشى كفكفة دمع صغيرتها ؟! .. أُم تكهّفها الضنى فغدت مرتعًا لشبح يرعى ))
الله .. نقف
إجلالا أمام روعة النسج والخيال الخصب وبراعة التصوير ,وجزالة اللفظ إننا أمام جمل بلاغية يقف الكثير من الأدباء عاجزين عن الإتيان بمثل هذا التضفير والموائمة الرمزية بين سبق الأحداث والرجوع إليها وهي تقنية معقدة تحتاج إلى تركيز وقدر كبير من المعرفة ، نعود إلى سابق الحدث بعد أن نقلب السطور لنرى إن الموت قد غيب تلك الفتاة أيضا
((ما أعتم انطفاء قمرين صغيرين نُكِّسَا تحت جفون رقيقة))
و تكون الطامة الكبرى هو أن بصيص الأمل الذي جاء متأخرا قد تزامن مع تلك اليد التي امتدت إليها تبحث عن أنثاها لتصدمنا بنهاية قاسية جدا أحالت النص إلى مرثية مغرقة في الحزن تستدر عواطفنا ودموعنا لأن الموت جاء مع الأمل المعقود على تلك الشريطة الحمراء والتي ختمت القص بأخبارنا بأن المرض الذي أصابهما هو مرض الإيدز . لا يسعني وأنا أمام هذه الوثيقة الفنية إلا أن أصوت بأنه من النصوص المميزة والتي تستحق الفوز بإحدى الذهبيات وعن جدارة
*البارسايكلوجي يتكون من كلمة من جزئين ( بارا) وتعني ما وراء ، ( سيكلوجي ) وتعني علم النفس يترجم للعربية بأنه علم النفس الغيبي الغير خاضع للقوانين العامة اوما يسمى بعلم الخوارق
يعرف
الميتا سرد» بأنه نوع من الأدب التخيلي ينتمي أساسا لتيار «ما بعد الحداثة» ويتناول بوعي ذاتي متعمد أدوات السرد ليكشف خدع النص الداخلية، كما يفسر النص التخيلي ويطرح أسئلة عن العلاقة بين التخيل والواقع (..البروفسور الفرنسي برنارد كيغيني)
شَـرِيـطَــةٌ حَمْـــرَاءُ
الماء الدافئ يُمطرني ، يتخلل الغوائر من جسدي .. في المغطس أنزل ، وفي الماء أغوص ، حتى أنفي .. أغوص ، البخار يتصاعد ، أبحث عن ثغرة أتنفس منها .. أصابعي تذوب يأكلها الماء ، حثيثًا تفر منها الدماء .. تَبْيضّ عدا أعطاب ، أطرافي تطفو ، تنفصل عن جسدي المتهرئ .. رويدًا ، رويدًا ، يسبح كلّ منها في اتجاه ، تتشبث بجوانب المغطس .. تشهق .. وتصعد !
تناولَتْ المناديل تتتبع بقايا مساحيق التجميل العالقة بوجهها ، تمسح بكفها بخارًا وقطراتِ ماءٍ علتِ المرآة .. المرآة تنتح من جديد ، بدت صورتُها متعرجة ، تشقها مجارٍ رفيعة .. مترددة تتوقف حينًا وتجري أحيانًا ، تسيل وتقطر .. " لم تكن أنت السبب ، أيها الــــ ... عزيــــز !! "
لم يكن أنت حينما حملني الرواق الطويل يتموّج من تحت قدمي .. يتقاذفني جانباه ، وأنا أستنجد بأهل بيتي كي يدركني أحدهم ، ربما جاء طبيبٌ أو أُخذتْ مني عينةٌ إلى معملٍ .. وبعدها ، اكتشفتك بداخلي ، لم أحزن ! .. ربما أنا حزينة لأنك لست أنت وحدك الآن بداخلي .. لم أتوقع أنني أحمل توأمًا لك ؛ بينما تتوغل فيّ أنت وتحتل خلاياي ، كان هو مستكينًا يتأملُني على مهلٍ ؛ كيف منذ ذلك الحين .. واللون الأبيض يلاحقني في كل شيء .. الناس ، الأَسِرّة والحوائط .. حتى الفراغ صار أبيض .. يقهر ألواني وجسدي ، أردتُ استفزازَه بشعرٍ مستعارٍ أسودَ رغم استهجان زوجي لمظهره ، وتحاشيه النظر إليّ عند ارتدائي إياه ، فما تكون إجابتي ساعتها سوى ".. أريد أن أتشبث بما بقي لي من أنثى !"
ربما كانت أنثى ، الآن هي تزحف في أركان مملكتها النائية ، تلملم صورًا متوارية خلف قضبان متآكلة ، لتعارك بها زوايا استبدت بواجهتها الجديدة ، تصرّ أن تحشرها بينها والمرآة .. يُقسّمها الإطارُ نصفين ثانيهما مبتور ، لتفزع إلى الستائر تسدلها ، والنور تطفئه .. إلا أنّ فرعًا منها يشدّها ، فتفتح نوافذها من أجل " زهرة " ذات سنوات تسع لا تملك سواها .. تجلس إلى جوارها تتابعها بعينين غائرتين ، تشتم عبيرها الطفولي ، فتلّون عالمها الأمهق ، وتحيلها عروسًا تنساب مراقصة إياها .
-- " زهــرة .. هل عدتِ ؟ "
تعالَي ! .. كم أودّ لو أعيدكِ إلى بيتكِ الأول ، حينما كنّا شيئًا واحدًا .. خاصًا جدًا !، أتسمّع إلى نبضكِ كي أتيقن أنّ ثمّة حياةٍ بداخلي ، تمصين دمائي ، تهدجين أنفاسي ، وأنتظر لحظة أرى فيها ذلك المخلوق الصغير الذي يسلُبني وأحبّه ! .. وها أنا أُلتَهم مجددًا من كائنٍ ضبابي يغورُ في أوصالي .. ولا أراه إلا حينما أنظرُ في المرآة !
-- " ( ماما ) .. غيّري لي ملابسي ! "
لمَ ؟! .. مُربيتها دومًا تفعل هذا ، فلمَ اليوم تطلب منها ! .. مضطربة هرعت تغسل يديها بالماء الساخن حتى كادت تنفجر منها الدماء ، رائحة المعقم النفاذة أذهبت رائحة الرأس الطفولي . بأطراف أصابعها تحلّ شريطة حمراء معقودة حول ذيل حصان بني حريري .. تتعرق يداها ، فتبادرهما بالمحارم الورقية .
...
ارفعي رأسك قليلا ، دعيني أمشط شعرك .. وأشبك لكِ هذه الزهرة ! .. أين الطرحة ؟! .. لقد تجعّدت ، ستأخذها الخادمة للكي .. قلت لكِ ارفعي رأسكِ ، لم تجفّ زينتُكِ بعد ، أتريدين تلطيخَ فستانكِ الأبيض ! .. خذي ، ضعي شريطكِ الأحمر حول خصركِ ..إنــه لـــه ! .. لا تقلقي زهرتي ، كلُ شيءٍ سيكون على ما يرام .. ستعجبينه !
...
" زهرة " .. لن أتركَكِ ! ، ستعيشين معي ، وبناتي في نفس عمركِ الوردي .. ستذهبين معهن إلى مدرسة جديدة قريبة من بيتكِ الجديد ، سأرعاكِ مثلما كنتُ أفعلُ دومًا .. هيا بنا الآن ! .. ضعي هذه الأزهار على .. قبر ( ماما ) !
-- " ( ماما .. ماما ) .. لا أرى .. أختنق !! "
-- " سيدتي ، ما الأمر ؟! .. دعيها .. أنا سأُلبسها ملابسها وأحضّر لها العشاء .. ! "
ما أعتم انطفاء قمرين صغيرين نُكِّسَا تحت جفون رقيقة ! .. أكتهَلُ من ارتعاشة ذقنكِ الناعم وأنتِ تعضين شفتكِ السفلى لتحبسي دمعةً تأبى إلا الانعتاق .. تزعقُ في خرس ، تمزق كياني ، وتُذريني في سمائي المربدة باحثةً عن بصيص شعاع شتيت .. ما جدوى أن تكوني ابنة لأم تخشى كفكفة دمع صغيرتها ؟! .. أُم تكهّفها الضنى فغدت مرتعًا لشبح يرعى !
الشريطة الحمراء في يدها، تدُسُّها في دُرج ملابسها الداخلية .. تلفّها حول ورقة كجذع شجرة منكمش ..
ونحو السرير توجهت ، وتحت غطائه الوثير تغوص .. كلها تغوص ، تنتشر أطرافها الذاوية وتزحف في الدفء .. لتمتد بعد دقائق يدٌ كثيرًا ما أبعدها جدارُ الصدّ مؤخرًا ، تبحثُ عن أنثاها في ثنايا الفراش ، والآن عزمتْ على تمزيقِ الجدار والنزول على ستره الغريب هتكًا وتقطيعًا ، ليرى ما الذي جَدّ ! .. هو يدري بالأمر .. والكل يدري ، لكن لمَ التمنّع وهي تستطيع ؟! .. حتما هي تعلم أنها تستطيع !
انتفضت مسرعة تسترُ نفسها أمام نظراته المذهولة .. تفتحُ الدرج وتخرج جذع الشجرة ، تحلّ منه شريطة " زهرة " الحمراء ، وتدفع إليه بيدٍ مرتعشة ورقةً تعلوها (شريطة حمراء) ..
-- " أنا عندي الإيدز !! ... ".
الأسلوب الميتا سردي ( في نص دينا نبيل ) الشريطة الحمراء
تحليل النص
ليس بالغريب على ناقدة كبيرة تجتمع لديها موهبة القص والنقد والرؤيا البعيدة والثقافة الواسعة أن تعالج موضوعا بهذه القدرة العالية من الإيحاء وبهذه التقنيات السردية التي جاءت وكأنها تحفر في صخر لتخرج درر الكلام والمعنى المنحوت فيه، فمهمة المتلقي هنا صعبة وتحتاج إلى رؤيا عميقة لاستجلاء المخفي والمستتر من الكلام ؛ لأنها أعدت قصها لنخبة خاصة من القراء أو لمن يريد أن يرتقي بثقافته ورؤيته الفنية لمثل هذا النوع من القص الغير تقليدي، والذي وظفته دينا نبيل ليخرج إلينا بحلة جديدة رائقة ماتعة رغم ما يختفي داخله من اجتراع لغصة .
تمحور النص حول مرض الإيدز بما فيه من مرارة لهواجس وقلق وخوف من المصير المحدق الذي يكتنف من يصاب به
مرض الإيد ز أو ما يسمى بنقص المناعة المكتسب وهو مرض فتاك
خطورته ليس في كونه مرضا قاتلا فحسب بل لما يتمخض عنه من آثار سلبية منها نظرة المجتمع التي تنبذ من يقع فريسة له ، علما بأن هذه النظرة ( تنقصها الدقة العلمية ) فالمرض لا يأتي من الممارسات الشاذة فحسب بل هناك عدة طرق يمكن أينتقل بها المرض وقد أشارت الكاتبة بشكل غير مباشر ضمنا إلى هذه المسببات و هي إصابة الطفلة بهذا المرض بعد أن
انتقلت إليها العدوى من أمها المتوفاة بسببه .
الموت حالة طبيعية وهو امتداد للحياة لكن الموت إن لف بردائه أحد الأطفال يكون في غاية المرارة والقسوة ويشكل نهاية صادمة لا يمكن تصورها وإن وقع الموت يكون فاجعا .
والغريب أن نص الأستاذة إيمان الدرع ( أمنية من ورق ) ونص الأديبة دنيا نبيل موضوع البحث ونص لي موسوم ب (ارتحال )
تم نشرها بتزامن عجيب ووقت واحد وكأن هناك تخاطرا ذهنيا أوصلنا إلى هذا القص الذي يبدو متشابها من حيث الفكرة والمضمون .
النصوص الثلاثة فيها محاكاة لأطفال عادوا إلى الحياة بعد الموت ( أو هكذا أراد الكتاب الثلاثة تصوير المأساة ) والرابط الذي يعيدهم للحياة هو الأم التي هي رمز ا للحياة والقاتل في نص إيمان هو فعل فاعل ( زوجة الأب )وقسوة المناخ اللذان لم يرحما طفولته ، أما في نص الأستاذة دينا فكان الفاعل هو المرض الذي فتك بالأم وابنتها .
أما في ارتحال فالفاعل هو الإرهاب المقيت وأولئك المسوخ الذين قتلوا تلك البراءة.
أن الكاتبة دينا نبيل تتلاعب بالنص وفق
إمكانيتها اللغوية وقابليتها الإبداعية و تقنياتها التصويرية التي أعطت النص عمقا و قوة بنيوية وجمالية متميزة أنضج فكرة الموضوع
القراءة الأولى توحي بأن النص غير متماسك وإن هناك عدم ترابط بالسياق السردي للقصة وألا يوجد أتساق بمجمل الشكل البنائي للنص ...! لذا فأن المتلقي عليه ألا يعطي أي حكم مسبق على النص إلا بعد أن يفكك ويحلل رموزه والمضامين المختبئة بين طياته والحوارات التي ترمي إلى أكثر من معنى دلالي
إن القراءات المتأنية والمدروسة تجعل القارئ منبهرا أمام روعة هذا القص وجماليته وذكاء الكاتبة وحنكتها التي جعلت من أفكارها حالة متداخلة والحوار هو الذي يستشف القارئ منه كل دلالاته الرمزية التي عنتها الكاتبة .
تستهل دينا نبيل قصتها بهذا الحوار الداخلي
(( الماء الدافئ يُمطرني ، يتخلل الغوائر من جسدي .. في المغطس أنزل ، وفي الماء أغوص ، حتى أنفي .. أغوص ، البخار يتصاعد ، أبحث عن ثغرة أتنفس منها .. أصابعي تذوب يأكلها الماء)) ،
تتناول جوانب مبهمة من خطاب ذاتي يحاول فيه السارد الدخول إلى العقدة الأساسية للنص من خلال فضفضة لحديث مضطرب هو نتاج ما يخالج البطلة من مشاعر لا ندرك كنهها ولا نحدد ملامحها الأساسية، لأن جملة ما تطرحه هو تصوير سريالي لأجواء بدت كطقس غرائبي التشكيل ، وهي بهذا التصوير تنطلق للملمة شتات أفكار مبعثرة لتوحي بعظمة المأساة التي تكمن وراء جملة من الأحداث التي ستشكل عقدة النص وثيمته ، يكمن وراء هذا الوصف للمغطس والماء والجسد الطافي وحالة انفصال الأطراف دلالات رمزية توحي بالضياع والانهيار التام وحالة بحث عن بصيص من أمل أو خيط نجاة من خلال التشبث بالمغطس
تم تناول النص بآلية السرد الآني، بلغة الأنا ثم يتحول من الحوار الداخلي إلى السر د الذي يروى عن طريق القاص لأنها استخدمت لغة (الهو) (ضمير الغائب )كبديل (للأنا ) (ضمير المتكلم ) وهذا الانتقال لم يشر إليه في سياق النص بتعمد ليعطيه بعدا نفسيا أكثر تأثيرا ضمن تقنية ربط لمقاطع النصوص ضمن أنماط مختلفة الانتقال من نمط إلى آخر ، جاءت هذه الانتقالة وكأن القاصة تناولت موضوعا آخر ،لكن ربطها للحدث يأتي وفق مقاييس دقيقة ومن غير استخدام لشروحات وتعليلات تثقل النص بشكل تقريري لا يخدمه ، وفق هذه التقنية يتغير النمط السردي الذي يدور في زمان واحد ومكان واحد ؛ حيث تواجدها في الحمام قريبة من المرآة تنظر إلى صورتها التي شوهتها الأبخرة المتجمعة على تلك المرآة لتكون انعكاسا لحالة التداعي والمعاناة التي تمر بها البطلة ((، تمسح بكفها بخارًا وقطراتِ ماءٍ علتِ المرآة .. المرآة تنتح من جديد ، بدت صورتُها متعرجة ، تشقها مجارٍ رفيعة ))أوغل النص في أظهار الجانب التراجيدي بشكل غير مباشر مما أثمر عن حالة شد للقارئ وتشويق لطلب الاٌستبيان عن هذه الضبابية التي تكتنفه والتي جعلت القاصة على قدر تام من الدراية الفنية بتحريك أدواتها ، تتحول بذات التقنية في انتقالاتها الحوارية ، حيث تتكلم عن عزيز يبقى مجهول الهوية .. من هو ذا العزيز الذي لم يك سببا في معاناتها ومأساتها من خلال تساؤلاتها أهو حبيب ..؟ أم جنين تحمله في أحشائها...؟
ولكن بتطور الأحداث و من خلال سياق الحديث يتبين أن ثمة شيء تطفل على خلاياها وتخلل جسدها فأودع تناقضا عجيبا ، ذلك الدخيل المفروض عليها والذي جاء دون سابق إنذار ولم تعرفه إلا من خلال عينات أخذت منها لتعرف أنه صار جزءا منها استوطن جسدها وهو بذات الوقت حمل توأما له في جسد آخر هذا التوأم لم يبدأ فعله بعد لأنه في دورة حضانة وقد كان أروع وأبلغ تصوير لتجمع كل ذاك الشتات من الكلمات وتوظفها بشكل قد يجمع عدد من وظائف السارد بكلمات قليلة مكثفة من خلال هذا الإخبار يبدو جليا : التنسيق ، والإبلاغ ، والتنبيه ، ووظيفة استشهادية ليقرب الصورة التخيلية للمتلقي إذ يفك طلاسم الحزن الذي غزاها فهو حزن يعكس عن حالة إيثار وتضحية ومكابدات لأن هذا الدخيل قد غزى جسد آخر ، جسد آلمها أن يكون لهذا الدخيل مرتعا له فيه ورغم ما تعانيه ،لكن حزنها لأنها أودعت هذا الدخيل في جسد آخر وهذا يعيدنا للاستهلال الابتدائي فحالة الاضطراب والحزن كانت نتيجة له ، لإن الكلمات تصور حدثا بعيد الدلالة هو مضمون النص والمحور الذي تدور حوله الأحداث ..
((ربما أنا حزينة أنك لست أنت وحدك الآن بداخلي .. لم أتوقع أنني أحمل توأمًا لك ؛ بينما تتوغلني أنت وتحتل خلاياي ، كان هو مستكينًا يتأملني علىُ مهل ))
بهذه الكلمات المغرقة بالألم تتحدث القاصة بما يشكل سابقة للأحداث وهي عملية أشارة لحدث سيأتي لاحقا نتابع احتمالية وقوعه في سطور النص ، لازالت الكاتبة حتى هذه اللحظة في حالة تمهيد تجدنا مشدودين إلية منبهرين نسبح في يم من الثراء اللغوي ، وتصوير لأعماق النفس الإنسانية للبطلة الموغلة في اليأس والتي تصبو لبصيص أمل ، خلال فوبيا اللون الأبيض والذي أصبح عقدة ملازمة لها مذ أن أصبح المرض هو هذا الدخيل الذي تفاجئنا به ،وهذا ما توحي به الكاتبة
((واللون الأبيض يلاحقني في كل شيء .. الناس ، الأَسِرّة والحوائط .. حتى الفراغ صار أبيض ))
أذن تقودنا أفكارنا عبر تفكيك وتحليل هذا النص إلى أن ما أصاب هذه المرأة هو مرض ميئوس منه وهو ما عنته
((، أطرافي تطفو ، تنفصل عن جسدي المتهرئ .. رويدًا ، رويدًا ، يسبح كلّ منها في اتجاه ، تتشبث بجوانب المغطس )) النص هنا يبدو مترابطا وإن التقديم والـتأخير لا ينتقص من قيمته الفنية لثرائه بالعلامات الدلالية فمن مجموع التأويلات التي تطالعنا نصل ليقين ثابت إن المضمون النصي أوشك أن يصير بين أيدينا وهي مهمة صعبة على القاص أن يتنقل من الإبهام إلى الوضوح دون إخلال بالشكل البنائي للنص ودون أن يكون هناك فارقا كبيرا في تلك الانتقالات ، وهو المعني بأن يزيل الغموض تدريجيا حتى لا يقع المتلقي بفخ الانتقائية والكيفية في التفسير الذي قد يبعدنا عن المضمون الأصلي.ونرى وبذكاء صورة أخرى لحالة من التشبث بالأمل هي محاولتها قهر اللون الأبيض بأن تلبس شعرا مستعارا لأن كل ما يحيط بها أبيض ، الناس ، الأسرة ، الجدران .. تتصاعد تراجيديا الحدث بشكل تتابعي ، الصراع مع المرض حالة نصر أو خسارة ، رغم أنه يتلبسها لكنها تريد أن توحي بأنها لازالت قوية لازال فيها بقايا من أنوثة ، عبر هذا النص وهذه المشاعر المثقلة بالحزن والأسى والتي تنطلق عبر جرعات من الاندماج بشكل كلي مع البطلة التي أصبحنا نتعاطف معها ونبحر معها في ذات الآلام التي تعاني منها ،
.، الآن هي تزحف في أركان مملكتها النائية ، تلملم صورًا متوارية خلف قضبان متآكلة ، لتعارك بها زوايا استبدت بواجهتها الجديدة ، تصرّ أن تحشرها بينها والمرآة .. يُقسّمها الإطارُ نصفين ثانيهما مبتور ، لتفزع إلى الستائر تغلقها ، والنور تطفؤه ..
لعلنا أمام ملحمة في كلمات وظفت الكاتبة في هذا المشهد صور دلالية وإيحائية لخصت زمنا لا نعرف مقداره بحالة إضمار إيحائي لزمن فاصل بين النور وانطفاء المصباح ، الموت الحياة تتجلى في الصورة المقسومة إلى نصفين الموت النصف المبتور والحياة تبدو بصورة أخرى لازالت تظهر في المرآة وهي توصلنا إلى ما أرادته لا تترك وصفا رمزيا دون أن تعطيه تفسير بدالة رمزية أخرى
(( إلا أنّ فرعًا منها يشدّها ، فتفتح نوافذها من أجل " زهرة " ذات سنوات تسع لا تملك سواها .. تجلس إلى جوارها تتابعها بعينين غائرتين ، تشتم عبيرها الطفولي ، فتلّون عالمها الأمهق ، وتحيلها عروسًا تنساب مراقصة إياها ))
ونعود من جديد لبدايات النص ولنعرف بان هذا الجسد الحامل للتوأم الآخر هي ابنتها زهرة المصابة بنفس المرض والتي ترك دثاره عليها حملت معاناة أمها كبديل ، وهي الفرع الآخر الذي يشدها ، حالة من الإيحاء والاستبدال الوظيفي للأم وابنتها تحاول الكاتبة أن تستغله لانتقاء متقاربات وصفية تجمع مابين ظلمتين الرحم والقبر ، وما بين الجنين والمرض وألام الحمل اللذيدة التي تسفر عن حياة جديدة وبين آلام المرض التي مؤداها الموت ، إن الإجادة والتوظيف المتقن للتصوير الرمزي جعل من النص وثيقة فنية غاية في الأهمية وتستحق أكثر من دراسة لأننا أمام عمل استثنائي الجهد ، ولا أعتقد إن هناك عمل يجاريه من ناحية استخدام الرمز بشكل ليس اعتباطيا بل جاء وفق دراسة قصدية فالنص يفسر نفسه بنفسه بلا إثقال ولا أطناب كل كلمة موظفة بشكل جيد ، لغة رائقة لا يعتريها نقص ولا خلل .
-- " زهــرة .. هل عدتِ ؟ "))
تعالَي ! .. كم أودّ لو أعيدكِ إلى بيتكِ الأول ، حينما كنّا شيئًا واحدًا .. خاصًا جدًا !، أتسمّع نبضكِ كي أتيقن أنّ ثمّة حياةٍ بداخلي ، تمصين دمائي ، تهدجين أنفاسي ، وأنتظر لحظة أرى فيها ذلك المخلوق الصغير الذي يسلُبني وأحبّه ! .. وها أنا أُلتَهم مجددًا من كائنٍ ضبابي يغورُ في أوصالي .. ولا أراه إلا حينما أنظرُ في المرآة))
هنا استخدمت القاصة اللا مكان واللا زمان في تحريك الشخوص في ظروف انعدام الحياة البايلوجية لأناس رحلوا ، وهي بذا تقودنا عبر تضاد بارا سايكلوجي * بين حقيقة الأفعال المصورة واعتبارها حالة عودة الجسد للحياة بعد الموت أو ما يسمى بالزومبي ، أو عودة للأرواح الهائمة تدور في محيط البيت التي كان يضمهما ، يخيل إلينا أن الحدث واقع فعلا وأن الأحداث تسير وفق ترتيبها التتابعي النمطي ، لكننا نفاجئ بما يغاير كل هذه الاعتقاد وتلك
الاستنتاجات التي بنيت ، وأجمل ما في النص هو التعاطف مع البطلة الذي يحاول من خلاله القارئ عدم التصديق بإن الموت واقع فعلا وهذا ما يجعلنا في حالة ازدواجية واضطراب لا يمكننا الإقرار به إلا من خلال اعتراف ضمني من القاصة !
( هيا بنا الآن ! .. ضعي هذه الأزهار على .. قبر ماما ) !
نجترع غصة الألم فلا حيلة لنا بعد في خداع أنفسنا و تبقى الطفلة ذات التسع سنين والتي أوحت القاصة بأن لها من العمر تسع سنين فقط
((
( ( فتفتح نوافذها من أجل " زهرة " ذات سنوات تسع لا تملك سواه.
عبر هذا التصاعد بوتيرة الأحداث نرى الأم مرغمة على أن تجر زهرة إليها من خلال حدثين الأول هو الطلب من أمها أن تلبسها ، والثاني تذمرها من الحال التي آلت أو ستؤول إليه ((
-- " ( ماما .. ماما ) .. لا أرى .. أختنق !! "
-- "سيدتي ، ما الأمر ؟! .. دعيها .. أنا سأُلبسها ملابسها وأنا الذي سأحضر لها العشاء))
وهذا دليل على إن المربية تصارع من أجل بقاء هذه الزهرة (حتى الاسم كان فيه دلالة رمزية بأن الفتاة قصيرة العمر كالورود) زهرة تتوق إلى ان تكون إلى جانب أمها بعد أن ملت المعقمات والأدوية والعيش في عزلة تامة ، (ماما غيري لي ملابسي ) وهذه تتحمل تأويلا
آخرا أنها أرادت أن تنزع منها تلك الثياب البيضاء
المربية كانت تشحذ في داخلها الأمل وتحاول عن تنسيها تلك العذابات التي أوقدت في داخلها شعورا مغايرا لمشاعر الطفولة الحالمة
(( لتحبسي دمعةً تأبى إلا الانعتاق .. تزعقُ في خرس ، تمزق كياني ، وتُذريني في سمائي المربدة باحثةً عن بصيص شعاع شتيت .. ما جدوى أن تكوني ابنة لأم تخشى كفكفة دمع صغيرتها ؟! .. أُم تكهّفها الضنى فغدت مرتعًا لشبح يرعى ))
الله .. نقف
إجلالا أمام روعة النسج والخيال الخصب وبراعة التصوير ,وجزالة اللفظ إننا أمام جمل بلاغية يقف الكثير من الأدباء عاجزين عن الإتيان بمثل هذا التضفير والموائمة الرمزية بين سبق الأحداث والرجوع إليها وهي تقنية معقدة تحتاج إلى تركيز وقدر كبير من المعرفة ، نعود إلى سابق الحدث بعد أن نقلب السطور لنرى إن الموت قد غيب تلك الفتاة أيضا
((ما أعتم انطفاء قمرين صغيرين نُكِّسَا تحت جفون رقيقة))
و تكون الطامة الكبرى هو أن بصيص الأمل الذي جاء متأخرا قد تزامن مع تلك اليد التي امتدت إليها تبحث عن أنثاها لتصدمنا بنهاية قاسية جدا أحالت النص إلى مرثية مغرقة في الحزن تستدر عواطفنا ودموعنا لأن الموت جاء مع الأمل المعقود على تلك الشريطة الحمراء والتي ختمت القص بأخبارنا بأن المرض الذي أصابهما هو مرض الإيدز . لا يسعني وأنا أمام هذه الوثيقة الفنية إلا أن أصوت بأنه من النصوص المميزة والتي تستحق الفوز بإحدى الذهبيات وعن جدارة
*البارسايكلوجي يتكون من كلمة من جزئين ( بارا) وتعني ما وراء ، ( سيكلوجي ) وتعني علم النفس يترجم للعربية بأنه علم النفس الغيبي الغير خاضع للقوانين العامة اوما يسمى بعلم الخوارق
تعليق