ألبوم الصور
تفتح الخزانة عن آخرها تحمل بيديها المرتعشتين صندوق عزائها ، هو آخر ما تبقى لها من ذاك الزمن الجميل ، تتبرك صبحاتها على فتحه ، تشرع ذاكرتها العجوز، لعل شيئاً ما يدفعها منه لإتمام يومها الممدود بين جدران الوحدة القاتلة في ذالك المنزل الشاحب الصامت ، إلا من دقات منا جلي ساعة الزمن تلك المعلقة على حائط متشقق ، تبسط ظهرها الهرم فوق سريرها الممدود بأرجله المتعرجة على وجهه العبوس ، تفتح صندوقها ، تخرج من جوف قلبه المظلم صورة لزوجها الراحل وقد تفنن الزمن في رسم أخاديد متفرقة عليها ، تنتبه لصورة أبنائها الثلاث أحمد التحق بالطب العسكري وصار ظهوره يشبه القمر في لياليه الحالكة ، طارق الذي طرق قلبها بأن امتهن مهنة والده تربية الأجيال ، أما خالد فقد صار مهندسا ،أصوات ضحكاتهم تحتضن المكان تلاحقها أطيافهم وهم يركضون في صحن الدار رائحة الحلوى اللذيذة تدغدغ أنوفهم الصغيرة يتعاركون لنيل الحلوى من يديها الحنونتين لا تغادر المكان حتى تتأكد من نيل كل واحد حصته .
تعلو الضحكات والصرخات سقف الدار ، يجرون نحوها يتسابقون يقبلونها بلا توقف..
قطرات من الحنين والشوق تنزل بين تفاحتي خديها اللتين صارتا طلاسم لزمن غابر عبث فيهما بسيفه القاطع حتى رسم لها شروخا متفرقة بين جهات وجهها ألصحني .
تردد بفمها الادرد " آه كم اشتقت لتلك الأيام.."
تسمع همس هاتفها الأخرس حتى هو لا يكاد يرن إلا في المناسبات ، لم يكلمها أحد منذ العيد الفائت ..أحمد أمي عيدك سعيد ..لا أستطيع القدوم إليك لي ارتباطات عدة .. الله يوفقك يا حبيب أمك .. ينقطع ...تو ...تو ...تو....
تشهق روحها المتعبة ، تنهض بتثاقل توزع على خارطة جسدها الهرم كثقل خطى الأيام على سجاد عمرها .
تنهض بساقيها الضعيفتين لتصنع فنجان من القهوة .. أحبت شربها هذا الصباح لها رغبة جامحة في أن تتحرش بذاكرتها العجوز وتنفض عنها غبار النسيان
الباب يصفع طارق بخطاه الثقيلة وصفعاته الخشنة يدلف الباب يتسلل إليها كثعبان عطش ليمتص ما بقي لها من مصروف الأيام الباقية من سجل عمر ها
تسبح في ملكوت عالمها السرمدي تغوص في أعماقه المطرز بلآلئ الذكريات الحلوة تجيء بها ذكرى وتصفعها أخرى وبين الواحدة والأخرى تجتذب نفسا عميقا بعمق الوحدة التي تكتنفها وبعمق الماضي التلد وخلجات الروح .هي الروح تناجي الأحبة في أفق الذكريات تطل عليها صورتها مع أولادها عندما نجح ابنها البكر ونال الشهادة فعم البيت صخب من الفرح والسعادة اللذيذة صراخ ابنه معلقة في صوان سمعها تفتح ثغرها باسمة لصورة كانت البارحة
ألم شديد استحوذ على قلبها الضعيف لم يعد قادرا على تحمل وخز إحساس آخر على نياطه المتعب تواصل قلب الصور والذكريات "تتنطط" كأرانب البرية على مرمى شوق
خدر لذيذ استحوذ على خلايا عقلها الوسنانة بالذكريات، رغبة ملحة تدفعها لأخذ فنجان آخر أو ربما هي الوحدة من أرادت أن تقاسمها الفنجان ترتشف رشفة
تتسارع دقات قلبها الضعيف يكاد يكسر قضبان القفص الصدري ويطير محلقا لرؤية الأحبة.
تنفس متسارع يعم صدرها المتهالك ، ذاكرتها صارت لوهلة تعمل بقوة حادة تذكرت نفاذ الدواء ( القلب ) ابنها وعدها بإحضاره في أقرب الآجال .
عظيمات يديها تضغطان بشدة على قفص الصدر وأخرى تظم الألبوم وعيناها تتشبثان بصورة زوجها الراحل المعلقة على الحائط
شهقت بصوت مذبوح .. متقطع ... صامت .
بقلم ليندة كامل ماي
تعليق