كنت قد كتبت عن حديقة (أمنية من ورق)، وبعد الانتهاء وجدت حديقة أخرى للأستاذ القدير بلقاسم علواش فأحببت أن أضيف حديقة لحديقة (القصة حظيت باهتمام كبير من دينا نبيل و محمد سليم)
البدء دائما ولادة أو "إبداع" أو خلق جديد (استنبات في حديقة خصبة)، لأن كل بدء أو إبداع هي ولادة ما، ولادة إنسان أو غزال: ولا بد للولادة من الأم والآلام و"ريما" الوليدة، وعسر الانتقال من حال إلى حال (رحلة من نوع ما؛ ولعلها "الرحلة" أو رحلة الرحلة التي ليس بعدها رحلة)! ولكي تكون البداية "بداية ولادة" لابد أن تبتدء مع "الوالدة"، مع "الأم"؛ ولنتدبر هذه البداية الأمومية: فماذا يخبيء هذا الاسم العام (أمٌّ)؟ وكيف نستطيع حصر دلالاته: هل هو حقا اسم عام كما أشرت؟ أو هو حرف عطف؟ أم هو الفعل الماضي "أمّ" (بمعنى اتجه نحو غاية أو موقع محدد بعينه)، أم هو الفعل الماضي الذي يعني فيما يعني وصول المرء مكانا معينا، أو أنهى إمامة المصلين. كيف نستطيع حصر هذه الدلالات ونصل إلى دلالة محددة من بينها؟ لا بد من "طريق" لتحقيق ذلك، أو "منهج"، كما يقول المحترفون، يكون زورق أو طوق نجاة في خضم متلاطم من المعاني والألفاظ!
المتعجلون طبعا سيقولون طريقة اللفظ (صوتيا) أو تشكيل الكتابة يكفل الوضوح. ولسوف يقول المتريثون غير ذلك. إذ سيقول البعض (و"البعض" هنا ليس استثناء القلة من الكثرة، بل الأغلبية الغالبة): إن "النحو" أو "السياق" (أو الاثنين معا) كفيل بحصر كل الدلالات وتقنينها فيستصفيها في دلالة وحيدة، وسيقول بعضٌ (لعلهم قلة في زماننا): مَنْ العربية لغته "الأم" لا يحتاج لمثل هذه الفذلكة. كل هذه الأقوال قد تكون أقوال "فصل" في كل اللغات، وللمؤلف أيضا رأي فصل أيضا. وإذا دققنا في الأمر لابد أن نجد أن "النحوَ" أمٌ والسياقَ أمٌ، بل نجدهما هدفا وغاية أو محطة وصول وعلى الدلالة أن تدين لهما وتنحى نحوهما وألاّ تخطئ مسار أيٍّ منهما!
لنضبط المسار إذاً. هناك "أمٌ" تستقبل وليدتها "ريما" وتسألها عن عسر الرحلة ومخاطرها:
ريما ..يا صغيرتي الحلوة ...هل وصلتِ ...طيري إليّ حبيبتي .. جدّفي الموج،اطوي المسافة الفاصلة ما بيننا بأمان ، أغمضي عينيك برفقٍ ، واقطعي الحديقةبسلامٍ ، وإيّاك أن تتعثّري بالسياج، أنا بانتظارك..
هذه هي بداية القصة وأولى كلماتها؛ وهي لا شك بداية ولادة ريما في القصة وإشارة إلى المسافة بين الأم وصغيرتها الحلوة، التي عند "نهايتها" تنتظر الأم "حبيبتها"، وتتوسلها أن تقطع المسافة بأسرع ما يمكن رغم ما قد تتسبب به السرعة من عناء: "طيري إلي"، "جدفي الموج" و"اطوي المسافة الفاصلة ما بيننا بأمان" فكم "مفارقة" ينطوي عليه هذا "الحث" العجل؟ كيف للمرء أن يطوي المسافة الفاصلة "بأمان"؟ بل أين الأمان والحث يقول "أغمضي عينيك برفق، واقطعي الحديقة بسلامٍ، وأياك أن تتعثري بالسياج"؟ هكذا يُستعْجَل الأعمى ليقطع الحديقة ويتجنب السياج في "طيه" المسافة الفاصلة! فما هو المبرر؟ ليس هناك مبرر يستحق هذه المخاطرة غير الانتظار وما يفرزه من شوق: "أنا بانتظارك"!
الولادة لا شك رحلة بين محطتين، محطة البدء ومحطة الوصول. لذلك كان لا بد أن نجد من ينتظر مع كل ولادة ومع كل رحلة! كذلك نجد أن كل رحلة لها نصيب من المخاطر حتى لو كانت الرحلة عبر أو عبور حديقة، والراحل مغمض العينين دون أن يعثر بسياج يتربص بالعابرين! ومع كل رحلة بين نقطة البداية ومحطة الانتظار، هناك مسافة لا بد أن يطويها المولود ليصل "بأمان" إلى من ينتظر، يصل باختصار إلى محطة هي ذاتها غاية أو "أمنية" الرحلة!
نستطيع القول: إن "النهاية" تَنْتَظرُ دائما بشوق "بدايتها" عند محطة الوصول، هكذا هي الولادة. وبعض نهاياتها سلسة بطيئة وبعضها فاجعة مفاجأة. والنهاية دائما (مهما كانت سلسة) لها هول المفاجأة رغم أنها معروفة مسبقا. ليس غريبا إذن أن تنتابنا الدهشة فجأة ما أن تتحقق النهاية رغم أنها متوقعة، لأنها تعني "طي" مسافة ما، تعني تخطي الفاصل العازل بين نقطتين، أو لعلها تعني تجاوز السياج — حتى لو كان سياج الحديقة. هي باختصار "فقد/غياب" المسافة في امتدادها؛ وكأن هذا الفقد ليس حتمية كل ولادة أو نهاية كل مطاف أو رغبة/أمنية الوصول إلى نهاية كل رحلة (حتى لو كانت رحلة العمر)!
بل لعلنا نقول مع عالم النفس (فرويد) أليست هي في نهاية الأمر "أمنية الموت"؟ أو (إن شئت) "أمنية من ورق"؟ فهل القصة (أمنية من ورق) تختلف عن أي رحلة عمر، سواء كان المرتحل انثى أو ذكرا، طفلا غريرا أو كهلا اقترب من طي مسافة العمر؟ الموت عموما هو هبة الحياة. (أعتقد أنني قرأت هذه العبارة هنا في الملتقى لكن الذاكرة لا تسعفني، غير أن العالق في ذهني هذه اللحظة هي عبارة [هبة الموت]، عنوان كتاب مفكر معاصر راحل).
فهل نستطيع قياس كثافة المفارقة حين تسأل الأمُ وليدتها: "هل وصلت"؟ نعم وصلت و "بأمان"؛ فالراحلة تجيب: "ها قد أتيتك أمي" بل رغم كل المشاق تأتي أمها ببعض الهدايا: "خذي أمي، قطفت لك طاقة من الزهور البرية هدية العام الجديد، لملمتها من بوادي أشواقي"!
وشأن رحلة أبي العلاء المعري، رأت الوليدة الكثيرين من أترابها منهمكين في ما هم فيه، بكل "حيوية" وفرح! لقد وصلت ريما إلى المحطة وطوت المسافة لدرجة التوحد المطلق الذي لا يترك مسافة عازلة تبيح التميز والمعرفة: "شدّتها [أمها] إلى صدرها، أدخلتها في أضلاعها في ممرّ سرّي لا تصل إليه يد تنزعهامن جديد"! ومع هذا الاتحاد المطلق لم نعد نميز الأم عن ابنتها، فبعد وصف استقبال الأم لابنتها وكيف بدأت "تقبّلها، تشمّها، تهدهدها.." تقول القصة فجأة "أرخت عينيها الناعستين، كبحار يشتهي النوم بعد أن تاه في مدن البحار، وصدى أغنيتها القديمة يداعب جوارحها.."! في هذه اللحظة نظن أن ذات العينين الناعستين هي الأم، لكن سرعان ما ندرك أنها ريما حين تقول: "أمي طالت غيبتك.. لم ترتكتـ[يـ]ـني وحدي؟" لكن القصة في تتابعها عند هذه النقطة تحاول "طي" المسافة بين لغة الأم ولغة ابنتها، ومن المفارقة التي تتفاعل باستمرار أن تقول: "طالت غيبتك" لأنها فعلا طالت ولا زالت رغم أن أمها "أدخلتها في أضلاعها في ممرّ سرّي لاتصل إليه يد تنزعهامن جديد"! فهنا انعدمت المسافة التي بها نميز الأم عن أبنتها (وفي الموت يتساوي الجميع، بلا خصائص مائزة). لقد طالت غيبة أمها لأنها لم تعد مختلفة، فهما أصبحا شخصا واحدا ليس الأم وليس الأبنة، والمسافة العازلة انطوت تماما، وكان المدخل "سريا" (خفي) أو حبل السرة الواصل (الجذعي) الذي يحفظ تطابق الجينات تماما ويقضي على اختلافها. تماهي مطلق، لا شك!
أما وقد انعدمت المسافات والفواصل، فإن الأمر لم يكن مصادفة حينما تتحدث الأم عن رحلتها هي الأخرى، وليس من المصادفة في شيء أن تكون رحلتها هي أيضا رحلة عمر: "ليت الأمر بيدي يا حبيبتي ..سهم حارق فرقني عنك ، لم أستطع صدّه"! سهم لا شك طوى المسافة بين البداية والنهاية فحل في غايته أو أمنيته! بل إن تبادل رواية الرحلة (رحلة العمر) تبادل سريع لا يدع فاصلا يميز رواية عن أخرى، والكل يطوي مسافته. فرواية الأم تنتهي سريعا لتستعيد نفسها في رواية ابنتها ("أخبريني كيف أتيت إلىّ والدرب طويل")! كان بإمكانها أن تقول: كيف "طويتي الدرب الطويل" لأن هذا ما فعلته ريما في واقع الحال وهو فعل كان أمنية تحققت!
وماذا ترانا سنجد في تفاصيل الرحلة التي ابتدأت في غفلة من الزمن (زمن العيد) لتكون هدية أو هبة لها هول المفاجأة. كل رواية لا بد أن تنطوي على مفاجأة، ومفاجأة الهدية/الهبة لها وقع لا يتصوره أحد حتى لو كانت الهبة متوقعة. فما بالك بهدية عيد لا يمكن لعاقل أو قاصر أن يغفل عنها! فكيف بدأت الرحلة؟ خاصة أنها رحلة تروي بنيتها في روايتها، تستعيد نفسها (إن جاز التعبير) في كل طية من طياتها فتطوي ما تعبره من مسافة! ونحن نعلم حتى هذه اللحظة أن على ريما أن تعبر الحديقة مغمضة العينين وتَحذرَ السياج. فكيف لها أن تبتدئ جنينا دون عماء ودون غفلة! كان لا بد أن تكون في موقع لا يصله بصر (نقطة العماء التي لا يدركها البصر ولا البصيرة)، غفلة مطلقة:
غافلتهم أمي، كان أبي كعادته، قد أطفأ ضوء مخدعه ، وأسدل الستائر متعباً، دون أن يدري بأنّي سوف ألاصق يديّ برجليّ ، أتكوّر كجنينٍ، أحنّ إلى نبضك في الحشايا، وأنام وحدي على طيفك ، بلا غطاء، بلا دواء، مرتعدةً من العتمة،من أشباحٍ تركض أمامي، ولا أقوى على الصراخ.
الكل أعمى في هذه اللحظة، حتى النوافذ أعمتها الستائر، أما الأب فلجأ إلى الظلام واستقر في "مخدعه" حتى جسده أصابه عمى الأعياء في لحظة غفله. فهو في مخدعة في ظلام دامس منهك (دون أن يدري)! ما كان له أن يدري: كيف له أن يدري وقد غافلتهم ريما فغفلوا ولهم من أسباب الغفلة ما يكفي، ليس أقلها عدم الاهتمام!!
لم يبق إذن غير ترنيمة الصلاة والركون إلى الصوم (مأكلا وصوتا)! فريما مع نهاية الرحلة لا تحتاج غطاءا وأمها "فيض نور" تحاول أن تميز الأشياء دون نجاح: "تفرك عينيها، تطلب أن تغوص في قارب التوحد، ألاّ تبعدها عنها بعد اليوم"، ولا شك أن البعد بعد اليوم محال، فالمسافة انطوت، وهي في الأصل أمنية تحققت في يوم عيد! فماذا بقى من القصة؟
هل ستكون مفاجأة لو أجبت: بقيت القصة كاملة تنتظر الرواية من جديد؟ دعنا نرى (رغم العماء المطلق): بعد هذا الاتحاد المتوحد دون مسافات فاصلة، تسأل الأمُ طفلتها مرة أخرى أن تروي لها رحلة العمر خاصة أنها "طمأنتها" (وهل ثمة حاجة للطمأنينة هنا؟) بعدم البعد عنها بعد اليوم (يوم العيد):
طمأنتها: لن يأخذك أحدٌ من حضني، ولكن ياصغيرتي كيف غادرتِ البيت حبيبتي؟؟؟ أما خشيتِ الطريقَ الخاوي من البشر في هذه الليلة العاصفة؟ وأنت تقطعين الدروب وحدك؟؟
هل هذه أسئلة معقولة، أم هي حث مباشر لاستعادة القصة في تفاصيلها؟ فيما يتعلق بخشية الطريق، لا أراه إلا من ضرورات الرواية، فالطريق الخاوي لا مخاطر فيه. أما الليلة العاصفة وقطعها الطريق وحدها فأمران مهمان للرحلة نفسها، رحلة العمر. فرحلة العمر هي الرحلة الوحيدة التي فيها على الراحل أن يقطع الدروب وحده، والشرط الأساس أن تكون الحال "عاصفة" لا محالة! أما كيفية المغادرة فقد ألفناها في رواية سابقة تستعيدها هنا. لقد غافلتهم وغفلوا عنها.
وهنا لا بد أن تستعيد الرواية نفسها لتعم الغفلة الجميع، وتنتقل من حالة خاصة إلى عمومية رمزية يستجمع كافة تفاصيل الغفلة والنسيان:
لم يشعر بي أحدٌ أمي، نسَوني، كانت المرأة ذات الألوان المرعبة، تعدّ سهرةرأس السنة، تكدّس الأطباق على الطاولة، تزدحم أصناف الطعام أمام ناظري،وأنا جائعة.
غافلتها وهي ملهيّة عني بالانصراف إلى ولديها، وقفت على رأس أصابعي ، أمطّ جسمي، أبتغي زاداً قليلاً بحجم يدي، تعثّرتُ بمفرش الطاولة، اندلق الوعاء،رأتني، ركضت نحوي، لمحتُ عينيها، أخاف من عينيها حينما تغضبان، ألمح ناراً، تتطاير شررا،ً من جفني وحشٍ، يريد أن يلتهمني، لملمت أطراف ثيابي، وأنا أحسّ بللاً ينسرب منها ،أسفل فستاني. اقتربت مني، كم أكره رائحة صدرها..!!!؟؟ إنه لا يشبه أريجك..؟؟!!وشذى عطرك
اقتربتْ أكثر، رنّة كعبها العالي أوشكت أن تطرق رأسي، ولهاثها يفحّ في وجهي، انفلتّ من أمامها إلى الحديقة، لحقتْ بي، حاولتْ أن تمطّ رأسها منباب الصّالة تتعقّبني بنظرها، ولكني راوغتها خلف الشجرة.
وانشغلتْ عنّي بضيوفها، علا الضجيج في أرجاء المنزل،وشقّت الضحكات سكون الليل، كنت أسمع ارتطام الأطباق، والأكواب، ممتزجةً بالموسيقا والأغاني، والرقص الصّاخب، وألمح الشرائط المكويّة في جدائل أختي الجميلة، كدميةٍ تتخاطفها الأيدي، من وراء الشبّاك شاهدتهم.
كل هذه التفاصيل والمغامرات يمكن اختصارها في "غافلتهم"؛ لكن يتبقى أمران مهمان: لماذا تعثرت بمفرش الطاولة؟ ولماذا طال اتنظارها لندائهم الذي لم يتحقق؟
للإجابة علينا أن ندقق بأهمية الرحلة وتفاصيل أسبابها، ولا بد لرحلة كرحلة العمر أن تبتدء سببيا عند مقومات العمر (المأكل والمشرب). فريما ببساطة كانت تريد "زادا" قليلا لا يسد أودها، زادا بحجم يدها الصغيرة التي مهما غرفت لن تشبعها، وقد كانت جائعة! كان لا بد أن تتعثر بمفرش الطاولة فتنتبه لها ذات الألوان المرعبة والعينين المخيفتين: فمحاولتها عبث لا تسد سغب لا يمكن اشباعه، فهي على أعتاب رحلة عمرها. وهنا تحديدا تقول: "انفلتّ من أمامها إلى الحديقة"، "الحديقة" التي كان عليها في بداية القصة أن تعبرها مغمضة العينين. هنا تحديدا أيضا علينا أن نقارن مصاعب رحلتها من طاولة الطعام والبيت والصراع التي عانته قبل انفلاتها إلى الحديقة وأثناء مكوثها فيها، نقارن كل ذلك مع ماترويه لأمها في رحلتها الأخيرة. فريما تختصر حقيقة الرحلتين في وصفها حالة وصولها الأخير: " آاااه ما أصعب الوصول!... متعبة أنا..يا لطول رحلتي إليك " حتى أمها تعرف الحقيقة وتصرح بها: "أعرف كم تعبت حتى وصلتِ"!
ورغم كل التفاصيل وإعادة السرد، إلا أن الأم تستزيد باستمرار، تستقصي التفاصيل وتطلب المزيد منها: "لهفي عليك يا صغيرتي وماذا بعد؟"
وبعد تفاصيل التعب والإرهاق والوصول، تبقى أسباب طول انتظارها نداءهم، ولا بد لهذه الأسباب أن ترتبط بمعرفة اللاحق بالسابق، ومعرفة طريق وصول الأخير بالأول. وهكذا تسأل الأم (رغم آهات ريما ونعسها وتعبها): "وكيف عرفت الطريق إليّ يا عمري ..؟؟!!!" دعونا نتوقف عند هذا السؤال، فهو سؤال ليس كمثله سؤال! إنه ليس فقط سؤال معرفة وسؤال "طريق"، بل هو سؤال "عمر"!
وكأن الأم تسأل كيف تسنى لعمرها أن يعرف الطريق إليها! هل هذا سؤال يستحق الإجابة وقد اتحدت ريما بأمها اتحادا يمنع الاجابة ويمنع انطلاق الصوت من قائل إلى مستمع؟ كيف للمرء أن يُسأل عن طريق عرفه وألفه بالتجربة ووصل إلى منتهاه. معرفة الطريق تشهد لها حقيقة الوصول! لهذا لم يكن السؤال سؤال استشراف وإنما سؤال ذاكرة تستعيد معرفة أو تجربة سابقة مألوفة، تفضي بدورها إلى مسار الرحلة النهائية: الكل (صغيرا وكبيرا) يعرف هذا الطريق بالقوة.
وهنا لا بد من عماء أو ظلام يبرر الذاكرة ويبرر السؤال، لا بد من حرمان من نعمة البصر/البصيرة التي لا تقتضيها رحلة العمر، بل لا تتحقق بغير هذا الحرمان (دعنا نتذكر باستمرار أن ريما عبرت الحديقة مغمضة العينين). وعلينا أيضا أن نتدبر عماء الذاكرة، خاصة الذاكرة التي أعانت ريما على تحقيق أمنيتها، ولنا كذلك أن نمعن النظر في مصدرها. فهذه الذاكرة ذاكرة "أم" لعلها هي أيضا (كالآخرين) نسيتها وغفلت عنها. فكيف عرفت ريما الطريق إلى أمها وما هو دور الأم نفسها في هذه المعرفة؟:
لمّا أُطفئتْ أنوار الغرف واحدة، تلو أخرى، أيقنت بأني محرومة منسيّة،حاولت النهوض أتلمّس قبضة من أمل، خانتني قدماي، وانطمر صدى صوتي مع هبّات الثلج، حينذاك تذكّرت رمال البحرالذهبيّة ..حين افترشناها معاً ... وصنعتِ لي زورقاً من ورق، أنسيتِ أمي ؟؟؟ أما علّمتني كيف أطلقه على صفحات الماء بعد أن أوشوشه بحلو الأمنيات كي تتحقّق ..!!؟؟
وهذا ما كان...زحفت إلى حوض السباحة في الحديقة، أطلقتُ زورقي، أ رأيتِ ها قدأوصلني إليك، وها أنا أعبّ من حنانك ما يعوّضني وأكثر، ضمّيني ..السموم استوطنت جسدي النحيل، أنشد السكينة والسلام بين يديك.
فماذا تبقى بعد طلب السكينة والسلام بعد صخب الأعياد وموائد الطعام والموسيقى والرقص واللهو الغافل؟ بقي الصمت "الناطق"، بقيت الحقائب وانتثارها عند محطة الوصول. بقي حقيقة "تعديل أخير": أن يعود البصر والضوء وتشرق الشمس: بقي الصباح لتكتمل طقوس الرحلة وتستقر الراحلة لتفتح عينيها:
وعند الصباح ..استفاق الضوء على أصوات مذعورةٍ ، تتبادل بجنونٍ: الاتهامات ، واللعنات.
أصواتٌ تتباكى على جسد طفلة ، ما عاد يعنيها ما تسمع، تنظر إلى السماءبعينين بريئتين، على وجهها طيف ابتسامة نورانيّة ، ويدٍ تقبض على زورقٍورقيّ، حقّق الأمنيات، قبل أن يلامس الماء
البداية كانت في حديقة والنهاية كانت أيضا كذلك (هكذا كان الخلق في البدء)؛ ومع نهاية كل بداية أو "رحلة عمر" لا بد من "تعديل أخير" بألف ولام لعله السياج يحيط بحديقة أو ربيع!
أمنية من ورق
المتعجلون طبعا سيقولون طريقة اللفظ (صوتيا) أو تشكيل الكتابة يكفل الوضوح. ولسوف يقول المتريثون غير ذلك. إذ سيقول البعض (و"البعض" هنا ليس استثناء القلة من الكثرة، بل الأغلبية الغالبة): إن "النحو" أو "السياق" (أو الاثنين معا) كفيل بحصر كل الدلالات وتقنينها فيستصفيها في دلالة وحيدة، وسيقول بعضٌ (لعلهم قلة في زماننا): مَنْ العربية لغته "الأم" لا يحتاج لمثل هذه الفذلكة. كل هذه الأقوال قد تكون أقوال "فصل" في كل اللغات، وللمؤلف أيضا رأي فصل أيضا. وإذا دققنا في الأمر لابد أن نجد أن "النحوَ" أمٌ والسياقَ أمٌ، بل نجدهما هدفا وغاية أو محطة وصول وعلى الدلالة أن تدين لهما وتنحى نحوهما وألاّ تخطئ مسار أيٍّ منهما!
لنضبط المسار إذاً. هناك "أمٌ" تستقبل وليدتها "ريما" وتسألها عن عسر الرحلة ومخاطرها:
ريما ..يا صغيرتي الحلوة ...هل وصلتِ ...طيري إليّ حبيبتي .. جدّفي الموج،اطوي المسافة الفاصلة ما بيننا بأمان ، أغمضي عينيك برفقٍ ، واقطعي الحديقةبسلامٍ ، وإيّاك أن تتعثّري بالسياج، أنا بانتظارك..
هذه هي بداية القصة وأولى كلماتها؛ وهي لا شك بداية ولادة ريما في القصة وإشارة إلى المسافة بين الأم وصغيرتها الحلوة، التي عند "نهايتها" تنتظر الأم "حبيبتها"، وتتوسلها أن تقطع المسافة بأسرع ما يمكن رغم ما قد تتسبب به السرعة من عناء: "طيري إلي"، "جدفي الموج" و"اطوي المسافة الفاصلة ما بيننا بأمان" فكم "مفارقة" ينطوي عليه هذا "الحث" العجل؟ كيف للمرء أن يطوي المسافة الفاصلة "بأمان"؟ بل أين الأمان والحث يقول "أغمضي عينيك برفق، واقطعي الحديقة بسلامٍ، وأياك أن تتعثري بالسياج"؟ هكذا يُستعْجَل الأعمى ليقطع الحديقة ويتجنب السياج في "طيه" المسافة الفاصلة! فما هو المبرر؟ ليس هناك مبرر يستحق هذه المخاطرة غير الانتظار وما يفرزه من شوق: "أنا بانتظارك"!
الولادة لا شك رحلة بين محطتين، محطة البدء ومحطة الوصول. لذلك كان لا بد أن نجد من ينتظر مع كل ولادة ومع كل رحلة! كذلك نجد أن كل رحلة لها نصيب من المخاطر حتى لو كانت الرحلة عبر أو عبور حديقة، والراحل مغمض العينين دون أن يعثر بسياج يتربص بالعابرين! ومع كل رحلة بين نقطة البداية ومحطة الانتظار، هناك مسافة لا بد أن يطويها المولود ليصل "بأمان" إلى من ينتظر، يصل باختصار إلى محطة هي ذاتها غاية أو "أمنية" الرحلة!
نستطيع القول: إن "النهاية" تَنْتَظرُ دائما بشوق "بدايتها" عند محطة الوصول، هكذا هي الولادة. وبعض نهاياتها سلسة بطيئة وبعضها فاجعة مفاجأة. والنهاية دائما (مهما كانت سلسة) لها هول المفاجأة رغم أنها معروفة مسبقا. ليس غريبا إذن أن تنتابنا الدهشة فجأة ما أن تتحقق النهاية رغم أنها متوقعة، لأنها تعني "طي" مسافة ما، تعني تخطي الفاصل العازل بين نقطتين، أو لعلها تعني تجاوز السياج — حتى لو كان سياج الحديقة. هي باختصار "فقد/غياب" المسافة في امتدادها؛ وكأن هذا الفقد ليس حتمية كل ولادة أو نهاية كل مطاف أو رغبة/أمنية الوصول إلى نهاية كل رحلة (حتى لو كانت رحلة العمر)!
بل لعلنا نقول مع عالم النفس (فرويد) أليست هي في نهاية الأمر "أمنية الموت"؟ أو (إن شئت) "أمنية من ورق"؟ فهل القصة (أمنية من ورق) تختلف عن أي رحلة عمر، سواء كان المرتحل انثى أو ذكرا، طفلا غريرا أو كهلا اقترب من طي مسافة العمر؟ الموت عموما هو هبة الحياة. (أعتقد أنني قرأت هذه العبارة هنا في الملتقى لكن الذاكرة لا تسعفني، غير أن العالق في ذهني هذه اللحظة هي عبارة [هبة الموت]، عنوان كتاب مفكر معاصر راحل).
فهل نستطيع قياس كثافة المفارقة حين تسأل الأمُ وليدتها: "هل وصلت"؟ نعم وصلت و "بأمان"؛ فالراحلة تجيب: "ها قد أتيتك أمي" بل رغم كل المشاق تأتي أمها ببعض الهدايا: "خذي أمي، قطفت لك طاقة من الزهور البرية هدية العام الجديد، لملمتها من بوادي أشواقي"!
وشأن رحلة أبي العلاء المعري، رأت الوليدة الكثيرين من أترابها منهمكين في ما هم فيه، بكل "حيوية" وفرح! لقد وصلت ريما إلى المحطة وطوت المسافة لدرجة التوحد المطلق الذي لا يترك مسافة عازلة تبيح التميز والمعرفة: "شدّتها [أمها] إلى صدرها، أدخلتها في أضلاعها في ممرّ سرّي لا تصل إليه يد تنزعهامن جديد"! ومع هذا الاتحاد المطلق لم نعد نميز الأم عن ابنتها، فبعد وصف استقبال الأم لابنتها وكيف بدأت "تقبّلها، تشمّها، تهدهدها.." تقول القصة فجأة "أرخت عينيها الناعستين، كبحار يشتهي النوم بعد أن تاه في مدن البحار، وصدى أغنيتها القديمة يداعب جوارحها.."! في هذه اللحظة نظن أن ذات العينين الناعستين هي الأم، لكن سرعان ما ندرك أنها ريما حين تقول: "أمي طالت غيبتك.. لم ترتكتـ[يـ]ـني وحدي؟" لكن القصة في تتابعها عند هذه النقطة تحاول "طي" المسافة بين لغة الأم ولغة ابنتها، ومن المفارقة التي تتفاعل باستمرار أن تقول: "طالت غيبتك" لأنها فعلا طالت ولا زالت رغم أن أمها "أدخلتها في أضلاعها في ممرّ سرّي لاتصل إليه يد تنزعهامن جديد"! فهنا انعدمت المسافة التي بها نميز الأم عن أبنتها (وفي الموت يتساوي الجميع، بلا خصائص مائزة). لقد طالت غيبة أمها لأنها لم تعد مختلفة، فهما أصبحا شخصا واحدا ليس الأم وليس الأبنة، والمسافة العازلة انطوت تماما، وكان المدخل "سريا" (خفي) أو حبل السرة الواصل (الجذعي) الذي يحفظ تطابق الجينات تماما ويقضي على اختلافها. تماهي مطلق، لا شك!
أما وقد انعدمت المسافات والفواصل، فإن الأمر لم يكن مصادفة حينما تتحدث الأم عن رحلتها هي الأخرى، وليس من المصادفة في شيء أن تكون رحلتها هي أيضا رحلة عمر: "ليت الأمر بيدي يا حبيبتي ..سهم حارق فرقني عنك ، لم أستطع صدّه"! سهم لا شك طوى المسافة بين البداية والنهاية فحل في غايته أو أمنيته! بل إن تبادل رواية الرحلة (رحلة العمر) تبادل سريع لا يدع فاصلا يميز رواية عن أخرى، والكل يطوي مسافته. فرواية الأم تنتهي سريعا لتستعيد نفسها في رواية ابنتها ("أخبريني كيف أتيت إلىّ والدرب طويل")! كان بإمكانها أن تقول: كيف "طويتي الدرب الطويل" لأن هذا ما فعلته ريما في واقع الحال وهو فعل كان أمنية تحققت!
وماذا ترانا سنجد في تفاصيل الرحلة التي ابتدأت في غفلة من الزمن (زمن العيد) لتكون هدية أو هبة لها هول المفاجأة. كل رواية لا بد أن تنطوي على مفاجأة، ومفاجأة الهدية/الهبة لها وقع لا يتصوره أحد حتى لو كانت الهبة متوقعة. فما بالك بهدية عيد لا يمكن لعاقل أو قاصر أن يغفل عنها! فكيف بدأت الرحلة؟ خاصة أنها رحلة تروي بنيتها في روايتها، تستعيد نفسها (إن جاز التعبير) في كل طية من طياتها فتطوي ما تعبره من مسافة! ونحن نعلم حتى هذه اللحظة أن على ريما أن تعبر الحديقة مغمضة العينين وتَحذرَ السياج. فكيف لها أن تبتدئ جنينا دون عماء ودون غفلة! كان لا بد أن تكون في موقع لا يصله بصر (نقطة العماء التي لا يدركها البصر ولا البصيرة)، غفلة مطلقة:
غافلتهم أمي، كان أبي كعادته، قد أطفأ ضوء مخدعه ، وأسدل الستائر متعباً، دون أن يدري بأنّي سوف ألاصق يديّ برجليّ ، أتكوّر كجنينٍ، أحنّ إلى نبضك في الحشايا، وأنام وحدي على طيفك ، بلا غطاء، بلا دواء، مرتعدةً من العتمة،من أشباحٍ تركض أمامي، ولا أقوى على الصراخ.
الكل أعمى في هذه اللحظة، حتى النوافذ أعمتها الستائر، أما الأب فلجأ إلى الظلام واستقر في "مخدعه" حتى جسده أصابه عمى الأعياء في لحظة غفله. فهو في مخدعة في ظلام دامس منهك (دون أن يدري)! ما كان له أن يدري: كيف له أن يدري وقد غافلتهم ريما فغفلوا ولهم من أسباب الغفلة ما يكفي، ليس أقلها عدم الاهتمام!!
لم يبق إذن غير ترنيمة الصلاة والركون إلى الصوم (مأكلا وصوتا)! فريما مع نهاية الرحلة لا تحتاج غطاءا وأمها "فيض نور" تحاول أن تميز الأشياء دون نجاح: "تفرك عينيها، تطلب أن تغوص في قارب التوحد، ألاّ تبعدها عنها بعد اليوم"، ولا شك أن البعد بعد اليوم محال، فالمسافة انطوت، وهي في الأصل أمنية تحققت في يوم عيد! فماذا بقى من القصة؟
هل ستكون مفاجأة لو أجبت: بقيت القصة كاملة تنتظر الرواية من جديد؟ دعنا نرى (رغم العماء المطلق): بعد هذا الاتحاد المتوحد دون مسافات فاصلة، تسأل الأمُ طفلتها مرة أخرى أن تروي لها رحلة العمر خاصة أنها "طمأنتها" (وهل ثمة حاجة للطمأنينة هنا؟) بعدم البعد عنها بعد اليوم (يوم العيد):
طمأنتها: لن يأخذك أحدٌ من حضني، ولكن ياصغيرتي كيف غادرتِ البيت حبيبتي؟؟؟ أما خشيتِ الطريقَ الخاوي من البشر في هذه الليلة العاصفة؟ وأنت تقطعين الدروب وحدك؟؟
هل هذه أسئلة معقولة، أم هي حث مباشر لاستعادة القصة في تفاصيلها؟ فيما يتعلق بخشية الطريق، لا أراه إلا من ضرورات الرواية، فالطريق الخاوي لا مخاطر فيه. أما الليلة العاصفة وقطعها الطريق وحدها فأمران مهمان للرحلة نفسها، رحلة العمر. فرحلة العمر هي الرحلة الوحيدة التي فيها على الراحل أن يقطع الدروب وحده، والشرط الأساس أن تكون الحال "عاصفة" لا محالة! أما كيفية المغادرة فقد ألفناها في رواية سابقة تستعيدها هنا. لقد غافلتهم وغفلوا عنها.
وهنا لا بد أن تستعيد الرواية نفسها لتعم الغفلة الجميع، وتنتقل من حالة خاصة إلى عمومية رمزية يستجمع كافة تفاصيل الغفلة والنسيان:
لم يشعر بي أحدٌ أمي، نسَوني، كانت المرأة ذات الألوان المرعبة، تعدّ سهرةرأس السنة، تكدّس الأطباق على الطاولة، تزدحم أصناف الطعام أمام ناظري،وأنا جائعة.
غافلتها وهي ملهيّة عني بالانصراف إلى ولديها، وقفت على رأس أصابعي ، أمطّ جسمي، أبتغي زاداً قليلاً بحجم يدي، تعثّرتُ بمفرش الطاولة، اندلق الوعاء،رأتني، ركضت نحوي، لمحتُ عينيها، أخاف من عينيها حينما تغضبان، ألمح ناراً، تتطاير شررا،ً من جفني وحشٍ، يريد أن يلتهمني، لملمت أطراف ثيابي، وأنا أحسّ بللاً ينسرب منها ،أسفل فستاني. اقتربت مني، كم أكره رائحة صدرها..!!!؟؟ إنه لا يشبه أريجك..؟؟!!وشذى عطرك
اقتربتْ أكثر، رنّة كعبها العالي أوشكت أن تطرق رأسي، ولهاثها يفحّ في وجهي، انفلتّ من أمامها إلى الحديقة، لحقتْ بي، حاولتْ أن تمطّ رأسها منباب الصّالة تتعقّبني بنظرها، ولكني راوغتها خلف الشجرة.
وانشغلتْ عنّي بضيوفها، علا الضجيج في أرجاء المنزل،وشقّت الضحكات سكون الليل، كنت أسمع ارتطام الأطباق، والأكواب، ممتزجةً بالموسيقا والأغاني، والرقص الصّاخب، وألمح الشرائط المكويّة في جدائل أختي الجميلة، كدميةٍ تتخاطفها الأيدي، من وراء الشبّاك شاهدتهم.
كل هذه التفاصيل والمغامرات يمكن اختصارها في "غافلتهم"؛ لكن يتبقى أمران مهمان: لماذا تعثرت بمفرش الطاولة؟ ولماذا طال اتنظارها لندائهم الذي لم يتحقق؟
للإجابة علينا أن ندقق بأهمية الرحلة وتفاصيل أسبابها، ولا بد لرحلة كرحلة العمر أن تبتدء سببيا عند مقومات العمر (المأكل والمشرب). فريما ببساطة كانت تريد "زادا" قليلا لا يسد أودها، زادا بحجم يدها الصغيرة التي مهما غرفت لن تشبعها، وقد كانت جائعة! كان لا بد أن تتعثر بمفرش الطاولة فتنتبه لها ذات الألوان المرعبة والعينين المخيفتين: فمحاولتها عبث لا تسد سغب لا يمكن اشباعه، فهي على أعتاب رحلة عمرها. وهنا تحديدا تقول: "انفلتّ من أمامها إلى الحديقة"، "الحديقة" التي كان عليها في بداية القصة أن تعبرها مغمضة العينين. هنا تحديدا أيضا علينا أن نقارن مصاعب رحلتها من طاولة الطعام والبيت والصراع التي عانته قبل انفلاتها إلى الحديقة وأثناء مكوثها فيها، نقارن كل ذلك مع ماترويه لأمها في رحلتها الأخيرة. فريما تختصر حقيقة الرحلتين في وصفها حالة وصولها الأخير: " آاااه ما أصعب الوصول!... متعبة أنا..يا لطول رحلتي إليك " حتى أمها تعرف الحقيقة وتصرح بها: "أعرف كم تعبت حتى وصلتِ"!
ورغم كل التفاصيل وإعادة السرد، إلا أن الأم تستزيد باستمرار، تستقصي التفاصيل وتطلب المزيد منها: "لهفي عليك يا صغيرتي وماذا بعد؟"
وبعد تفاصيل التعب والإرهاق والوصول، تبقى أسباب طول انتظارها نداءهم، ولا بد لهذه الأسباب أن ترتبط بمعرفة اللاحق بالسابق، ومعرفة طريق وصول الأخير بالأول. وهكذا تسأل الأم (رغم آهات ريما ونعسها وتعبها): "وكيف عرفت الطريق إليّ يا عمري ..؟؟!!!" دعونا نتوقف عند هذا السؤال، فهو سؤال ليس كمثله سؤال! إنه ليس فقط سؤال معرفة وسؤال "طريق"، بل هو سؤال "عمر"!
"وكيف عرفت الطريق إليّ ياعمري ..؟؟!!!"
وهنا لا بد من عماء أو ظلام يبرر الذاكرة ويبرر السؤال، لا بد من حرمان من نعمة البصر/البصيرة التي لا تقتضيها رحلة العمر، بل لا تتحقق بغير هذا الحرمان (دعنا نتذكر باستمرار أن ريما عبرت الحديقة مغمضة العينين). وعلينا أيضا أن نتدبر عماء الذاكرة، خاصة الذاكرة التي أعانت ريما على تحقيق أمنيتها، ولنا كذلك أن نمعن النظر في مصدرها. فهذه الذاكرة ذاكرة "أم" لعلها هي أيضا (كالآخرين) نسيتها وغفلت عنها. فكيف عرفت ريما الطريق إلى أمها وما هو دور الأم نفسها في هذه المعرفة؟:
لمّا أُطفئتْ أنوار الغرف واحدة، تلو أخرى، أيقنت بأني محرومة منسيّة،حاولت النهوض أتلمّس قبضة من أمل، خانتني قدماي، وانطمر صدى صوتي مع هبّات الثلج، حينذاك تذكّرت رمال البحرالذهبيّة ..حين افترشناها معاً ... وصنعتِ لي زورقاً من ورق، أنسيتِ أمي ؟؟؟ أما علّمتني كيف أطلقه على صفحات الماء بعد أن أوشوشه بحلو الأمنيات كي تتحقّق ..!!؟؟
وهذا ما كان...زحفت إلى حوض السباحة في الحديقة، أطلقتُ زورقي، أ رأيتِ ها قدأوصلني إليك، وها أنا أعبّ من حنانك ما يعوّضني وأكثر، ضمّيني ..السموم استوطنت جسدي النحيل، أنشد السكينة والسلام بين يديك.
وساد سكونٌ مطلقٌ ..وتبعثرتْ حقائب السفر ..تنثر ما عبّأته من هدايا اللقاء.
فماذا تبقى بعد طلب السكينة والسلام بعد صخب الأعياد وموائد الطعام والموسيقى والرقص واللهو الغافل؟ بقي الصمت "الناطق"، بقيت الحقائب وانتثارها عند محطة الوصول. بقي حقيقة "تعديل أخير": أن يعود البصر والضوء وتشرق الشمس: بقي الصباح لتكتمل طقوس الرحلة وتستقر الراحلة لتفتح عينيها:
وعند الصباح ..استفاق الضوء على أصوات مذعورةٍ ، تتبادل بجنونٍ: الاتهامات ، واللعنات.
أصواتٌ تتباكى على جسد طفلة ، ما عاد يعنيها ما تسمع، تنظر إلى السماءبعينين بريئتين، على وجهها طيف ابتسامة نورانيّة ، ويدٍ تقبض على زورقٍورقيّ، حقّق الأمنيات، قبل أن يلامس الماء
التعديل الأخير تم بواسطة ربيع عقب الباب ; 25-12-2011 الساعة 22:53
البداية كانت في حديقة والنهاية كانت أيضا كذلك (هكذا كان الخلق في البدء)؛ ومع نهاية كل بداية أو "رحلة عمر" لا بد من "تعديل أخير" بألف ولام لعله السياج يحيط بحديقة أو ربيع!
تعليق